دراسات سياسيةنظرية العلاقات الدولية

الهيمنة: دراسة في تحولات المفهوم

المؤلف أسعد صالح الشملان* معهد الأمير سعود الفيصل للدراسات الدبلوماسية، الرياض، السعودية.

مجلة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية القاهرة، المقالة 7، المجلد 19، العدد 4 – الرقم المسلسل للعدد 77، الخريف 2018، الصفحة 211-234

  تتناول هذه الدراسة، من خلال استلهام مقاربة جنيالوجية، مفهوم الهيمنة بدءًا من نشوئه في الفکر اليوناني القديم، ومرورًا بظهوره بمعنى مختلف في خطاب الاشتراکيين الاجتماعيين الروس في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ومن ثم إعادة صياغته في فکر أنتونيو غرامشي، ووصولًا إلى تحويره الجذري وإنتاجه کأداة رئيسة و واعدة في مدرسة التحليل السياسي ما بعد البنيوي في وقتنا الحاضر، مفردة اهتمامًا خاصًّا للتطور الأخير.

مُقدمة:

یدرك العاملون فی حقل التحلیل السیاسی أن هناک عددًا غیر قلیل من المفاهیمهم المستخدمة فی علم السیاسة تفقد الکثیر من معانیها الاصطلاحیة بسبب دخولها فی استعمالات اللغة العادیة مما یؤدی إلى فقدانها کثیرًا من معانیها الدقیقة، ومضامینها المتمیزة، ولقد أشار إلى ذلک “خلدون النقیب” فی معرض تناوله للطریقة التی یستعمل بها عامة المثقفین مصطلحات مثل الدکتاتوریة والشمولیة والتسلطیة، أو الأسلوب الذی یتم به توظیف مفاهیم من نوع القوة والسلطة، والتعامل معها وکأنها مترادفات، أو ذات معانٍ متشابهة، “وکأن بإمکاننا أن نستبدل الواحدة بالأخرى دون ضرر کبیر، وهذا غیر صحیح”[1].

مشکلة البحث:

یمثل مفهوم الهیمنة hegemony دلیلًا مهمًّا على التشویش الذی یلحق باللغة الاصطلاحیة عند التوسع فی استخدامها بدون الوعی بخلفیاتها المنهجیة، والرهانات النظریة والعملیة التی جاء المفهوم لیتصدى لها؛ فمفهوم الهیمنة تعطیه اللغة العادیة معانی القسر والسطوة والقهر والإخضاع غیر المشروع، والتمرکز فی موقع یسیطر على البناء السیاسی والاجتماعی… وغیرها من المضامین والإیحاءات التی تشیر إلى ما هو سالب مفرغة إیاه بذلک من شحنته الإیجابیة المتعلقة بتشیید وبناء الهویات السیاسیة، والکسب الأیدیولوجی، وإقامة التحالفات العضویة، والاختراق السیاسی للخصومإما عن طریق استیعابهم، أو تشتیتهم… وغیرها من المعانی التی تطور المفهوم فی العقود الأخیرة لیتضمنها. فقد شهدت العقود الثلاثة الأخیرة بروزًاوتطویرًا مطردًا فی حقل التحلیل السیاسی لمفهوم الهیمنة، ولکن هذا الحضور المتنامی لم یأخذ ما یستحقه من المتابعة فی الإنتاج البحثی العربی المعنی بآلیات التعبئة والنزاع والتحول السیاسی على الرغم من شیوع استخدام المفردة ذاتها من جهة، ومواتاة المشهد السیاسی فی غیر بلد عربی للتوظیف المثمر للمفهوم من جهة أخرى.

منهج البحث:

یوظف هذا البحث المقاربة الجنیالوجیة genealogical method فی دراسة المفاهیم التحلیلیة، والتی دشنها میشیل فوکو(1984-1926) بتأثیر من فریدریک نیتشه(1844-1900) فی التحلیل السیاسی النقدی المعاصر، وتنهض تلک المقاربة على فکرة تاریخیة المفاهیم، والتنبه إلى تحول معانیها ومدلولاتها، ومفاصل انفکاکها عن أصولها الزمانیة، وتجدد حیویتها بفعل أنماط شتى من التعدیل والتحویر والقلب بما یمنع تجمیدها فی تعریفات ثابتة مسبقة تحدها حدًّا[2]. ویتصل بذلک أن الدراسة تستبطن فکرة “فوکو” عن “البدایة” المفتوحة لهویة قابلة لاحتمالات عدة بدلًا من الفکرة الغائیة عن “الأصل”originالحامللهویة مکتملة. فتطور مفهوم الهیمنة- کما ستکشف هذه الدراسة- یقوم على حالة من المزاوجة بین الانفصال والاتصال(الانقطاع والاستمرار) منظورًا له من زاویةما أسماه “فوکو” “تاریخ الحاضر”history of the present[3]، والذی یختلف جذریًّا عن منظور ” تاریخ الأفکار السیاسیة” کونه ینطلق فی مقاربته للماضی من خلال الوقوف على أرضیة تفرضها المقتضیات العملیة للحاضر وحاجاته وأولویاته، والمنعرجات التی أدت إلى نشوئه. وکما سنوضح تستلهم هذه الدراسة أیضًا فی مقاربتها لمصطلح الهیمنة بعض المفاهیم التی أفرزتها التوجهات النقدیة المعاصرة، ولاسیما ما بعد الحداثیة فی تقصی تحولات مفهوم الهیمنة.

هدف البحث وأهمیته:

یهدف هذا البحث إلى دراسة التطور النظری والمفاهیمی لمصطلح الهیمنة وصولًا إلى استعمالاته الراهنة بوصفه أداةً تحلیلیة لا غنى عنها فی مجال التحلیل السیاسی المعاصر. وستفرد هذه الدراسة اهتمامًا خاصًّا بالجوانب المتعلقة بصیاغة الاستراتیجیات السیاسیة التی یحملها مفهوم الهیمنة، وبالتالی تأتی کمحاولة لضبط معنى المفهوم، وإیضاح ما ینطوی علیه من أبعاد مهمة للتحلیل السیاسی المعاصر بعیدًا عن الانشغال بالجانب المعیاری فی الاستعمالات الرائجةلمفردة”الهیمنة”، والذی کثیرًا ما ألحق بهذا المفهوم التشویش. فمفهوم الهیمنة باعتباره أداة تحلیل سیاسی- کما یرتسم الیوم- قابل للتوظیف کأداة للتحلیل والفعل السیاسی الاستراتیجی من قبل توجهات سیاسیة قد تکون متضاربة أو متناقضة من حیث توجهاتها المحافظة أو التغییریة، فلم تعد الهیمنة کما کانت فی مهادها الحدیث أداة نظریة “یساریة” ضد کل “یمین”، مع إدراکنا أن هذا المفهوم ما زال مفتوحًا على الإضافات النظریة وإعادة التشکیل.

الجذور التاریخیة لمفهوم الهیمنة:

تعود الأصول اللغویة  للهیمنة hegemony إلى المفردة الإغریقیة القدیمةegomonia  وهی -بحسب باحث مرموق- موجودة فی اللغة العربیة على الأغلب من نفس الجذر من خلال مفردة الهیمنة.[4]  وکان العصر الیونانی الکلاسیکی قد شهد أول ظهور لفکرة الهیمنة، حیث استخدم أرسطو هذه الفکرة للإشارة إلى القیادة بین أطراف متساویة، ولخدمة أهداف جماعیة، فیما استخدم فکرة الاستبداد کنقیض للهیمنة للإشارة إلى توظیف القائد لسیادته على الآخرین من أجل مصالحه الذاتیة. فالهیمنة فی الاستعمال الأرسطی تشیر إلى الحکم المکون من مواطنین متساوین وأحرار، فیما نقیضها هو الاستبداد الذی یتمثل فی علاقة الإکراه التی یمارسها السید على عبیده.

من الواضح أن  التقسیم الأرسطی یمثل امتدادًا لتصنیفه للنظم السیاسیة، والذی قام على أساس منطق التضادbinary opposition، والذی بموجبه یکون أحد أصناف الحکم صالحًا ومشروعًا، فیما یکون الآخر إفسادًا له. وتقوم هذه المعارضة الأرسطیة على أساس معیار المصلحة التی یتوخى شکل الحکمتحقیقها، وبالتالی فإن الملکیة هی النظام السیاسی الذی یحکمه فرد واحد لخدمة جموع الناس، بینما یشیر الطغیان إلى النظام السیاسی الذی یحکمه فرد واحد لخدمة مصلحته الذاتیة. وکذلک الحال بالنسبة لأنماط الحکم الأخرى، حیث الألجارشیةOligarchy(القلة الجشعة) هی فساد للحکم الأرستقراطی(القلة المتمیزة) إلخ..

 ولقدقام المفکرون الیونانیون القدماء، من داخل هذا التقسیم الأرسطی، بتطویر مصطلح “الهیمنة” لتوصیف القیادة المنوطة بدولة کبیرة فی حلف عسکری تم تشکیله على أساس طوعی بین مجموعة من الدول بما یخدم مصالحها الجماعیة، لتمییزه عن مصطلح “الإمبراطوریة” الذی استخدموه لوصف الحالة التی یکون فیها التحالف بین الدول مسخرًا لخدمة الدولة الأقوى فیها. فالهیمنة عندهم تشیر إلى وجود ندیة بین دول حلیفة على الرغم من التفاوت فی حجمها وقدراتها، وتتجسد هذه الندیة فی توجیه غایة  التحالف نحو تحقیق المصلحة المشترکة لأعضائه. أما الإمبراطوریة فإنها لا تعدو أن تکون إلحاقًا من قبل الدولة الأکبر فی التحالف للدول الأصغر، وتسخیره لخدمة مصالح هذه الدولة الأکبر.[5]

ویتفق الباحثون على اختفاء مصطلح الهیمنة من الکتابات السیاسیة عقب الفترة الکلاسیکیة الیونانیة لیعاود الظهور بمعنى جدید فی منتصف القرن التاسع عشر، ولکن قبل متابعة المفهوم فی ظهوره الجدید لابد من الإشارة إلى ما ذکره نزیه أیوبی من أن مفهوم الهیمنة فی استعمالاته الحدیثة یحمل شیئًا من فکرة “الالتحام” عند ابن خلدون (1332-1406)، والتی تعنی أهمیة وجود اندماج اجتماعی وتناغم أیدیولوجی، ولیس فقط القوة القاهرة (الغلب)، لدیمومة قیادة جماعة معینة.[6]

مفهوم الهیمنة فی العصر الحدیث:

 شهد خطاب الجماعات الاجتماعیة-الدیمقراطیةSocial Democrats فی روسیا فی العقد الثامن من القرن التاسع عشر أول ظهور للفکرة الحدیثة عن “الهیمنة” کتعبیر عن استراتیجیة سیاسیة. فلقد قدم الاجتماعیون- الدیمقراطیون الروس الهیمنة کاستراتیجیة للإطاحة بالنظام القیصری تقوم على أساس إنشاء تحالف تقوده الطبقة العاملة الروسیة مع القوى الأخرى المناهضة للقیصریة ولا سیما الطبقة الوسطى الناشئة والمثقفین اللیبرالیین وطلائع الفلاحین.وقامت رؤیتهم على تقدیر استراتیجی مفاده أن الطبقة البرجوازیة فی روسیا فی حالة من الهشاشة بما یجعلها غیر قادرة على أخذ زمام المبادرة فی مقارعة النظام القیصری، والتی رأت أنه فی جوهره نظام إقطاعی، وبالتالی فإنه على الطبقة العاملة تعویض هذا الضعف البنیوی عن طریق الأخذ على عاتقها الدفاع عن المطالب الدیمقراطیة، وإنجاز مهام الثورة الدیمقراطیة البرجوازیة التی ارتبطت فی تجربة أوروبا الغربیة بتطلعات وإنجازات الطبقة البرجوازیة الصاعدة على خلفیة الثورة الصناعیة.[7]

ویشیر “بیری أندرسون” فی دراسة مهمة إلى أن مصطلح الهیمنة بات واحدًا من الشعارات المرکزیة للحرکة الاشتراکیة (الاجتماعیة- الدیمقراطیة) الروسیة ابتداءً من العقد الأخیر من القرن التاسع عشر وحتى قیام الثورة البلشفیة فی العام 1917م، حیث تطورت فکرة الهیمنة آنذاک لتمثل جوابًا على سؤال أساسی شغل الأوساط الاجتماعیة- الدیمقراطیة فی روسیا وتمثل فی أسباب فشل ظهور ثورة برجوازیة فیها على نمط الثورات البرجوازیة التی شهدتها بلدان غرب أوروبا ابتداء من الثورة الفرنسیة، ووصلت إلى ذروتها فی العام 1848م.[8]

 ارتسمت فکرة الهیمنة إذن بالنسبة للاجتماعیین الدیمقراطیین الروس باعتبارها أداة نظریة رئیسة فی تحلیل واقع تاریخی خاص بروسیا، رأى فی هذا الواقع خروجًا على التطور التاریخی “الطبیعی”- کما سطرته النظریة المارکسیة- أی التدرج المتصاعد فی التطور التاریخی من النظام الإقطاعی الأرستقراطی إلى النظام البرجوازی اللیبرالی وصولًا إلى النظام الاشتراکی الدیمقراطی وانتهاءً بإقامة نظام شیوعی. وحسب النظریة المارکسیة الکلاسیکیة للتطور التاریخی (فلسفة التاریخ) التی تبناها خطاب الاجتماعیة-الدیمقراطیة فی روسیا فإن هذا التعاقب الخطی تقوده فی کل مرحلة طبقة اجتماعیة صاعدة تتطابق مصالحها الموضوعیة مع التغییر الجذری لبنیة المجتمع. فالانتقال من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الرأسمالیة تقوده الطبقة البرجوازیة الصاعدة فیما یطلق علیه بالثورة الدیمقراطیة، ویتشکل منه النظام الدیمقراطی- اللیبرالی، أما التحول نحو الاشتراکیة الذی یعقبه فتقوده طبقة العمال الصناعیین (البرولیتاریا) من خلال ثورة اشتراکیة بعد أن یستنفد النظام القدیم بقیادة البرجوازیة أغراضه ومهامه. فلکل مرحلة تاریخیة طبقة تقودها وهیعادة ذات الطبقة التی کان دورها الأساسی قیادة التحول من مرحلة باتت متقادمة على سلم التطور التاریخی- کما تراه فلسفة التاریخ المارکسیة- إلى أخرى أکثر تقدمًا.

 وبذلك یمکن القول بأن فکرة الهیمنة بتجلیاتها الحدیثة المبکرة تمت صیاغتها کمفهوم طارئ للتعویض عن غیاب المسار “الطبیعی” للتطور السیاسی المرتبط بالتحول الرأسمالی کما تصورته النظریة المارکسیة الکلاسیکیة.وبعبارة أخرى یمکن القول بأن الصیاغة المبکرة لفکرة الهیمنة فی العصر الحدیث- کما ظهرت فی خطاب الاجتماعیین–الدیمقراطیین الروس- أتت کمحاولة لصیاغة مفهوم تعویضی وظیفته ردم الهوة المتسعة بین الافتراضات المسبقة للنظریة المارکسیة ورؤیتها التعاقبیة الغائیة للتطور التاریخی من جهة وبین الواقع الروسی الذی لا یتسق مع هذه الافتراضات للتطور “الطبیعی”. وضمن هذا الإطار- کما یشیر بیری أندرسون-فإن مصطلح الهیمنة “شکل واحدًا من أکثر الأفکار ألفة واستعمالًا فی نقاشات الحرکة العمالیة الروسیة قبل ثورة أکتوبر”.[9]وعقب الثورة انحسر استعمال المفهوم فی الأوساط الاشتراکیة الروسیة، وذلک لسبب أساسی تمثل فی أن صیاغته تمت للتنظیر لدور الطبقة العاملة فی الثورة البرجوازیة الدیمقراطیة، وبالتالی أصبح غیر ذی صلة بسبب قدوم ما تم اعتباره ثورة اشتراکیة.

ولکن مصطلح الهیمنة عاد إلى الظهور فی المؤتمر الرابع للاشتراکیة الدولیة(الکومنترن) فی العام 1922م، ولکن بمعنى مختلف وأکثر توسعًا؛ فقد تم تقدیمه على أنه آلیة تسیطر بمقتضاها الطبقة البرجوازیة على البرولیتاریا(الطبقة العمالیة الصناعیة) عن طریق جعلها ترضخ من خلال التضلیل السیاسی والأیدیولوجی،أوما اصطلح على تسمیته فی تلک الأدبیات بزرع “الوعی الزائف” لمشروعیة فصل العمل الاقتصادی النقابی عن العمل السیاسی، أی نزع التسییس عن المطلب الاقتصادی. فمن خلال هذا الفصل تضمن البرجوازیة-حسب هذه النظرة- انتفاء أی تهدید جدی لسیطرتها على المجتمع ککل. ویمکن القول- کما أشار أندرسون-بأن غرامشی-والذی سیقترن اسمه بمفهوم الهیمنة-ورث هذه الفکرة من تقلید الاشتراکیة الدولیة. [10]

تطور مفهوم الهیمنة عند غرامشی:

ارتبط التداول العام لمفهوم الهیمنة فی السیاق العریض للعلوم الإنسانیة باسم المفکر الإیطالی أنتونیو غرامشی(1937-1891) حتى باتا کأنهما صنوان، وعلى الرغم من أن إضافة غرامشی لمفهوم الهیمنة أمر لا یمکن إغفاله، إلا أنه ینبغی الأخذ فی الحسبان أن “الهیمنة” کأداة استراتیجیة للتحلیل والعمل المهتم بآلیات التغییر السیاسی لها تاریخ یسبق غرامشی کما أوضحت الصفحات السابقة، کما أن لها تطورات جذریة، بالمعنى المنهجی ولیس الزمنی فقط، فیما بعد غرامشی کما سیتضح فی الصفحات اللاحقة.

یمکن القول بأن هناک مدرستین فی مقاربة فکر غرامشی ککل قدمتا استخلاصاتهما حول مناط أهمیة إنتاجه الفکری بطریقتین مغایرتین تمامًامما أنتج فی الأدبیات المعنیة مقاربتین مختلفتین لمفهوم الهیمنة عند غرامشی. فلقد قدمت المدرسة الأولى غرامشی باعتباره مفکرًا إیطالیًّا فی المقام الأول تستمد إسهاماته النظریة معانیها من الخلفیة التاریخیة الخاصة بإیطالیا فی العصر الحدیث، وما أنتجته من تحدیات فکریة وسیاسیة. ویمکن إجمال هذه التحدیات بتضافر عوامل أهمها: فشل مشروع “النهضة” الإیطالی الذی بدأ فی القرن السادس عشر فی بناء دولة قومیة،ووجود هوة شاسعة ومتزایدة الاتساع بین الشمال الصناعی (المتقدم) والجنوب الزراعی (المتخلف)،والعداء الممتد والمستحکم بین الفاتیکان والدولة الإیطالیة المرکزیة فی روما مما أدى إلى إضعاف عملیة دمج الجماهیر الکاثولیکیة فی الحیاة السیاسیة الإیطالیة، وأخیرًا ضعف التطور الرأسمالی وتناقضه فی إیطالیا. وفی المحصلة النهائیة نظرت هذه المدرسة إلى إسهامات غرامشی على اعتبار أنها إسهامات أصیلة فی موضوع “التطورغیرالمتکافئ”Uneven Development فی أطراف النظام الرأسمالی، وأنها غیر ذات صلة وثیقة بأوضاع الدول الرأسمالیة المتقدمة.[11]

بینما نظرت المدرسة الثانیة- وهی الأکثر شیوعًا وتأثیرًا- إلى فکر غرامشی بصورة مغایرة، إذ رأت فیه منظرًا من الطراز الأول لاستراتیجیة التغییر الثوری فی الدول الصناعیة المتقدمة. فحسب هذه المدرسة تنبنی المفاهیم المرکزیة لفکر غرامشی- وأهمها مفهوم الهیمنة- على خصوصیة التعقیدات التی تتسم بها أوضاع المجتمع المدنی  والنظام السیاسی فی المجتمعات الصناعیة المتقدمة فی الغرب، معتبرة غرامشی المنظر الأکثر أهمیة للتداعیات السیاسیة التی تلت إعادة هیکلة النظام الرأسمالی بعد أزمة الکساد العظیم فی أواخر العشرینیات وما أعقبها من بروز دولة الرعایة الاجتماعیة فی ثلاثینیات القرن الماضی (العشرین)، وما أنتجه ذلک من تعقیدات فی العلاقة بین البنیة الاقتصادیة والبنى السیاسیة والأیدیولوجیة فی الدول الصناعیة المتقدمة[12].ولکن ما یهمنا فی سیاق هذا البحث هو أن إسهامات غرامشی النظریة ینبغی النظر إلیها باعتبارها تقف على مستوى أبعد، خصوصًا فیما یتعلق بتناوله لمفهوم الهیمنة.

فغرامشی- کما ذهبالباحثان البارزان أرنستو لاکلاو وشانتال موف- أکثر من أی منظر آخر فی زمنه وسع من مجال دور العامل السیاسی فی إعادة بناء وترتیب المعطیات الاقتصادیة والاجتماعیة، وذلک من خلال إسهاماته الجذریة فی إعادة صیاغة مفهوم الهیمنة. فهذا المفهوم بات فی ضوء إضافات غرامشی یحمل مضامین تتجاوز بصورة جذریة فکرة التحالف الطبقی المرحلی کما وجدناها عند الاجتماعیین- الدیمقراطیین الروس. ویمکن استخلاص – بناءً على ما بسطته دراسات “لاکلاو وموف”- أن غرامشی طور مفهوم الهیمنة، وجعل منه حجر الزاویة لشرح وتحلیل سیاسی قابل للتوظیف عند تناول أوضاع الدول المتقدمة صناعیًّا والدول النامیة على حد سواء، وبالتالی أفسح المجال باتجاه الدفع نحو تعویم المفهوم، وفصله عن أی مرجعیة بعینها سواءً کانت جیوسیاسیة(الغرب)، أو تشکیلة اجتماعیة- اقتصادیة (الرأسمالیة)[13].

     وتشیر شانتال موف فی دراسة رائدة[14]إلى أنه یمکن استخلاص تصنیف من ثلاثة مستویات متدرجة عند غرامشی لتطور الوعی واستراتیجیات العمل الجماعی السیاسی تمثل “الهیمنة” أعلاها وأکثرها شمولیة واکتمالًا، ویمکننا إجمالها على النحو التالی:

أ‌) مستوى المصالح الاقتصادیة الفئویة (corporate): وینحصر فیها الاهتمام فی التعبیر والدفاع والسعی نحو تحقیق مصالح اقتصادیة- اجتماعیةلفئة بعینها، ویرجع غرامشی هذه الممارسة إلى العصور الوسیطة ویرى شیوعا لها فی  العصر الحدیث تشیع من خلال العمل النقابی البحت، حیث یقوم زملاء المهنة بإنشاء حالة من التضامن بینهم؛ فالمهندس من خلال العمل النقابی یجد نفسه فی علاقة تضامن مع زمیله المهندس، والمحامی مع زمیله المحامی… إلخ، ولکن المهندس لا یشعر بضرورة التضامن مع المحامی أو العکس، فمستوى المصالح الاقتصادیة الفئویة هو مستوى شعور المنتمی إلى جماعة مهنیة متجانسة بحاجته إلى التنظیم الذاتی بغرض الدفاع عن مصالح منبثقة من واقع مهنته. ولقد حمل غرامشی بشدة على هذا المستوى من العمل الجماعی حیث رأى فیه تواطأ فعلیا على إدامة الأوضاع القائمة[15].

ب‌) مستوى المصالح الاقتصادیة الطبقیة: ویتسع فی هذا المستوى الوعی والاهتمام بالمصالح والعمل الجماعی على تحقیقها لیشمل الطبقة الاقتصادیة- الاجتماعیة برمتها، ولکن فقط على مستوى الدفاع عن مصالح اقتصادیة محضة خاصة بهذه الطبقة، ولا یمنع ذلک من اشتمال برنامج الطبقة فی الدفاع عن مصالحها الاقتصادیة على مطالب ذات جوانب سیاسیة تتعلق بإصلاح مؤسسات الدولة والإدارة العامة والمشارکة فی صنع القرار، إلا أن هذا یتم ضمن حسابات تکاد تکون منغلقة على تعظیم المکاسب الاقتصادیة والاجتماعیة الخاصة بالطبقة، ولا تهدد الأسس العامة للوضع السیاسی والاجتماعی القائم.

ت‌)  مستوى الهیمنة:  وهو مستوى العمل الجماعی الذی نافح عنه غرامشی من خلال تطویرهلفکرة الهیمنة من آلیة عارضة للتحالف الطبقی تحتمها ظروف استثنائیة وطارئة- کما عند الدیمقراطیین الإجتماعیین الروس- إلى استراتیجیة للفعل السیاسی تقوم بموجبها طبقة أساسیة(وهذه تنحصر عند غرامشی فی المجتمع الصناعی-الرأسمالی إما فی طبقة البرولیتاریا أو طبقة البرجوازیة) بربط مصالح طبقات وجماعات أخرى بمصالحها عن طریق الکسب الأیدیولوجی إما بغرض الحفاظ على استقرار الوضع القائم ودیمومة موقعها القیادی فیه(البرجوازیة)، أو بغرض إحلال بدیل عنه(البرولیتاریا)[16]. فالهیمنة کاستراتیجیة سیاسیة یمکن أن تخدم أهدافًا محافظة أو أهدافا تغییریة وثوریة.

 یمکنناالقول أن غرامشی دشن بصورة منهجیة معنى الهیمنة کأداة تحلیل سیاسی، وآلیة للتعبئة الجماعیة المنظمة لا تحمل مضامین معیاریة ثابتة، فما بدأ مع الدیمقراطیین- الاجتماعیین الروس من صیاغة للهیمنة کاستراتیجیة للیسار للتعبئة ضد الحکم القیصری فی روسیا، وصل ضمنیًّا مع غرامشی من خلال تطویره للمفهوم،وعلى الرغم من انحیازاته الأیدیولوجیة المعلنة، إلى استراتیجیة عامة قابلة للتوظیف من قبل أی طبقة اجتماعیة أساسیة بصرف النظر عن انتمائها الأیدیولوجی.

 وعلاوة على ذلک یمکن أن یستفاد من إضافات غرامشی، وإعادة تشکیله لمفهوم الهیمنة، أن العمل السیاسی بموجبها لا یقتصر- کما فی المارکسیة التقلیدیة- على وعی الطبقة بمصالحها “الموضوعیة”، وتوجیه نشاطها السیاسی وفق حدود هذه المصلحة. ولکنه یتجاوز ذلک إلى کسب جماعات أخرى من المجتمع المدنی إلى مواقعها من خلال إدخال الطبقة الأساسیة لتغییرات(یسمیها غرامشی تضحیات) فی محتوى مصالحهاومواقفها الأیدیولوجیة والسیاسیة لتتوافق مع مصالح ورؤى هذه الجماعات.

 ومن المهم التأکید على أن الکسب الأیدیولوجی لا یعنی التزییف أو التضلیل، بل العملیة التی یتم بموجبها استیعاب تطلعات هذه الجماعات ضمن الإطار الأیدیولوجی المرن للقوة الکاسبة، وإنتاج هویة جماعیة جدیدة. فالفعل الهیمنی بات مع غرامشی صنوعملیة إنتاج ذاتٍ سیاسیة جدیدة، أو ما یمکننا أن نطلق علیه من خلال توظیف لغة فوکو “عملیةتذویت”subjectivation مؤداها خلق هویة جماعیة تتجاوز الهویة الطبقیة إلى إطار سیاسی أوسع.

النقد مابعد المارکسی لمفهوم الهیمنة عند غرامشی:

انشغل جل المباحث ما بعد الحداثیة بموضوعات فلسفیة وأدبیة وجمالیة، غیر أنه ظهرت باطراد خلال العقود الثلاث الأخیرة مقاربات سعت إلى الاستفادة من النقد ما بعد الحداثی للحداثة، وتوظیفه فی مجالات العلوم الإنسانیة والاجتماعیة المختلفة. إن نظرة ولو سریعة للنقاشات الأکادیمیة الحالیة تظهر توغل المقاربات ما بعد الحداثیة فیها، والتی بالرغم من تداخل مضامینها تتخذ أسماءً شتى من بینها ما بعد البنیویةPost-Structuralismوغیر الجوهرانیةnon-essentialist ومابعد الأساساتیةPost-Foundationalism، و ما بعد المارکسیة Post-Marxism. وفی المحصلة – کما یشیر هوارث- لم یعد بإمکان الدراسات المنهجیة تجاهل الحضور المتنامی لهذه المقاربات فی “حقول أکادیمیة عامة وفرعیة متعددة مثل علم الاجتماع، وعلم السیاسة، والعلاقات الدولیة، والدراسات الثقافیة والإعلامیة، والتاریخ، والجغرافیا، ودراسة المنظمات، والأنثربولوجیا، وعلم النفس الاجتماعی، واللسانیات، والنقد الأدبی.”[17]

ولاینبغی التسرع فی النظر إلى هذه التطورات باعتبارها “موضة” عابرة، فمثل هذه الأحکام الانطباعیة ستکون بلاشک ضربًا من الأمنیات الواهمة “أکثر منها حقیقة واقعة”[18]. فالمقاربات ما بعد الحداثیة فی حقیقتها جهود متراکمة لاختطاط أفق جدید فی التحلیل السیاسی والاجتماعی والثقافی ما زال علم السیاسة فی العالم العربی للأسف متأخرا عن مواکبتها.

وفی مجال التحلیل السیاسی قامت المقاربات ما بعد الحداثیة على الاستفادة من النقد الذی تمت صیاغته للأسس المیتافیزیقیة للخطاب الفلسفی، وسحبته إلى نطاق المفاهیم الموظفة فی مجال تکوین الهویات السیاسیة. وکان لمفهوم الهیمنة وتطویره أهمیة خاصة فی هذا المجال خصوصًا فیما بات یعرف بالمقاربة ما بعدالمارکسیة، حیث حمل هذا المنظور نقدًا جذریًّا للنظریة المارکسیة وصولًا إلى تفکیک الصیاغات المفاهیمیة المتقدمة لغرامشی فی إطارها.

 وفیما یتصل بغرامشی فقد أخذ علیه المنظور ما بعد المارکسی إصراره على حصر دور الرافعة للهیمنة بطبقة اجتماعیة أساسیة تستمد دورها الحاسم من موقعها فی نمط الإنتاج الاقتصادی السائد فی المجتمع، ما جعل مقاربته لا تنفک- رغم عناصر الجدة فیها- عن الدوران فی فلک التحلیل الطبقی الذی طبع المنظور المارکسی للسیاسة. فغرامشی- کما یرى لاکلاو- ورغم إضافاته المهمة، یظل حتى النهایة محتفظًا بالفکرة المارکسیة الکلاسیکیة القائمة على فرضیة سوسیولوجیة- تاریخیة ثبت خطؤها، والذاهبة إلى أن المجتمع الرأسمالی- الصناعی الحدیث ینحو باتجاه التمحور حول طبقتین أساسیتین هما الطبقة العاملة الصناعیة والطبقة البرجوازیة باعتبارهما تمثلان قطبی الإنتاج فی المجتمع الصناعی- الرأسمالی (ولا یتبقى خارج ذلک سوى شرائح اجتماعیة وطبقة فلاحیة محتم علیها الذوبان أو الالتحاق السیاسی بإحدى الطبقتین)، وأن الرافعة للهیمنة فیه بالضرورة هی إحدى هاتین الطبقتین، وعلاوة على ذلک تفترض رؤیة غرامشی أن هذه الرافعة الطبقیة سابقة فی تکوینها الموضوعی على الفعل السیاسی الهیمنی ذاته، أی أنها تنتج الهیمنة دون أن یکون للأخیرة دور أساسی فی تکوین هذه الرافعة الطبقیة. وهکذا فإنه بالنسبة لغرامشی تمثل الطبقة الأساسیة المنبثقة من القاعدة الاقتصادیة افتراضًا ضروریًّا ومقولة قبلیة توجد بصورة سابقة على أی عملیة هیمنة، وهذا ما یفسر نظرته الأساسیة للهیمنة على أساس أنها معادلة صفریة یؤدی فیها فشل هیمنة الطبقة العاملة بالضرورة إلى إعادة بناء هیمنة البرجوازیة:

 “هناك لب جوهرانی فی فکر غرامشی یضع حدًّا للمنطق التقویضی للهیمنة، فالزعم بأن الهیمنة ینبغی أن تکون دومًا متطابقة مع طبقة اقتصادیة أساسیة لا یعنی فقط الإصرار على المقولة المارکسیة الجوهرانیة فی الحتمیة الاقتصادیة، ولکنه یتعدى ذلک إلى الزعم الماهوی بأن الاقتصاد یشکل حدًّا لا یمکن تجاوزه فی أیة محاولة لإعادة البناء السیاسی والاجتماعی من خلال الفعل الهیمنی.”[19]

وفی المحصلة النهائیة-حسب المقاربة ما بعد المارکسیة- ظلت إضافات غرامشی لمفهوم الهیمنة  حبیسة للمنظور الجوهرانی لتکوین الهویات السیاسیة الذی اتسمت به النظریة المارکسیة فی عمومیتها، والقائم على افتراض أنتولوجی یرى الهویة السیاسیة مرتبطة بالضرورة بالانتماء الطبقی.

الصیاغة ما بعد المارکسیة لمفهوم الهیمنة:

تستعمل عبارة ما بعد المارکسیة الیوم لتشیر إلى الانفصال عن النظریة المارکسیة الذی دشنته توجهات یمکن وصفها “ما بعد حداثیة” من خلال استلهامها  للمقاربات ما بعد البنیویة.[20] ولابد من التأکیدعلى أن هذه المقاربة ما بعد-الحداثیة لمفهوم الهیمنة لا تقوم على مجرد نقد سجالی للنظریة المارکسیة، وإنما تنبنی على شروحات سوسیولوجیة ومفاهیمیة مؤداها التشدید على هشاشة الخطاطة schema النظریة للتصور المارکسی عن السیر العام لظاهرة الرأسمالیة، وعجزها البین عن تحلیل آلیات نشوء وتکون الهویات السیاسیة فی العالم المعاصر.

وینطلق أصحاب هذا التوجه من جرد لما یرونه تحولات هیکلیة شهدها النظام الرأسمالی طوال القرن العشرین تضافرت فی إضعاف منطلقات النظریة المارکسیة ونجاعة المفاهیم الإستراتیجیة السیاسیة التی صاحبت هذه النظریة. ویمکن إجمال المحصلات السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة الرئیسة لهذه التحولات فی التالی:

1- انحسار نسبة الطبقة العاملة الصناعیة(البرولیتاریا) فی مجموع قوة العمل فی الدول الرأسمالیة المتقدمة صناعیًّا،وظهور وانتشار أنماط جدیدة من الاحتجاجات الاجتماعیة جسدتها ما یسمى ” الحرکات الاجتماعیة الجدیدة” مثل الحرکات النسویة والطلابیة والبیئیة حاملة معها دینامیات للتعبئة السیاسیة تخرج عن إطار النزاع الذی افترضت النظریة المارکسیة مرکزیته بین الطبقتین الرأسمالیة والعمالیة، ولها محرکات لا ترتبط بمقولة النزاع على “فائض القیمة”، وهی الفکرة المحوریة للنظریة المارکسیة حول بواعث النزاعات الاجتماعیة فی عصر الرأسمالیة- الصناعیة.

2- تزاید فی النزعة المحافظة للعمال الصناعیین فی کثیر من الدول الرأسمالیة المتقدمة فی النصف الثانی من القرن العشرین مقارنة بنظرائهم فی القرن التاسع عش، صاحبها قدرة ملحوظة لدولة الرعایة الاجتماعیة على التکیف وامتصاص الاحتجاجات والنزعات الثوریة.

3- بروز أنماط من التعبئة الجماهیریة کما فی التوجهات القومیة، خصوصًا فی دول العالم الثالث، سمتهاالأساسیة الحشد الشعبوی، لا تتوافق مع المقولة المارکسیة فی مرکزیة الصراع الطبقی، ولا یمکن فهمها من خلالها.

 وعلى مستوى آخر من النقد للنظریة المارکسیةشدد التوجه ما بعد المارکسی على أن مقتضیات إنزال المخطط النظری المارکسی-اللینینی على أرض الواقع، والذی جسدته التجربة الاشتراکیة فی دول أوروبا الشرقیة أفرزت أزمات کشفت عن تسلطیة ثاویة فی الخطاب المارکسی ذاته بدلالة ظهور أنماط جدیدة وأشد عنفًا ووطأة من التسلط والاستغلال باسم “دیکتاتوریة البرولیتاریا”.

 وبالإضافة إلى هذه التحولات الاجتماعیة والاقتصادیة والسیاسیة فإن أصحاب هذا التوجه یشیرون أیضًا إلى هزات فکریة، وتطورات إبستمولوجیة شهدها الفکر المعاصر تدور حول نقد الجوهرانیة، لم یعد بالإمکان تجاهلها من قبل التحلیل السیاسی المعاصر، وما أفرزه ذلک من تقویض لأسس المدرسة المارکسیة خاصة، والمفاهیم الحاکمة للتوجه الاشتراکی التقلیدی عامة:

“ما یجد نفسه فی عصرنا فی خضم أزمة هو المنظور الإشتراکی برمته والقائم على المرکزیة الأنتلوجیة للطبقة العاملة(البرولیتاریا)، و المفهوم التقلیدی للثورة على أنها لحظة انهاء القاعدة التی یقوم علیها نظام اجتماعی معین و التحول الى نمط آخر، و کذلک وهم إمکانیة ظهور إرادة جماعیة واحدة ومتجانسة ستجعل من السیاسة شیئا من الماضی”.[21]

وفی المحصلة النهائیة یمکن القول أن ما بعد المارکسیة هو اسم للتحول من المارکسیة النقدیة(وأبرزعلاماتها مدرسة غرامشی)إلى نقد المارکسیةمؤداه “نزع المصداقیة عن المارکسیة کموقف سیاسی، ومعقولیتها کنموذج تفسیری أکادیمی”.[22]

ویتصل بهذا التجاوز للنظریة المارکسیة إصرار لدى هذا التوجه فی التحلیل السیاسی على أن التطورات النظریة المعاصرة والقائمة على نقد الفکر الجوهرانی تمتد فی قدراتها التقویضیة لتشمل المسلمات النظریة لیس للمارکسیة فحسب، وإنما لمجمل التوجهات الفکریة التی سیطرت على حقل التحلیل السیاسی والاجتماعی.  فاللیبرالیة مثلًا، وما تفرع عنها من مدارس تحلیلیة-حسب هذا التوجه- لاتشکل بدیلًا للنزعة المارکسیة من الناحیة المفاهیمیة، بل شریکة لها فی الصدور عن ذات المعین الفلسفی الجوهرانی التی طبع التراث الفلسفی الغربی برمته بما فیه النظریة المارکسیة[23]. وبالتالی یمکن القول أن “الما-بعد” هنا لا تقتصر على تقویض أسس الخطاب المارکسی، وإنما- وهذه مسألة لا تقل أهمیة لأصحابها- تؤشر إلى”هجر بداهات یسمونها جوهرانیة.”[24]

ولقد کان لإعادة بناء  مفهوم الهیمنة فی ضوء النقد التفکیکی للفکر  الجوهرانی والسعی لسحب نتائج هذا النقد إلى حقل التحلیل السیاسی حضورا مهما.ولعل أفضل مدخل للإلمام باستراتیجیة المقاربة غیر الجوهرانیة non-essentialist لإعادة بناء مفهوم الهیمنة بما یتجاوز المقاربات الماهویة له یتمثل فی تطویرها لمقاربة علائقیة- سنعرض لها فی الصفحات اللاحقة- لموضوع تکوین الهویات السیاسیة، مستمدة من المنظورات غیر الجوهرانیة للغة وأهمها المنظور البنیوی.

المقاربة ما بعد البنیویة للهویات السیاسیة

من المعروف أن فردیناند سوسیر(1857- 1919)، والذی تشکل مقاربته حول طبیعة اللغة محطة انطلاق لتطورات مهمة فی المباحث النظریة للعلوم الإنسانیة فی الثلث الأخیر من القرن العشرین، قد دشن البنیویة بمقولة السمة الاعتباطیة للعلامة اللغویة من خلال صیاغته لفکرة عدم وجود ارتباط ضروری بین الدال والمدلول،أی أن الرباط الذی تتکون منه العلامة اللغویة بین الدالsignifier، وهو الصورة الصوتیة، و اللفظ والمدلول signified، أی المفهوم أو الصورة الإدراکیة، لا یحمل صلة الارتباط الضروری الطبیعی، وإنما هو مستمد من عرف اجتماعی، فمثلًا عندما استخدم بالعربیة سلسلة الحروف المتعاقبة ج م ل (جمل) کدال على حیوان له صفات معینة، فإن هذا اللفظ لیس مرتبطًا بضرورة الأشیاء مع هذا الغرض الذی کان یمکن تحقیقه باستعمال سلسلة أخرى من الحروف المتعاقبة مثل )لمل( أو )فرر( إذا ما کانت مقبولة من الجماعة اللغویة الناطقة بالعربیة،فلا یوجد سبب جوهری نابع من طبیعة مفهوم الجمل ذاته تحتم استعمال دال بعینه للدلالة علیه، وإنما هو عرف اجتماعی- تاریخی. ولعل تجربة تعلم لغة أجنبیة أو الترجمة من لغة إلى أخرى خیر شاهد على أن اللغة لیست مجرد عملیة تسمیة خارجیة nomenclatureلمدلولات تظل ثابتة وعابرة للغات[25].

إن ما تشیر إلیه نظریة سوسیر هوأن المدلولاتsignifieds ذات طابع متغیر من لغة إلى أخرى، وتتخذ أشکالًا مختلفة لا یمکن بصورة مسبقة تحدیدها. ویتصل بذلک أن التحلیل اللسانی البنیوی کما دشنه سوسیر- وهنا تقبع أطروحته فی جذر المقاربات ما بعد البنیویة- ینظر إلى أن معنى العلامة اللغویة ینشأ بصورة خالصة من علاقتها مع علامات لغویة أخرى فی سیاق محدد، الأمر الذی یعنی تحولًا فی “المنهج المعرفی من محاولة معرفة “ماهیة” الشیء إلى “کیفیة” ترابط أجزائه وعملها مجتمعة”.[26]وإذا کان سوسیر قد دشن البنیویة بأطروحة الطبیعة الاعتباطیة للعلامة من خلال فکرة عدم الارتباط الضروری بین الدال والمدلول، فإن لحظة ما بعد البنیویة فی هذا السیاق تبدأ من استلهام  تقویض “جاک دریدا” للجوهرانیة الکامنة فی مفهوم “البنیة” باعتبارها تمثیلًا مستجدًا لما أسماه هیدغر “میتافیزیقیا الحضور”، (أی إعطاء الأولویة للکینونة على الصیرورة)، والتأکید بدلًا من ذلک على  فکرة عدم استقرار الدال على مدلول “فالعلامة هی اسم لانشطار لایمکن لحمه بصفة نهائیة بین الدال والمدلول”[27] .فتعدد معانی الدالpolysemy، وعدم قدرته على الثبات النهائی على مدلولبعینه یجعله عرضة للصیاغة بأشکال مختلفة تصل إلى حد التضارب والتنازع. ولعل الأهمیة التحلیلیة لهذه الفکرة أوضح ما تکون فی الحقل السیاسی الذی یتسم بتحول مستمر فی مدلولات دوال سیاسیة مرکزیة کالدیمقراطیة، على سبیل المثال لا الحصر، والتی یمکن بسهولة ملاحظة تباین مدلولاتها التی تمتد من معنى عندما یتم ربطها بخطاب لیبرالی لتتخذ معنى مختلفًا، وقد یکون مخالفًا عند ربطها بالاشتراکیة، وآخر مختلفًا بدوره عند ربطها بالقومیة …وهکذا دوالیک[28].

 نحو مفهوم غیر جوهرانی للهیمنة:

 طور المنظور غیر الجوهرانیلتکوین الهویات السیاسیة حزمة من الأفکار المبتکرة المستلهمة من تخصصات شتى، ووظفها بطریقة خلاقة لإحداث نقلات أساسیة فی أدوات التحلیل السیاسی. ولقد کان لمفهوم الهیمنة وإعادة صیاغته باتجاه یتجاوز المقاربات الجوهرانیة أهمیة خاصة فی مجال التحلیل السیاسی ما بعد الحداثی. ومن الأهمیة بمکان لاستیعاب المقاربة غیر الجوهرانیة لمفهوم الهیمنة التشدید أولًا على أن أصحابها قاموا، من خلال توظیف أدوات تحلیل نابعة من الدرس ما بعد البنیوی، بدفع استبصارات غرامشی نحو آفاق جدیدة هدفها إحداث تحول نوعی فی النموذج التفسیریللمفهوم کأداة استراتیجیة فی التحلیل السیاسی،وتقدیمه من خلال دراسات نظریة وتطبیقیة کحجر أساس للتحلیل السیاسی.وأهم معالم هذهالمقاربة الجدیدة للهیمنة اعتبارها تشیر إلى نمط من العلاقة قوامها استراتیجیة تجمیع خلاق لقوىمتناثرة ومتباینة فی تکوینها ومواقعها فی الجسم الاجتماعی بهدف إنشاء إرادة مشترکة، ولیس- کما فی الاستعمال الشائع لمفردة الهیمنة- حالة استحواذ لموقع قیادی ذی طبیعة قسریة فی البناء السیاسی- الاجتماعی.

الهیمنة فی المقاربة ما بعد البنیویة ینبغی النظر لها باعتبارها” نمط من العلاقة السیاسیة، ولیست مفهوما طبوغرافیا”[29]، وبالتالی لا یمکن استیعابها على أنها إشعاع من نقطة متمیزة فی الجسم السیاسی. کما أن هذه المقاربة تنطلق من افتراض وجود مشاریع متعددة طامحة إلى بناء هویات سیاسیة قد یکون بعضها فی حالة نزاعیة مع بعضها الآخر. فوجود مشاریع متعددة طامحة إلى بناء الهویة السیاسیة لجماعة ما  لیست الإشکالیة التی تحتاج إلى التأویل بردها إلى جذر أوحد یتجاوزها، کالذهاب مثلًا إلى أن مجمل التوجهات السیاسیة والأیدیولوجیة التی تنازعت التاریخ العربی الحدیث والمعاصر عبارة عن تجلیات لجوهر”نظام أبوی” یخترقها.[30] فتعددیة المشاریع الطامحة لقیادة المجتمع هی معطى إمبیریقی ونقطة البدایة فی التحلیل السیاسی. ویتصل بذلک دفع هذه المقاربةإلى ضرورة تجاوزفکرة وجود مرکز أوحد للهیمنة فی المجتمع یکون بمثابة جوهر العملیة الاجتماعیة انطلاقًا من نقطة ارتکاز متفردة یمکن من خلالها الإمساک بالآلیات الاجتماعیة برمتها.[31]

ولعل أهم الأدوات التحلیلیة التی شیدتها “المقاربة ما بعد البنیویة لمفهوم الهیمنة” هی فکرة  التمفصل articulation، والتی تشیر إلى فعل الربط بین عناصر سیاسیة وأیدیولوجیة غیر مرتبطة بالضرورة ینتج عنه تحول فی هویة هذه العناصر بفعل عملیة التمفصل[32].وبالتالی ینبغی النظر إلى  عملیة الربط الهیمنی “التمفصل” بإعتبارها ممارسة خلاقة لأنها تنتج معانی جدیدة من معطیات قائمة، فمثلًا ربط الاشتراکیة بالقومیة سیغیر من معنى هذه الدوال بطریقة تنتج معنى لکل منهما یختلف عن ذلک المتحصل من ربط أی منهما بالدیمقراطیة. هذا یعنی أن حقل التمفصل یفترض عدم تجمد العناصر الأیدیولوجیة على معنى ثابت، إذ إنه فی حالة وجود نظام مغلق تکون فیه جمیع العناصر الأیدیولوجیة ذات معنى ثابت تنتفی أیة إمکانیة للفعل الهیمنی ولکن تنتفی معه أیضا أی امکانیة للتغییر أو الفعل السیاسی. فبدون وجود دوال عائمة یجری التنازع بین الفرقاء السیاسیین على إعطائها معانی متباینة تمتنع إمکانیة الربط، وبالتالی الهیمنة باعتبارها ممارسة خلاقة، ویسود بدلًا من ذلک عملیة التکرار فی إنتاج النظام المغلق لنفسه.

تتکثف ممارسة التمفصل عادة فی ظرف تکون فیه العناصر “الدوال” الأیدیولوجیة والسیاسیة السائدة فی مجتمع ما غیر متجمدة على معنى ثابت، فالسیولة فی معنى الدوال السیاسیة شرط ضروری لممارسة التمفصل. الصیاغة ما بعد البنیویة لمفهوم الهیمنة تنظر للمعانی والهویات السیاسیة على أنها جزئیة ومؤقتة وضمنیًّا فی حالة من السیولة المستمرة التی تبلغ أشدها فی حالة “الأزمة العضویة” التی تنشأ معها حالة من الانهیار الدراماتیکی للتماهی المجتمعی العام مع المؤسسات والرؤى السیاسیة القائمة مما یفسح المجال واسعًا لنقد الأوضاع الراهنة من منظورات مختلفة، وتصبح المعانی التی تحملها دوال سیاسیة مفتاحیة أو رئیسة مثل “الدیمقراطیة” و”الحریة” و”المساواة” دوالًّا عائمة المعنى ومفتوحة، وبالتالی قابلة للتوظیف من قبل قوى سیاسیة مختلفة (تشکیلات هیمنیة) تقومبمفصلتها مع عناصر أخرى تنتج عنها معان جدیدة[33]. وفی هذا السیاق، فإن الهیمنة تعنی بالضرورة رفض التصور الذی یرى أن المفردات الأیدیولوجیة لها معنى نهائی مرتبط بالضرورة بطبقات وشرائح اجتماعیة بعینها (مثل القول بارتباط الأیدیلوجیا القومیة أو الدیمقراطیة بالطبقة الوسطى).

ویوظف أصحاب هذا التوجه- بصورة خلاقة- فی تشییدهم لمفهوم الهیمنة بعض معطیات النقد الأدبی المعاصر الذی أبرز أهمیة المجاز(أو الاستعارة البلاغیة) والکنایة فی إنتاج المعنى، إذ یقوم التمییز البلاغی بین المجاز والکنایة على أن” الأول یقوم على الإبدال والإزاحة اعتمادًا على المشابهة والمشاکلة والقیاس، والثانیة تزیح وتبدل اعتمادًا على المجاورة والتداعی”.[34]فالهیمنة کأداة للتحلیل السیاسی تحمل عندهم طابع المجاز المرسلmetonymy الذی یربط عناصر متجاورةcontiguousمع بعضها من خلال عملیة انزیاح ینشأ من خلالها خلق متکافئات بین معانٍ مختلفة.فالممارسة  الهیمنیة هی الممارسة التی یتم بموجبها خلق التکافؤ equivalences  بین عناصر مختلفة مثل جعل الدفاع عن إقتصاد السوق والقیم العائلیة عنصران متکافئان فی خطاب “الأمة البریطانیة” فی الصیاغة الیمینیة المتجددة[35]، وبالتالی- کما یشیر دیفید هوارث- أصبح مفهوم الهیمنة یحمل فی الصیاغة ما بعد البنیویة دلالة البعد الانزیاحی فی الممارسات السیاسیة، أی الطریقة التی تقوم من خلالها حرکة أو جماعة معینة بتوسیع نطاق خطابها،والجمهور الذی تروم قیادته عن طریق رفع مطالب وأخذ مهام على عاتقها لم تکن موجودة، ولیست تابعة لجمهورها فی المراحل الأولى لتکوینها[36].

 وفی المحصلة النهائیة یمکن القول بأن هذه المقاربة تبتعد عن النظر إلى الهیمنة على أنها استحواذ على موقع قیادی ضمن إطار مستقر من تراتبیة القوة کما هو شأن التوظیف السائد فی بعض نظریات علم الاجتماع والعلاقات الدولیة، وإنما تصیغ المفهوم لتجعله مرادفًا لعملیة تشکیل سلسلة من علاقات التکافؤ بین مطالب ومواقع وذواتاجتماعیة مختلفة تنتج عنها صیاغة هویة سیاسیة جماعیة  فی سیاق نزاعی یستمد دینامیکیته من وجودحدودفاصلة غیر معطاة سلفًا، وذات طبیعة متحرکة بین ” نحن” و”هم” یحکمها التنازع المستمر على الاستحواذ على دوال عائمة، وإعطائها محتویات جدیدة تغیر دلالاتها فی نفس الوقت الذی تتغیر فیه هویة القوى الحاملة لها. وتأسیسًا على ذلک تتجاوز هذه المقاربة اعتبار “الهیمنة” موقعًا محددًا ضمن البنیة المستقرة للنظام السیاسی- الاجتماعی[37]، وتنظر لها بدلا من ذلک على اعتبارها نمط من العلاقة السیاسیة أو قالب للفعل السیاسی الخلاق الناسج لعلاقة تکامل و ترابط بین عناصر مختلفة لیست بالضرورة مترابطة مع بعضها.

 الخصوصیة الحداثیة للهیمنة:

یجادل أصحاب المقاربة غیر الجوهرانیة لمفهوم الهیمنة أن هذا المفهوم بات یمتلک أهمیة متزایدة تزامنت مع ما یرونه من انقطاعً تاریخی بین المجتمع الحدیث المتسم بالتغییرات الدینامیکیة المتسارعة والمجتمع التقلیدی الذی یغلب علیه طابع الاستقرار والرتابة فی إعادة إنتاج مؤسساته. فهم یرون أن النمط الهیمنی للفعل السیاسی شهد توسعًا هائلًا فی العصر الحدیث بالتوازی مع الانفتاح الکبیر للأفق الاجتماعی نتیجة تضافر عوامل عدة أهمها الطابع التغییری للتکنولوجیا الحدیثة المرتبطة عضویًّا بدینامیکیة النظام الرأسمالی المعاصر، وتزامن ذلک مع تبلور وجوه مهمة من الثقافة السیاسیة الحدیثة حول ما أسماه توکفیل بـ” الثورة الدیمقراطیة” المتسمةبالسعی غیر المنقطع للمواءمة بین مبدأی “الحریة” و”المساواة”، ما أفضى إلى اختطاطأفق تاریخی متحرکً سمته الأساسیة المساءلة المستمرة للترتیبات السیاسیة- الاقتصادیة- الاجتماعیة القائمة بما یمنع من تکلسها حول صیغة ثابتة[38].

ویتصل بذلک صعود ظاهرة  الجماهیر الشعبیة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وهی ظاهرة مختلفة نوعیًّا عن المجتمع المنقسم إلى طبقات، وتحولها إلى عامل رئیس فی الحیاة السیاسیة المعاصرة[39]. ولقد صاحب ذلک نشوء تحولات هیکلیة فی الجسم السیاسی یمکن إجمالها على النحو التالی: أولها، تحول النظام الرأسمالی فی الدول الصناعیة المتقدمة إلى حالة”الرأسمالیة المنظمة”[40]المتسمة بتنامی الأحزاب السیاسیة الجماهیریة، والتنظیمات النقابیة، وجماعات الضغط المنظمة. ثانیها، توسع نطاق تدخل الدولة فی العملیة الاقتصادیة والاجتماعیة فی القرن العشرین ما أدى إلى بروز أنماط جدیدة للدولة مثل “دولة الرعایة الاجتماعیة”، و”الدولة الریعیة”، سمتها الأساسیة تأسیسعلاقة مباشرة بین القوة السیاسیة وجموع الجماهیر الشعبیة.

وأخیرًا، أفسح توسیع حق الاقتراع دورًا سیاسیا مؤثرا للجماهیر داخل الإطار المؤسساتی للکثیر من الدول داخل الغرب وخارجه مؤذنة بمرحلة  یمکن إجمالها فی أنها عصر دخول الجماهیرإلى الحیاة السیاسیة، وصاحبها بروز نمط جدید من المثقفین وظیفتهم الأساسیة تنظیم الجماهیر ابتداءً من الناشطین الحزبیین، ووسیلتهم المنشور الحزبی، والعمل التنظیمی المباشر منذ منتصف القرن التاسع عشر، وانتهاءً بتقنیی وسائل الإعلام الجماهیری، ووسائل التواصل الاجتماعی فی زمننا الراهن[41].

 جعلت الحداثة من “الهیمنة” بمعنى الممارسة المستمرة للتمفصل فی سیاق نزاعی النمط الأکثر شیوعًا لممارسة السیاسة[42]، لأن إعادة إنتاج مساحات اجتماعیة واسعة ومتعددة بات بالضرورة یتم ضمن شروط متغیرة باستمرار،وتتطلب تجدیدًا مستمرًّا فی إنتاج الواقع الاجتماعی. فالمتمعن فی التجربة الأوروبیة منذمنتصف القرن التاسع عشر،وتجارب أخرى خارجها، سیلمس بروز سیاق جدید یتسم بعدم استقرار المساحات السیاسیة، والحاجة المستمرة للقوى المنخرطة فی الصراعات والنزاعات السیاسیة للتواؤم مع الشروط المتحولة للعمل السیاسی، وبالتالی الحاجة إلى إعادة تعریف مستمر لهویتها، حیث باتت عملیة الربط (التمفصل) بین انتماءات ومطالب سیاسیة واجتماعیة متفرقة من خلال خلق سلسلة تکافؤ بینها شرطًا مسبقًا فی بناء هویات جماعیة تتجاوز فی تعقیدات عملیة إنشائها مسألة إقامة تحالف ظرفی بین هویات ناجزة، حتى بات یمکن القول أنه لم یعد هناک فعل سیاسی جذری لا یستبطن مفهوم”الهیمنة”[43].

الخاتمة:

عرضت هذه الدراسة لمفهوم الهیمنة بدءًا من نشوئه فی الفکر الیونانی القدیم، ومرورًا بظهوره بمعنى مختلف فی خطاب الاشتراکیین الاجتماعیین الروس فی القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرین، ومن ثم إعادة صیاغته فی فکر أنتونیو غرامشی، ووصولًا إلى إعادة صیاغته وإنتاجه فی مدرسة التحلیل السیاسی ما بعد البنیوی فی وقتنا الحاضر، مفردة اهتمامًا خاصًّا للتطور الأخیر.  وعلى امتداد هذا المسار، تعرض المفهوم لأنماط شتى من التعدیل والتحویر والقلب، عملت الدراسة على توضیح أبعادها. وإذا کانت البدایات الأولى للمفهوم تعود تاریخیًّا إلى تیارات خارج التراث المارکسی، فإنه یستعمل الیوم من قبل مدارس فی التحلیل السیاسی قامت على أنقاض الخطاب المارکسی فیما یسمى “ما بعد المارکسیة” ترمی إلى تحریر النمط الهیمنی للسیاسة من القیود المیتافیزیقیة المتمثلة فی أفکار مثل قوانین التاریخ، والروافع الضروریة له مثل الطبقة الإجتماعیة، وتشدد بدلا من ذلک على الممارسة والفعل السیاسی عوضا عن القوانین التاریخیة والحتمیات السوسیولوجیة.

ومن المفید أن نستحضر أن مفهوم الهیمنة وإن ظهر فی بدایاته وکأنه إضافة متممة للأطروحات الأساسیة للنظریة المارکسیة، إلا أنه شهد تطورات وتحولات أصبح یحمل معها مقولات نظریة وتحلیلیة تتنافر، بل وتنقض الرکائز النظریة الأساسیة للخطابالمارکسی، ولعل واحدًا من الاستخلاصات المفیدة فی استیعاب تطور مفهوم الهیمنة وصولًا إلى صیغته الراهنة هو الکشف عن مواطن الضعف والهشاشة والتقادم فی التحلیل المارکسی برمته- التقلیدی منه والمحدث- بصورة تدفع النقاش حول انسداد أفق المدرسة المارکسیة فی التحلیل السیاسی، أو ما یسمى بـ”أزمة المارکسیة”  إلى آفاق أبعد من ربطها بسقوط الاتحاد السوفیاتی والکتلة الاشتراکیة. فالمتابعة النظریة لتطور مفهوم الهیمنة تکشف عن أن “نهایة المارکسیة” سبقت واقعة سقوط الکتلة الاشتراکیة،وأن مفهوم الهیمنة المتوسع بأثره التفکیکی کان بمثابة حصان طروادة لهذا الخطاب.

ونذهب أبعد من ذلک إلى القول أن مفهوم الهیمنة یرتسم فی وقتنا الحاضر عند المنافحین عن مرکزیته للتحلیل السیاسی باعتباره یمثل قطیعة مع أیة نظرة ماهویة للمجتمع والتاریخ، لذلک لم یکن مستغربًا أن یبرز مفهوم الهیمنة الیوم فی سیاق توجه المقاربات ما بعد الحداثیة المناهضة للجوهرانیةessentialism لیشکل مهمازًا رئیسًا فی توسیع نطاق اهتماماتها خارج نطاق النقد الأدبی والفلسفی والجمالی إلى مجال التحلیل السیاسی. ولم یعد مستغربًا أیضاأن ینظر بعض الباحثین المعاصرین إلى مفهوم الهیمنة باعتباره بات یشکل فتحًا جدیدًا فی التحلیل السیاسی المعاصر، وانطلاقة واعدة تتغذى من التطورات المفاهیمیة المتلاحقة فی مقاربات ما بعد الحداثة.

ولکن ینبغی الإشارة إلى أن هذا التوجه الواعد فی التحلیل السیاسی المعاصر،والذی قدم منظورات غیر جوهرانیة مهمة على صعید تحلیل الهویات السیاسیة کما فی دراسات مبتکرة لموضوعات فرضت نفسها على حقل التحلیل السیاسی فی العقود الأخیرة مثل صعود الیمین المتشدد فی أوروبا،وتوسع التوجهات القومیة المتشددة عقب انهیار المنظومة الاشتراکیة، وصعود الاتجاهات الشعبویة فی أمریکا اللاتینیةوانهیار نظام الفصل العنصری فی جنوب أفریقیاوغیرها من الدراسات[44]، لا یزال مفهومًا مفتوحًا على التطویر النظری، والحاجة إلى مزید من الدراسات التطبیقیة.ولتوضیح الأهمیة المنهجیة لهذه الصیاغة الجدیدة لمفهوم الهیمنة فی السیاق العربی نشیر-على سبیل المثال- إلى أن حرکات الإسلام السیاسی فی العالم العربی خضعت عادة للتفسیر الجوهرانی القائم على افتراضات غائیة لم یر فی تحولاتها سوى انکشاف وتطور حتمی لجوهر کامن فی أصل هذه الحرکات أو الجماعات السیاسیة[45]، فیما القراءة التفکیکیة للإسلام السیاسی المنبثقة من الصیاغة ما بعد البنیویة لمفهوم الهیمنة ستکشف أن توسع مهام ونشاطات هذه الحرکات فی حقول وفضاءات اجتماعیة مجاورة أو محاذیة لها تم بفعل سلسة متصاعدة من التمفصلات السیاسیة .

وکما یعرف الکثیرون اتخذ توسع نفوذ جماعات الإسلام السیاسی نمط الخروج من مرحلة الجماعة الدعویة المحصورة الاهتمامات بالنشاطات الوعظیة إلى القیام بأعمال خیریة واجتماعیة انسحبت منها الدولة بعد عملیة إعادة البناء النیولیبرالیة التی شهدها عدد من الدول العربیة خصوصا  فی العقود التالیة لسبعینیات القرن العشرین، وکان مما ترتب على ذلک إعادة توصیف عناوین هذه الحرکات، ومن ثم استحداث وصف “الإسلام السیاسی” عندما شرعت هذه الحرکات بتقدیم نفسها کبدیل سیاسی للوضع القائم بحکوماته ومعارضاته التقلیدیة. وکان من محصلة ذلک إعادة التفسیر لمعنى “الدعوة”  ذاته فی کل مرحلة من مراحل توسع نشاط هذه الجماعات، وإضفاء معان جدیدة علیه لم تکن موجودة فی مهاد قیام هذه الحرکات والجماعات، ولعل التحول الدراماتیکی الذی شهدته الجماعات السلفیة فی مصر فی الفترة المصاحبة واللاحقة لثورة ینایر 2011م یمثل مادة مواتیة للتدلیل على هذه المسألة.[46]

المراجع

 

مراجع الدراسة

المراجع العربیة

–       أبورمان، محمد.”حزب النور السلفی وجدلیة الأیدیولوجیا، المجلة العربیة للعلوم السیاسیة، العدد 46، 6 /2015.

–          إهرنبرغ، جون.المجتمع المدنی: التاریخ النقدی للفکرة، ترجمة علی حاکم صالح و حسن ناظم، (بیروت: مرکز دراسات الوحدة العربیة،2008).

–       الرویلی، میجان وسعد البازعی.دلیل الناقد الأدبی: إضاءة لأکثر من سبعین تیارًا ومصطلحًا نقدیًّا معاصرًا،ط3، ( الدار البیضاء وبیروت: المرکز الثقافی العربی، 2002).

–       النقیب، خلدون حسن.الدولة التسلطیة فی المشرق العربی المعاصر دراسةبنائیة مقارنة، ط2،(بیروت: مرکز دراسات الوحدة العربیة، 1996م).

–       ولد أباه، السید.التاریخ والحقیقة لدى میشیل فوکو، (بیروت: دار المنتخب العربی، 1994).

المراجع الأجنبیة

Anderson, P. (1976). The Antinomies of Antonio Gramsci. New Left Review, (100), pp.5-76. 

Arditi, B. (2007). Post-hegemony: Politics Outside the Usual Post-Marxist Paradigm. Contemporary Politics, 13(3), pp.205-226. 

Arendt, H. (1966). The Origins of Totalitarianism. New York: Harcourt, Brace & World. 

Ayubi, N. (1995). Over-stating the Arab State. London: I.B. Tauris. 

Bocock, R. (1986). Hegemony. Chichester [West Sussex]: E. Horwood. 

Bowman, P. (2007). Post-Marxism VersusCultural Studies. Edinburgh: Edinburgh Univ. Press. 

Critchley, S. and Marchart, O. (2004). Laclau. London: Routledge. 

Culler, J. (1985). Saussure. 5th ed. London: Fontana/Collins. 

Descombes, V. (1980). Modern French Philosophy. Cambridge [England]: Cambridge University Press. 

Foucault, M. and Rabinow, P. (1984). The Foucault Reader. New York: Pantheon Books. 

Foucault, M. and Sheridan, A. (2012). Discipline and Punish. New York: Vintage. 

Gramsci, A., Hoare, Q. and Nowell-Smith, G. (n.d.). Selections from the Prison Notebooks of Antonio Gramsci. 

Haugaard, M. and Lentner, H. (2006). Hegemony and Power. Lanham, MD: Lexington Books. 

Howarth, D. (2013). Poststructuralism and After. Basingstoke: Palgrave Macmillan. 

Kołakowski, L. (1992). Main Currents of Marxism. Oxford: Oxford University Press. 

Laclau, E. (1990). New Reflections on the Revolution of Our Time. London: Verso. 

Laclau, E. and Mouffe, C. (2001). Hegemony and Socialist Strategy. 2nd ed. London: Verso. 

Lash, S. and Urry, J. (2014). The End of Organized Capitalism. [Place of publication not identified]: Polity Press. 

Macpherson, C. (2011). The Real World of Democracy. New York: House of Anansi Press. 

Mitchell, R. (1969). The Society of the Muslim Brothers. London: Oxford University Press. 

Mouffe, C. (1979). Gramsci and Marxist Theory. London: Routledge & Kegan Paul. 

Norval, A. (1996). The Construction and Crisis of Apartheid Hegemony. New York: Verso. 

Nye, J. (2004). Soft Power. New York: Public Affairs. 

Said, E. (1979). Orientalism. New York: Vintage Books. 

Saussure, F. (1959). Course in General Linguistics. New York: Philosophical Library. 

Sharabi, H. (1992). Neopatriarchy. New York [u.a.]: Oxford Univ. Press. 

Smith, A. (2003). Laclau and Mouffe. London: Routledge. 

Torfing, J. (1999). New Theories of Discourse. Oxford, UK: Blackwell Publishers.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى