بعد حصول معظم الأقطار العربية على استقلالها السياسي في النصف الثاني من القرن العشرين، سارعت النخب السياسية المشكلة فيها حديثا، بتأسيس الدول الوطنية على الطريقة الأوربية، فأوكلت لها مهمة التنمية والتحديث، ورفعت نخب هذه المرحلة شعارات التقدم والتطور والنهضة، رغم تباين مرجعياتها الفكرية ومنطلقاتها الأيديولوجية، فأنشأت الكليات والمعاهد والجامعات كمؤسسات معرفية لتساهم في التنوير ونشر القيم المدنية المعاصرة وإعداد اليد العاملة المؤهلة وإطارات المستقبل، وكان الأمل فيها كبيرا، لأن معظم المفكرين العرب أرجعوا تخلف المجتمعات العربية إلى المجال التربوي والعلمي، فقامت بزرع أكاديمي للعلوم الاجتماعية في مختلف الجامعات، أين تولى في البداية التأسيسية لها المستعمر بتدريسها وبلغته (فرنسية، انجليزية)، وبعد تخرج النخب العربية قامت هي بدلا عنه في المرحلة الثانية،
وترجمت العديد من كتب وإسهامات الرواد الأوائل لهذه العلوم، وكان دافعهم الأساسي في ذلك، أن تساهم هذه العلوم التي تعنى بالسلوك الإنساني، في حل معضلة التخلف والانحطاط التي يعاني منها الأمة الإسلامية، فازدهرت أكاديميا وفعلت المشهد الثقافي نسبيا، لكن طبيعة النظم السياسية خاصة العسكرية منها التي حكمت الدول العربية الفاعلة كمصر، الجزائر، العراق، سوريا، السودان،حدت من حرية المشتغلين بها، وضيقت على البحوث والدراسات الاجتماعية ماعدا ما يخدم توجهاتها كالماركسية في طابعا الاشتراكي، فأصبحت مهمتها كعلم الاجتماع أنموذجا، الدعاية والتعبئة الشعبية، وأيديولوجيا مواجهة المعارضة السياسية وعلى رأسها الإسلاميين، والدفاع عن خيارات الزمر الحاكمة، فبدأ يخفت صوتها ويتراجع خطابها المعرفي الذي كان يغلب عليه النقد اللاذع للأوضاع القائمة، واستمرت في ترهلها إلى غاية تاريخ سقوط الاتحاد السوفياتي في تسعينات القرن الماضي، أين تبنت معظم الدول العربية الخيار اللبرالي في الاقتصاد، واستهدف أمنها القومي بتوجيه ضربة عسكرية للعراق، والتطبيع العربي مع إسرائيل وفق تسوية سلمية للقضية الفلسطينية، وبرز فاعلون جدد في الساحة السياسية على رأسهم الحركات الإسلامية بشقيها الراديكالي الذي واجه الحكومات المحلية أو السلمي الذي اندمج في العمل الحزبي، وازدهرت في المقابل حركة علمية تدعو إلى أسلمة المعرفة وعلى رأسها أسلمة العلوم الاجتماعية، من خلال جهود فردية أو مؤسساتية كالمعهد العالمي للفكر الإسلامي، أو في شكل عقد مؤتمرات وندوات تسعى لعملية التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، لتمكين من عملية التجديد الحضاري، تحت دعوى الكشف عن المضامين الإلحادية والعلمانية لهذا العلوم، و الكشف عن عجزها عن دراسة المشكلات التي تعاني منها الأمة الإسلامية، فبدأ الستار يرفع عن العلوم الاجتماعية في الوطن العربي، أين دخلت في أزمة حقيقية، جزء منها صدر له من الحقل المعرفي الغربي (الانتقادات الفلسفية لمشروع الحداثة الغربية: هبرماس، ألتوسير، فوكو،.. بالتركيز على الجوانب الأخلاقية في المعرفة ومحدودية العقل الأداتي)، وفق معادلة التبعية المعرفية، والجزء الآخر: الأول على المستوى العملي التطبيقي فبعد مهمة الدعاية التي كانت تقوم بها، لم تعد الطبقات الأوليجاركية الحاكمة في العالم العربي وفي زمن العولمة الصهيو -أمريكية، بحاجة لمن يدافع عن خياراتها أويبرر مواقفها، أما على المستوى المعرفي: فباعتبار العلوم الاجتماعية الغربية التي انبثقت عن الفلسفة التنوير كعلوم تبحث في السلوك الإنساني وتدرس الظواهر الاجتماعية معتمدة على المداخل المنهجية الوضعية التي تدعو لتحلي بالموضوعية التامة بالتجرد من الأهواء والأفكار المسبقة(الدين المسيحي)عند إجراء البحوث الاجتماعية كنظيرتها في العلوم الطبيعية، وباعتبارها أحد الأشكال التعبيرية للحداثة الغربية، التي ظهرت مع الرأسمالية كنظام اقتصادي، وكنمط معرفي وقيمي مرتبط بها، ما إن نقلت إلى العالم العربي ذو الخصوصية الثقافية والحضارية المختلفة جذريا عن العالم الغربي لم تؤتي أكلها المعرفي، بل أدت إلى تكوين نخب تعاني من ازدواجية ثقافية(علمانية، إيمانية)، تصارع ذاتها أكثر من العمل على التحكم في موضوع بحثها هذا من جهة، ومن سلم بيقينية مناهجها الوضعية من جهة أخرى، فأصبحت كأدوات معرفية تستنطق الواقع الاجتماعي، لتعيد رسمه في مخيلة مفكريها، أو تنتج استشراقا امبريقيا مفضوحا؟ لذلك ألا يعبر واقع هذه العلوم عن أزمة معرفية ذات أبعاد مترابطة ومتداخلة، فالممارسة الأكاديمية ظلت تخونها في كل مرة (ظاهرة العنف السياسي في الجزائر)، والتساؤل المطروح: هل الأزمة أزمة منهج ذو بعد قيمي أخلاقي لهذه العلوم، أم أزمة عقل عربي مترهل منذ قرون لم يستطع استيعابها؟ أم هي أزمة تنظير لواقع مفترض، ستشكله التنمية في يوما ما؟ ألا تحتاج هذا العلوم إن كانت علوما بالمعنى المعرفي إلى إعادة النظر والى قراءة متأنية لمضامينها الأيديولوجية، وقواعدها الابستمولوجية التي تنطلق منها، وعن وظيفتها ودورها في هذه اللحظة الزمنية الحرجة التي تمر بها أمتنا العربية والإسلامية، وإعادة ربطها بموروثنا الحضاري (مقدمة بن خلدون). لذلك جاءت هذه الدراسة: لمحاولة الوقوف على أسباب أزمة العلوم الاجتماعية في العالم العربي؟ والفرضيات التفسيرية التي قدمها الفكر العربي المعاصر لهذه الأزمة؟ وكيفية حلها من خلال تأصيل للعلوم الاجتماعية من وجهة نظر وضعية علموية باعتبار المعرفة الاجتماعية المعاصرة معرفة عالمية وليست مقتصرة على الغرب، وبالإمكان الإسهام في هذه العلوم بإدخال المتغير المحلي في نظريات العلوم الاجتماعية؟ أو من وجهة نظر التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، من خلال إبراز الرؤية العقائدية التوحيدية الإسلامية في المعرفة الاجتماعية، انطلاقا من التصور الإسلامي للإنسان والكون والحياة، وطبيعة النظام الاجتماعي الإسلامي المراد تشكيله لتحقيق التوحيد والاستخلاف والشهود الحضاري في الأرض؟ وعن الدور الذي ستضطلع به العلوم الاجتماعية في عملية بناء للمشروع الحضاري للأمة الإسلامية؟