دراسات أمريكا الشمالية و اللاتينيةدراسات سياسية

الولايات المتحدة الأمريكية: تحديات رئاسة بايدن، ترميم التصدعات الداخلية والخارجية

حصل الرئيس، جوزيف بايدن، على كتلة انتخابية لم يحصل عليها رئيس أميركي سابق، لكن حجم الكتلة التي حصل عليها منافسه، دونالد ترامب، فاق الكتلة التي صوَّتت له في 2016، ما يجعله يواجه داخليًّا تحدي تجاوز هذا الانقسام الكبير بين الأميركيين، علاوة على تحدي استعادة مكانة الولايات المتحدة الدولية.

عُقدت الانتخابات الرئاسية الأميركية، إلى جانب انتخابات مجلس النواب وثلث مجلس الشيوخ، يوم الثلاثاء، 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2020. ولكن، لم تتضح النتيجة إلا يوم الجمعة، 6 نوفمبر/تشرين الثاني؛ حيث تبين بقدر كبير من الثقة أن المرشح الديمقراطي، جو بايدن، فاز بالرئاسة الأميركية، وأن الرئيس ترامب فشل في كسب دورة ثانية في البيت الأبيض. وفي اليوم التالي، السبت 7 نوفمبر/تشرين الثاني، أعلنت وسائل الإعلام الأميركية الكبرى عن حسم المعركة الانتخابية لصالح بايدن.

بالرغم من الأجواء التي فرضها انتشار وباء كوفيد 19 في الولايات المتحدة، بصورة خاصة، وفي العالم ككل، كانت هذه جولة انتخابية صاخبة، حادة، واستقطابية، راقبها العالم برمته، لأسباب مختلفة ومتباينة. ولكن هذا الترقب لم يكن له أن يُحسم في يوم الانتخابات التقليدي ذاته، الثلاثاء الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، كما جرت العادة في أغلب الجولات الانتخابية الرئاسية السابقة خلال العقود الأخيرة. وعندما جاءت النتائج لصالح بايدن، لم يسلك الرئيس ترامب سلوك رجال الدولة السابقين. رفض ترامب الإقرار بهزيمته وتهنئة منافسه، رئيسه ورئيس الولايات المتحدة المقبل، وطعن في نزاهة العملية الانتخابية، وبالتالي آلة الدولة الأميركية، وهدَّد باللجوء إلى القضاء لتحدي عملية حساب الأصوات في الولايات المتأرجحة، محرضًا أنصاره على التظاهر ومؤكدًا على أنه كان الفائز في الانتخابات.

في معظم أنحاء العالم الأخرى، لم يُخْفِ كثيرون من حلفاء أميركا وبعض خصومها سعادتهم بهزيمة ترامب، ونهاية حقبة السياسة القومية الشعبوية التي قادها، وعودة القيادة السياسية الأميركية إلى تقاليد الرئاسة التي اعتادها العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

كيف ولماذا فاز بايدن في الانتخابات الرئاسية، بالرغم من أنه خاض حملة، وصفها كثيرون بالمملة، لم تحمل للناخب الأميركي أية وعود لافتة للانتباه، لا على الصعيد الداخلي أو السياسة الخارجية؟ وما الذي يعنيه رفض ترامب وتردده في القبول بالنتائج، سواء من جهة فهم متغيرات الساحة السياسية الأميركية، أو هشاشة النظام الديمقراطي؟ وإلى أي حدٍّ يمكن توقع قيام بايدن بإحداث تغيير جوهري في مجمل السياسة الخارجية الأميركية، وتجاه الشرق الأوسط على وجه الخصوص؟

فوز بايدن: دعم غير مسبوق

دخل جوزيف بايدن، السيناتور السابق ونائب الرئيس أوباما طوال فترتي رئاسته، ساحة الانتخابات الرئاسية متأخرًا. ولكنه نجح في الفوز بالترشح عن الحزب الديمقراطي، في الانتخابات الأولية، نظرًا لدعم وتأييد مؤسسة الحزب التقليدية، وخشية الحزب من المرشح الأكثر قوة، اليساري بيرني ساندرز، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فيرمونت. على أن الحزب الديمقراطي، وبالرغم من المرارة التي شعر بها ساندرز وقوافل الشباب التي ساندت حملته، سرعان ما توحَّد حول مرشحه، آملًا في قدرته على التخلص من ترامب وإدارته، التي نُظر إليها بقدر كبير من الرفض في دوائر اليسار والليبرالية الأميركية، ليس الرفض السياسي التقليدي، وحسب، بل ورفض ما بدا وكأنه إهانة للأمة الأميركية وموقع الرئاسة على السواء.

كانت وحدة الحزب الديمقراطي أول عوامل القوة التي تمتعت بها حملة بايدن. لكن ثمة عدد من العوامل الأخرى التي ساعدت المرشح الديمقراطي على الفوز، بالرغم من تقدمه في السن وبرنامجه الانتخابي الباهت، والاتهامات من خصومه بتراجع قدراته الذهنية والجسمية. أحد هذه العوامل كان انحياز قطاع الشباب له، إما لأن ترامب بدا غير مقنع، بل ومثيرًا للشعور بالخجل، لهؤلاء، أو لأن الشباب الأميركي يميل عمومًا للجناح الليبرالي.

تمتع بايدن أيضًا بدعم كبير نسبيًّا من سكان ضواحي المدن الكبرى من أبناء الطبقة الوسطى، الذين عادة ما يصوِّتون للحزب الجمهوري. ويُعتبر هذا الانقلاب في توجهات الأميركيين التصويتية أحد أبرز متغيرات هذه الجولة الانتخابية. فلماذا وقع هذا التحول؟ ليس من الواضح بعد، ولكن الأرجح أنه يعود إلى فشل إدارة ترامب في التعامل مع وباء كوفيد 19، واستهتار الرئيس بحياة الأميركيين، إضافة إلى سجل الرئيس الأخلاقي، من تعمد الكذب، إلى اتهامات الفساد، وصولًا إلى توزيع المواقع والأدوار على أفراد عائلته. وربما لعبت النساء، اللواتي اتخذن موقفًا مناهضًا لترامب وسجله الأخلاقي، دورًا فعالًا في تحول اتجاهات سكان الضواحي.

بيد أن أهم الكتل التصويتية التي ساعدت بايدن كانت بالتأكيد كتل الأقليات غير البيضاء، بداية من الأفرو-أميركيين، والمسلمين، واليهود، والأميركيين من أصول لاتينية (ما عدا ذوي الأصول الكوبية والفنزويلية، الذين أعطوا أصواتهم بكثافة لترامب، وكانوا السبب الرئيس في تأمين فوزه بولاية فلوريدا، على وجه الخصوص). تعطي أغلبية اليهود الأميركيين أصواتها للحزب الديمقراطي تقليديًّا؛ وبالرغم من أن ترامب منح لإسرائيل ما لم يمنحه رئيس قبله، فلا يبدو أنه حصل على أكثر من ثلاثين بالمئة من أصوات اليهود. الجامع المشترك لموقف هذه الكتل التصويتية الملموسة هو نقمتها على سياسات إدارة ترامب العنصرية والمؤجِّجة للانقسام والتمييز ضد كافة الأقليات غير البيضاء.

في النهاية، على أية حال، حقق بايدن فوزًا مقدَّرًا، ولكنه لم يكن الفوز الساحق الذي انتظره الديمقراطيون وكارهو ترامب في أميركا والعالم. بحصوله على ما يزيد عن 74 مليون صوت على المستوى القومي، حقق بايدن أكبر دعم تصويتي في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية على الإطلاق، بفارق يزيد عن 4 ملايين صوت عن ترامب. وبالرغم من أن النتائج النهائية لم تعلن بعد، فيُعتقد أن بايدن سيفوز بأكثر من 300 صوت في المجمع الانتخابي، في حين كان يكفي حصوله على 270 صوتًا في المجمع للوصول إلى البيت الأبيض.

بيد أن هذا لا يعني أن انتصار بايدن سيقضي على الترامبية ويعيد توحيد المجتمع الأميركي.

الانقسام الأميركي: اتساع الهوة

بالرغم من هزيمته، بلغت الأصوات التي صبت لصالح ترامب، حتى صباح السبت، 7 نوفمبر/تشرين الثاني، أكثر بقليل من 70 مليونًا. وهذا العدد من الأصوات يفوق ما حققته السيدة كلينتون في 2016، التي كانت فازت بعدد الأصوات الأعلى على المستوى القومي، وخسرت الانتخابات لخسارتها في المجمع الانتخابي. بمعنى أن ترامب لم يفقد أية نسبة ملموسة من داعميه في انتخابات 2016، التي أوصلته للبيت الأبيض، بل زاد عليها. ولذا، فلابد أن يُعزى فوز بايدن إلى نجاحه في إقناع عدد أكبر من الأميركيين بالتصويت، أكثر من نجاحه في إقناع مؤيدي ترامب بالانفضاض عنه.

وهنا، يقع جوهر الانقسام الأميركي، الذي لا يبدو أن رئاسة بايدن ستكون كافية لمعالجته.

تعود جذور هذا الانقسام إلى متغيرات اقتصادية متسارعة عاشتها الولايات المتحدة منذ نهاية تسعينات القرن الماضي، وبالتأكيد منذ العقد الأول لهذا القرن. تمثلت هذه المتغيرات في التقدم الكبير الذي حققته وسائل إنتاج جديدة، دحرت الصناعات التقليدية إلى الخلف وعززت من قيمة وموقع شركات التقنية الحديثة في الساحة الاقتصادية. أفضى هذا المتغير الهائل إلى تراجع صناعات تقليدية، أو بحث الشركات المالكة لها عن مراكز إنتاج خارجية تتوافر فيها الأيدي العاملة الرخيصة وتكاليف الإنتاج الأرخص.

لم تلبث هذه المتغيرات أن عملت على توليد نخب جديدة، لا يبدو أنها تكترث كثيرًا بمصير الشرائح الخاسرة في المجتمع. وكان من الطبيعي أن يشعر الخاسرون بالتهميش، وأن مراكز القرار السياسي لا تأخذ مصالحهم في الاعتبار؛ وكان من السهل، في الوقت نفسه، إقناع هذه الشرائح بأن خسارتها تعود إلى قوى اقتصادية خارجية معادية، مثل الصين، أو إلى أنانية الأوروبيين، أو إلى موجات المهاجرين المتتابعة من أميركا اللاتينية والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا.

نجح ترامب في مخاطبة هذه الشرائح من الأميركيين، وليس الكتل المحافظة فقط، سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، التي تعطي صوتها عادة للحزب الجمهوري. توجه ترامب لهؤلاء بخطاب عنصري، قومي، انعزالي، في معظم الأوقات، ووعدهم بالدفاع عن حقوقهم واستعادة الرفاه الذي فقدوه. والمشكلة أن أغلبية شرائح الخاسرين هذه تصوِّت تقليديًّا للحزب الديمقراطي، وتمثل قطاعًا ملموسًا من الناخبين في الولايات الصناعية في شمال وشمال شرق الولايات المتحدة؛ وأن الديمقراطيين والجمهوريين كليهما، في المدى المنظور، لن يستطيعوا إنقاذهم من عجلة المتغيرات الاقتصادية الكبرى التي تعصف بالمجتمع الأميركي.

ولأن الانتخابات الأميركية تدور في العادة حول تحقيق الفوز في 10–12 ولاية متأرجحة، وحسب، نظرًا لأن توجهات معظم الولايات الأخرى معروفة ومستقرة؛ فقد انتهى مصير هذه الجولة إلى فوارق تصويت ضئيلة نسبيًّا في عدد صغير من الولايات، مثل: فلوريدا، وميتشيغان، وويسكنسون، وبنسلفانيا، وأريزونا، وأتلانتا، ونيفادا.

بهذا المعنى، كانت رئاسة ترامب نوعًا من الانقلاب ضد النخب الجديدة، ضد الطبقة السياسية التقليدية، وضد جهاز الدولة الأميركية، الذي يعتبر أن وظيفته الأولى الحفاظ على استمرارية العجلة الرأسمالية واستقرار المجتمع الأميركي. ولكن الرئيس لم يكن يتمتع بصلابة أخلاقية كافية، ولا حافظ على موقع الرئاسة باعتباره مؤسسة تمثل الشعب الأميركي برمته.

عُرف الرئيس ترامب منذ توليه مقاليد البيت الأبيض بالكذب والتعامل النسبي مع الحقيقة، فروَّج لخطاب عنصري، وأجَّج الصراع الإثني والثقافي داخل المجتمع الأميركي، ولم يكترث بالخبراء والعلماء، لا في كيفية إدارته لشؤون الحكم والدولة، ولا في تعامله مع وباء كوفيد 19.

قدَّم نفسه، وهو الذي يملك مليارات الدولارات، باعتباره ممثل مصالح الخاسرين في المجتمع الأميركي، والأمين عليها، والمنقلب على التقاليد السياسية، فتمكن من إحكام قبضته على الحزب الجمهوري، وعزَّز من انقسام المجتمع الأميركي، وربما دفع نحو ديمومة هذا الانقسام لفترة أخرى من الزمن، قد تطول. ولكن الاضطراب الذي صنعه في واشنطن وفي أركان المجتمع الأميركي، إضافة إلى هشاشته الأخلاقية، كانا القوة الدافعة خلف انتصار حملة بايدن الانتخابية، بالرغم من أن برنامجه لم يرتكز سوى إلى أحاديث عامة حول استعادة وحدة المجتمع، والاحترام لموقع الرئاسة، ومواجهة الوباء كما ينبغي.

ادعاء ترامب بأن الانتخابات سُرقت منه، ورفضه الإقرار بالهزيمة وتهنئة منافسه، كما هي تقاليد الحكم الأميركي، لم يفاقم من الانقسام الأميركي، وحسب، بل وأوحى بأن ليس في جعبة بايدن الكثير مما سيساعده على احتوائه. كيف سيتعامل بايدن مع هذا الانقسام، بخلاف التوكيد البلاغي على أنه سيكون رئيسًا لكل الأميركيين؟ كيف سيقنع عشرات الملايين من الخاسرين اقتصاديًّا بأنه سيعمل على إنقاذهم في ظل أعباء الوباء، أو على الأقل إقناعهم بأن ترامب كذب ويكذب عليهم؟ وكيف سيجعلهم أقل شعورًا بالتهميش؟ ليس من الواضح بعد، بل وليس من المتيقن أنه ممكن أصلًا.

ترميم الأحلاف والتصدي للخصوم التقليديين

ليس ثمة جدل كبير حول أولويات بايدن الداخلية، لا سيما والولايات المتحدة لم تزل تشهد تصاعدًا حثيثًا في معدلات الإصابة بكوفيد 19. ما ستعمل عليه إدارة بايدن بصورة عاجلة، داخليًّا، يتعلق بوضع استراتيجية للتعامل مع الوباء ومع آثاره الاقتصادية على قطاع متسع من أبناء الطبقتين، العاملة والوسطى. بخلاف ذلك، سيكون على بايدن محاولة إرضاء يسار الحزب الديمقراطي، الذي اصطف حوله وعمل له بصورة فعالة طوال الحملة الانتخابية، لا سيما فيما يتعلق بقضايا الصحة والعمل والتعليم، ووضع نهاية لمناخ التمييز العنصري، واستهداف الأفروأميركيين، والمسلمين، والأميركيين من أصول لاتينية.

ما ليس واضحًا تمامًا هو التغيير الذي سيُحدثه بايدن على صعيد السياسة الخارجية، لا سيما في ملفات الشرق الأوسط والعلاقات مع الصين وروسيا.

ليس ثمة شك في أن السياسات القومية والانعزالية لإدارة ترامب تسببت في فجوة واسعة في العلاقات الأميركية-الأوروبية، وحرب اقتصادية مع الصين، وتوتر في العلاقات مع كندا والمكسيك، اللتين أُجبرتا على التفاوض من جديد على الاتفاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة. في المقابل، تحدث بايدن طوال حملته الانتخابية بصورة عامة حول استعادة موقع أميركا واحترامها في العالم، وحول استعادة العلاقات التعاونية مع الحلفاء، والعودة إلى منظمة الصحة العالمية، وإعادة التزام واشنطن باتفاقية باريس حول المناخ، ومواجهة التوسع الروسي، الذي اتهم ترامب بالتغاضي عنه. كما تحدث الناطقون باسم حملته في الشأن الخارجي، مثل توني بلنكين، حول معارضة بايدن لسياسة مقاطعة إسرائيل؛ ولكن، أيضًا، حول الضرر الكبير الذي أوقعته سياسة ترامب بتجاهل الفلسطينيين في عملية السلام.

كيف ستتحول هذه التوجهات العامة إلى سياسات فعلية ملموسة؟ سيعتمد هذا إلى حدٍّ كبير على الشخصيات التي سيختارها الرئيس لمناصب مؤسسات الدفاع والأمن القومي والسياسة الخارجية، وحجم الدور الذي ستلعبه نائبة الرئيس، بالنظر إلى سنِّ بايدن المتقدمة، والمفاجآت الطارئة التي ستواجهها إدارة بايدن في عالم سريع التغير والتحول.

ما يمكن توقعه، وبقدر كبير من الحذر، أن إدارة بايدن ستعيد الدفء إلى العلاقة مع الحلفاء الأوروبيين، بينما ستكون أكثر صلابة في العلاقات مع حكومة بوريس جونسون في بريطانيا، نظرًا لأن بايدن، مثل أوباما، عُرف بمعارضته لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. كما ستكون إدارة بايدن أكثر صلابة في مواجهة روسيا، سواء في الساحة الأوروبية، أو الشرق الأوسط والبلقان. ولكن ليس من الواضح بعد كيف ستتعامل إدارة بايدن مع ملف العلاقات التجارية مع الصين، أو مع النزاع حول حقوق الصين في محيطها البحري.

لن تتخلى إدارة بايدن عن إسرائيل بأية صورة من الصور، ولكنها ستعمل بصورة ملموسة من أجل بقاء سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية على قيد الحياة. والمؤكد، أن موقف إدارة بايدن من ملفات المستوطنات الإسرائيلية وشرعيتها، وما يتعلق بذلك من سياسة الضم الإسرائيلية، ودعم الأونروا، ومستقبل التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ستحدد موقف إدارة بايدن من مجمل المسألة الفلسطينية.

والأرجح أن إدارة بايدن ستنسحب من سياسة الغطاء الكامل الذي وفرته إدارة ترامب للديكتاتوريات العربية، وربما تلجأ إلى مقاربة أكثر تشددًا في محاسبة أنظمة، مثل: مصر والسعودية والإمارات على انتهاكاتها لحقوق الإنسان. وربما سيكون بايدن أقل استعدادًا لتجاهل مأساة الحرب في اليمن، ولكن التوقعات بأن إدارة بايدن ستعمل على إطاحة هذه الأنظمة هي بالتأكيد مبالغ فيها. من جهة أخرى، ثمة غياب لأية مؤشرات على أن بايدن سيُحدث تغييرًا جوهريًّا في السياسة الأميركية تجاه سوريا. وحتى في إيران، التي كانت تنتظر هزيمة ترامب بفارغ الصبر، لا يبدو أن بايدن سيعود إلى الاتفاقية النووية بدون مفاوضات مسبقة على تعديلاتٍ ما فيها؛ ولا يبدو أنه سيسارع إلى رفع العقوبات عن إيران قبل التوصل إلى اتفاقية جديدة.

المسألة الأكثر غموضًا تتعلق بلا شك بموقف بايدن من تركيا. فقد كان سبق أن سُرِّب شريط صوتي لمقابلة أجراها نهاية العام الماضي، 2019، مع محررين من نيويورك تايمز، هاجم خلالها إدارة أردوغان في تركيا، ووعد بالعمل على تغييرها. وبالرغم من أن شكوكًا أحاطت بطبيعة حديث سياسي أميركي تقليدي مع صحفيين ليبراليين، وما إن كان بايدن يعني بالفعل ما يقول، فمن المؤكد أن بايدن يحمل تصورات حول مستقبل الشرق الأوسط مثيرة لقلق كثيرين في المنطقة، بما في ذلك تركيا. يؤمن بايدن، مثلًا، بأن الفيدرالية الحل الأفضل لقضايا صراع القوميات والطوائف في الشرق الأوسط، ويحمل تعاطفًا معروفًا مع المسألة الكردية. ولكن بايدن الرئيس قد لا يتطابق بالضرورة مع بايدن السيناتور أو الشخصية السياسية العامة؛ ما يجعل موقفه من الملف الكردي ومن العلاقات مع تركيا، القوة الرئيسة في معادلة التوازن مع روسيا في الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز، مفتوحًا على الاحتمالات.

تركة ترامب الثقيلة

الأرجح، في ضوء النتائج المتتابعة لتوجهات الناخبين في الولايات المتأرجحة، أن طريق بايدن للبيت الأبيض لن تشوبه أية عقبات جوهرية. ثمة اعتراضات قانونية على النتائج سترفعها مجموعة ترامب أمام المحاكم، وتوجه لدى بعض الولايات لإعادة فرز الأصوات، ولكن هذه كلها لا يُتوقع أن تحدث تغييرًا جوهريًا في النتائج المعلنة حتى مساء السبت 7 نوفمبر/تشرين الثاني. ربما لم يقم ترامب بالاعتراف بهزيمته والترحيب بالرئيس الجديد، كما هي تقاليد السياسة الأميركية، وقد لا تتعاون إدارته كما يجب مع فريق بايدن لتحقيق انتقال سلس للسلطة، ولكن بايدن، سيحتل، ما لم يحدث أمر استثنائي، موقعه رئيسًا للولايات المتحدة في يناير/كانون الثاني المقبل.

بيد أن تولي بايدن سلطاته الرئاسية لن يضع نهاية للترامبية، لأن وجود الأخيرة السياسي يرتبط بصورة وثيقة بانقسام الشعب الأميركي، الذي يبدو أنه سيستمر لبعض الزمن. وربما سيعود ترامب خلال السنوات الأربع المقبلة شبحًا ثقيل الظل، يلاحق إدارة بايدن في كل صغيرة أو كبيرة من السياسات.

وسيكون على بايدن، إضافة إلى ذلك، أن يحافظ على وحدة الحزب الديمقراطي، أحد عناصر قوة حملته الرئيسة، لا سيما التفاف يسار الحزب حول إدارته، كما عمل كوادره ونَشِطوه من أجل فوزه طوال الحملة الانتخابية. ويتطلب هذا استعدادًا أكبر لمنح يسار الحزب دورًا ملموسًا في الإدارة المقبلة، سواء على مستوى فريق الإدارة أو سياساتها الداخلية، وعدد من السياسات الخارجية.

على مستوى السياسة الخارجية، لن يكون صعبًا على بايدن استعادة وشائج التحالف مع أوروبا؛ ولكن مواجهة روسيا ستكون أصعب وأكثر تعقيدًا بكثير. في الشرق الأوسط، ينبغي ملاحظة ما إن كان بايدن على استعداد لاتباع سياسة تشجِّع على الاستقرار وتستند إلى أسس من العدالة والنزاهة، لا سيما وهو القادم من أحضان مؤسسة الحكم الأميركية وعُرف خلال عقود من عمله في واشنطن، في مناسبات عدة، بمساندة سياسات إمبريالية تفتقد إلى السند القانوني، مثل الحرب على العراق.

في المجمل، على أية حال، وبالنسبة لأولئك الذي رأوا سنوات ترامب الأربعة باعتبارها حقبة مظلمة في تاريخ أميركا والعالم، يبدو انتصار بايدن حدثًا إيجابيًّا مَهْما كانت الشكوك المحيطة بطبيعة سياساته الداخلية والخارجية.

مركز الجزيرة للدراسات

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى