دراسات تاريخية

الملك عبد العزيز آل سعود والمملكة العربية السعودية في التراث الثقافي الجزائري بين السنوت 1901 ـ 1955

 الدكـتـور مـحـمـد مـراح – معهد العلوم القانونية والإدارية – جامعة العربي بن مهيدي أم البواقي ـ الجزائر

لقد كان لنشأة الدولة السعودية الحديثة (1293هـ /م1876) على يد المغفور له ـ إن شاء الله تعالى ـ الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، صدى واسعا في الدول والأقاليم العربية الدانية منها والقاصية. فما تم إنجازه من هذا التأسيس على يد جلالة الملك عبد العزيز حدث جليل بكل المقاييس؛ بمقياس العدد من الرجال الذين استرجع بهم ملك آبائه وأجداده، والامكانات المادية المتاحة له آنئذ، وبمقاييس التخطيط العسكري، وأساليب التنفيذ، وبمقياس الزمن في الإعلان عن ميلاد دولة حديثة على مساحة نصف قارة، تقوم على أساس حضارة ذات شقين : شق روحي أخلاقي قوامه الشريعة الإسلامية، وشق مدني عمراني أُحسن أخذه من مدنية الغرب الحديثة .

ومن بين الأصقاع التي تتفاعل مع هذه الأحداث تفاعلا حيا ايجابيا منطقة المغرب العربي، ومنها الجزائر التي كانت ترزح تحت نير استعمار استيطاني بغيض . فالذي يبحث في تراث هذه القطعة الهامة من وطن العروبة والإسلام سيقف على نصوص كثيرة تفاعل أصحابها مع ما أنجزه الملك عبد العزيز آل سعود ـ كتفاعلهم مع كل قضايا الأمة ـ على درجة عالية من الشعور بالانتماء الحضاري لأمة ذات مصير مشترك، وآصرة أخوة عقدها الإسلام الخالد.

والحقيقة أن الاهتمام عندي بموضوع “الملك عبد العزيز في التراث الثقافي الفكري والأدبي الجزائري” كان يخامرني منذ زمن بعيد، وكنت قد أخذت أجمع له النصوص وأقيد مواضعها في مضانها، إلى أن تجمع لي ما يصلح أن يأتلف منها بحث، فلما واتت الفرصة اهتبلتها مستعينا باالله تعالى على إنجاز هاذ البحث الذي اخترت له عنوان ” الملك عبد العزيز آل سعود والمملكة السعودية في التراث الثقافي الجزائري بين سنوات 1901م ـ 1955م “.

وفضلا عن السبب المذكور أسجل بين يدي البحث الملاحظات/ الأسباب الآتية الذكر:

ـ وفرة المادة التي يأتلف منها البحث؛ مما يضفي على البحث الصبغة العلمية ، من حيث الدقة ومساءلة النصوص، والتحليل، وسلامة الاستنتاج .

 ـ يتوفر تراث كل بلد من بلاد المغرب العربي في الفترة المشار إليها أو بعدها من مسار التأسيس  على قدر من النصوص التي ينبغي درسها واستقراؤها؛ لإبراز صورة الملك عبد العزيز والمملكة .

 ـ التناغم الملحوظ مع إنجازات الملك عبد العزيز والحركة الإصلاحية في الجزائر، وهي تعاني من ويلات المستدمر الفرنسي، ولهذا تفسيراته التي ربما وقفنا عليها في طيات البحث .

وقد قسمت  بحثي إلى فصلين هما:

الفصل الأول : الملك عبد العزيز في التراث الثقافي الجزائري بين سنوات : 1901 ـ 1955 م، ويحتوى على ثلاثة مباحث هي: المبحث الأول : الشخصية ـ المبحث الثاني : المذهب ـ المبحث الثالث : الإنجازات

الفصل الثاني : المملكة العربية السعودية وقضايا الأمة في التراث الثقافي الجزائري بين سنوات1901 ـ 1955 م، ويحتوي على مبحثين هما : المبحث الأول : المملكة والقضية الجزائرية. المبحث الثاني : صدى مواقف المملكة من قضية فلسطين في التراث السياسي والإعلامي الجزائري.  

الفصل الأول

الملك عبد العزيز في التراث الثقافي الجزائري

بين سنوات : 1901 ـ 1955 م

المبحث الأول

الشخصية

في فترة مبكرة من القرن العشرين كانت تسري في أوصال المجتمع الجزائري دماء جديدة لحياة جديدة يبعثها في توأدة وخفوت إمام النهضة والبعث الحضاري الإسلامي الشيخ عبد الحميد بن باديس (1889 ـ 1940) بعد أن خُيل للمستدمر الفرنسي أن الجزائر غدت قطعة من فرنسا .

فلربط هذا الجزء الهام بجسده الإسلامي الكبير كان الإمام ابن باديس يلتمس من الأحداث الماضية والحاضرة ما يساعده على تحقيق تلك الغاية الجليلة . ولما كان للأحداث الهائلة التي عرفتها شبه الجزيرة العربية بقيادة الملك عبد العزيز ما كان، كتب ابن باديس سلسلة مقالات في الجرائد والمجلات التي كان يصدرها معرفا بالقائد ومذهبه ومنجزاته . وقد برهن فيما كتب على إلمام واسع وعميق بكل ذلك، وتصوير دقيق مطابق للحقيقة والواقع، مع إصابة للهدف الإصلاحي التغييري الذي كان يرمى إليه.

فبصدد تعريف الجزائريين بشخصية الملك عبد العزيز يقول : ” السلطان عبد العزيز هو المباشر حقيقة للسلطة والإدارة، وصف هذا الأمير الأستاذ الريحاني بقوله : طويل القامة مفتول الساعد شديد العصب متناسق الأعضاء، وهو أسمر اللون أسود الشعر، ذو لحية خفيفة مستديرة، وشارب يقضبه على الطريقة الوهابية، له من السنين سبع وأربعون، وله في التاريخ ـ تاريخ نجد الحديث ـ مجد إذا قيس بالأعوام تجاوز السبع والأربعين والمائة.

كبير القلب والنفس والوجدان، خلو من الادعاء والتصلف، خلو من التظاهر الكاذب. ووصفه مستر( أرنست برنيك) في جريدة نيويورك بقوله: بطل من أشد الأبطال الذين أنجبتهم الأمة العربية، صلب العود في مكافحة الأعداء، وكريم الأخلاق متى قهرهم، شديد التمسك بأهداب الدين، وفي مقدمة الذابين عن عقائد الإسلام الأصيلة، فكان له من ذلك رياضة جسدية جعلته قوي البنية، وهو جامع بين جلال وجمال أمير شرقي” (1) .

ثم يسرد كلاما عن حسن تدبيره في إعادة عائلته إلى ملكها قائلا : ” أسلافه كلهم ذوو شهرة عظيمة في جزيرة العرب، وبيته عريق في إمارة نجد حتى سقط في القرن الماضي وحلت محله أسرة آل رشيد، ونفي هذا الأمير إلى الكويت، لكنه بهمته وعزيمته وشجاعته، وحسن تدبيره تفلت من قيود الأسر وجمع حوله جندا فتح به الرياض عاصمة ملكه، وأعاد عائلته إلى ملكها

ــــــــــــــ

1 ـجريدة النجاح، العدد179، 24/10/1924.

القديم … وامتدت مملكته بعد أن كانت محصورة في نجد من حدود الحجاز إلى الخليج الفارسي ومن الربع الخالي إلى الجوف” (1).

إن الإمام ابن باديس الذي لم يعرف الملك معاينة يتكأ على وصف عارفيه ليستقيم له أداء الصورة كاملة صحيحة عنه؛ ملامحه الجسمانية، وخصائصه النفسية، ومسالكه الأخلاقية .

ومما يؤكد ما ذهبنا إليه آنفا من استهداف التغيير والإصلاح في ما كتب الإمام عن الملك ونهضته، قوله : ” وإن في نهضة هذا الملك العظيم وفي حياته وصفاته لدرسا عميقا ومجالا واسعا للعبرة والتفكير” (2). والمباحث الآتية ستجلوا لنا فحوى هذا الدرس، ومنتهى تلك العبرة والتفكير.

*صفاته : لقد تواتر وصف الدارسين للملك عبد العزيز ـ رحمه الله تعالى ـ بصفات لا تجتمع إلا لعظيم ادخره الله تعالى لحدث خطير هائل في عالم الانبعاث الحضاري، وإقامة الدول والممالك .

وبصيرة ابن باديس الثاقبة تستجمع هذه الصفات على نحو بارع في التقويم والتقديم.

ـ شجاعته وعفوه : الفارق بين شجاعة بانية هادفة وشجاعة مدمرة، ارتباط هذه بالانتقام والمحق، وارتباط تلك بالعفو والتجاوز، وهذه الأخيرة يجسدها مسلك الملك عبد العزيز في استعادة ملك آبائه وظفره بأعدائه؛ يقول ابن باديس : ” ما برح يتربص بآل رشيد الأحايين، وينتظر الفرصة حتى سنحت له فأوقع بهم في أثناء الحرب الكبرى وقضى على إمارتهم، وساقهم إلى عاصمته وهم عنده الآن أسرى مكرّمون “(3).

إن دلائل إعجاب وتقدير ابن باديس للملك عبد العزيز حدت به وهو ينير الأمة الجزائرية آنئذ بأسلوب القصة التربوي الهادف تأسيا بالقصص القرآني

ــــــــــــــــ

1ـ المصدر نفسه.

2 ـ ابن باديس ” ملك العرب”،مجلة الشهاب، ج4،مجلد5، غرة ذي الحجة1347هـ ماي1929م

3ـ جريدة النجاح، المصدر السابق.

والنبوي الشريف، إلى أن ينشر مقالا رائعا بعنوان ” ملك العرب “للمستشرق الألماني ( ليبولد فايس ) الذي تسمى بعد إسلامه بمحمد أسد الله ، وقدم الإمام لهذا المقال بكلمة وجيزة رائعة حول الهدف من نشره فقال : ” كان لقصة بناء الكعبة التي نشرناها بالجزء الماضي [ من مجلة الشهاب ] بمناسبة أشهر الحج أحسن موقع عند القراء فرأينا أن نتبعها بقصة من نوعها لمثل مناسبتها، هي صفحة من تاريخ الملك العربي السلفي عبد العزيز آل سعود الذي شرفه الله بخدمة ذلك البيت المعظم في هذا العهد، ومد الله تعالى بملكه رواق الأمن والعدل والتهذيب والدين الخالص عن ربوع الحجاز أرض الحرمين الشريفين، وإن في نهضة هذا الملك العظيم وفي حياته، وصفاته لدرسا عميقا ومجالا واسعا للعبرة والتفكير”(1).

ولكن قبل الاسترسال مع الموضوع، فإن منهجية البحث والانسجام مع الموضوع يقضيان علي بتوضيح أسباب اختياري هذا المقال على اعتباره من تراث الجزائر الثقافي الذي يصح الاستدلال به على مكانة الملك عبد العزيز ضمن هذا التراث :

  • لقد أعاد ابن باديس نشر هذا المقال في سياق سلسلة من القصص الديني بالذات ولم يدرجها ضمن تراجم الأعلام، للهدف الذي أعلن عنه، وهو العبرة والدرس.
  • إن الإمام يرى في هذا المقال ما يريد قوله في الملك عبد العزيز، والدليل سلسلة المقالات التي كتبها الإمام في جريدة النجاح وغيرها حول الوهابيين ودولتهم بقيادة الملك عبد العزيز، فيمكن ـ إذن ـ اعتبار هذا المقال تبعا لها وجزءا منها، واستيفاء للرؤيته في الموضوع.
  • إن هذا المقال جُمع مع آثار ابن باديس وتراثه الذي نستلهمه في أي أمر أو مسألة تتصل بمواقفه وفكره.

ـــــــــــــ

1 ـ” ملك العرب “، الشهاب، مصدر سابق .

لقد جاء هذا المقال الطويل غنيا دقيق التعبير عن صفات الملك عبد العزيز وإنجازاته التي خبرها صاحبه عن قرب ومعايشة.

ـ طيبة الملك عبد العزيز : قد تُحمد للرجل صفة طيبة القلب، فتذهب عنوانا له يُعرف بها، لكن أن تُصبح الطيبة عنوانا على جملة محاسنه وخلقه، فتلك ـ إذن ـ صفة جامعة لمعانى الطيبة ودرجاتها، وعلى هذا المذهب يصف محمد أسد الملك عبد العزيز فيقول : ” لا أزعم أن عبد العزيز يدعوني صديقه، ولكني أعده صديقي، أو يغريني بذلك أمر بسيط وهو طيبة الرجل، ولست أقصد أنه طيب القلب، فهذا شيء رخيص، ولكنه يُصف بالطيبة كما يُوصف بها مثلا سلاح من صنع (وُلف) [ نسبة إلى بلدة بالأندلس مشهورة قديما بصنع أجود سلاح ] بأنه سلاح طيب يُعجب به؛ لأنه جمع كل الصفات التي تُنشد في مثله وعلى هذا المعنى أقول إن ابن سعود رجل طيب “(1).

فالملك  عبد العزيز ـ وفقا لهذا الوصف ـ طيب القلب، وطيب القول، وطيب المعشر، وطيب المؤاخاة، وطيب الإحسان، وطيب الحكم، وطيب المجازاة إلى ما هنالك من وجوه المعاملة، ويصدّق هذا الوصف الروايات المتواترة عن خلائقه.

ـ ملك نفسه وملك الجميع:  من كانت تلك شمائله فلا فائدة من البحث عما يقصر دُون سؤدد الشرف، وهمة الملك النبيل؛ لذا فالملك عبد العزيز نصّب نفسه ملكا على الجميع : ” وهو عميق الغور يميل للوحدة ولا يتبع في أعماله سوى الدوافع المنبعثة من أعماق نفسه، وقد يُخطئ فيما يفعله ولكنه لا يخطئ قط الرغبة في الشرف أمام ضميره، فهو ملك على نفسه قبل أن يكون ملكا على العرب”(2). فنفس الملك عبد العزيز من معدن نفيس ينعكس ألقها وصفاؤها على ممارسات المُلك والسياسة .

ــــــــــــ

1ـ المصدر نفسه .

2 ـ المصدر نفسه.

ـ عظمته في بساطته : قد يرتبط مفهوم العظمة بمظاهر باهرة محددة تُنبئ عنها، لكن أن تتخلف هذه لتتجلى العظمة بوصفها قيمة من القيم الإيجابية التي تحف شتى أنوع السلوك والعمل، فذاك هو المدهش : ” لاشك أن الأجنبي الذي يرى ابن سعود لأول مرة يبتسم لبساطة هذا الملك وعدم تمدنه؛ إذ يبصره في ثوب عادي في غرفة ذات أثاث غير أنيق وإذ يشهده يقوم لكل قادم ويمد يده لتحيته وإن كان بدويا من أفقر البدو، ويأكل طعامه في حضرة وزرائه وكتابه وسائق سيارته. ولكن الابتسامة لا تلبث حتى تفارق ثغر الأجنبي حين يدرس رأس هذا الرجل ويدرك العظمة الحقة الماثلة في تلك البساطة”(1).

