دراسات أسيويةنظرية العلاقات الدولية

المتغيرات الثقافية والحضارية في العلاقات الروسية – الصينية

المتغيرات الثقافية والحضارية: ان الحضارات تتباين وتختلف بتباين الأنظمة الاجتماعية والعقلية والخلقية التي تتألف منها تلك الأنظمة، والتي تمثلها وتعبر عنها مظاهر الحضارة وصورها، على أن هذا التباين لا يعود إلى اختلاف الأنظمة والمظاهر المفردة فحسب، بل يرجع أيضاً إلى العلاقات التي تقوم بينها، وإلى النظام الكلي الذي يجمعهما، لأن لكل مظهر حضاري ارتباطه الداخلي ونظامه الكياني، وهكذا الأمر مع الحضارات ككل، وأن مظاهر الحضارة ليست مجموعة من الصور المتفرقة والمتنافرة والمستقلة بعضها عن البعض، بل هي: وحدة متماسكة ومتشابكة ومتفاعلة فيما بينها.

  وإن المتغيرات الثقافية والحضارية ليست أقل تأثير ولا أهمية عن المتغيرات الاخرى السابقة الذكر، فهي تؤثر في نمط سير العلاقات الدولية بالاتجاه الذي قد يؤدي إلى: تعاون أو صراع، وأن الدولة وما تمتلكه من ثقافة وحضارة، لابد ان ينعكس ذلك على واقع علاقتها مع الدولة التي تكون ذات مصالح مشتركة معها.

  كما ان المتغيرات الثقافية والحضارية نراها متلازمه مع بقية المتغيرات الأخرى، سواء أكانت تلك المتغيرات تاريخية أم اقتصادية أم عسكرية-أمنية، على صعيد المستوى الداخلي بين الدول، وعلى صعيد المستوى الخارجي في بعديها الإقليمي والدولي، وبما ان موضوع المبحث هو: المتغيرات الثقافية والحضارية في العلاقات الروسية-الصينية، وتأثيرها في سير تلك العلاقة بين البلدين.

     لذلك فقد تم تقسيم المبحث إلى مطلبين: تناولنا في المطلب الاول: المتغيرات الثقافية والحضارية على الصعيد الروسي، فيما تناولنا في المطلب الثاني: المتغيرات الثقافية والحضارية على الصعيد الصيني، وكيف يدفعان باتجاه إقامة علاقات محددة بين الدولتين.

المتغيرات الثقافية والحضارية على الصعيد الروسي:

  تتميز روسيا بأنهّا: دولة لها إرث وتاريخ حضاري وثقافي ممتد الى مئات السنين، غير أن السمة البارزة في تلك المقومات الثقافية والحضارية أخذت طابع التغيير من مرحلة إلى أخرى، أن روسيا وبما تمتلكه من مقومات ثقافية وحضارية وموارد طبيعية هائلة ومكانه دولية، كلها مقومات تساعدها ان تكون دولة كبرى مؤثرة، يساعدها على ذلك من الناحية الجغرافية: تنوعها ومساحتها التي تبلغ(17,07)مليون كم2، وهذه المساحة تمثل ضعف مساحة الولايات المتحدة الامريكية، وستة أضعاف مساحة الاتحاد الأوربي.

   ولا تُعدّ روسيا اكبر الدول الوريثة للاتحاد السوفيتي من حيث المساحة فقط، وإنمّا اكثر الدول الوريثة من ناحية السكان ايضاً، فقد بلغ عدد سكان روسيا حسب احصاءات العام 2004م، (143,04)مليون نسمة، يرجعون لقوميات مختلفة، والمجتمع الروسي مجتمع متعدد القوميات والطوائف والاديان، وتعد الطائفة المسيحية الارثوذكسية والاسلامية واليهودية والبوذية والمسيحية الكاثوليكية من الطوائف الرئيسية في المجتمع الروسي.

    أن الاتساع الهائل لروسيا ولدَ لدى شعبها الكثير من السمات الايجابية والسلبية، وكذلك سعت الأراضي الروسية، حيث مكنتها الطاقة الإنسانية، من الدخول في حركة إنشطارية توسيعية، إذ مرت روسيا التي تعرف الآن بـــــــــ(روسيا الاتحادية) أو(الاتحاد الروسي)، بمراحل تأريخية عدة عُرِفتَ بمسميات مختلفة نذكر منها:

أولاً: روسيا القديمة:

   مع تراجع الجليد الذي كان يسود آراضي شمال أوربا وآسيا، بدأ تحرك السكان نحو الشمال حتى وصلوا إلى بحر البلطيق، وسكن السلاف الشرقيون المنحدرين من عنصر قوقازي، المنطقة الواقعة بين بحر البلطيق والبحر الاسود، والسلاف الشرقيون هم أسلاف: الروس، الروس البيض (بيلاروس) والأوكرانيين، وكانوا متفرقين يعيشون في أنماط قبلية قديمة, ولم تتحدد معالم الاطار القومي للروس إلاّ في القرنين: التاسع والعاشر، إذ بدأت اللغة الروسية الجديدة بالتشكل، وبدأت تتكون بين القبائل اتحادات، ومن ذلك: إتحاد القبائل الجنوبية مع قبائل الوسط في(كييف)، وإتحاد القبائل الشمالية مع مركزها في(نوفجورود)، وخضعت اتحادات السلاف الشرقيين في القرن العاشر لسلطة أمراء(كييف)، وأصبحت مدينة(كييف)، مركزاً لدولة تمتد من بحر البلطيق في الشمال إلى البحر الأسود في الجنوب، إذ أضحت إمارة(كييف)التي تبنت المذهب الأرثوذكسي(الفرع الشرقي للكنيسة المسيحية)، نواة للدولة الروسية، وبات لها في القرن الحادي عشر علاقات واسعة مع أوروبا وبيزنطة.

    إلاّ أنّ أهمية(كييف)، إضمحلت في القرن الثاني عشر، عندما تحولت مراكز التجارة من بيزنطة إلى البحر المتوسط والمانيا، وأضحت أوضاعها غير مستقرة، استغلها أحفاد(جنكيز خان) من المغول التتار، الذين أغاروا على الاراضي المجاورة، واستطاعوا في العام 1240م، من الاستيلاء عليها، وتشكيل ما يُعرف بدولة (الأورطة الذهبية) التي تشمل: آسيا الوسطى، ومنطقة بحر قزوين، وشمال سواحل البحر الأسود، وأصبحت الأراضي الروسية تحت سيطرة المغول التتار ما يزيد على(250) عام، عزلت روسيا من خلالها عن التطورات التي شهدتها أوروبا في عصر النهضة والاصلاح.

ثانياً: إمارة موسكو:

  خلال حقبة الحكم المغولي شهدت روسيا القديمة، تنافس بين الأمراء الروس لإرضاء الحكام المغول(خانات التتار)، الذين كانوا يسيطرون على السلطة، ونتيجة لهذا التنافس إنقسمت الدولة الروسية القديمة إلى عدة إمارات، كان أهمها: إماره( فلاديمير–سوزوار) التي تجزأت في القرن الرابع عشر إلى إمارتي(تفير، موسكو)، وبقيت في شمال روسيا ثلاث مدن تحكم نفسها هي:(نوفجور، فياتكا، بسكوف)، وإمارات الشرق:(موسكو، ريازان، سوزدال، تجني، تغير)، التي كانت تخضع بصورة غير مباشرة لدولة(الأورطة الذهبية)، أما المقاطعات الجنوبية والغربية فقد إستولت عليها(ليتوانيا)المجاورة. وبرز في موسكو أمراء أقوياء، استطاعوا استغلال الانقسامات والتنافسات القائمة، اذ تمكنوا ضم الامارات المحيطة بموسكو إليهم، وتولوا مهمة الوقوف بوجه التتار، واستطاع الأمير(ديمتري) هزيمة المغول في معركة وقعت على نهر(الدون) في العام 1380م، وعلى الرغم من أنّ هذا الانتصار لم ينهِ السيطرة المغولية، إلاّ أنهّ عمل على توحيد الروس حول أمراء موسكو الذين تحالفوا مع الكنيسة. 

ثالثاً: الإمبراطورية الروسية:

  ظهرت الامبراطورية الروسية بعد قيام إيفان الرابع(1533-1584م)، بالاستيلاء على(قازان واسترخانا)، والسيطرة التامة على حوض نهر(الفولكا)، والقضاء على طبقة النبلاء، وكبار ملاكي الاراضي المسماة(بويارس)، ووزع أملاكهم على أعوانه، وأجبر الفلاحين على الاستقرار في الاراضي لخدمة هذه الطبقة، وربطهم بقوانين صارمة، حيث سمي بــــــ(إيفان الرهيب) لمعاملته القاسية، وإتخذ لنفسه في العام 1547م، لقب(القيصر) بِعدّهِ حفيد صوفيا الأميرة البيزنطية.

 وتواصلت عملية التوسع الإقليمي الروسي، ففي العام 1654م، تم ضم أوكرانيا إلى الإمبراطورية الروسية، وامتدت الإمبراطورية في آسيا الوسطى إلى ما وراء القوقاز والشرق الادنى، ومع مطلع القرن الثامن عشر كانت حدود الإمبراطورية الروسية القيصرية قد بلغت المحيط الهادي، ومهد هذا التوسع لاستيطان روسي واسع لاحق في الشرق الأقصى.

  إذ أمست الإمبراطورية الروسية خلال القرن التاسع عشر أكبر دولة في أوروبا، واكبر دولة في العالم بعد الإمبراطورية البريطانية، وتضم مساحة(1/6) من مساحة العالم، وتختلف عن الإمبراطورية البريطانية في كونها: كتلة واحدة من الاراضي متماسكة نصفها آسيوي ونصفها الآخر أوروبي، في حين أن الإمبراطورية البريطانية كانت تمثل جزيرة غرب أوروبا، وتضم: مستعمرات في كل قارات العالم.

   حيث شهدت الإمبراطورية الروسية مُدد عدم استقرار سميت بمدة(إنقلابات القصر)، وكانت تمثل: النزاع على السلطة بين الطبقة الحاكمة وطبقة النبلاء، كما شهدت حركات معادية للإقطاع وانتفاضات متفرقة قادها الفلاحين، والتي إنتشرت بين صفوفهم الحركات الثورية، وكان أهمها: ظهور حركتين ثوريتين: إحداهما/تمثلت في الحزب الديمقراطي الاشتراكي الذي تشكل في العام 1898م، معتنقاً تعاليم الاشتراكية الماركسية، والحركة الاخرى/هي الحزب الثوري الاشتراكي الذي تشكل في العام 1900م، وحاول تكييف الماركسية مع الحياة التقليدية لجماهير الفلاحين الروس، ولم يكن الديمقراطيون الاشتراكيون كثيري العدد والنفوذ، وجاءت الثورة الروسية في العام 1917م، التي كان سببها: مزيج من الانهيار الاقتصادي، والسأم من الحرب، وعدم الرضا عن النظام الاستبدادي للحكومة، وأنه جلب أول ائتلاف من الليبراليين والاشتراكيين المعتدلين إلى السلطة، ولكن سياساتها الفاشلة أدت إلى الاستيلاء على السلطة من قَبِلِ البلاشفة الشيوعيين.

رابعاً: الاتحاد السوفيتي:

  في3كانون الأول من العام 1922م، أقرّ المؤتمر الأول لعموم الاتحاد تأسيس(إتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية)، حيث أنتخب(لينين) رئيساً له، وفي تموز من العام 1923م، تم توقيع معاهدة إنشاء الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية بين أربع دول هي:(جمهورية روسيا السوفيتية الاشتراكية، وروسيا البيضاء، واوكرانيا، واتحاد جمهوريات القوقاز)، وفي العام 1924م، إنضمت إلى الاتحاد جمهورية أوزبكستان، وفي العام 1929م، نظمت جمهورية طاجيكستان، وفي العام 1936م، إنضمت كل من: جمهورية كازاخستان وجمهورية قرغيزيا اللتان  كانتا تتمتعان بحكم ذاتي ضمن روسيا الاتحادية، وفي العام 1940م ألحق(ستالين) جمهوريات البلطيق الثلاث(ليتوانيا، لاتفيا، أستونيا)بالاتحاد السوفيتي، ليصبح بذلك عدد الجمهوريات المنضوية في إطار الاتحاد السوفيتي إلى(15) جمهورية، وهنالك عدد من الجمهوريات مرتبطة بالسلطة العليا المركزية للجمهورية الاتحادية، حيث تُعدّ هذه الجمهوريات اجزاء من جمهورية روسيا السوفيتية الاشتراكية(ياشكريا، بوريات منغوليا، داغستان، كباردا بلكاريا، كاريليا، كومي، ماري، مودينا، أوستيا الشمالية، تناريا، أدموريتا، الشيشان، أنغوشيا وياقوتيا)، وتلحقها ايضاً عدد من المناطق ذات الحكم الذاتي، ومقاطعات ذات سلطة محلية وهي:(الأدبغية، السكاي الجبلية، كالميكا، كارتشاي، الجركية، السنوفية، الهاكاسية).

      وبقي حال الاتحاد السوفيتي بهذا الوضع حتى تفككه في31 كانون الاول من العام 1991م، حيث سبقه في 9من الشهر نفسه إعلان رؤساء جمهوريات البلطيق الثلاث الانسحاب من الاتحاد.

   وتم في إعلان مينسك آواخر العام 1991م، عن تفكك الاتحاد السوفيتي، ولذا فإنّ الاتحاد السوفيتي وريث الإمبراطورية الروسية لم يعد موجوداً وباتت روسيا الاتحادية الوريث القانوني والواقعي للاتحاد السوفيتي بعد تفككه، وورثت عنه امكانات الدولة الكبرى، واخفاقاته، وعلى الرغم من تراجع مكانتها الاستراتيجية وانشغالها بوضعها الاقتصادي المعتل، فهي تحظى بقدر كبير من  التصورات والاهتمامات الاستراتيجية للدول الكبرى ومنها:(الصين).

  وفي نهاية هذا المطلب، ولكي نفهم طبيعة الحضارة والثقافة الروسية، لابد من التعرف على توجهات روسيا الفكرية، فروسيا هي: دولة ارثوذكسية، سلافية، فيها قوميات عدة، لها توجهات تقليدية نحو غرب أوروبا والقوقاز ووسط آسيا وشرق آسيا، إذ بواسطة المسيحية الأرثوذكسية تكونت أشكال جديدة للثقافة الروسية، ووهبت روسيا طاقات اجتماعية وثقافية متنوعة تجسدت بمثل: الرحمة وعمل الخير والسلوى، فالكنيسة الروسية مازالت حتى الآن تشكل قوة أخلاقية كبرى، ومن الصعب فعلاً فهم روح الحضارة الروسية مالم يتم فهم وإدراك الأرثوذكسية.

    من هذا المنطلق نرى: أن روسيا ترى في الصين، والتي تمثل دول كونفوشيوسية مجال فكرياً وحضارياً قد يتوافقان فيما بينهما في بعض المواقف والقضايا التي تعبر عنها الدولتين على أنهّا تمثل شخصية الدول فكرياً وحضارياً.

 المتغيرات الثقافية والحضارية على الصعيد الصيني:

  تُعدّ الصين من الدول التي تمتلك حضارة عريقة تضرب جذورها في أعماق التاريخ، وما تزال آثار تلك الحضارة قائمة عَبِرَ السور الكبير، وفي الرؤى الفلسفية: كالطاوية والكونفوشيوسية وغيرها، والتي أصبحت فيما بعد غيابه عقائد دينية للمجتمع الصيني منذ اقدم العصور.

   لقد حكمت الصين عدة أسر ازدهرت في ظلها الحضارة القديمة: كأسرة (تايخ) التي برزت خلال مدة حكمها الكتابة، وطورت صناعة الحديد، ثم أعقبها أسرة(متشو) في الحكم، والتي ظهرت في ظلها العقائد الفلسفة التي طبعت الحياة الصينية حتى الوقت الحاضر، وفي ظل حكم أسرة(هان) من المدة (206–220 ق.م) بلغت الإمبراطورية الصينية اوج عظمتها وقد تبلورت الوحدة الثقافية والسياسية في المجتمع الصيني خلال حكم هذه الأسرة، وبسقوطها سادت فوضى سياسة استمرت حتى القرن السابع الميلادي.

 ولابد من القول: ان التاريخ الصيني يقسم إلى مراحل عدة هي:

المرحلة الاولى: مرحلة التشكيل الاجتماعي والفلسفي، حيث بدأ التشكيل التاريخي للمجتمع الصيني استناداً إلى نظام أسري حازم، وأسست هذه المرحلة القاعدة العسكرية والفلسفية للمجتمع بتعاليم(كونفوشيوسي، ولاوتسي، ومونفوشوش، وشتشونفوشوش)، ولاسيما خلال المدة التي سيطرت فيها أسرة(منج)، حيث برزت التقنيات الصينية في مجالات الطباعة والبحرية.

   حيث دعمت كونفوشيوس البحث العلمي والنشاط التكنولوجي، وربط بينهما وبين العمل البيروقراطي(الخدمة في دوائر الدولة)، حيث كانت هذه النظرة سبباً من أسباب إصلاح المجتمع حسب رأيه، لم يكن نشاط الفيلسوف الصيني(كونفوشيوس)مقتصراً على: المستوى النظري، بل أمتد إلى المستويات التطبيقية العملية، إذ رغب في عكس آراءه الفلسفية–الفكرية إلى الواقع الملموس، ولذا شرع(كونفوشيوس)، في تأسيس أول مدرسة خاصة في تاريخ الصين، خصصت إهتمامها للدراسات العليا، وإنظم إليها الكثير من الطلاب، على اختلاف مشاربهم وطبقاتهم، وكان هدف هذه المدرسة هو: تعليم المبادئ الكونفوشيوسية، واستفاد الأباطرة من الطبقة المثقفة التي أنتجتها مدرسة كونفوشيوس، خصوصاً بعد تأسيس مدارس أخرى في مختلف أنحاء الصين، لنشر فلسفة كونفوشيوس، إذ استفاد الأباطرة منها في توفير ما يدعم سياساتهم من كفاءات علمية وإدارية.

    إن الكونفوشيوسية عززت بشكل غير مباشر القدرة التكنولوجية في الصين، بالشكل الذي كان يتناسب مع المرحلة التاريخية، التي تزامنت معها، وبما يخدم الأداء السياسي لحكم الأباطرة، وخصوصاً: إن كونفوشيوس نفسه كان جزء من هذا الأداء، وهو ما أهله للوقوف تجاه أبرز مكامن الخلل في الجهاز الحكومي، وإيجاد الحلول المناسبة لتصحيح هذا الخلل، وكان تشجيعه للبحث العلمي والابتكار جزء من هذه الحلول.

المرحلة الثانية: مرحلة أسرة(ماستشو)، وتُعدّ هذه المرحلة مرحلة الصراع الدولي على الصين، وخصوصاُ القرن التاسع عشر، ويمكن عـــــــــــــــــدّ مرحلة الاربعينيات من القرن التاسع عشر نقطة تحول المركزية الاولى بالتاريخ الصيني المعاصر، إذ أجُبرت الصين في هذه المدة على منح خمسة من موانئها للتجارة، على أثر ما عُـــــــِـــــرَف بـــــــــــــ(حرب الأفيون).

   كما توجد في الصين: المدرسة الفكرية والفلسفية المعروفة بــــــــ(التاوية)، والتي يرتبط اسم (التاوية) بالفيلسوف الصيني(لاوتزو)، الذي رأى: إنّ طريق الفضيلة أو ما يسمى بــــــــــــــ(التاو) في الصينية، هو السبيل لتحقيق الرضا والسعادة والسلام، وذلك بالترفع عن الجوانب الجسمية، والسمو بالروح بما يشبه حالة(التصوف)، ولكن ذلك لا يعني: تجاهل هذه الفلسفة للجانب العملي في حياة الإنسان والمجتمع، إذ تنظر الفلسفتان: التاوية والكونفوشيوسية، على السواء إلى الإنسان بنظرتين: الأولى/(داخلية)، وتتعلق بالسمو الروحي للفرد وصولاً إلى الكمال، والثانية/(خارجية) وتتعلق بقدرة الإنسان على العيش بصورة جيدة على المستوى العلمي.

  إن النظرة الخارجية للإنسان التي وردت في فلسفة(لاوتزو)، وتطرقها إلى النواحي العملية لحياته وقدرته على التعامل مع ما يحيط به من أمور، تقتضي الإفادة من كل ما توفره له هذه البيئة من وسائل اقتصادية وطبيعية وتكنولوجية وغيرها، من أجل تحقيق السعادة العملية، فضلا عن تحقيق السعادة النفسية في إطار النظرة الداخلية للإنسان.

المرحلة الثالثة: تمثل فلسفة(موتزو)؛ وهي: تجسد أفكار الفيلسوف الصيني(موتزو)،(468– 376 ق.م)، والذي يُعدّ من أبرز فلاسفة الصين في تبنية لأهمية الجوانب العملية في حياة الإنسان مثل الثروة: السكان، وغيرها، ونظر للفلسفتان السابقتان بأنّهما: مثاليتان وأنه يجب التركيز أكثر على تحسين الجوانب العملية في حياة الإنسان، وتقع المتغيرات الاقتصادية والتكنولوجية وغيرها في صلب الوسائل التي تحقق التقدم العملي في حياة الإنسان، في أي زمان ومكان حسب رؤية موتزو.

   إن هذه الفلسفات لم تكن الوحيدة التي شهدتها الصين، وإنما هنالك فلسفات أخرى(أصيلة أو دخيلة)، تفاعلت في إطار الفكر الصيني، إذ دخلت الفلسفة البوذية على سبيل المثال إلى الصين قبل القرن الميلادي الأول، فإحتوتها الفلسفات الصينية، وتكونت فلسفة جديدة سميت بـــــــــ(الكونفوشيوسية الجديدة)، والتي عبرت عن تمازج فلسفي كونفوشيوسي–تاوي– بوذي، إستطاع احتواء أغلب الآراء الفلسفية والمدارس الفكرية التي وجدت في الصين.

   حيث يلاحظ: ان الفلسفات القديمة في الصين مارست بشكل عام: دوراً كبيراً في تشكيل الهيكل الأيديولوجي والقيمي للمجتمع الصيني بمختلف ترابطاته السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية وغيرها، حيث شكلت تلك الفلسفات بذلك، حافزاً قوياً للمجتمع الصيني، في تبني إيديولوجيا معينة، أو شكل سياسي محدد وإعطاء القيمة الحقيقية للمتغير التكنولوجي في شئون المجتمع المختلفة.

ويمكن تقسيم هذه الإنجازات كما يأتي:

1.حقق الصينيون تقدما في مجال الفلك، إذ ابتكروا طريقة حساب الأشهر للمواسم الزراعية، وذلك في زمن حكم أسرة(تشو)، فضلا عن التنبوأ بالخسوف والكسوف، ووضع التقويم الذي يقسم السنة إلى 12شهراً، ويقسم اليوم إلى 12ساعة، واخترع آلة لتسجيل الزلازل في العام 132م، واختراع البوصلة قبل عشرة قرون من الميلاد.

2.حقق الصينيون في المجال الهندسي إنجازات عـــــــدة، كان أبرزها: سور الصين الذي بلغ طوله ما يقارب(64000)كم، وذلك في زمن حكم أسرة(تشو).

3.كان للصينيين، عبر تاريخهم، إنجازات مهمة في مجال الطب والعقاقير الطبية وأنظمة الحمية الغذائية وعلاجات الأمراض والتعليم الطبي والتخدير وغيرها.

4.تعد ابرز الإنجازات التكنولوجية المتحققة في تاريخ الصين هي: التي كانت في المجال الفيزيائي–الصناعي، مثل: اختراع الحرير في زمن أسرة(الهان)، واختراع الخزف بالمدة نفسها من حكم هذه الأسرة، واستخدام البارود في صناعة الألعاب النارية قبل أكثر من عشرة قرون من الميلاد(وهو ما يسجل في حقل الكيمياء الصناعية)، فضلاً عن معرفة الخواص الفيزيائية لحجر المغنطيس، واختراع ساعة ميكانيكية في المدة ما بين الأعوام(1020–1101 ق.م).                                                          

     وحاول الزعيم الصيني(ماوتسي تونغ) في منتصف الخمسينيات وصولاً إلى السبعينيات من القرن الماضي إحداث تجديد في الثقافة الصينية عبر استراتيجيات منها: القفزة إلى الأمام والثورة الثقافية لكنه تسب بحدوث مشاكل كبرى النظام اقتصادياً دفعته إلى التراجع عنها، لتتجه الصين مع نهاية العقد السابق إلى وسيلة الإصلاح والتحديث الشامل والانفتاح على العالم، ومن الواضح: ان البنية الثقافية الصينية تمر بمرحلة إنتقالية، ويبدو: إنّ الشكل الذي استقرت عليه هذه المرحلة الانتقالية من الناحية الثقافية هو:(الاحياء القومي)، الأمر الذي سيؤدي الى التفكيك المتدرج للتراث المادي، والتركيز في الهوية التاريخية والحضارية للصين.

   ولابد من القول: انه بعد ما دخلت الصين مرحلة الاصلاح والانفتاح على العالم، وترك آثار الثورة الثقافية، طرأت تغيرات عميقة على ملامح الصين، وأصبح  يتطور اقتصادها تطويراً سريعاً ويرتفع مستوى معيشة الشعب إرتفاعاً واضحاً عِبَرَ دعم الموارد البشرية فيها، وهذا أدى إلى عصر من الازدهار في الصين يشمل: سياستها المستقرة، وتنميتها الاقتصادية السريعة، واعمالها الدبلوماسية النشطة.

        أن الصين اخذت تستخدم استراتيجيتين بهدف تحسين الموارد البشرية فيها، اذ أخذت بالتزامها بإصلاح النظام التعليمي بشكل جذري، وكذلك عملت بالسعي الحثيث نحو استرجاع العلماء والمهندسين الذين تركوا البلاد بهدف: تعزيز فرص التعليم في البلاد، فقد أدرك الاصلاحيون: إنّ التقدم التقني الثابت يتطلب توسيع قاعدة التعليم.

    ومع ذلك يمكن القول: ان المجتمع الصيني على الرغم من نقاط الضعف الموجودة فيه، فإنّ هناك قدراً كبيراً من التماسك الذي يمتاز به المجتمع الصيني، والذي يشكل القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها الصين للانطلاق نحو دور عالمي أوسع.

   وخلاصة ما تقدم، ولكي نفهم كيف كان إندفاع روسيا وعن طريق المتغيرات الثقافية والحضارية إلى منطقة آسيا بصورة عامة، والصين بصورة خاصة، فإذا نظرنا صوب منطقة آسيا ومدى أهميتها لدى روسيا في ظل المتغيرات الثقافية والحضارية التي حصلت وواكبت الدولتين،  لرأينا: ان الشعور الروسي بطموحه أقل تأثيراً بالقيود الجغرافية، فعلى مدى القرن الثامن عشر ومعظم القرن التاسع عشر، كانت روسيا نفسها طليقة وحيدة في الشرق الأقصى، فكانت أول قوة أوروبية تعاملت مع اليابان، وأول من عقد إتفاقية مع الصين، أما الصدامات المتفرقة مع الصين فليس لها أهمية تذكر، في حين عمدت الصين حيال الدعم الروسي للقبائل المحاربة إلى التخلي عن مناطق واسعة لمصلحة الإدارة الروسية في القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر، وحاولت الصين استغلال العلاقات التاريخية والإستراتيجية بين روسيا والجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى لضمان تعاون هذه الجمهوريات بمنع تحويل أراضي تلك الدول إلى قواعد خلفية لها، خاصة مع الروابط الدينية والقومية والتاريخية بين الويغوريين وسكان آسيا الوسطى.

  وفي نهاية هذا المبحث الذي خصصناه لدراسة المتغيرات الثقافية والحضارية المؤثرة في طبيعة العلاقات الروسية-الصينية، نرى: أن روسيا هي دولة سلافية أرثوذكسية، والصين هي دولة كونفوشيوسية لكل منهما لها تطلعاتها وتصوراتها الفكرية، حيث نرى نوع من التقارب يجمع بين أفكار الدولتين ثقافياً وحضارياً قياسياً بالحضارة الغربية، إذ ترى الدولتين: بأنّ الحضارة تقربهما أكثر من أي جانب أخر، وأن تجمع القوة السلافية الرئيسية في العالم مع القوة الإسلامية الأكثر راديكالية، والقوة الآسيوية الأكثر قدرة، والأكثر سكاناً مكونة بذلك تحالفاً فعالاً، وإن الانطلاق الضروري لأي تحالف مضاد من هذا النوع يجب أن يشمل: تجديد العلاقات الروسية-الصينية باستثمار امتعاض الزعامات السياسية في كلتا البلدين من ظهور الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى وحيدة ومهيمنة على النظام العالمي.

المصدر: رسالة ماجيستير بعنوان العلاقات الروسية – الصينية لفترة 2000-2012، من اعداد الباحثة سداد نوري جاسم العيساوي – جامعة النهرين – العراق

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى