تباين تأثير شخصيتَي بوتين وزيلينسكي في إدارة الحرب الأوكرانية

أحمد عدلي - إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

تكشف شخصيتا الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال الحرب الدائرة بين بلديهما، عن تباين واضح في تأثير الشخصيتَين على مسار الأحداث. وفي الأوقات العصيبة كالحروب التي يظهر فيها بجلاء أهمية عامل القيادة، فإن من الضروري تسليط الضوء على الطريقة التي يفكر بها بوتين وزيلينسكي؛ إذ كشفت الحرب الدائرة بين موسكو وكييف على الجغرافيا الأوكرانية مدى اختلاف شخصيتَي الرئيسَين إلى درجة قد تصل إلى حد التناقض.

براجماتية بوتين

وعلى اعتبار أن الجانب الروسي هو من بدأ الحرب، فإنه يبدو من خلال مراجعة الخلفية التاريخية لبوتين وطريقه تعامله مع الأزمة الأوكرانية منذ بدايتها، أن الرئيس الروسي يدير هذه الأزمة وفق ما يأتي:

1– توظيف الغموض لفرض الخوف على الخصوم: يُعرَف عن الرئيس بوتين، حتى قبل بدء الأزمة الأوكرانية، أنه شخصية غامضة لأبعد حد ممكن. ويُفسِّر الكثيرون هذا الأمر من خلال البداية العملية لبوتين؛ حيث عمل في المخابرات السوفييتية “كي جي بي” عميلاً لديها في ألمانيا الشرقية سابقاً، خلال الفترة من 1975 حتى عام 1991.

وتساعد الخلفية الاستخباراتية للرئيس الروسي، في فهم طريقة تعامله مع الأزمة الروسية؛ حيث يتعمد بوتين فرض طابع الغموض على خطواته؛ لفرض الخوف على خصومه. وعلى سبيل المثال، فرض بوتين حالة من الغموض بشأن الدخول في حرب ضد أوكرانيا حتى اللحظة الأخيرة، كما لا يستطيع أحد أن يتكهن، بسهولة، بالخطوات المقبلة لبوتين في ظل إدارته للحرب.

2– التعامل بمركزية شديدة في كل ما يتعلق بالأزمة: عبَّرت طريقة إدارة الرئيس بوتين للأزمة الأوكرانية عن مركزية شديدة لديه في عملية صنع القرار بوجه عام، وفي هذا الملف على وجه التحديد، على اعتبار أنه يمثل أكبر تحدٍّ روسي للغرب منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991. وقد ظهر هذا الأمر في مواقف عديدة؛ لعل أبرزها طريقة تعامل الرئيس الروسي مع رئيس جهاز المخابرات الروسية الخارجية سيرجي ناريشكين يوم 22 فبراير الماضي.

إذ وضع بوتين ناريشكين في موقف محرج للغاية، أثناء حديثه في اجتماع لمجلس الأمن القومي الروسي، عندما باغته بوتين بتساؤل حول مدى دعمه لقرار الاعتراف باستقلال منطقتي دونيتسك ولوهانسك في أوكرانيا. وقد عبَّر هذا الموقف، على وجه التحديد، عن مدى مركزية صنع القرار في روسيا، وحرص بوتين على توجيه رسائل مبكرة إلى النخبة مضمونها عدم معارضة قرار الحرب اللاحق ضد أوكرانيا.

3– وضع الخصوم في موقف رد الفعل باستمرار: تكشف طريقة إدارة الرئيس بوتين للحرب مع أوكرانيا عن حرصه على وضع خصومه في موقف رد الفعل باستمرار، والسعي إلى أخذ زمام المبادرة، وعدم التعويل على المواقف الدفاعية التي بات بوتين يؤمن بأنها تعبر عن الاستكانة والضعف؛ حيث يمكن وصف جميع الخطوات التي قام بها الغرب تجاه الأزمة الأوكرانية منذ بدايتها على أنها مواقف دفاعية ومتحفظة لأبعد مدى.

وفي ضوء أن بوتين يعتبر أكثر مَن حكم روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي؛ حيث تولى الرئاسة بين عامي 2000 و2008، ثم منذ 2012 حتى الآن، وهي فترة كبيرة لم تقم روسيا خلالها بحروب خارجية واسعة على غرار حرب أوكرانيا الجارية؛ فقد اعتقد الكثيرون أن شخصية بوتين دفاعية. وترسخت هذه القناعة بناءً على أن أول وثيقة للأمن القومي الروسي صدرت في عهد بوتين في عام 2000 عبرت عن نهج دفاعي روسي في مواجهة حلف الناتو.

4– التحرك بقوة لإعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي: يؤمن الرئيس الروسي بأن الحرب التي أطلقها في أوكرانيا تعد أهم خطوة تتخذها بلاده لإعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي، الذي يرى بوتين أنه تعرض لإهانة تاريخية على يد الغرب، وأن ما جرى منذ نحو ثلاثة عقود لا يتناسب مع المكانة الدولية التي يجب أن تكون عليها روسيا. ويظهر هذا الأمر في خطابات بوتين التي يستدعي خلالها، بقدر ملحوظ، التاريخ للتعبير عن أمجاد بلاده. ويحاول بوتين توظيف كل شيء في سبيل تحقيق ذلك، حتى أبسط الأشياء، مثل صوره الشخصية التي تعكس لياقته البدنية، والتي يحاول من خلالها تصدير صورة إلى الغرب مفادها أن بلاده قوية للغاية.

وبالقياس على حالة أوكرانيا التي تعد ثاني أكبر دولة في أوروبا، سيُلاحَظ أن خطاب بوتين بشأن إعلان العملية العسكرية في روسيا كان خطاباً استدعى خلاله الرئيس الروسي مدى الظلم الذي تعرضت بلاده له من قبل الغرب والناتو. وكشف هذا الخطاب عن أن بوتين يؤمن بأن أوكرانيا دولة مصطنعة، وأنها جزء لا يتجزأ من تاريخ وثقافة وفضاء بلاده المعنوي. ومن اللافت أن الأزمة الحالية كشفت عن الطبيعة العنيدة لشخصية بوتين؛ حيث يصر على مواصلة ما بدأه في أوكرانيا رغم العقوبات الغربية غير المسبوقة على بلاده.

عاطفية زيلينسكي

ثمة سبب رئيسي لقيام روسيا بعملياتها العسكرية في أوكرانيا، وهو قلق موسكو من شخصية الرئيس زيلينسكي التي تميل إلى الغرب، وهو الأمر الذي يستدعي قراءة طريقة تفكير زيلينسكي وتعامله مع الأزمة الحالية؛ وذلك عبر ما يأتي:

1– التركيز على التأثيرين العاطفي والنفسي لجذب الدعم: يبدو من خلال متابعة مواقف الرئيس الأوكراني منذ بدء العمليات العسكرية الروسية حتى الآن؛ أنه يركز على إحداث تأثير عاطفي ونفسي على الداخل والخارج؛ بهدف تصدير صورة مفادها أن بلاده ضحية لروسيا. وعلى سبيل المثال، ركز زيلينسكي في الأيام الأولى من العمليات العسكرية الروسية على مخاطبة مواطني دول الغرب لتنظيم احتجاجات لدفع حكومات بلادهم على التحرك لدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا.

كما حاول زيلينسكي في بدايات الحرب، إحراج دول الغرب، والتأكيد بأسلوب صريح أو مبطن أن الغرب ورط بلاده في مواجهة روسيا، وأن الغرب تخلى عن كييف. ويبدو أن استراتيجية زيلينسكي نجحت بدرجة كبيرة، بدليل أن دول الغرب، بل العديد من دول العالم، قدمت مساعدات عسكرية كبيرة لأوكرانيا، كما فرضت عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على روسيا، وطالت هذه العقوبات بعض حلفاء روسيا، مثل بيلاروسيا. ويتمثل أحد الأسباب الرئيسية وراء نجاح استراتيجيته في أنه كان ممثلاً كوميدياً قبل توليه الرئاسة؛ ما يعني أنه يجيد التأثير واللعب على الوتر العاطفي والنفسي جيدًا.

2– تصدير صورة القائد العسكري الصامد في الميدان: يحرص الرئيس زيلينسكي منذ بداية الحرب، على إظهار نفسه للداخل والخارج في صورة القائد العسكري الصامد في ميدان المعركة. وهو ما يحاول زيلينسكي من خلاله أن يجسد أنه خادم لشعبه بشكل حقيقي، وأن شعار حزبه “خادم الشعب” ليس أجوف، وأن الصورة التي رسمها المسلسل التلفزيوني الذي حمل اسم “خادم الشعب” كذلك عن زيلينسكي حينما كان ممثلاً، حقيقية.

يُذكر أن زيلينسكي يحرص منذ بداية الحرب على ارتداء الزي العسكري؛ لإظهار أنه يتقدم الصفوف في مقاتلة القوات الروسية، على أمل أن يرفع ذلك من معنويات جيشه ومواطنيه في مواجهة الهجوم، فضلاً عن إغراء المقاتلين الأجانب بالانخراط في الحرب ضد روسيا. ومن الملاحظ أن زيلينسكي نجح بدرجة كبيرة في تصدير هذه الصورة للداخل والخارج. ولعل أبسط دليل على ذلك تهافت وسائل الإعلام في العديد من دول العالم للحصول على حقوق بث مسلسل “خادم الشعب”، في مؤشر على الإعجاب بشخصية زيلينسكي.

3– تبني مواقف تعكس بوضوح خبرة سياسية محدودة: عكست بعض الخطوات التي أقدم عليها زيلينسكي الخبرة السياسية المحدودة لديه، وتحديداً في مسألة التوصل إلى حل سياسي مع موسكو بشكل يُنهي الأزمة. ويمتلك الرئيس الأوكراني قناعة بأن الحل الأسلم لبلاده لتجنب المزيد من الخسائر والانهيار، هو الوصول إلى صيغة سياسية مقبولة للطرفين تُنهي الأزمة، وقد شرع زيلينسكي في ذلك فعليّاً على غرار دعمه جولات التفاوض بين موسكو وكييف.

وعلى الرغم من ذلك، سخر الرئيس الأوكراني من نظيره الروسي أكثر من مرة في معرض طرحه مبادراته السياسية، وهو خطأ لا شك أن بوتين لن يغفره له بسهولة، بالنظر إلى التكوين النفسي والشخصي المعروف عنه. ومن الأمثلة الدالة على ذلك، سخرية زيلينسكي من المائدة الطويلة التي استخدمها بوتين في اجتماعاته مؤخراً مع قادة أجانب ومسؤولين روس، حينما قال: “اجلس معي للتفاوض، لكن ليس على بُعد 30 متراً. أنا لا أعض. ما الذي تخشاه؟!”.

4– محاولة توسيع نطاق الخوف من الهجوم الروسي: يحرص الرئيس الأوكراني على توسيع نطاق الخوف في أوروبا ودول الغرب من الهجوم الروسي على بلاده؛ حيث يحاول باستمرار تأكيد أن أوكرانيا مجرد محطة من المحطات التي تنوي روسيا تخريبها، على حد رؤيته. وقد سعى الرئيس الأوكراني إلى توظيف الحريق الذي نشب بالقرب من محطة زابوريجيا للطاقة النووية في هذا الإطار؛ حيث وجه اتهامات إلى روسيا بتعريض سلامة أوروبا بأكملها للخطر.

وقد ظهر ذلك جلياً أيضاً حينما طالب زيلينسكي ذو الأصول اليهودية، اليهود في مختلف أنحاء العالم بدعم أوكرانيا، ودعاهم إلى رفع الصوت احتجاجاً على ما يجري ضد الأوكرانيين، رغم أن هذه الخطوة أُخذت عليه، على اعتبار أن أغلبية شعبه من أتباع الديانة المسيحية. ويظهر هذا الأمر كذلك من خلال فتح زيلينسكي باب التطوع لمئات الآلاف من اليمين المتطرف في أوروبا والعالم للانضمام إلى جيش بدأ يؤسسه لمقاتلة القوات الروسية.

نموذجان مختلفان

وختاماً، تُظهر شخصيتا بوتين وزيلينسكي نموذجين للقيادة مختلفين بوضوح؛ ففي حين أن طريقة تفكير الرئيس الروسي وتعامله مع الأزمة الحالية تعبر عن أنه شخص براجماتي له مشروع وطموح واضح، ويتمتع بشخصية غامضة، ومن غير السهل على خصومه توقع خطواته المقبلة؛ فإن نمط تفاعل الرئيس الأوكراني مع الأزمة يكشف عن أنه شخصية تبدو حالمة ومثالية بصورة قد لا تتوافق مع ضوابط وشروط العمل السياسي.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button