الحق إن هذه العظمة المقرونة بتلك الصفات والأخلاق ليست بالنكرة في تراثنا الإسلامي؛ فإن عظماء الخلفاء  لدينا لا تزال الأمة إلى يومنا هذا تشعر إزاءهم بالإكبار والإجلال بل تعدهم خلفاءها الحقيقيين الراشدين، امتازوا بمثل هذه الصفات والأخلاق، فهي ـ إذن ـ باعث من بواعث عظمة عبد العزيز المُشاد بها.

ـ طول نفسه وكرمه: إن من يسره الله تعالى لتولى مهمة كالتي تولاها الملك عبد العزيز لابد له من اقتران الصفتين معا، فطول النفس في إدارة شؤون الملك لا تصرفه عن أداء حق الضيف، في مجتمع توارث القِرى عبر تراخى الأزمنة والقرون، لهذا فهو : ” يشتغل طول اليوم من باكورة الصباح إلى قسط من الليل ماعدا فترات يقضيها في الصلاة، وبرهات قصيرة يرتاح فيها بين أهله، وهو يتلقى كل يوم مئات الخطابات والتقارير ويقرأها بنفسه، ويملي مئات من أمثالها على كتابه. ويفد عليه كل يوم كثير من البدو والوفود من أنحاء الدولة يعرضون عليه شكاواهم ورغباتهم ويتلقون منه أوامره، وجميعهم ينزلون ضيوفا عليه طول مكثهم بالرياض، وهو يولم الولائم لنحو ألف نفس كل يوم، ويعطي كلا منهم عند رحيله ثوبا تبعا لعادة العرب وكذلك قطعة من النقود حسب مكانته . ونفقات الملك الشخصية جد قليلة؛ لأنه  ـــــــــــــ

1ـ المصدر نفسه .

لا يعرف الترف في حياته الخاصة، وإنما له عدد من السيارات لابد منها لحسن القيام بشؤون الحكم في هذه المملكة المترامية الأطراف”(1).فهو ـ إذن ـ الملك المتقلّل جدّا في نفقته الخاصة الموسع على غيره من كرم ضيافته وجوده.

ـ الملك المحبوب : إذا كانت خصائص الإنسان النفسية العالية هي السر وراء انجذاب النفوس إليه، فكثيرا ما تهدى بعض الملامح الفزيولوجية إليها، وفي هذا المعنى يقول محمد أسد : “ابن سعود طويل القامة جدا ذو جمال رجولي وله جبهة عالية وأنف قليل الانحناء وثغر صغير عليه شفتان ممتلئتان تدلان على الحماسة والذكاء في آن واحد، وكل من يراه دون فكرة سابقة عنه ويشهد ابتسامته العذبة لابد أن يحبه، وقليل جدا من الناس في مملكته الكبيرة لا يحبونه” (2). فإذا تآزر كل من الصنفين الخصائص النفسية والملامح الفزيولوجية مع الأخلاق الرفيعة أعطت نموذجا إنسانيا رائعا، وكذلك كان الملك عبد العزيز يرحمه الله تعالى .

ـ وحدة العظماء : إذا كنت إزاء  إنسان كلما اقتربت منه شعرت أنه قريب إليك، لكنه يتميز عنك وعمن حوله، فينجذب نحو أغواره العميقة لتبرق قريحته المتوقدة بالجديد الوثاب الباهر، فأعلم أنك أمام عظيم تُملى عليه عظمته الوحدة الباعثة على التفكير المبتكر؛ ” إن ابن سعود في وحدة عميقة، وإن كان حوله أناس كثيرون؛ لأنه ليس منهم أحد يستطيع أن يستشف ما وراء ابتساماته الساحرة، أو ما وراء حركات يديه حين يتحدث في شؤون الدولة أو في مسائل الدين. ولا يدري أحد ماذا سيفعل غدا بل يحيط الظلام والإبهام بنواها في المستقبل، وإن كان يومه وأمسه شفافين لا سر فيهما. وتلك وحدة العظماء الذين لا يقودهم في سبيلهم غير أذهانهم المتوقدة  ” (3). وما تفتق ذاك الذهن إلا عن كل خير لإقامة دولة الإسلام الحديثة.

ـــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه .

2 ـ المصدر نفسه.

3 ـ المصدر نفسه.

ـ بصيرة ثاقبة وإطلاع بعيد : من وجوه عبقرية الملك عبد العزيز استيعابه لأحوال الأمة الإسلامية واستيعاب منجزات العصر التي كانت في حكم الخرافة آنذاك مع تواضع حصيلته المعرفية بمقياس العصر؛ :” وقد عرف كيف ينمو في داخل نفسه مع نمو سلطانه، وهو لم يخرج قط من بلاد العرب ولا يعرف فوق وطنه غير البحرين والكويت والبصرة ، ولا يدري من اللغات غير اللغة العربية، ولم يقرأ من الكتب إلا الدينية منها، وبعض كتب التاريخ العربية. ولكنه رغم ذلك يمتد بصره إلى مدى لم يماثله فيه ملك عربي من قبل، فهو يعرف أحوال البلاد الإسلامية في العصر الحاضر خير معرفة، يعرف مثلا الأحزاب السياسية في مصر أو (جاوه) أوالهند، كما يقف على شؤونها والرجال المشتغلين بالسياسة في هذه البلاد . وهو يفهم المستحدثات الهندسية في الغرب كالطيران أو التلغراف اللاسلكي كما يفهمها الغربيون ويستحسنها كذلك، وإن كان كثير من العرب والمتعلمين فيهم يعدونها من السحر” (1) . 

المبـحث الثـاني

المـذهـب

كان الملك عبد العزيز ودولته يعرفان في الجزائر في الفترة التي هي مجال البحث بالوهابيين، بسبب التلاحم الكبير بين المذهب الوهابي الإصلاحي والدولة السعودية، منذ تعاهد الأمير محمد بن سعود بن محمد في أوائل القرن الثاني عشر الهجري/الثامن الميلادي مع المصلح الكبير محمد بن عبد الوهاب على النصرة والتأييد على الإصلاح والتجديد، واستمرت هذه اللُحمة بقيام الدولة السعودية الحديثة على يد الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله تعالى .

وهكذا جاءت مقالات الإمام عبد الحميد بن باديس في صيغة أسئلة * تصدى لها بالإجابات الواعية الشاملة والمُصححة للخطأ؛ قال : ” هذه أسئلة طرقت أسماعنا في هاته الأيام كثيرا، وسمعنا الخطأ والصواب عنها كثيرا، ولا عجب في كثرة السؤال عنهم وقد تواترت أعمالهم السريعة المدهشة، هاجموا الأردن وأخضعوا الحجاز وأجلوا الحسين وأتباعه بعد ما ثلوا عرشه غير مبالين بأحلافه الإنكليز، كل هذا في مدة قصيرة من الزمن مع بُعد المسافة وصعوبة الطريق”(1) .

 ـــــــــــــــ

1 ـ ابن باديس، جريدة النجاح، مصدر سابق .

* من هم الوهابيون؟ ما هي حكومتهم؟ ما هي غايتهم السياسية؟ما هو مذهبهم؟

  ـ المصدر نفسه .

بهذه الصياغة الإعلامية البارعة المعهودة في إثارة ابن باديس للقضايا الساخنة بنت الساعة، يضعنا مباشرة في مواجهة الإجابة المنهجية عن الأسئلة المطروحة من طرف جزائريين وصفهم الإمام بقوله : ” رغب مني بعض من يجري في عروقهم دم العروبة، وبعض من يهتمون بأمر الأمة العربية ذات التاريخ الماجد العظيم، أن أجيب عن هذه الأسئلة خدمة للعلم، وإظهارا للحقيقة”(2). وتمجيد العروبة بالجزائر في ذلك الزمان تمجيد للعروبة التي لا تنفصل ولا تختلف في شيء عن الإسلام؛ لأنها بهذا التصور جوهر الصراع بين الحضارة الغربية الغازية وحركة الإحياء الإسلامي.

       كما لا يفوتنا التنويه عند هذا الموضوع بأن اهتمام الجزائريين وابن باديس خصوصا بما يجري في أراضي الحجاز دليل على قوة تأثير أعمال الملك عبد العزيز في الأحداث الكبرى آنذاك .

أما ابن باديس فقد نذر قلمه فيما كتب أن ينتصف للحقيقة بكل ما أُوتي من قوة وجهد، لهذا نرى أنه بدأ أولا بالآتي :

ـ تقويم ما كتب عن الوهابيين : فقال : ” وصار من يريد معرفتهم لا يجد لها موردا إلا ما كتب خصومهم الذين ما كتب أكثرهم إلا تحت تأثير السياسة التركية التي تخشى من نجاح الوهابيين نهضة العرب كافة . وأقلهم من كتب عن حسن قصد من غير استقلال في الفهم، ولا تثبت في النقل فلم تسلم كتابته في الغالب من الخطأ والتحريف، وأنى تُعرف الحقائق من مثل هاته الكتب أو تلك، أم كيف تُؤخذ حقيقة قوم من كتب خصومهم، ولاسيما إذا كانوا مثل الصنفين المذكورين” (1) .

ــــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه .

2 ـ المصدر نفسه .

إذن ينبغي أن نعلم أننا أمام كاتب استجمع لموضوعه أدواته، وانتهى فيه إلى قول له في موازين التقويم والأحكام خطره وتقديره المضبوط، من عالم محقق كابن باديس .

فبعد أن صنف الكاتبين عنهم ـ في ذلك الوقت ـ إلى الصنفين المذكورين خلص بسريرته الصافية، وذهنه اللمّاح، وحسّه الإسلامي إلى موضوعه .

ـ تعريف الإمام للوهابيين : فهم مذهبا وأصلا ” أتباع محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي، المتوفى في سنة ستّ بعد الألف والمائتين من الهجرة، وقد ناهز المائة، وهم عرب من أصرح العرب أنسابا وأشدهم بأسا، وأرسخهم في صفات العروبية وأنقاهم من الدخيل”(2) .

وصفات أهل ذكاء وسرعة خاطر، وحدّة ذهن، شنشنة آبائهم الأولين، ومن صفاتهم الممتازة إباؤهم، وشجاعتهم، وصبرهم العجيب . فكان الجريح منهم في هذه الحرب حين إجراء العمليات الجراحية لا يتوجع ولا يتألم، ولا ينقبض له وجه، كأنهم يعملون في جسم غيره . يبلغ عددهم المليونين، لا خلاف بينهم ولا تنازع ولا تباغض، يطيعون رؤساءهم وخصوصا سلطانهم طاعة عمياء، يستبسلون في الحرب ويقدمون إقدام من يتيقن أن وراء الموت حياة خيرا من هذه الحياة، ولا يرجعون إلا بأمر قوادهم ولو فنوا عن آخرهم”(4).

وهم علما وتدينا يقلّ بينهم من لا يحسن القراءة والكتابة، ويكثر فيهم جدا حفظة القرآن، وكلّهم على علم بالضروري من عقائد الإسلام، وأصول

ــــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه

2 ـ المصدر نفسه

3 ـ المصدر نفسه

4 ـ المصدر نفسه

مبادئه وآدابه، شديدو التمسّك بأهداب الدين، وتباعد عن كل ما أُحدث فيه”(1).

بهذا الاستعراض المرتب الدقيق تتم الإجابة عن طبيعة التركيبة البشرية لمن قامت على كواهلهم دولة ابن سعود .

ولكن الوهابيين ليسوا جنسا وسلالة قبلية معينة، إنّما هم أتباع فكرة إصلاحية تروم الانبعاث والإحياء الإسلامي في تلك الأصقاع المباركة . وهي لهذا لفتت إليها انتباه العلماء والمفكرين المسلمين في الجزائر ـ كغيرها من بلاد الإسلام ـ فانفعلت معها فكرة وتجسيدا مشاعرهم وأفكارهم*، لكونها ملمحا بارزا من ملامح النهضة الإسلامية الحديثة في مواجهة حركة الاستعمار والتغريب، فالمفكر الجزائري الإسلامي مالك بن نبي[1905 ـ 1973] يصنف الوهابية ، ضمن ” تيار الإصلاح الذي ارتبط بالضمير المسلم”(2)، هذا التيار الذي” يبدو أنّه قد خطّ طريقه في الضّمير المسلم منذ عصر ابن تيمية، كما يخطّ تيّار الماء مجراه في باطن الأرض، ثم ينبجس هنا وهناك من آن لآخر'(3)، وابن تيمية ” كان مجاهدا يدعو إلى التجديد الروحي والاجتماعي في العالم الإسلامي “(4). وهذا التيار هو الذي أدّى إلى ” إنشاء دولة الوهابيين في الشرق على يد محمد بن عبد الوهاب، ثم يكتسحها محمد علي بإيعاز من الباب العالي، وتأييد من الدول الغربية عام 1820م، ومع ذلك بقيت روح الوهابية حيّة، حتى تمكّن القائمون بها من الظهور مرة أخرى عام 1925م في صورة المملكة الوهابية الحديثة’ (5) .

ـــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه

* من مظاهر هذا التفاعل الشعوري مع دولة آل سعود، تسمية الآباء أبناءهم بأسماء ” السعودي” و” بالسعود” [ هكذا  بالنطق الجزائري العامي المخفف]

2 ـ بن نبي، مالك : وجهة العالم الإسلامي،(د.ن)؛بيروت لبنان: دارالفكر، ترجمة: عبد الصبور

     شاهين،(د.ت)، ص49 .

3 ـ المصدر نفسه ،ص49 .

4 ـ المصدر نفسه، ص49 .

5 ـ المصدر نفسه، ص49، 50.

الأستاذ مالك بن نبي يرى أن الملك عبد العزيز امتلك حسّا صادقا في بعض الملابسات والمواقف التاريخية المتعلقة ببعض القضايا والأحداث، ولفكرته الوهابة حظّ من التّأثير، خاصّة أنّ الغالب على أحكامنا ” التحديد العاطفي لمواقفنا، فنحن لا نحكم وإنّما نأسى “(1)، وهو خلل في طريقة تفكيرنا فوّت على ابن باديس ـ رحمه الله تعالى ـ الفهم الحقيقي لخفايا الصراع الذي نشب بين الملك عبد العزيز والإمام يحي؛ يقول : ” كأنّما الشيخ [ ابن باديس ] لم يتبين عظم النزاع الذي تقف فيه القوى الروحية والمادية في النّهضة الإسلامية متجسدة في الفكرة الوهابية، في وجه قوى الانحطاط والتدهور ممثّلة في الإمام يحي، تؤيده ـ كأنّما بمحض الصدفة ـ قوى الاستعمار . ولقد أغفل هذا الحكم الجانب الناطق من الموقف وهو سرعة المناورة التي قام بها الجيش السعودي الفتيّ، فأحبط الخطة الاستعمارية بالاستيلاء على (الحديدة) خلال أربع وعشرين ساعة “(2).

الحق أن مالك بن نبي كان أحد أهمّ المفكرين الجزائريين متابعة لمسار الحركة ودولتها الفتية، ينظر إليها على ضوء تدافع الصراع الجلي والخفي بين النهضة الإصلاحية وقوى الاستعمار الجاثمة على الجسم العربي والإسلامي؛ يقول في مذكراته : ” يوما أفكر في عودتي للجزائر [ من فرنسا]، ويوما في انتقالي للطائف، وأصبحت عقدتنا الوهابية [ أي الأمل ] أنا وزوجتي، تزداد كل أسبوع يمر. وإذا بخبر يفاجئنا في صحيفة مسائية ” باريس ـ سوار ” التي نقلت خبرا غريبا، تقول فيه، أنّ أحداثا صارمة تتهيأ في الجزيرة العربية، فانطلقت صرخة واحدة منا: آه… إنهم يدبّرون مؤامرة ضدّ عبد العزيز بن السعود ويحيكون مكيدة ، لقد صعقنا هذا النبأ … ذات أمسية من شهر مارس1934″(3)؛ فلقد كان يحلم بالالتحاق بالطائف ليقدّم خدماته العلمية للدولة الفتيّة، وسعي في ذلك سعيا عمليا لولا أن منعته موانع ذكرها في مذكراته.

ــــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه، ص 112،113.

2 ـ بن نبي، مالك :مذكرات شاهد القرن، (د.ط)، بيروت لبنان: دار الفكر، ص 148،149.

3 ـ المصدر نفسه، ص149 .

إنّ هذا النبأ لم يكن سوى محاولة الإمام يحي الاستيلاء على ميناء جدة، فيكشف مالك بن نبي بحسّه الرّاصد الخبير بأساليب الاستعمار خيوط المؤامرة فيقول:” ومنذ الغد بدأت تظهر المكيدة في الصحافة الكبرى التي تحدّثت عن (القبائل المتوحشة المتعصبة التي تعيش بنجد)، لقد أتّضح الأمر، وخصوصا أنّ نفس الصحافة نقلت أنباء عن حملة ( لرد الخطر) تتهيأ بميناء الحديدة باليمن . كان فعلا الإمام يحي يجمع في هذا الميناء كل سفينة، ويسلّحها كيفما كان، للهجوم على ميناء جدّة وعزله أيام الحج بالذّات . إذا كان الأمر في منتهى الوضوح : قد يستطيع الإمام يحي، غفر الله له، أن يجمع  تلك السفن الشراعية المعدّة للنّقل المحلّي ولإخراج الصدف، ولكن من سلّحها بل من رسم لها الخطّة ؟ كان الأمر واضحا، أو لنقل على نصف وضوح؛ إذ كيف نستطيع التبين والتمييز بين خيوط يأتي بعضها من باريس وبعضها من لندن “(1).

فالأمر لم يكن في تقدير مالك بن نبي سوى تضايق الاستعمار من تولّي الملك عبد العزيز على الأراضي المقدسة، والسبب هو أ ن الدولة السعودية “ستصبح هكذا منارة إشعاع للفكرة الوهابية، يعنى في نظري الفكرة الإسلامية الوحيدة التي تصلح بما فيها من طاقة متحركة لتحرير العالم الإسلامي المنهار منذ عصر ما بعد خلافة بغداد”(2) .

إن إدراك الأستاذ مالك بن نبي لهذه القضية على هذا النحو جعلها تتحول عنده إلى مأساة، يقول : ” وأصبحت فعلا هذه المأساة تملك أرجاء بيتنا الصغير، نتحدث عنها في الغداء والعشاء . تنقل زوجتي أصداء الشارع عنها، فنفسرها ونعلق عليها “(3).

ــــــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه، ص 150 .

2 ـ المصدر نفسه، ص 150 .

3 ـ المصدر نفسه، ص152 .

ويروي كيف نقلت إليه ذات يوم حديثا سمعته في الشارع من رجلين يهوديين يفيد أنه ينبغي أن تحطّم هذه القبائل البربرية، فاتسعت دائرة إدراكه للقضية؛ كما قال: ” فقمت أصلّى ركعتين لله، متحسرا، متضرعا، شاكيا من شر الاستعمار، باكيا … ولكنني كنت دوما على منهج الحديث ( اعقلها وتوكل)، فأخذت ورقة وبدأت أحرّر خطابا مثيرا إلى سعادة سفير اليابان بباريس، أتوسّل لحكومته أن تساند باسم التضامن الآسيوي المقدّس أمام الدول الاستعمارية، ابن السعود في المعركة، وتأييده بالسلاح ” (1).

ولكنّ الحلّ جاء من طريق آخر؛ يقول :” وإذا بصحف المساء تعلن في عناوين ضخمة، أن (الحديدة) سقطت في يد الوهابيين، وأن (الذرانييج) حرقوا في مينائها الأسطول الشّراعي الذي جمعه الإمام يحي، وأن أمير المدينة فرّ سباحة وعلى ظهره خزينة الحكومة، وأن الأمير فيصل نقل الجيش السعودي على الآلاف من السيارات المعدّة لنقل الحجاج، ليزحف على الساحل اليمني بينما أخوه سعود، يتوجه للناحية الجبلية “(2).

لقد كان لهذه الأنباء وقعان مختلفان: ” فبالنسبة إلى قادة السياسة الغربية، حتى المناوئين للفاشية، كان فعلا دواء شرا من داء؛ إذ الوهابية وحدها على ما هي عليه، شرّ لا محالة، ولكن وهابية وإحباط خطة استعمارية شرّان” (3). وأما بالنسبة لمالك وزوجته، فيقول : ” أما في بيتي، فلم تزغرد خديجة لإعلان ابتهاجنا؛ لأنها لا تعرف كيف تزغرد النساء الجزائريات في ظرف السعادة والسرور” (4).

إننا أمام نصوص تؤكد مدى ما كانت تشكله الفكرة الوهابية الإصلاحية من مخاطر على الاستعمار من جهة، ومن جهة أخرى تبدي عما كان يتحلّى به زعيم دولتها الملك عبد العزيز من استنارة بصيرة وحدس سياسي،وحنكة في مواجهة المكائد الاستعمارية في منطقة الإشعاع الروحي للعالم الإسلامي الذي أخذ يتلمّس طريق النهضة والانبعاث الحضاري على هداه .

ـــــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه، ص 152.

2 ـ المصدر نفسه، ص153.

3 ـ المصدر نفسه، ص153.

المبـحث الثـالـث

الإنـجاز

لقد تنوع إعجاب زعماء حركة الإصلاح وسُراتها في الجزائر بما كان يبلغهم من أنباء عن إنجازات الملك عبد العزيز يرحمه الله تعالى ودولته الفتية، فسجلوه بعناية وإعجاب وتنويه. وهذا من الأدلّة القوية على التواصل النموذجي بين أجزاء الأمة ودولها في تلك الفترة العصيبة من تاريخها الحديث. إن من يقرأ هذه النصوص اليوم يخطر بباله أن كاتبيها يكتبون عن دولتهم وعن حاكمهم ومليكهم لا عن دولة أخرى ولو كانت عربية مسلمة، خاصة بعد استفحال الشعور بالدولة القطرية في النفوس .

ومن أهمّ الإنجازات في الميدان السياسي منهج الملك عبد العزيز في السياسة والحكم .

ـ حكمه وسياسته : يرى الإمام ابن باديس أن سياسة الملك عبد العزيز تقوم على ركيزتين هما أساس الملك وروح الشرع فيه؛ وهما : العدل والشورى؛ ” يسوس السلطان عبد العزيز هذه المملكة الواسعة بسياسة العدل التّام بين القريب والبعيد، الجليل والحقير، وينفّذ أحكام الشرع بكل تدقيق بلا هوادة ولا محاباة . ومن كلماته في هذا الباب ( العبد والأمير، عيننا على الاثنين حتى ننصف دائما الاثنين ونعدل بينهما، ومن لا ينصف بعيره، لا ينصف الناس). فأنتج له ذلك في مملكته الأمن التام الذي لا تجده في البلاد المتمدّنة، وقد عجزت فرنسا بجيشها اللّهام عن إقامته اليوم في ربوع الشام .

ويجرى في سياسته على أصل الشورى الذي أوجبه الإسلام، فلا يفصل في الأمور العظيمة إلا باستشارة العلماء والأمراء، والأعيان، ورؤساء الأجناد”(1).

ـــــــــــــ

1 ـ جريدة النجاح، المصدر السابق .

لاحظ كيف قارن الشيخ بين المملكة وبعض الدول العظمى بما لها من إمكانات لاستتباب الأمن، لا شك أن السبب في ذلك كله الحكم بالشرع الذي هو كله عدل ورحمة .

ـ أخلاقيات ممارسة الشورى في مملكة عبد العزيز : إن ابن باديس مطلع على حقيقة المجالس النيابية الغربية، ومجريات الأمور فيه، لهذا نراه ينوّه بالتمييز الحضاري والأخلاقي في ممارسة الشورى الإسلامية في مجالس الملك عبد العزيز الشورية؛ يقول مصوّرا إحداها وإنّ عبر عنها بالمؤتمر: “والواقف عليه يعلم بُعد نظر أعضائه وأدبهم الإسلامي، والمحاورة بالأدب الذي يعزّ وجوده في مجالس النّوّاب الأوروبية التي كثيرا ما تخرج عن الكلام إلى اللّكام “(1).

ـ سياسة عمرية : لقد نوّه الكاتبون عن الملك عبد العزيز بشمولية العدل لديه؛ فلم يكن مقصورا على من آزروه وناصروه فحسب، بل هو عادل حتى مع خصومه بعد أن يقهرهم وينتصر عليهم : ” ولكنه في فتوحاته يكوّن دولة، وينظر إلى جميع أجزائها كأنّها أخوة متساوية الحقوق مادامت تخلص الرغبة في التعاون . وهو يسعى دائما لأن يكسب الودّ الخالص ممن يقهرهم، وأن يرغمهم على محبته؛ إذ يريهم أنه لا يهتم بمصالحهم أقل من اهتمامه بأهل موطنه” (2).

إن هذا المسلك أهلهل لأنّ يُعد من أعظم الحكّام في التاريخ الإسلامي، ولم يفعل ذلك حاكم عربي غيره منذ عهد الخليفة العظيم عمر بن الخطاب . وهو منذ زمن بعيد لا يُعدّ رجلا من الرياض بل تخطى روابط القبائل الضيقة المدى، وصار رجل الجميع (3).

ـ تقدير إنجازات الملك عبد العزيز الحضارية العمرانية : لم يقف ابن باديس يرحمه الله تعالى ـ عند الجوانب الأخلاقية والسياسية في بناء الملك عبد العزيز لدولته الفتية، بل نراه يتحدث عن إنجازاته العمرانية حديث العارف المتابع المهتم . وزاد إلى هذا الاهتمام تقديره وإعجابه بما تميزت به تلك المؤسسات من مميزات أخلاقية مستمدة من مبادئ الإسلام وشريعته التي أقام عليها الملك عبد العزيز دولته الحديثة؛ يقول : ” والحكومة النجدية تسعى بكل قواها في تحضير البدو، وتثقيف عقولهم وإدخال الإصلاح الذي يتفق مع حالتهم الاجتماعية، وتعتني اعتناء زائدا بالحالة الصحية، ففي الرياض عاصمتهم مستشفى عظيم تمتد فروعه إلى كثير من البلاد النجدية،  وكذلك بالشؤون الزراعية والتجارية والمالية، فكلّها متقدّمة تقدّما حثيثا . وتحافظ كلّ المحافظة على سلامة الأخلاق والآداب، فلا سوء، ولا فحشاء، ولا منكر، مما غرقت فيه أوروبا بمدنيتها المادية الملوثة بالأقذار”(1). إذن فالمسألة ليست تعميرا وتشييدا فحسب، وإنّما مع ذلك حرص على الانسجام مع قيم الشريعة الإسلامية السمحاء .

ــــــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه .

2 ـ مجلة الشهاب، مصدر سابق .

3 ـ المصدر نفسه .

ـ الحضارة = إيمان + تقدم مادي : إن هذا التميز الحضاري في بناء الدولة نابع عن نظرة (فلسفية  لدى الملك عبد العزيز؛ إذ الحضارة عنده لا يكتمل مدلولها إلاّ بالجمع بين القيم الإيمانية الرفيعة والمدنية المادية؛ إذ لا خير في تقدّم مدني بعيد عن الإيمان والأخلاق، ” ولا يزال ابن سعود مع ذلك مسلما قويّ الإيمان، وأساس اعتقاده أن كلّ ما يحدث من الله، ولذلك يمثّل الرأي القائل بأن كلّ تقدّم في الأمور المادية لا فائدة منه إذا لم يصحبه التعمق في العقيدة، فمن الطبيعي أن يبنى حكمه على القواعد الدينية ” (2) .

ـ الدولة الإسلامية دافعه : إن من يتبنى هذه الفلسفة في البناء الحضاري لا ينبغي أن تأتي سائر أعماله في تأسيس الدولة والمجتمع الجديدين إلا انبثاقا لها، وانسجاما مع العقيدة التي يعتنقها والشريعة التي يحكم

ـــــــــــــــــ

1 ـ الشهاب، مصدر سابق .

2 ـ المصدر نفسه .

بها ويحتكم إليها، فصحّ القول بأن ” هذه الفكرة التي ترمى إلى تكوين دولة إسلامية صحيحة تكون الأولى من نوعها منذ عهد الصحابة هي الدافع لابن سعود في جميع أعماله “(1).

ـ مملكة عبد العزيز جامعة عربية : لقد كان لنظرة الملك عبد العزيز الواسعة دور في إعطاء الفرصة لكل ذي كفاءة من أبناء العرب كي يشاركوه بخبراتهم المختلفة في بناء دولته الفتية، فضلا على أن فتح بلاده لأبناء العرب دليل على سعيه للوحدة؛ يقول  ابن باديس : ” ونشر منشورات في الموضوعات العامة بيُن فيها سياسته، ورغبته في توحيد العرب وترقيتهم، وأن بلاده مفتوحة لأهل العلم والعمل من أبناء العرب، وفعلا فقد وفد عليه العدد الكثير من الشبان المتعلمين من مصر والشام والعراق. وأصبح متصلا بالعالم الخارجي اتصالا أدبيا مكينا، بعد ذلك الانعزال التام، فبرهن بهذا على أنّه سائر بأمّته في الطّريق التي تسير عليها الأمم الراغبة في الحياة : طريق العلم والتسامح، وربط العلائق الودّية السلمية مع الناس” (2) .

إن المتأمل في مسلك الملك عبد العزيز ـ على ضوء هذا النص ـ يُدرك أسس العلاقات الدولية التي خطها الملك لدولته، سواء على المستوى القومي العربي، أو على المستوى الدولي الخارجي؛ تقوم هذه السياسة على الاستفادة الذكية من الكفاءات العلمية العربية والأجنبية، والانفتاح على العالم الخارجي على أسس واضحة عادلة كالتسامح والعلائق الوديّة .

وأحسب أن المملكة بقيت وفية لهذا النهج مما بوأها مركزا معتبرا في السياسة المحلية، بل وحتى الدولية في كثير من القضايا.

ـ الملك عبد العزيز رجل التخطيط : ربما احتاجت الدول الوليدة ذات الملابسات الخاصة في قيامها إلى نوع من مركزية القرار، والتخطيط، من طرف الزعيم القائد المؤسس؛ لهذا فالملك عبد العزيز : ” تنمو جميع الخطط في رأسه وعلى كتفيه مهمّة تنظيم مملكته الكبيرة، وتنحصر مساعدة أمرائه ـ ومنهم ذوو شخصيات كبيرة ـ في حسن تنفيذهم للخطط التي يضعها، فهو وحده الذي يفكر ويعمل، وكلهم أيد له، وأنه ليحمل عبئا عظيما من العمل”(1).

ــــــــــــــــ

1 ـ جريدة النجاح، العدد 180، 31/10/1924م .

2 ـ الشهاب، مصدر سابق .

ـ تقديره لرجاله : إلا أنّ هذا لا يعنى بحال نزوعا نحو غطرسة، أو غمط  ذوي الفضل ممن يعملون معه حقهم، بل إنّه حاكم متبصّر ” يعمل لمصلحة شعبه لا لنفسه، ويقدّر الرّجال حقّ قدرهم ويقرأ ما بقرار نفوسهم قبل أن ينطقوا ببنت شفة، ويسعى دائما لإرضاء من يعملون معه فيعطيهم أكثر ممّا يرتقبونه؛ إذ يمنحهم الأمن على حياتهم، والهدايا الخالصة من القلب والحب لمن يستحقه . ولكن رغم كل ذلك يبقى ابن سعود وحيدا بينهم؛ لأنّ له نفسية عالية ” (2). فهذه النفسية العالية، والمبادئ الإسلامية الرفيعة التي يصطبغ بها هي باعثه على سياسته مع رجاله على النحو المذكور .

ـ عبد العزيز رجل الحرب والبأس :  إلى جانب الخصائص السياسية والأخلاقية التي كان يتمتع بها الملك عبد العزيزـ يرحمه الله تعالى ـ فالرجل تبيّن ممّا قام به من إنجازات غنى شخصيته بخصائص رجل الحرب من تخطيط عسكري، وبأس مع المنحرفين لاستعادة الأمن، وهو ما أثبته دارسوه، ونقلته صحف الحركة الإصلاحية بالجزائر، مصدر دراستنا هذه :

        أ عبد العزيز أركان حرب : لقد أثبت الملك عبد العزيز في فتوحاته أنّه يصدر عن خطة عسكرية محكمة، وموهبة فذّة في إدارة الحرب، فل تبعا لنظام محدد، وكان ثمّة أركان حرب وخريطة حربية، كما في الغرب .

ولكن شخص ابن سعود كان وحده أركان حرب، ثم أنّه لم يكن قد رأى أيّ خريطة حربية من قبل .

ـــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه .

2 ـ المصدر نفسه .

وقد اتخذت فتوحاته شكل حركة حلزونية، تبدأ من مركز لا يتبدّل وهو الرياض، وكان لا يخطو خطوة إلى الأمام إلا بعد أن يؤمّن ما سبق فتحه، ويوطّد في موقفه من الوجهة العربية”(1).

     ب ـ عبد العزيز يعيد الأمن لنصف قارة بإقامة الحدود ونشر العلم : نلحق هذا الإنجاز بالجانب الحربي والعسكري في شخصية الملك عبد العزيز، لكونه من بأس رجل الحرب والدولة الذي يضع السيف في موضع السيف، والدواء في موضع الجرح والألم؛ ” بدأ ابن سعود في التّشديد بتوطيد الأمن العامّ في بلاده بواسطة القوانين الصارمة وحملات التأديب القاسية . ومن قبله كانت شبه جزيرة العرب كلها شبكة من اللصوص، وكانت قبائل البدو يشنّ بعضها الغارة على بعض، وتنهب القوافل، وكانت الطرق غير آمنة، فلمّا جاء ابن سعود حرّم على البدو أن يتقاتلوا، وأمر بأن تُحل الخلافات بين القبائل بقضائه، أو قضاء أمرائه فيها، وجعل المجرمين يشعرون بكل ما في الشريعة من شدة” (2) ، إلا أنّ تمازج البعدين العسكري والتربوي في شخصيته ألهمه أن يصحب عمله ذي الصبغة العسكرية الأمنية والتشريعية، بعمل تربوي تعليمي تغييري؛ : ” وقد أجدى ذلك [ العمل التأديبي العسكري] بعض النفع، غير أن ابن سعود لم يلبث حتى أيقن أن الإكراه وحده لا يكفى ليجعل من الوحش بشرا، فشرع يبث في نفوس شعبه أخلاق الإسلام وفضائله، وبعث بالمعلمين، وبالوعّاظ إلى مختلف القبائل ليعلّموا البدو القراءة والكتابة، ويحثّوهم على التمسك بالدين وآدابه في عزم وإخلاص “( 3).

لقد أثمرت هذه الجهود النوعية لا أناسا متعلمين فحسب، ولكن مجتمعا يسوده الأمن الفريد من نوعه، حتى بالمقارنة مع الدول الحديثة المتمدنة : “وكانت ثمرة ذلك صغيرة في السنوات الأولى، ولكنها نمت تدريجيا،وأينعت وأتت أُكلها، وهكذا تمّت في بلاد العرب إحدى الغرائب، وأصبحت مملكة ابن سعود، ومساحتها مثل مساحة ألمانيا وفرنسا وايطاليا معا، وفيها الأمن العام مستتبّ بشكل لا يوجد في أية دولة متمدنة من الدول الغربية . والآن يستطيع كلّ شخص أن يسافر بمفرده في الصحراوات الواسعة وسط بلاد العرب دون أن يحمل سلاحا أصلا، وإن كان يحمل الأثقال من الذّهب، فلا يصيبه ضرّ أو أذى . وقد كان الناس قبلا لا يقطعون تلك الجهات إلا جماعات مسلحين “(1).

ــــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه .

2 ـ المصدر نفسه .

3 ـ المصدر نفسه .

جـ اللصوص صاروا إخوانا : لما استقر الأمر واستتب الأمن نتيجة جهود الملك عبد العزيز الجبّارة في صفوف أولئك الذين كانوا قد تخلّوا عن الإنسانية والضمير والوازع الشرعي، فدبّت فيهم حركة تغيير عجيبة حتى لكأنّما أدركوا الإسلام بعد الجاهلية، فأحسّوا أنّهم أصحاب رسالة سامية في الدولة الجديدة  فشرعوا ـ كما يقول ابن باديس ـ ” يحسّون تدريجيا أنهم حاملوا علم تقدّم عظيم، وقد أثار التّعليم الدّينيّ الذي أتاهم ابن سعود به عاطفة إطلاق الدّين المتغلغلة في نفوس العرب، وأدركوا أن دولة إسلامية في دور النشوء في بلادهم، وأنّ عليهم أن يضعوا لها الأعمدة والأسس. وكذلك أصبحوا أصدق النّصراء للإسلام بعد أن كانوا لا يعلمون إلا قشورا منه، وصاروا ينظرون إلى نجد نظرتهم إلى معقل الإسلام وإنهم لمحقّون في ذلك . وقد تركوا اعتبارات العصبية المحدودة وسمّوا أنفسهم ( إخوانا )أي إخوان كلّ من يسلم قلبه لله دون قيد أو شرط ” (2).

د ـ الإخوان دعامة جيش عبد العزيز : من الصّور الحيّة لتفجير الطّاقات، وتأطيرها لأداء رسالة سامية كالرّسالة التي نذر الملك عبد العزيز نفسه لها؛ بإقامة دولة العدل والتوحيد، دولة الإسلام، صورة ( الإخوان )، دعامة جيشه : ” فللإخوان أهميّة عظيمة بالنسبة لدولة ابن سعود، لأنّهم في حالة الحرب يتطوّع منهم كل رجل قادر على القتال، ويدخل في جيش ملكهم، وملء قلبه النخوة والحماسة. وإذ أنّهم يعتبرون أنفسهم الممثّلين الصّادقين للدّين الحقّ، ولا يقاتلون إلا في سبيله . لا يرهب الإخوان الموت بل يرحّبون به،ولكن دون أن يزدروا الحياة” (1).

ـــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه .

2 ـ المصدر نفسه .

هذه الخصال الفريدة أهّلتهم لأن يوصفوا من طرف الكاتب بأنّه ” أكثر جيوش العالم شجاعة، وصبرا، وسرعة في الحركة، ولو مُدّوا بالأسلحة الهندسية الحديثة لاستطاعوا أن يفتتحوا دولة عظيمة . وهم في وقت السّلم مشتّتون في أنحاء البلاد، ولكن إذا دعاهم الملك لم ينقض شهر واحد [ بسبب بدائية وسائل المواصلات والاتصالات ] حتّى يجتمعوا كلّهم في المكان المعيّن … وهذا الجيش المتحمّس القليل الكلفة يجعل ابن سعود أقوى من أيّ حاكم عربيّ قبله ” (2).

وـ من مظاهر حكمة الملك عبد العزيز السيّاسية والعسكريّة : طريق الملك عبد العزيز ـ يرحمه الله تعالى ـ إلى إقامة دولته واستقرارها لم تكن طريقا ممهّدة دون فتن، ونكث عهود، فكان يتصرف مع كل ذلك بما عهد فيه من حكمة وكياسة في موضع الحكمة والسياسة، والبأس والشدّة ـ وفق أحكام الشّريعة الغرّاء ـ في المواضع التي تقتضي  ذلك .

ولقد كان لهذه السياسة أنصارها والمدافعون عنها في الجزائر بحماسة وحجة ويقين . وفي هذا الصدد انبرى الأستاذ أحمد توفيق المدني أحد أعضاء وكتاب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين البارزين، في مقالة نشرها بمجلة الشهاب التي كان يصدرها عبد الحميد بن باديس يدافع عن العقوبة المستحقة التي أنزلها الملك عبد العزيز على فئة فيصل الدرويش الباغية، حين عاودت بغيها وعدوانها بعد أن عفا عنهم، فتحت عنوان ” السيف في موضع السيف ” كتب قائلا : ” مرحى للملك العظيم ابن السعود وألف مرحى . إنّه لرجل الحزم والتبصّر، وبطل الحرب والسياسة، وساعد العرب المتين، وقائدهم الذي لا يهون ولا يلين” (1). من تكن هذه أوصافه لا يُخشى منه ظلم ولا عدوان، ولا تنطّع في إنفاذ حكم، لهذا يعيب الكاتب على من عاب عليه القصاص من المفسدين فيقول : ” نقم عليه ضعفاء العقل وسفهاء الأحلام، شدّة استعملها في سبيل الله، وبطشا حطّم به معاقل الفساد والنفاق، وصلابة لولاها لشتت الله شمل الجزيرة بعد الاجتماع، و لحلّت فيها الفوضى السّالفة محلّ النّظام، و لسالت الدماء فيها وانتُهكت الحرمات بدل الأمن والعافية والسلام . و لقام الدّليل للعالم أجمع بأنّ العرب أمة الهمجية والفوضى والفتن وسفك الدّماء، وأنّه هيهات لتلك الأمة أن تعود للمدنية بعد أن خرجت منها، وانفصم حبل الاتصال بينهما” (2)، إن تكن هذه النتيجة فما أهون الثمن، الإطاحة بالفئة الباغية التي “أعلنت ضده حربا لم تّراع فيها للعروبة ولا للإسلام إلاّ ولا ذمّة، وجمعت حولها جموع الفتك والنّهب والفوضى، أولئك الذين لا يعيشون إلا من وراء الفتك، ولا يرتاحون إلا بعد الفيء ولم ترحم الأرحام منهم أقارب   تُرويّ سيوفا من دماء الأقارب

ـــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه .

2 ـ المصدر نفسه .

ثم تجمعت جموعهم الوحشيّة وراموا محق ابن السعود، ونسف نظامه، والقضاء على تلك الدولة العربية الفتية، في مهدها، حتى يخلو الجوّ لكلّ طمّاع أثيم، فيعيش سائبا ناهبا، سافكا، لا تردعه قوم ولا يناوئه مقام . أرادها أعداء الله وأعداء المدنية فتنة هوجاء وحربا عمياء، لكن ربّك أرادها للعرب غير ذلك، وإنّ ربّك لبالمرصاد ” (3). أمثل هؤلاء يُلام فيهم من كفّ شرهم، وانتقم للشريعة والأخلاق والأمن والمدنية منهم؟ ورغم ذلك ألم يكن من قبل قد ” ظفر بهم الملك عبد العزيز أوّل مرّة فشتّت شملهم وفرّق جموعهم، واغتر بهم، والمؤمن غرّ كريم، فعفا عنهم بعد المقدرة، وصفح عنهم بعد سقوطهم واستسلامهم، وأخذ عليهم عهد الله وميثاقه ليخلدن بعدها إلى السّكينة،ولينبذن تلك الفتنة، وليرجعن إلى الجماعة، وليرضخن إلى حكم الله” (1) . لكن هل أجدى ذلك معهم نفعا؟ ” للأسف الشديد، فعلى الرغم من أريحيّة تلك الخلال الحسنة، والسجايا الطيّبة الرقيقة، التي أبداها الملك عبد العزيز وواجه بها هؤلاء القوم، مع مقدرته على القصاص مهم بالحق… إلاّ أنّهم لم يصدقوه القول، ولم يكونوا شرفاء وأصحاب كلمة وعهد” (2) . فالأمر كما صوّره الأستاذ المدني قائلا : ” فما كادت تلك العشائر الهمجيّة التي يقودها الطماعون الأرذلون تستعيد قوته، وتسترد منعتها، حتى خانت عهودها، ونكثت وعودها، واستعدّت من جديد لقتال من كانت بالأمس تتوسّل تحت أقدامه طالبة عنق رقابها من سيف الجلاد .

ــــــــــــــــ

1 ـ  الشهاب ، ديسمبر1929م ..

2 ـ المصدر نفسه .

3 ـ المصدر نفسه .

لقد استفحل خطر هذه العصابة الشريرة، ونالت فوزا أول الأمر، كان فجرا كاذبا وبرقا خلبا، وبرز لهم المؤمنون، يبيعون لله أنفسهم فداء راحة العرب واستقلالهم وسعادتهم، وحملوا حملات صادقة على أؤلئك المارقين فدحروهم . وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر . فتشتّتوا شذر مذر “(3) .

ومع ذلك فهل استقل الملك عبد العزيز برأيه فيهم؟ كلاّ بل ” إثر هذا الفوز الأعظم والنّصر المبين، عقد الملك ابن السعود مؤتمرا اجتمع فيه وجوه القوم وسراة البلاد وعلماؤها، وبعد أن تفاوضوا مليا في شأن فلول العصاة وجماعتهم وأسراهم الذين خانوا، وأقدموا على الفتنة مختارين، ونكثوا الإيمان بعد توكيدها . حكم المؤتمر عليهم بأنّ دماءهم حلال وأموالهم فيء . ولا يقبل لهم عذر ولا يؤمن لهم جانب . ونفذ حكم الله فيهم، والله عزيز ذو انتقام”(4).

أما وقد تبين الصواب ” فلندع الضعفاء يقولون ما يشاءون، فالحقائق ناصعة، والوقائع واضحة، والتاريخ شاهد، والله أحكم الحاكمين ” (5).

ــــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه

2 ـ المصدر نفسه .

3 ـ المصدر نفسه .

4 ـ المصدر نفسه

5ـ المصدر نفسه .

ـ توطين البدو خدمة للدين والمدنية : برهنت إنجازات الملك عبد العزيز على أنّه رجل دولة وحضارة واجتماع إنساني، فاستولت على اهتمام رجال الحركة الإصلاحية بالجزائر، فقدّروها حقّ قدرها . فهي برهان عملي قاطع على اهتداء هذا الحاكم الذي لم يحتك بالمدنية الغربية، لأرقى الحلول الاجتماعية بعبقرية، لأوضاع وظواهر اجتماعية تقتضى أن يتصدّى لدراستها ووضع تصورات لمعالجتها مراكز بحث اجتماعية واستراتيجية كالتي ظهرت في الغرب في العصر الحديث ؛ ” وضع ابن سعود عمله لتحضير البلاد على أساس أكبر … فقد شرع يفكر في استيطان البدو؛ إذ أتضح له أن تنقّل البدو من جهة إلى أخرى كلّ حين يمنع تقدّم المدنية بينهم، ويحول دون ما هو أهمّ من ذلك عنده، وهو تمكين الدّين من نفوسهم . وعلى ذلك أخذ يبث هذه الفكرة في البدو، ولم تكن بلاد العرب تعرفها من قبل . وقد نجح في هذا نجاحا أكبر مما ارتقبه . وبدأت القبائل واحدة إثر أخرى تدرك فائدة المعيشة المستقرة في ناحية معلومة ” (1) .

إذن فالعملية تمّت وفق خطّة محكمة: تشخيص الظاهرة، وتحديد السلبيات، و رسم أهداف المخطط وهي ( التّمدين وتمكين الدّين من النّفوس)،  ثم اتّخاذ وسائل التّنفيذ الملائمة للبيئة .

إنّ هذا العمل في ميزان الحضارة والرّقي السليم بالإنسان ” سوف تقدّر أهميّته من وجهة الحضارة، وأن التاريخ سوف يفرد لهذا الملك صفحة بين صفحات العظماء الذين خطوا بالإنسانية خطوات إلى الأمام” (2).

ـ حيازة دولة عبد العزيز على موجبات السيادة والتقدم : يحتكم الإمام ابن باديس إلى مقاييس اجتماعية باعتبارها مقدمات تنتج عنها نتائج هي الغاية لدى مجتمع أو دولة تطلب الرّقيّ والازدهار. فمن خلال منهج استقرائي لخصائص ما سمّاها بـ ( الأمة النجدية) قياسا على ( الأمة الجزائرية) المصطلح الذي كان سائد الاستعمال آنئذ نتيجة ملابسات الصراع الحضاري، فخلص إلى ” أن الأمة النجدية لها من الصّفات النفسيّة والأدبيّة والاجتماعيّة، ما تستحقّ به السيادة والاستقلال والتقدم، والقيام بجلائل الأعمال، وأن الحكومة النجدية مرتكزة على نشر الأمن والعدالة والتّسامح وحبّ المعارف . وهذه الأربعة ـ كما قال الأستاذ (فلندر زيتري) العالم المؤرخ المشهورـ هي أصول الحضارة والشروط اللاّزمة للتمدّن الدّائم الصحيح “(1) .

ـــــــــــــــ

1 ـ “ملك العرب”، الشهاب، مصدر سابق .

2 ـ المصدر نفسه .

ـ الملك عبد العزيز زعيم العرب ونهضتهم : من الحكّام والأمراء من يعتقد أن الزّعامة والسيادة مما يُتوارث بالأحساب والأنساب فحسب، حتّى وإن جاءت أعمالهم في غير مصالح الأمّة التي يحكمونها، إلا أن ابن باديس رأى بعد تحليله لأوضاع الأمّة العربيّة إثر الحرب العالمية الأولى، أنّ زعامة هذه الأمّة لا يستحقها إلا رجل له من الصفات والسيرة الحسنة، والقوة المرهوبة ما يُطوّع الأحداث لصالح تلك الأمة وجمع شملها، وهذا الرجل هو الملك عبد العزيز، يقول : ” انتهت الحرب الكبرى، وكان حظّ العرب منها بتفرّق كلمتهم، وتنازع أمرائهم في داخل الجزيرة ووفودهم تحت نير الاستعمار الجائر في سورية والعراق وفلسطين … لم يبق بعد هذا كلّه من يُرجى للنهضة العربية وزعامة العرب حقيقة إلا ابن السعود بشخصيّته البارزة، وصفاته الممتازة، وسيرته الحكيمة العادلة، وجيشه المرهوب، فقام هذا الأمير وغايته الوحيدة التي جعلها نصب عينيه هي تطهير جزيرة العرب من الأجانب، وأذنابهم … وجمع شمل الأمة العربية بعقد حلف بين أمرائها في الجزيرة وخارجها . والواقف على منشوراته العامّة ومداولاته مع أمراء الجزيرة يعلم هذا، ويتحقّقه، فأخذ يسعى لهذه الغاية العظيمة، ويهيئ لها الأسباب ” (2).

ـ سموّ الغاية ورفعتها : ومع هذه المؤهلات التي استحقّ بها ابن سعود السيادة والزعامة العربية، فإنه لم يكن يصبو لغلبة مستعلية، ولا لنصر مستبد بل إن غايته أسمى وأرفع: ” فلمّا دخل مكة وطرد آل حسين منها طلب من جمعيات الهند ومصر أن يأتمروا لتعيين شكل حكومة الحجاز، فبرهن بذلك على أنّه لم يغز للغلبة والاستيلاء، وإنما حارب وتحمّل المشقّة لتطهير الحرمين الشريفين من الخائنين الآثمين، وامتثالا لرغبة عموم المسلمين” (1).

ـــــــــــــ

1 ـ جريدة النجاح، مصدر سابق.

2 ـ المصدر نفسه .

ـ الملك عبد العزيز زعيم الأمة العظيم الوحيد : لم تكن رغبة الملك عبد العزيز إقامة دولة لها حدود معلومة تبحث لها عن مكان تحت شمس العالم المعاصر، وتقف رسالتها عند حدودها، إنّما كان الرجل يصدر عن رؤية إصلاحية سياسية شاملة للأمة العربية كلّها، على أسس من تعاليم الإسلام؛ يقول ابن باديس : ” وإنّ حركة الوهّابيين اليوم حركة سياسية إصلاحية ترمى إلى توحيد العرب بربط حلف بين أمرائهم المعتبرين، وتثقيفهم بالعلوم، وتفهيمهم بالحكمة حقيقة دينهم العظيم، حتى يصبحوا بإذن الله تعالى أمّة حيّة تعرف ما لها من الحق في الوجود وما عليها من الواجب نحوه” (2) ؛فهذه رسالتهم التي ينبغي أن يتطلّعوا لتحقيقها اليوم، استئنافا لدورهم في الشهود الحضاري الذي أحسن أسلافهم القيام به على أحسن وجه، يقول ابن باديس:”ويمثلوا حقيقة تلك الأمّة الكريمة التي دوّخت العالم بسياستها، ونشرت في أقطاره خطّها ولسانها، وإنارته بدينها ومدنيتها. وكانت الواسطة الأمينة الفعّالة بين التمدن القديم، والتمدّن الحديث، ويرفعوا منار الإسلام بمدنيته الحقّة الرّاقية في هذا الزمان كما رفعوه كذلك في سالف الأيام، ويجب أن نعلن بأن الفضل الأول في هذا كله للرّجل الكريم، والبطل العظيم السلطان عبد العزيز بن عبد الحمن آل فيصل آل سعود، الذي لا نشك أنه سيكون له ـ إن شاء الله تعالى ـ في تاريخ العرب ما كان لمصطفى كمال في تاريخ الترك[ مع الفارق في أسس واتجاه كل منهما طبعا ]؛ فالأمّة العربيّة اليوم تعتبر هذا الأمير العظيم زعيمها الحقيقي الوحيد، وتعلّق عليه الآمال الكبار والعالم الإسلامي ينظر إليه بعين العطف والاعتبار، شاكرا خدمته الجلى، وسلوكه السياسي النظيف ومقصده السامي الشريف، ومقدار منزلته العالية التي نالها في عين العالم عن جدارة واستحقاق “(1)*.

ــــــــــــــ

1ـ المصدر نفسه .

2 ـ المصدر نفسه .

ـ الملك عبد العزيز والغرب : هذه صفحة لم أرد أن أجتازها وأنا أتتبّع الحضور القويّ لشخصية الملك عبد العزيز، وأعماله في دائرة اهتمام الحركة الإصلاحية في الجزائر. فلقد كان الإمام عبد الحميد ابن باديس يتتبّع بعين المراقب الفطن تطلّعات الغرب الاستعماري، مجسّدا في دولتيه الكبيرتين (بريطانيا وفرنسا) آنذاك، إلى النفوذ في جزيرة العرب . والمعروف عن ابن باديس أنه كان يدعو إلى حسن الاستفادة ممّا لدى هؤلاء الغربيين من علوم مدنية مفيدة، وخبرات فنيّة تعود على المسلمين بالخير، ومن هذا المنطلق عالج هذا الموضوع في مقال عنوانه ( جزيرة العرب والنفوذ الإنجليزي الفرنسوي)، فوصف كنوز الجزيرة العربية الفكرية والمادية  قائلا : ” لا تزال جزيرة العرب إلى اليوم بلدا بكرا، في معتصم من السلطة الأجنبية، وفي عزلة عن الحضارة العصرية، لم يستخرج العلم كنوز الفكر من رؤوس أهلها ذات الذكاء الفطري المتوارث . ولم تستخرج الصناعة كنوز المعادن من أحشاء أرضها الكثيرة السهول والنجود” (2) .

إلا أنّها مع ذلك واقعة بين معقلين استعماريين للحضارة الأوروبية، فرنسا من الشام، وأنجلترا من العراق، لهذا رأى ابن باديس أنهما: ” لا يبرحان يعملان على توسيع نفوذهما واستدرار تلك الخيرات الطبيعية لأبنائهما . وهما لذلك متزاحمان تزاحما يتفاقم ما بينهما يوما فيوما”(3).

واستنادا إلى أنباء تفيد ” بسعي فرنسا إلى ربط صلات الودّ والصداقة مع سيد مكّة والرياض، وسعي انجلترا في عقد معاهدة مع سيد صنعاء” (4)  

ـــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه . * تسطير الكاتب

2 ـ الشهاب، عدد53، 6/9/1926م.

3 ـ المصدر نفسه .

4 ـ المصدر نفسه .

ذهب ابن باديس إلى أن النّفوذ لا يكون ضارّا إلاّ بالنسبة للحكومة الضعيفة الجاهلة ممّا ينجرّ عنه امتيازات، وتدخلات في الشؤون الداخلية لا نهاية لها، وتحمد عقباها. أمّا ” إذا كانت على رأسها حكومة قويّة عالمة تعرف كيف تستعمل مال الغرب وأبناءه استعمال العدل والإنصاف؛ يأخذ أجره من الأرض التي يخدمها، لا من روح الأمّة واستقلالها، فإنّها ـ تلك الأمّة ـ ترقى في معارج الحضارة، وتستخرج كنوز أرضها التي تدرّ البركات على الأمّة، وتنقذها من الفاقة والجهل . إن الذين يعرفون الملك السلفيّ الإمام ابن السعود، يتحققون أنه يستغل من المتزاحمين ما ينفعه، ولا يقع فيما يضره” (1).

 سبحان الله لكأنّ ابن باديس والملك عبد العزيز يصدران عن مشكاة واحدة؛ فالمعروف أن المملكة العربية السعودية انتهجت هذا المنهج الذّكيّ في الاستفادة من خبرات الغرب وعلومه ومدنيته، لتمدّنها واستخراج خيرات أرضها، دون أن تسلّمه روحها، ولا منهج حكمها، ولا قيمها، كما هي حال كثير من بلاد العرب والمسلمين .

* من مظاهر تفاعل الحركة الإصلاحية الجزائرية مع أعمال الملك عبد العزيز: الحقيقة أن كلّ ما مضى ذكره في ثنايا هذا البحث لا يخرج عن وصفه بتفاعل الحركة الإصلاحية بالجزائر مع الحيوية الزاخرة التي أحدثتها أعمال وإنجازات الملك عبد العزيز، ولكن الأحداث تتفاوت من حيث الأهمية والجسامة، إذ أنّنا سجّلنا تجاوب تلك الحركة الكبير مع التغييرات العظيمة التي أحدثها الملك عبد العزيز، إلى جانب أحداث كان يمكن أن تمرّ دون اهتمام كبير. وسوف نقتصر ـ تمثيلا ـ على حدثين هما :

    أ ـ الإصلاحيون يستبشرون للمصالحة بين ملكين :كان رجال الحركة الإصلاحية بالجزائر يعبّرون عن ابتهاجهم بكل خطوة نحو التئام شمل الأمة وقادتها، وفي هذا الاتجاه كتبت جريدة البصائر ( لسان حال ) جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، تحت عنوان ( السّلم العربي) ” امتطى الملك عبد الله عاهل الأردن طائرته، يؤم عاصمة العرب السعوديين، بعدما عرّج على الظهران عاصمة البترول العربي الأمريكي، وهنالك في الرياض يقتبله العاهل العربي العظيم عبد العزيز آل سعود، ويتعانقان، ويقبل أحدهما الآخر . وبتلك الإشارة الرمزية الرفيعة القيمة العالية الشأن تنهار أحقاد، وتسقط إحن، وتنتهي مزاحمة دامت قرابة قرن، ويعود العرب بحمد الله كما كانوا من قبل إخوانا في السرّاء والضرّاء” (1). وهو تثمين الحريص على ألاّ يكون بين حكّام الأمّة إلاّ المودّة والتّآزر في كلّ الأحوال، الأمر الذي ينعكس إيجابا على شعوبهم .

ــــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه .

    [ ـ إصلاح الملك عبد العزيز الحرم النبوي من ماله الخاص : اتّسمت المعالجة الإخبارية الإعلامية بصحف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بميزات عدة منها : الصراحة ـ تحري الصدق في الخبرـ شمولية المعالجة ـ الإشادة بالبادرة الإيجابية ـ الإنصاف . على ضوء هذه الخصائص نورد الخبرالذي نشرته جريدة البصائر: ” كم آلمتنا الأنباء الواردة من الحجاز، والتي تخبر بأنّ بعض أعمدة الحرم النّبويّ الشّريف توشك أن تنهار، وبأن الحكومة المصريّة قد فتحت اكتتابا عامّا بجميع الإعانات من العالم الإسلامي أجمع للقيام بعمليات الترميم والإصلاحات اللازمة، فعجبنا واستغربنا وازددنا تألّما من عدم قيام الحكومة السعودية الإسلامية التي أغناها الله ( بالذّهب السائل) في خبايا أرضها بهذا الواجب، بدل الاعتماد على صدقات المتبرعين وأريحيّة المسلمين، رغم استعداد هؤلاء لمثل هذا العمل حبّا في نبيهم العظيم صلوات الله وسلامه عليه. وتساءلنا كيف غفلت عن هذا التراث المقدّس فتركته ـ تحت سمعها وبصرها ـ يصل إلى حالة الانهيار؟ وأخيرا جاءت الأخبار فحقّقت ما كنّا نعتقده من صاحب الجلالة الملك ابن سعود من الغيرة على مقدّسات المسلمين، فأعلن رسميا قيامه بإصلاح الحرم الشريف من ماله الخاص، وإنّما طلب من الحكومة المصرية أن تمدّه بالمهندسين والفنيين اللازمين، وأعلنت حكومة النّحاس باشا بدورها إيقاف الاكتتاب، وإرجاع الأموال المقبوضة إلى أهلها”(1). فهذه العيّنة من التفاعل مع أعمال الملك عبد العزيز، تدلّ على التجاوب الروحي والفكري الكبيرين، وعلى المكانة المميزة التي بقي الملك يحتلها في نفوس الإصلاحيين حتى بعد رحيل زعيمهم ابن باديس .

ــــــــــــــــــ

1 ـ جريدة البصائر،السلسلة الثانية،العدد 42/27/8/1467هـ 5/7/1948م.

ـ مملكة عبد العزيز في رحلة الغسيري : محمد منصور الغسيري[1912 ـ1974]   أحد تلاميذ ابن باديس ورجال الإصلاح وكتّاب صحف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين البارزين، نشر فصول رحلته (عدت من الشرق) في جريدة البصائر في حلقات عديدة أطولها الجزء المخصّص للسعودية؛ فقد امتد هذا الجزء إلى ثمانية عشرة حلقة، سجّل فيها بفخر واعتزاز العربيّ المسلم التحوّل العمراني والحضاري الكبير في المملكة، فأصبحت المثل الذي ضربه الله للمسلمين؛ قال: ” أما مكة المدينة فقد ظلّّت تتأرجح الحضارة الإسلامية فيها بين الرقيّ والتسكّع في أحضان الانحطاط، حتى انبثق الفجر عن ميلاد حكومة بدويّة جمعت كلّ معاني الشهامة والجرأة، والحفاظ والشمم العربي، وراء سلاسل جبال السراة، وفي أحضان جبال نجد الشامخة، هناك نشأت وترعرعت    هذه الحكومة الصالحة، وكأنّ الله أراد أن يضرب المثل الصادق للأمم الإسلامية في أنّه جلّّ وعلا يستطيع أن يحقّّق في كلّ وقت ما حققه للأمم الماضية؛ ( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم،إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) “(2)، إنّها الحكومة التي اتخذت الإصلاح الديني والدنيوي منهجا للنهوض، ومن الإسلام دستورا للحكم،  وكأنّه تعالى تخيّر القرن العشرين ميلادا لها، وادّخر علما من أعلام الإسلام محمد بن عبد الوهاب ليضع لها القواعد، ويرشدها إلى أقوم الطرق في النهوض الديني والدنيوي، فكان أن اتّخذت الإسلام دستورها في الحكم، وكان أن اتّخذت الإصلاح الديني شعارها في بعث همم المسلمين من جديد، وإنارة عقولهم بشعاع روحانية الإسلام، وإشاعة الحب الصادق بين قلوب المؤمنين” (1).

ــــــــــــــــ

1 ـجريدة البصائر، السلسلة الثانية، عدد145، 27/5/1370هـ 5/3/1951م.

2 ـ الغسيري، محمد منصور: “عدت من الشرق”، البصائر، عدد،259،15/4/1373هـ 19/2/1954م

وقيض الله الملك عبد العزيز ـ بما حباه الله من مميزات ـ ليكون المؤسس لهذه الدولة، المجسّد لقيمها ومبادئها الكريمة: ” وشاء الله تعالى أن يتزعّم هذه الدولة الفتاة الملك الصالح، والمؤمن القويّ، والسياسيّ الخطير، عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود قدّس الله روحه وطيب ثراه، فكانت نتيجة ذلك كلّه أن رفع أمّة، وأحي شعبا، وأدال لدين الله الحق أن يقضى بسرعة خارقة على الخرافات والأوهام في الجزيرة وخارجها، ومدن الجمّالين ورعاة الأغنام، فأصبحوا مهندسين، وحكماء، وطيّارين . ورفع أعلام الحرية فوق أرض تجرّعت كؤوس الخيبة والظنّ السيّئ في إمكان وجود عدالة فوقها زمنا طويلا . وكما مدّن الجمّالين قهر المنافقين والمتزلفين والطمّاعين في المغانم، حتى استتبّ الأمن في البلاد العربية السعودية، وكادت الحضارة تهجم على أقاصي أوكار التوحّش في البلاد” (2).

ثم يطلق الغسيري أنشودة نثرية جميلة يثني فيها على الملك الكبير دون تزيد أو مبالغة، فيقول : ” أي ورب الكعبة لقد كان الملك عبد العزيز عظيما حقّا، وصالحا مصلحا حقّا، وعربيا صريحا حقّا، ومؤمنا قويّا صادقا حقّا، كان مجدّدا يهوى الإصلاح ويتخيّر له الفرص، ويرتاح للإنشاء والتّعمير فبنى القصور والمنشآت الخيرية والثّقافية، وشقّ الطّرق في كثير من المناطق الوعرة، ورصف بعضها . ونوى أن ينهي رصف طريق مكة ـ جدة ـ المدينة، في بحر سنة واحدة لو لم تعالجه المنية رحمه الله . وتعطّف فأمر بتهديم جزء من الحرم المدني تصدّع بنيانه أو أوشك، ثم أضاف إليه مساحة سبعة آلاف متر مربّع زيادة على آلافه الثمانية الحالية . وكانت المساحة المذكورة مبنيّة كديار للنّاس اشتراها منهم  بباهض الأثمان، وكتب الله هذه مكة وقد بُنيت حول البيت الحرام دُورها الجميلة الأنيقة، وفتحت الأسواق التجارية القارة، وانتشرت المصانع الصغيرة خلالها. وعمّت الحيويّة كل هذه المنشآت وقت الحج، وغصّت المدينة بمآت الألوف من الحجاج ” (1).

ـــــــــــــــ

1ـ المصدر نفسه.

2 ـ المصدر نفسه.

الفصـل الثـانـي 

المملكة العربية السعودية وقضايا الأمة

في التـراث الثـقـافـي الجـزائـري

يأتي هذا الفصل توسعة لرقعة البحث حول حضور المملكة العربية السعودية في تراث الجزائر السياسي والتاريخي والثقافي، فيمتد على مساحة زمنية تتجاوز فترة حكم الملك عبد العزيز ـ يرحمه الله تعالى ـ بزمن يسير.

والحق أن النّصوص المتّصلة بموضوعنا تتعلق بفترة عرفت العلاقات الجزائرية ( ممثّلة خاصّة في ممثّلي ثورة التحرير الجزائرية ) والمملكة العربية السعودية، خصوصية نوعية في نصرة القضية الجزائرية بالمال والموقف السياسي والدبلوماسي، والاحتضان العلمي والثقافي .

وتراث كهذا لا ينبغي ـ بأية حال ـ تجاوزه في بحثنا لوزنه في تاريخ العلاقات السياسية، بل إنّه يمثّل ـ بالنّسبة لنا نحن الجزائريين ـ سندا قويا في صراعنا الحضاري مع تيّارات استئصال الجزائر من محيطها العربي الإسلامي، ومحاولة إلحاقها بالغرب تحت عناوين مختلفة كالبعد المتوسطي الذي لا يزيد عن كونه بعدا جيوسياسي وتاريخي ذي صبغة استعمارية، وارتباط مصالح اقتصادية بعيدة عن الانتماء الحضاري بمفهومه الشاسع .

نتيجة تتبّعي لهذا التّراث في نصوصه ووثائقه أدرجت البحث فيه على مستويين: مستوى الكشف عن القضايا التي حرّكت العلاقات بين البلدين على الميدانين الفكري والعملي، وأهم قضيتين تتعلقان بهذا الجانب هما : القضية الجزائرية في تجلياتها السياسية والثقافية وحتى العسكرية( الدعم المالي

ـــــــــــــــ

1ـ المصدر نفسه .

للثورة الجزائرية )، والقضية الفلسطينية من حيث هي قضية العرب الكبرى، وعلى وجه التحديد هنا الكشف عن بعض جهود المملكة العربية السعودية في هذه القضية، كما تناولتها بعض الصحف الجزائرية، والمثقفين الجزائريين .

أما المستوى الثاني، فيتناول الرصد الإعلامي والثقافي لبعض المنجزات العمرانية بالمملكة.

المبـحـث الأول

الممـلكـة والـقـضـية الـجـزائـريـة

نعني بالقضية الجزائرية، نضال الجزائريين السّياسي والمسلّح، لاستقلالهم عن فرنسا . فإن تكن الثورة الجزائرية (1954 ـ 1962) قد اندلعت عاما بعد وفاة جلالة الملك عبد العزيز، فإن خليفته الملك سعود ـ يرحمه الله تعالى ـ على العرش، تبنّى القضّية الجزائرية بروح والده الملك عبد العزيز ونصرته للحق .

فلقد دلّت الوثائق السّياسيّة والتّاريخيّة على الدّرجة العاليّة المستوى لتلك المواقف؛ ففي برقية مؤرخة في 24/3/1376عدد51/1/2/689 أرسلها جلالة الملك سعود إلى الأمير محمد سعيد حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، يؤكّد له فيها ما تحظى به القضيّة الجزائريّة من اهتمام، ومساعدة لدى الحكومة السعودية، فورد فيها :

” من سعود بن عبد العزيز إلى صاحب السّعادة الأمير محمد سعيد الجزائري سلمه الله.

السلام علكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد تسلّمنا رسالة سموّكم المؤرّخة في 23/1/1376هـ وشكرنا لكم ما أعربتم عنه من عواطف طيبة، كما شكرنا لكم هديتكم الثمينة التي هي كتاب الله عز وجل .

أما فيما يتعلق بقضية الجزائر فنحن، والحمد لله ما توانينا منذ البداية عن بذل الجهود في مساعدتها، كما أنّنا لن نتوانى بحول الله وتوفيقه على ذلك، فهي قضية العرب والمسلمين أجمعين . نسأل الله أن يوفّق الجميع لما فيه خير الإسلام والعروبة. والسلام” (1) .

من المؤكّد أن الردّ الذي تضمّنته هذه الرّسالة ليس مجرّد لباقة جرى بها العرف الدبلوماسي والسياسي في مثل هذه المراسلات والاتّصالات، إذ تتعاضد الأدلة التاريخية على تصديق الفعل للقول، في بذل الجهود والمساعي في سبيل القضية الجزائرية . والحقّ أنّ كلمة “مساعدة ” تواضع من الملك وحكومته التي يعبّر عمّا فعلته تجاه تلك القضية .

فلقد حملت الثورة الجزائرية في المحافل الدولية لتخرج بها من مجرد صورة تمرد قام به متمرّدون على النظام ـ كما كان يدّعي الاستعمار ـ إلى قضيّة شعب يسعى لانتزاع حريته بالأساليب التي اختارها .

يقول الأستاذ جميل إبراهيم الحجيلان الأمين السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربي، في محاضرة عنوانها ” الدور القيادي للملك فيصل في العالم العربي” : ” وعندما انتفض الشّعب الجّزائري انتفاضته الكبرى في مطلع شهر نوفمبرعام1954 بادرت المملكة العربية السعودية بعد شهرين فقط من انطلاق هذه الثورة لتجعل من هذه القضية قضية دولية، لا يمكن للعالم أن يغمض عينيه عنها . وانطلق فيصل يستجمع القوى والأنصار في المحافل الدولية فحوّلها إلى قضية من قضايا مجلس الأمن، ثم انتقل بها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تبنتها واحتضنتها، وتحوّلت ثورة الجزائر في العالم، من تمرد يقوم به العصاة على النظام ـ كما طاب لفرنسا أن تقول ـ إلى قضية شعب مستعمر مقهور يطالب بحريته وكرامته” (2) .

ـــــــــــــــــ

1 ـ الأمير محمد سعيد: مذكراتي عن القضايا العربية والعالم الإسلامي، الجزائر: الشركة الجزائرية للتأليف والنشر، ص 300.

2 ـ الحجيلان، جميل إبراهيم: ” الدور القيادي للملك فيصل في العالم العربي“، قاعة الاحتفالات، مركز الخزامى ، الرياض،27/12/1416هـ 14/5/1996م.

وفقهاء السياسة الدولية وحدهم الذين يفقهون حقّ الفقه الخروج بقضية ما من دائرة العصيان والتمرّد وربّما الإرهاب، إلى قضية تقرير مصير شعب تجاه إحدى القوى العظمى وأحد أركان الحلف الأطلسي الذي أثبتت الوقائع الحيّة مشاركته الفعلية المسلّحة في إخماد تلك الثورة .

وقد أكدّ الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وزير الخارجية الجزائري لعدّة سنوات ونجل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ثاني رئيس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، في معرض تعقيبه على المحاضرة المذكورة، دور المملكة الكبير في تسجيل القضية الجزائرية بمجلس الأمن، فقال : ” من جانبي أكدّت له ـ أي الملك فيصل يرحمه الله تعالى ـ أنّنا في الجزائر لا ننسى أنّ الأمير فيصل بن عبد العزيز أوّل من طالب بتسجيل القضية الجزائريّة في مجلس الأمن برسالة مؤرخة في 5/1/1955 أي بعد شهرين فقط من اندلاع القضية الجزائرية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1956، كما لا ننسى أنّ المملكة ساعتنا ماديّا ومعنويّا طوال سنين الثورة، وأنّ كثيرا من المساعدات كان من ورائها الأمير فيصل بن عبد العزيز”(1).

وهذا نصّ برقية رئيس مجلس الأمن في تلك الفترة لمندوب المملكة بالهيئة الأممية : ” سعادة الشيخ أسعد الفقيه مندوب المملكة العربية السعودية الدّائم لدى الأمم المتّحدة :  أتشرّف بإخباركم بوصول كتابكم المؤرخ في 5/5/1955م، وإفادتكم بأنه طبقا لرغبتكم سيجري تقديم كتابكم مع مرفقاته إلى أعضاء مجلس الأمن التي سيشار إليها برقم س/1/3341 . وتفضّلوا بقبول فائق الاحترام. ليسلي مونرو رئيس مجلس الأمن ” (2)

ولقد استمرت هذه المواقف الجليلة المشرّفة من المملكة ملكا وأمراء وحكومة وشعبا على امتداد الثورة الجزائرية، وتداعيات قضيتها . فمن وجوه الدّعم الدبلوماسي أيضا ما صرّح به الدكتور الإبراهيمي قائلا : ” كان هناك إخوان يعيشون في مصر، ويدافعون عن القضيّة في الأمم المتحدة، سُلّمت لهم ـ فعلا ـ بعض الجوازات السعودية لا يزالون يحتفظون بها إلى اليوم ” (1).

ــــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه .

2ـ المصدر نفسه .

فما أروع هذه الحقائق في ميزان الأخوة والشّرف والشّجاعة، وما انكرنا للجميل إن لم نشكر أصحابها، ونعرّف بها الأجيال المتلاحقة .

تثبت الوثائق التاريخية الاتصال المستمرّ بين الدّولة السّعودية و الزّعماء الجزائريين سواء كانوا سياسيين أو رجال الإصلاح بعد أن انصهر الجميع في بوتقة العمل الثوري، وتصوّر لنا مدى الانسيابية في طرح مطالب المساعدة التي يمكن أن تقدّمها المملكة للقضيّة الجزائريّة، وكانت المملكة تتعامل مع ممثّلي الثورة دون تحفّظ أو تحرّج؛ فلقد ذكر الملك فيصل للدكتور الإبراهيمي كيف كان والده الشّيخ الإبراهيمي على اتصال بالملك سعود داعيا لدعم الثورة الجزائريّة، بعد أن كان على اتصال بالملك عبد العزيز معرّفا بالجزائر وبالمغرب العربي “(2) .   

   ـ برقية الشيخ الإبراهيمي إلى الملك سعود : وعلى ضوء هذا الكلام نفهم ما ورد في مطلع البرقية التي أرسلها الشيخ الإبراهيمي بتاريخ 9/1/1955 إلى الملك سعود بن عبد العزيز يذكر له فيها مدى معرفته بالحركة الإصلاحية الجزائرية وآثارها : ” يا صاحب الجلالة، ما زلنا نعتقد أن جلالتكم أعلم الناس بالحركتين الإصلاحية والسلفية والثقافية العلميّة العربيّة الإسلاميّة بالجزائر، وأعلم الناس بآثارها الطيبة في الأمّة الجزائريّة، وأنّكم أكبر أنصارهما والمقدّرين لثمراتهما والعاملين على تغذيتهما والمرجوين لاحتضانهما “(3).

ـــــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه .

2ـ المصدر نفسه .

3 ـ الإبراهيمي، محمد البشير: في قلب المعركة،ط1، الجزائر:دار الأمة، 1994م، ص100.

 ثم يذكر بعد ذلك كيف برهن عمليا على هذه النصرة على نطاق عربي، حين أوصى مندوب جلالته بإثارة القضية الثقافية العربية الإسلامية بالجزائر، ثم بأمركم الكريم له بعرض قضيّة الجزائر السياسيّة على مجلس الجامعة أيضا ليقرر عرضها على جمعية الأمم المتحدة باسم حكومة جلالتكم ” (1).

وفعلا قد أثار مندوب المملكة القضية الجزائرية بواشنطن بالقوّة والجرأة التي تليق بمستوى المملكة وملكها، ومواقفها في القضايا المصيرية للأمّة، يقول له : ” تتبّعنا هذه الأطوار باهتمام مصحوب بالاغتباط والسرور والدعاء لجلالتكم إلى أن قرأنا أن سفيركم بواشنطن تكلّم باسم جلالتكم في قضايا الجزائر الدينيّة والثقافيّة والسياسيّة، كلاما رسميا قويّا واضحا جريئا، على نور إيمانكم وعزيمتكم، وعليه سيماء انتصاركم للإسلام والعروبة “(2) .

ثم يستأذنه في أن يكلّف جلالته رجلين عالمين بجزئيات القضيّة الجزائريّة وتفاصيلها، فيتكلّمان باسم جلالته مؤازرين سفير المملكة بواشنطن في متابعة قضايا الجزائر والدّفاع عنها : ” نحن على يقين أنّكم ما بدأتم إلاّ لتتمّوا، فاسمحوا لنا ـ يا صاحب الجلالة ـ أن نلفت نظر جلالتكم إلى أنّ من بين رجالات العرب رجلين متخصصين في الإلمام التّام بشؤون الجزائر من جميع نواحيها مع الإخلاص والغيرة والجراءة، ومع الصدق في خدمة جلالتكم، وهما الأستاذ أحمد بك الشقيري، والأستاذ عبد الرحمن عزام باشا، فإذا وافق نظركم السّامي على أن تكلفوهما أو أحدهما بالاستعداد من الآن لمتابعة قضايا الجزائر والدفاع عنها باسم جلالتكم كعون وتعزيز لسفارتكم بواشنطن، إن رأيتم هذا ووافقتم عليه كنتم قد وضعتم القضية في يد محام بارع عالم بأدلّتها وبراهينها، محيط بجزئياتها وكليّاتها . ولكم النظر العالي في تفاصيل الموضوع وكيفياته” (3).

ـــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه .

2ـ المصدر نفسه .

3 ـ المصدر نفسه .

ويختم الشيخ الإبراهيمي برقيته بقوله : ” ونحن ـ على كلّ حال ـ نشكر جلالتكم باسم الأمة الجزائرية السّلفيّة المجاهدة، ونهنئها بما هيّأ الله لها من اهتمام جلالتكم بها وبقضاياها، ونعدّ هذا الاهتمام مفتاح سعادتها وخيرها، وآية عناية الله بها، وأُولى الخطوات لتحريرها. أيّدكم الله بنصره وتولاّكم برعايته، ونصر بكم الحق، كما نصر بكم التوحيد، وجعلنا من جنوه في الحق”(1).

فالملاحظ من هذه البرقية التّنسيق الجيّد التّام بين الملك سعود ورجال القضية الجزائرية لفائدتها، فالقضية قضيتهما معا، يحملان همومها وشجونها ويطرقان بها المحافل العربية والدولية ليُسمعا صوتها في العالمين .

الحقيقة أن ما تضمّنته مذكّرات بعض الساسة الجزائريين فيه بعض التفاصيل الضافية عن احتضان المملكة للقضيّة الجزائريّة، ومدّها بالمال، وبفتح اكتتابات لثورتها بمبادرة من الملك سعود ـ يرحمه الله تعالى ـ وغيرها من وجوه الدعم * لكن الخوض في تفاصيلها سيخرج بنا عن الإطار الزمني لبحثنا (1901 ـ 1955)، فضلا عن أنّها مسألة تستحقّ أن تُفرد ببحث مستقل .

ولكن قبل الانتهاء من هذا المبحث لا بدّ من الكشف عن جانب آخر من جوانب تواصل الملك سعود مع رجال الإصلاح في الجزائر، والإيواء العلمي لبعض طلاب العلم في تلك المرحلة .   

ـ احتفاء المملكة برجال الإصلاح وطلاب العلم الجزائريين :        

لقد دأبت قيادة المملكة العربية السعودية على سياسة وضع أسسها العملية الملك عبد العزيز ـ يرحمه الله تعالى ـ وهي تقريب رجال العلم والإصلاح الديني في العالم الإسلامي إليهم، والاستفادة من خبراتهم وتجاربهم في شتّى المشاريع العلميّة، فضلا عن تيسير تحرّكاتهم لخدمة قضايا شعوبهم بتوفير الوسائل، وفي هذا يروى الأستاذ محمد منصور الغسيري في رحلته الآنفة الذكر كيف كانت الحكومة السعودية تضع تحت تصرف الشيخ الإبراهيمي سيارة أثناء وجوده بالمملكة، يقول : ” وركبنا السيّارة الأمريكية الفاخرة، وكانت متاعنا طبعا، إذ أنّ الحكومة السعودية ألفت دائما وفي أيّ أرض أن تجعل تحت تصرف الأستاذ الرئيس[ الشيخ الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ] مدى وجوده في تلك الأرض سيارة من سياراتها لتعينه على أداء مهمته كسفير للجزائر الإسلامية التي حرمت أوقافها وميزانية تعليم الإسلام ولغة الإسلام لأبناء المسلمين فوق ثراها … وكأنّ حكومة جلالة الملك الراحل عبد العزيز آل سعود قدس الله ثراه إنما أرادت بصنيعها ذلك أن تُسلّي ممثلي الجزائر الدينيين في الخارج وحراسه الكادحين الأمناء في الداخل”(1) لا يمكن الخروج بهذا الصّنيع عن وجوه العون والمساعدة التي تقدّمها المملكة العربية السعودية للقضية الجزائرية ثقافيا وعلميا ودينيا وسياسيا.

ــــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه .

* راجع في ذلك :المدني، أحمد توفيق: حياة كفاح،(د.ط)، الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1982، ج3، ص310، 311، 359، 362، 363، 367.

ولقد كان الملك سعود يرحمه الله تعالى حريصا على التعرّف على زعماء حركة الإصلاح الجزائريين، وموسم الحج من أهمّ المناسبات لذلك؛ فلقد كتب الأستاذ بشير كاشة أحد رجال الجمعية وكتاب صحافتها حول زيارة فضيلة الشيخ الشهيد العربي التبسي [1892 ـ 1957] نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين للبلاد المقدسة، فقال من بين ما قال : ” وقبل يوم الترويّة من أيام الحج استدعاه جلالة الملك المعظّم سعود للتعرّف على فضيلته، ونزل من مكة المكرّمة إلى جدّة فاستقبله الملك المعظّم في قصره العامر بجدّة حيث يستقبل وفود الحجيج في موسم كل حج بكل حفاوة”(2) .

ــــــــــــــ

1 ـ الغسيري، محمد المنصوري: مصدر سابق .

2 ـ جريدة البصائر: السلسلة الثانية، عدد 285، 20/1/1374هـ 17/9/1954م .

وإلى جانب هذا كان الملك سعود ـ كما سبق القول ـ يُتيح الفرص لمساهمة العلماء في المشروعات العلمية الكبيرة التي أنجزها، فلقد نشرت جريدة البصائر الخبر الآتي : ” برغبة من جلالة الملك سعود بن عبد العزيز غادر حضرة الرئيس الجليل الشيخ البشير الإبراهيمي القاهرة قاصدا الرياض، عاصمة البلاد العربية السعودية، حيث حلّ ضيفا مبجّلا على عاهل العروبة العظيم . وهذه الزيارة وثيقة الصلة بمشروع الكليّة الإسلاميّة الجامعة التي يريد جلالة الملك سعود أن يحقّقها قريبا جدا، وستدرّس بها سائر العلوم والفنون التي تدرّسها الجامعات الكبرى في العالم، إنما تكون الدراسة فيها متّسمة بالطّابع الدّيني الإسلاميّ، وضمن الإطار العربي الكريم، وسيكون لأشبال القطر الجزائري حظّ في هذه الجامعة إلى جانب أبناء العروبة الذين يؤمّونها من كلّّ قطر”(1)، مما يلاحظ على هذا الخبر دقّة المتابعة لفحوى الإنجاز العلمي، والوجهة التربويّة العلميّة التي سيتّخذها. فضلا عن الإشادة بفضيلة الاقتبال العلميّ بمؤسّسات المملكة الفتيّة للطلاّب العرب والمسلمين بمؤسساتها العلمية، والاغتباط بحظّ أبناء الجزائر المستعمرة فيها .

والحقّ أنّ هذا القبول العلميّ ليس بالجديد؛ فالشّيخ الإبراهيمي في محاضرة ألقاها بالقاهرة حول موضوع ( مشكلة العروبة في الجزائر) بتاريخ 5/6/1955عرض فيها لتوجيه الطلاّب الجزائريين للتّعلم ببعض البلاد العربية كمصر وسوريا والعراق، فأعلن قائلا : ” قرّرت الحكومة السعوديّة من يناير الماضي قبول خمسة طلاّب في المعهد العلمي بالرياض على نية الزيادة في العام الدراسي الآتي “(2) .

وعن الأحوال الماديّة لهؤلاء الطلبة أشاد بالتّوسعة التي كانوا ينعمون بها في السعودية، فقال : ” أما أحوال هذه البعثات في كفاية المخصّصات الحكوميّة وعدم كفايتها، فبعثة الرياض موسّع عليها إلى ما فوق الكفاية، وتليها

ــــــــــــــــ

1- جريدة البصائر، عدد 353، 28/6/1375هـ 10/2/1956م.

2 ـ الإبراهيمي، محمد البشير، في قلب المعركة، مصدر سابق، ص100.

 بعثة الكويت في التّوسعة، وتليها بعثة العراق، أما بعثة مصر وبعثة سوريا فأنا منها في عذاب أليم لعدم كفاية المخصّصات الرسمية”(1). ولم يكن ذلك ـ بالطبع ـ تقصيرا من الحكومتين المصرية السورية بل كلّ كان ينفق بحسب سعته المالية .

المبحث الثاني

صدى مواقف المملكة من قضية فلسطين في التراث السياسي والإعلامي الجزائري

هذا المحور من البحث ليس تأريخا لمواقف المملكة العربية السعودية من القضية الأمّ للعرب والمسلمين قضية فلسطين، إنّما هو رصد لمواقف المملكة من قضية فلسطين في التراث السياسي والإعلامي الجزائري، بما يمكن عدّه سندا تاريخيا يؤكّد المواقف التاريخية المشرقة للملكة تجاه هذه القضية .

وسوف أقتصر في هذا المقام على تحليل وثيقة تاريخية هامّة تضمّنت وجهة نظر جلالة الملك سعود بن عبد العزيز إلى صراعنا مع الصهيونية العالمية بدءا من قضية فلسطين ثم أحلام التوسّع الصّهيوني في البلاد العربية لإقامة دولتهم المزعومة من النيل إلى الفرات بل إلى المدينة المنورة .

فالوثيقة نشرت بعنوان ” جلالة الملك سعود بن عبد العزيز يتحدّث عن المشكل الصهيوني”، أمّا عن مصدرها فكتبت صحيفة البصائر تقول : ” جاءتنا هذه الرسالة من السّفارة العربيّة السعودية بباريس، فبادرنا بنشرها لأهميّة موضوعها وتعلّقه بالحالة الحاضرة في بلاد فلسطين المعذّبة” (2) .

وهي عبارة عن حديث صحفي أجراه كاتب أمريكي مع جلالة الملك سعود؛ ” ففي السّاعة الرّابعة والنّصف من ضحى يوم الخميس 11/1/1374الموافق 9/9/1954 تشرّف بالسّلام على حضرة صاحب الجلالة

ــــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه .

2 ـ جريدة البصائر، السنة السابعة، عدد 289، 18/2/1374هـ 15/10/1954م.

 الملك المعظّم أيّده الله في القصر الملكي العامر بجدة ( المستر ليلنتال) الكاتب الأمريكي اليهودي المشهور بمؤلفه ( ثمن إسرائيل)، والذي زار مؤخّرا جميع البلدان العربيّة” (1)، وقد تمحور الحديث حول عناصر ثلاثة في القضية هي: ـ حق العرب الشرعي في فلسطين ـ الحلّ الطبيعي، هو استرداد فلسطين ـ التعايش السلمي في ظل الإسلام .

   ـ فلسطين عربية : ذكر جلالته للكاتب بدء المملكة في وضع برامج التنمية والتعمير، فقال : ” بدأنا الآن فقط في وضع برامج عديدة تتناول نواحي مختلفة من الإصلاح والتعمير والتقدم بحياتنا العلمية والاجتماعية والاقتصادية.       وقد توالت على هذه البلاد عهود مختلفة لم تُتح لها فيها أسباب النّهضة والتّقدّم والعمران . وطرقينا في سبيل برامج إصلاحنا طويلة وشاقّة ولكنّنا عازمون بحول الله على القيام بهذه الأعباء الواجبة لنتيح لشعبنا ولأمّتنا الحياة التقدمية التي نرجوها ونتمنّاها لها ونسعى إليها” (2).

وردّا عن سؤاله حول بداية تفهّم الرّأي العامّ الأمريكي لعدالة القضية العربية في الصّراع مع الصهيونية، أجاب الملك سعود بوضوح رابطا هذه المسألة بالسّلم والأمن، محمّلا كلّ طرف مسؤوليته فقال : ” أحبّ أن أصارحك بأنّ هذه القضيّة يتوقّف عليها السّلم والأمن في هذه الرقّعة من العالم إلى حدّ كبير، ونكبة فلسطين خلقتها الصهيونيّة العالميّة بعون ونفوذ ومساعدة السياسة البريطانيّة والأمريكيّة، ثمّ بالمواقف السلبية التي وقفها بعض رجالات العرب أنفسهم، ولولا هذا لما أصبحنا فيما نحن فيه”(3) .

إن هذا الوضع الجديد يريد أن يوجد فلسطينيا أخرى غير فلسطين العربية، قالبا الموازين، فبعد أن كان اليهود رعيّة عربيّة في فلسطين أرادت

 لهم الصهيونيّة العالميّة ومن وراءها أن يصبحوا حاكمين، لهم دولة وكيان دولي في هذه الأرض، بسبب هذا وجب أن يعلم الجميع ” أن قضيّة

ـــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه .

 2 ـ المصدر نفسه .

 3 ـ المصدر نفسه .

العرب في لهم الصهيونيّة العالميّة ومن وراءها أن يصبحوا حاكمين، لهم دولة وكيان دولي في هذه الأرض، بسبب هذا وجب أن يعلم الجميع ” أن قضيّة العرب في حقوقهم الشرعيّة عادلة، وهي بلادهم ووطنهم، توارثها الأحفاد عن الأجداد” (1) .

وعن تذّرع الصهيونيّة بأحقيّة اليهود بفلسطين بمزاعم تاريخيّة قديمة، يستطرد الملك سعود مخاطبا الكاتب الأمريكي مقارنا هذا الوضع بوضع الذين يحكمون أمريكا اليوم من غير مواطنيها الأصليين من الهنود الحمر، فيقول : “وإذا كان اليهود قد وُجدوا فيها وكانوا أهلها في حقب من التاريخ البعيدة، فقد كان في بلادك أمريكا غير من يسيطرون اليوم عليها، ولن يمرّ اليوم بخاطر أيّ إنسان أنّهم سيطالبون في يوم من الأيام بجلاء مواطنيك عنها لا لسبب إلا أنّهم كانوا فيما مضى وحيدين في العيش بها، وهم الهنود الحمر والبريطانيون”(2).

بالطبع فالمقارنة هنا ليست سليمة تماما بين الحالتين، سواء من منظور الحقيقة التاريخية الكاملة للوجود العربي بفلسطين،أو من منظور الشّرع الإسلاميّ في فقه الأراضي المفتوحة . ولكن جلالة الملك أحبّ أن يخاطب الرأي العام الغربي بمنطقهم الذي من خلاله يمكنهم استيعاب القضية، وبيان وجه الحقّ فيها.

   ـ استرجاع فلسطين الطّريق إلى السّلم : طرح الكاتب الأمريكي على الملك سعود السؤال الآتي : ” وما الذي يراه جلالتكم لإحلال السّلام والتّفاهم بين الطرفين المتنازعين؟”(3) . كأنّما أراد الكاتب من سؤاله أن يُفهم الملك بأنّ الصّراع بين طرفين متنازعين حول مسألة أحقية كلّ منها في امتلاك شرعية حكم فلسطين، لكن إجابة الملك سعود كانت من الوضوح والصراحة بما ينفي كلّ محاولة لطرح الصراع من هذه الزاوية؛ أولا : ذكّره بوضع اليهود بفلسطين قبل الانتداب البريطاني وفي بدايته، فقال : ” أحبّّ أن أذكّرك بما كان عليه العرب واليهود معا في أوائل الانتداب البريطاني في فلسطين وقبله، فقد كانوا مسالمين، كان العرب يحفظون لليهود الموجودين بينهم جميع حقوقهم ويحترمون مقدساتهم ويعيشون معهم كمواطنين لهم”( 1)، هذا الوضع المتّسم بالسّلام الذي طرح بشأنه الكاتب السّؤال على الملك، ومن الطبيعي ـ إذن ـ أن يكون هو الوضع الذي ينبغي أن تستهدفه كلّ الجهود، فاسترجاع العرب لفلسطين هو الطريق إلى السّلام، والعودة إلى هذه الحياة ـ كما قال الملك سعود ـ لا تكون إلا بواحدة من اثنتين لا ثالث لهما : – الأول : ” أن ينصاع الصهيونيون إلى الحقّ ويكفّوا عن باطلهم”(2)، وبالطّبع فإنّ هذا الحلّ كان من المفروض أن يتمّ بإرادة دولية فتتمّ ” إعادة جميع اللاّجئين الفلسطينيين إلى بيوتهم ومزارعهم ومتاجرهم وتعويضهم عن كلّ ما تسبّب الصهيونيون في خرابه أو ضياعه أو إتلافه أو سلبه، ثم بإلزامهم بتنفيذ جميع قرارات هيئة الأمم المتحدة التي صدرت في القضيّة الفلسطينيّة، ثم بقطع الهجرة المتدفّقة من صهيوني العالم”(3)، هذا الحلّ الذي كانت الإرادة الدولية تملك فرضه لو توفرت .

ـــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه .

2 ـ المصدر نفسه .

3 ـ المصدر نفسه .

– الثاني : فهو الذي بيد العرب إنجازه وحاولوه عدّة مرّات من خلال مراحل الصراع المسلّح العربي الصهيوني، قال جلالته : ” أمّا إذا لم يكن سبيل إلى هذا وبقي الصهيونيون مستمرّين في عدوانهم ومهددين العرب بإزالة كيانهم، فليس أمام العرب والمسلمين إلا الطّريقة الثانية والتي سيجدون أنفسهم في يوم من الأيام ملزمين بها وهي الدّفاع عن أنفسهم وبلادهم بكل ما يملك العرب والمسلمون من أنفس وأموال سيدافع العرب ومعهم المسلمون الرجال منهم والنساء والشيوخ والأطفال، ولا مناص لنا من هذا الحلّ لأن العرب تقول:  إذا لم تكن إلا الأسنّة مركبا   فما حيلة المضطرّ إلى ركوبها”(1) .

ــــــــــــــ

1 ـ المصدر نفسه .

2ـ المصدر نفسه .

3ـ المصدر نفسه .

ولبيان قيمة هذا الحلّ في نفوس العرب والمسلمين يقول جلالته للكاتب الأمريكي : ” وأحبّ أن أقول لك وأنا صادق فيما أقول أنّ الملايين من العرب والمسلمين يتمنّون أن تُسفك دماؤهم في سبيل حماية المسجد الأقصى وأرضه المباركة، وتطهير أرضه من الصهيونيين، وأنّ هذا آت لا ريب فيه ولا جدال طال الزّمان أم قصر، ففلسطين للعرب، وهي في نظرهم ونظر المسلمين أُولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وجزء لا يتجزأ عنهما . وعلى الدول المعنيّة بأمر الهدوء والسّلام بالشّرق الأوسط أن تتفهّم هذه الحقيقة وتعيّها وتضعها نصب أعينها” (2).

    ـ التعايش السّلمي في ظلّ الإسلام :  هذا هو فحوى ردّ الملك عن سؤال الكاتب حول نوع الحكومة التي ستحكم فلسطين في حالة ما إذا أُعيدت الحقوق لأصحابها . وضمان هذا الأمر تاريخ التّعايش بين العرب واليهود في فلسطين وغيرها من بلاد الإسلام . فيجب أولا التّسليم بعروبة فلسطين كما قال : ” إن فلسطين عربية، هذا حجر الزاوية التي يقوم عليها كل تفاهم مقبل . والعرب قد عرفهم التاريخ، وعرفهم اليهود في كلّ بلاد عاشوا معهم فيها كرماء أوفياء عادلين، سيحفظون لليهود جميع حقوقهم في فلسطين، وسيعيشون فيها معهم مواطنين متساعدين متكاتفين لخير الجميع المشترك”( 3).

وهنا وجب التفريق بين صنفين من اليهود؛ اليهود الصهاينة، واليهود غير الصهاينة؛ إننا نحن العرب كما أوضح الملك سعود “لا نحارب من اليهود إلا الصهيونيين المغتصبين لحقوقنا المناوئين لنا الذين سبّبوا لنا كلّ المصائب والمشاكل في بلاد العرب، وقبل أن تُعرف الصهيونية في الدنيا وفي أطوار محنة اليهود في كثير من بلدان العالم، كان المسلمون والعرب خير نصير لهم

ــــــــــــــ

1ـ ألمصدر نفسه .

2ـ ألمصدر نفسه .

3ـ ألمصدر نفسه .

فيما أُصيبوا به من ظلم، وكانوا يتمتّعون في حماية الإسلام بكلّ حقوقهم كرعايا ومواطنين، إذن فنحن أعداء الصهيونية المقاتلون لها ما دامت تحاربنا في بلادنا وتسلبنا حقوقنا . واجب أن أصارحك أيضا بصفتك يهوديا بأنّ هذه عقيدتي وهذا مبدئي الذي أدعو إليه، ويؤمن به كلّ عربيّ ومسلم”(1) .

إن الصهيونيّة رفضت كلّ ذلك وأعلن ساستها إنّ إسرائيل يجب أن تتمدّد حتى تشمل حوضي دجلة والفرات وشبه جزيرة سيناء وشمال بلاد العربية السعودية بما فيها المدينة المنورة، ولم تكتف بالإعلان السياسي بل أدرجته ضمن مقرّراتها التعليميّة لينشأ أبناؤها وهذا الأمل يراود مخيلاتهم .

ومما يليق بمثل هذه التصريحات ما أكده جلالة الملك سعود للكاتب الأمريكي حين قال له : سمعت عن جلالتكم تصريحكم بأنّه لا يهمّ العرب أنّ يُضحّوا بعدّة ملايين منهم في سبيل القضاء على الصهيونية في فلسطين ؟ فلا جواب لما يعملون اليوم إلا ذلك، ثم أن نُعدّ لهم ما استطعنا من قوة (2). وقد كان صادق التعبير عمّا يدور بنفوس ملايين المسلمين حول قضيّتهم .

    ـ الملك سعود ينفذ مشاريع حربية بالمملكة :  من المؤد أن إنفاذ هذه المشاريع كان من باب الإعداد للقوّة التي تحدّث عنها جلالته، وكانت مبعث ابتهاج ومحلّ تنويه عظيم من طرف صحافة الحركة الإصلاحية في الجزائر، التي كانت تتابع تلك المنجزات؛ فقد نشرت جريدة البصائر ما اعتبرته أعظم عمل باشره السعوديون : ” وضع خلال الأسبوع الماضي أعظم عمل باشره السعوديون ممّا يبشّر بمستقبل عظيم لهذه الدّولة التي أخذت تخرج لعالم الوجود بفضل جهاد عاهلها العظيم، وأفكاره الجريئة، ألا وهو تدشين معمل عظيم لصنع الذّخيرة الحربيّة في بلاد العرب، بحيث لا يُستورد شيء منها من الخارج، أُسوة بما كان وقع في مصر. وإنّنا لنرجوا أن يقع إنجاز العمل

 ــــــــــــــ

1ـ المصدر نفسه .

2 ـ المصدر نفسه .

بتكوين معامل صنع نفس السلاح، حتى لا تبقى بلاد العرب عالة على الأجانب في ذلك، والعرب يعرفون ماذا كلّفهم من ثمن رهيب”(1) .

لاحظ دليل هذا التّفاعل الكبير مع هذا الإنجاز والافتخار به من خلال الأوصاف التي وصف بها الإنجاز( أعظم عمل ـ معمل عظيم)، والمنجز الملك سعود ( العاهل العظيم ـ أفكاره الجريئة) .

وتعود الجريدة نفسها بعد عددين تاليين للعدد السابق، لتبشّر الجزائريين والعرب عموما بما شرع فيه جلالة الملك سعود من ” تنفيذ عدّة مشاريع عمرانية وحربية في الجزيرة العربية . وقد أصبح في حكم المقرّر أن تُعبّد طرق عديدة للمواصلات وأن تنشأ عدة مصانع حربية، بما في ذلك مصانع الأسلحة الثقيلة في أنحاء مختلفة من الجزيرة خلال السنة المقبلة “(2).

وهكذا تأتي متابعة الأحداث والإنجازات بالمملكة العربية السعودية بشعور المصير المشترك، والأمة الواحدة، والمستقبل الواحد .

نخلص في الختام إلى جملة من النتائج والمقترحات :

ـ تمثل شخصيّة الملك عبد العزيز واحدة من أهمّ الشخصيات التي عرفها العصر الحديث .

ـ مثُلت شخصيّة الملك المؤسس، والدّولة الفتيّة دور الملهم للحركة الإصلاحية الجزائرية .

ـ لا يليق أبدا أن تبقي شخصيته وجلائل أعماله وقفا معرفتها ـ خاصة بالنسبة للأجيال الجديدة ـ عند حدود بلده، وإنّما الواجب تشجيع الجهود التي يسعى أصحابها للتعريف بالملك، وتاريخه ومنجزاته، خارج المملكة في العالمين العربي والإسلامي أولا، ثمّ في العالم أجمع بعدئذ .

ـ الإعلان عن جائزة كبرى سنوية للأعمال التي تنجزعن الملك عبد العزيز أو المملكة السعودية في شتّى المجالات والمنجزات الحضارية . ومنها طبعا ما تعلّق بالتّراث السياسيّ والثقافيّ تاريخيا، للشخصية والدولة .

ــــــــــــ

1 ـ جريدة البصائر، العدد 277، 1/11/1373هـ 2/7/1954م .

2 ـ جريدة البصائر، عدد 279، 17/11/1373هـ 16/7/1954م .

ـ مما يُستفاد من البحث، ذاك الاستعداد الهائل الذي كان لدى القادة الروحيين ( المصلحين)، لإنجاز مشروع الأمة في حلمها الكبير(الوحدة)، التكامل على أهم الأصعدة، وأقدر لإعادة قراءة ذاك بتأني وروح متفائلة، قد يحيي الأمل مجدّدا في النفّوس .

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى