أخبار ومعلومات

ثلاثة (3) قيم تصنع قوة مجتمع ميزاب

يمثل بنو مزاب في الجزائر حالة فريدة تجمع بين متناقضات عديدة، المزابي يعتز بأصوله الأمازيغية ويتقن العربية، يقدس العمل بل ويفني حياته في العمل وهو شديد الالتزام بواجباته الاجتماعية، متدين بشدة ومتفتح دائما على العالم، فهل هذا تناقض أم تصالح؟ 

 لا يمكن فصل تاريخ بني ميزاب عن تاريخ الجزائر، هذا المكون من المجتمع الجزائري جسد حقيقة النضال من أجل التميز ومعركة بقاء الفكرة والمذهب، ففي زمن كانت فيه الدول لا تعترف بحق الناس في التميز، اختارت فئة قليلة من الأمازيغ التمسك بفكرتها وفهمها للدين الإسلامي وفقا لعقيدة المعتزلة.

لماذا غرداية؟ 

 مصادر تاريخية تؤكد أن المعتزلة كانوا أول من أقام في ما يسمى بلاد الشبكة أو قصور وادي ميزاب، ثم اعتنقت هذه المجموعة المذهب الإباضي على يد دعاة لهذا المذهب، حوالي القرن الثالث الهجري، حسب بعض الروايات التاريخية.

ويقول المؤرخ بسوم الشيخ حسان، صاحب مخطوط الميّسر في تاريخ إفريقيا المتوفى في 1870 في القيروان والمترجم إلى اللغات الفرنسية والإنجليزية: “بلاد ميزاب صحراء تتوسط صحراء المغرب الأوسط، وكانت قبل قرون مأوى للضواري والسباع قبل أن يسكنها البشر، وهي صحراء صخرية جرداء، شبيهة إلى حد كبير بأودية مكة في الحجاز، ولم يعرف من قبل أنها سكنت من غير بني مصعب ـ إسم يطلق على بني مزاب ـ لجأ معتنقو الاعتزال إلى هذه البلاد المقفرة فرارا من الدولة الأموية في القرن الأول الهجري، ثم اعتنقوا الإباضية على يد الإمام أبي عبد الله الفرسطائي النفوسي”.

وتشير أغلب المصادر، سواء كتابات المؤرخين من وادي ميزاب أو من خارجه، إلى أن منطقة وادي ميزاب أو بلاد الشبكة بحكم أنها منطقة شبه جبلية تقع في شمال الصحراء الكبرى، تشبه إلى حد كبير الشبكة، سكنها المعتزلة من أبناء قبيلة زناتة الأمازيغية قبل نحو 11 قرنا، ثم تحول المعتزلة إلى المذهب الإباضي بعد سقوط الدولة الرستمية في تيهرت.

وأقاموا قرى سميت بالقصور، كما أقاموا واحات في المنطقة، ولم تكن الإقامة في البداية في صحراء صخرية جرداء تماما بالأمر السهل، لكن الذين قرروا الإقامة هنا فضلوا البقاء في هذا المكان، حفاظا على هويتهم وانتمائهم المذهبي.

وتؤكد أغلب المصادر التاريخية أن الواحة الموجودة حاليا في سهل وادي ميزاب، هي الواحة الوحيدة في الصحراء الكبرى التي تمت زراعتها بسواعد أبناء المنطقة. بمعنى آخر، فإن واحات غرداية ظهرت نتيجة عملية استصلاح لأرض كانت في البداية جرداء لا تصلح سوى للرعي، وكان هذا نضالا شديد القسوة ضد الطبيعة تم تحت ضغط الحاجة للبقاء على الفكرة والمذهب.

تجار بني ميزاب

يعتقد كثير من الجزائريين أن بني ميزاب مجموعة من التجار الأغنياء الذين ورثوا المال أبا عن جد، وتخفي هذه الصورة النمطية خلفها قصة نضال طويل امتد قرونا من الزمن، يقول الدكتور صناو عبد المجيد الباحث في التاريخ: “تقول المصادر التاريخية أن الميزابيين الأوائل الذين تنقلوا من غرداية وقراها إلى مدن الشمال العاصمة خاصة قسنطينة سطيف ووهران، جاءوا من غرداية وعملوا عقودا من الزمن في أعمال بسيطة جدا كحرفيين أو حتى عمال بسطاء، وطيلة عقود من الزمن تمكنوا من جمع المال الذي سمح لهم بمباشرة التجارة”.

وأضاف “هذه الرواية التاريخية الأولى تقابلها رواية ثانية تقول أن الميزابيين القدامى تمكنوا في القرن الثالث عشر الميلادي من تغيير مسار قوافل التجارة بين إفريقيا ومدن الشمال الساحلية في المغرب الكبير. فإلى غاية القرن الثالث عشر كانت قوافل التجارة الضخمة تمر عبر منطقة واد ريغ، لكن مسارها تغير فباتت تمر عبر غرداية التي ازدهرت في القرن الرابع عشر والخامس والسادس عشر كمركز تجاري للقوافل”.

ولعل الرواية هذه هي الأقرب، لأن بني مزاب عملوا اعتبارا من القرن الرابع عشر الميلادي في التجارة وبعض الحرف في المدن الكبرى، ويفسر مؤرخو المنطقة بأن الموارد الاقتصادية في قصور ميزاب وواحاتها بعد 3 قرون من التأسيس، لم تعد تكفي العدد المتزايد من السكان، ولهذا انتقل بنو ميزاب للتجارة.

التميز والتنوع

من بين الصور النمطية الخاطئة حول بني ميزاب هو أنهم مجتمع مغلق على نفسه، ويقول هنا السيد باحماني ياسر باحث في تاريخ المنطقة “يساء تفسير الوفاء للمذهب الإباضي الذي بنيت عليه المؤسسات التقليدية في وادي ميزاب، من قبل البعض، والحقيقة هي أن سكان قصور وادي ميزاب كانوا من أكثر الجزائريين انفتاحا على الآخرين بل وتسامحا معهم”.

وأضاف “ففي مرحلة من تاريخ المنطقة وفد اليهود إلى غرداية وأقاموا في جزء من قصر غرداية، بل أن غرداية حتى قبل الاحتلال الفرنسي كانت تعج بالأجانب عن المنطقة من إفريقيا وحتى رحالة أوروبيين كتبوا عن المنطقة، وربما لأن الميزابيين يؤمنون بحقهم في الخصوصية، كان الميزابي يدافع عن تميزه ويؤمن تماما بالتنوع ويقبل الجميع”.

المبادئ الثلاثة الخالدة

السؤال الهام لدى الكثيرين، سواء في الجزائر وخارجها، هو كيف حافظ سكان ميزاب على نمط الحياة التقليدي طيلة 10 قرون من الزمن، وحتى مع التغييرات الاجتماعية الجذرية التي يعيشها العالم، حافظت غرداية على تقاليد يعود تاريخها إلى 1000 سنة.

يقول الباحث في تاريخ المنطقة بوسحابة محمود “حافظت منطقة غرداية على تقاليدها القديمة معتمدة على مبادئ ثلاثة ثابتة لم تتغير طيلة القرون الماضية، واعتقد أن الناس في هذه الجهة من الوطن سيواصلون الالتزام بهذه القواعد، وهي “الالتزام الديني، تكريم المرأة، الوفاء للهيئات العرفية”.

“والفكرة في هذه المبادئ الثلاثة، مفادها أن أي مجتمع لن يقوم دون التزام ديني كامل عن قناعة، ثم تكريم المرأة بالشكل الصحيح عبر تعليمها أولا، وثانيا تكريس كل الوسائل لحمايتها وجعلها ركيزة المجتمع”.

“بينما يسود اعتقاد خاطئ حول موقع المرأة الميزابية، فإن هذه المرأة لعبت الدور الأهم في تاريخ المنطقة، على اعتبار أن الرجال عملوا في التجارة لسنوات، وفي كثير من الأحيان كانت المرأة مسؤولة عن الأسرة في غياب الرجل”.

“أما الوفاء للهيئات العرفية، فتكمن أهميته في أن المجتمع بقي متماسكا قويا ومتضامنا، بفضل الوفاء للهيئات العرفية طيلة قرون”، ويضيف المتحدث “إلى اليوم يدرك شباب ميزاب أهمية المبادئ الثلاثة وقيمتها”.

مدينة على ضفاف أسد!

تقول القصة القديمة أن أحد مؤسسي قصر غرداية التاريخي خاطب الناس، وكان يقف قرب مجرى وادي ميزاب قائلا، هل تعلمون ما هذا؟ وبعد أن رد عليه المستجوبون بالقول أنه واد جاف، رد عليهم المتحدث بل هو أسد قد يأكلكم فاحذروه.

وعلى مدار قرون من الزمن، اهتم السكان بوادي ميزاب الذي وهب لقراهم الحياة، وهذا من خلال إقامة أحد أكثر أنظمة الري التقليدي تعقيدا في العالم، ومن خلال بناء سدود بإمكانات بسيطة، ومن خلال عدم البناء أبدا في حواف الوادي القريبة، عكس المعاصرين الذين لم يحترموا وصايا الأسلاف، وضرب الوادي مدينة غرداية عدة مرات وأغرقها، حتى سمي في مرات عدة بـ “المسّاح”.

ديمقراطية قبل 10 قرون 

النموذج المزابي القائم على التكافل الاجتماعي والطاعة والالتزام، يعطي الانطباع بأن هذا المجتمع يسير بطريقة مركزية من قبل الهيئات العرفية التقليدية. ويقول الباحث الدكتور أقاسم شريف “يعتقد الذين لم يعايشوا الحياة في قصور ميزاب، أن هذا المجتمع يقوم على أساس الولاء والطاعة الكاملة، لكن هذه الفكرة خاطئة. فالمجتمع يقوم على أساس الاقتناع العقلي”.

ويضيف “فالهيئات العرفية التي تتكفل بتسيير الشؤون الاجتماعية في هذا المجتمع، لا تخضع أبدا لقيادة فردية، والقرارات فيها لم تتخذ أبدا وطيلة 10 قرون إلا بشكل جماعي، في ميزاب لا يوجد قائد أو زعيم سواء ديني أو سياسي، لأن القرار يتخذ دائما بشكل جماعي، ويناقش ويتم بحثه من قبل الجماعة دائما، وإذا رفضته الأغلبية رفض مهما كانت طبيعته”.

الفرد والجماعة

يتعجب الكثير من زوار المحلات التجارية لبني ميزاب من وجود 4 أو 5 بائعين في مجل تجاري في مدينة جزائرية ما، وتتساءل عن سبب وجود هذا العدد الكبير في محل يكفيه في الحقيقة عامل أو اثنين.

والحقيقة هي أن هذا المحل أنشئ أصلا ليس لتحقيق الربح بل لتشغيل البطالين، إنها إحدى الأفكار التي يعتمدها بعض أغنياء ميزاب للقضاء على البطالة، ففي أي من عشائر ميزاب تكون مسؤولية فقراء العشيرة على عاتق أغنيائها، فالعجزة والصغار يحصلون على مساعدة من العشيرة بشكل دوري، والقادرون على العمل يجب عليهم العمل.

ومن المميزات المبهرة للفكر الاجتماعي في قرى واد ميزاب، كما يقول الباحث اقاسم شريف “هو أن المجتمع يخدم الفرد وليس العكس، الجماعة كلها مسخرة لخدمة الفرد، وهذا هو دور الهيئات العرفية التقليدية، كلها تسهر على راحة وسكينة أفراد المجتمع، وبشكل خاص ضعفاء الجماعة الأيتام والأرامل والعجزة والمعاقين والفقراء، الفرد لا يكلف من قبل الجماعة بما يفوق قدراته، والتكليف لا يكون إلا للقادر الغني أو القوي الذي يجب عليه رد جميل المجتمع”.

هناك في وادي ميزاب، التكافل لا يتوقف، هو أمر يقصد منه عناية الجماعة بالفرد بالمساعدة المالية بل أيضا بالدراسة والتوجيه والتوعية وحفظ الحقوق.

الأئمة الأربعة

يدين بنو ميزاب في العالم وأغلب المنتمين للمذهب الإباضي، في بقائهم والنظام الاجتماعي الدقيق الذي يلتزم به المزابيون، إلى أربعة من رجال الدين الكبار وهم: أبو عبد الله الفرسطائي، والشيخ باعبد الرحمن الكرثي والشيخ عمي سعيد، والشيخ إبراهيم بيوض.

يعتقد أغلب بني ميزاب إن لم نقل كلهم، أن الشيخ بيوض كان رائد الإصلاح الاجتماعي والديني والتربوي في كامل منطقة وادي ميزاب، الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض، ولد سنة 1899 -1981 تتلمذ على يد الشيوخ إبراهيم لبريكي وعمر بن يحي أمليكي أبو العلا عبد الله

يقول الدكتور باعمر بن يحي “الشيخ بيوض، هو أيقونة بني ميزاب، وهو المجدد للمذهب الإباضي في القرن العشرين وأحد المصلحين الاجتماعيين، تمكن من نقل الفكر اللإباضي من فكر القرون الأولى إلى القرن العشرين، ولو أنه كان على أحد المذاهب الأربعة لكان نافس شهرة الشيخ ابن باديس، وكان أحد أصدقائه ومعاصريه، لعب دورا بارزا في تطوير التعليم والتربية في قرى واد مزاب وهو فوق هذا أحد المناضلين ضد الاستعمار الفرنسي”. ويضيف الدكتور الباحث في التاريخ “لا يمكن تصور تاريخ بني ميزاب بل وتاريخ جنوب الجزائر بشكل خاص دون شخصية الشيخ بيوض”.

وإذا كان الشيخ بيوض المجدد للفكر الاجتماعي والفقه على المذهب الإباضي، فإن الشيخ أبا عبد الله الفرسطائي يعد المؤسس الحقيقي للإباضية في منطقة مزاب، والرجل الذي أعاد بناء المجتمع الإباضي بعد زوال الدولة الرستمية في تيهرت على يد الفاطميين، عاش الشيخ أبو عبد الله الفرسطائي بين عامي 956 و1049 ميلادية ولد في منطقة جبل نفوسة في ليبيا حاليا، تلقى العلم على يد الشيخ مشايخ القيرواني في تونس، كان من رجال الدين الذين قرروا الاعتماد في معيشتهم على أنفسهم، وكرس هذا لاحقا في مبادئ الإباضية في منطقة ميزاب التي تنص على أن الإمام أو الفقيه يجب أن يستقل بمصدر رزقه، وأن لا يعتمد في المعيشة على الناس أو الدولة.

ولم يكن الإنجاز الأبرز للشيخ الفرسطائي، الدعوة لإحياء الفكر والمذهب الإباضي، بل تأسيس نظام اجتماعي كامل ما يزال موجودا إلى اليوم بعد أكثر من 1000 سنة، وما يزال صامدا مع تعاقب العصور، والذي بني على أساس مركزية المسجد، وحلقة العزابة في كل مسجد من مساجد قرى مزاب.

الشيخ الثالث البارز الذي ساهم في بناء النظام الاجتماعي القوي في منطقة ميزاب هو الشيخ با عبد الرحمن الكرثي، الذي سمي على اسمه أحد أبرز المجالس العرفية في المنطقة، عاش الشيخ الكرثي المصعبي في القرن الثاني عشر الميلادي، أي أنه جاء تقريبا بعد قرنين من رحيل الشيخ الفرسطائي وتشير المصادر التاريخية، إلى أن الشيخ الكرثي أقام في حياته في قصر مليكة التاريخي، وتكمن قيمة الشيخ الكرثي في أنه أقام المؤسسة “السياسية” الأهم في منطقة ميزاب في وقت مبكر وهو المجلس الكرثي.

أما الشيخ الرابع الأهم في تاريخ منطقة مزاب فهو الشيخ عمي سعيد الجربي، والذي عاش في الفترة بين عامي 1432 و1492 ميلادي، وتكمن قيمة الشيخ عمي سعيد الذي تعود أصوله إلى جزيرة جربة التونسية، جاء إلى منطقة ميزاب قادما من جربة مع الشيخ دحمان والشيخ بلحاج محمد بن سعيد.

ويعتبر بنو ميزاب الشيخ عمي سعيد المجدد الديني الذي ساهم في نشر العلم الشرعي في المنطقة، وكان أبرز إنجازاته تأسيس مجلس فتوى، ما يزال يحمل اسمه مجلس عمي سعيد إلى اليوم بعد 6 قرون، لكن الإنجازات الأبرز له، حسب مؤرخين، كانت تنظيم التعليم في المنطقة، ويعود له الفضل، حسب الوثائق التاريخية في ظهور كوكبة من علماء الدين البارزين في قرون لاحقة، الشيخ عمي سعيد كان وما يزال أيقونة أهل العلم والفقه في مزاب.

المذهب الإباضي 

ينتشر الإباضية في 05 دول إسلامية “الجزائر، سلطنة عمان، زنجبار، تونس وليبيا”، وتقدر بعض المصادر تعداه الإجمالي في العالم بأكثر من 7 مليون نسمة نصفهم تقريبا في سلطنة عمان.

ويقول الدكتور قندوز ساعد المتخصص في التاريخ “تقول كتب التاريخ أن الفقه الإسلامي على المذهب الإباضي ظهر على يد الشيخ جابر بن زيد الذي عاش في البصرة، لكن الإباضية، حسب قراءتي للتاريخ الإسلامي، تقوم على ركيزتين اثنتين الأولى سياسية، والثانية فقهية”.

ويضيف “الإباضية، حسب رأيي، كانت شكلا من أشكال المعارضة السياسية في وقت مبكر من تاريخ الإسلام في عهد الدولة الأموية، ثم مذهب فقهي قام على يد الفقيه جابر بن زيد الذي يعد المؤسس الفعلي للمذهب في البصرة، أما المعارضة السياسية، التي سمي باسمها الفكر الديني والسياسية، فبدأت على يد عبد الله بن إباض”.

ورغم أن أغلبية معتنقي المذهب الإباضي موجودون في سلطنة عمان، 70 بالمائة من مجموع سكانها إباضيون، إلا أن أغلب أعلام وفقهاء الإباضية في القرون العشرة الماضية كانوا إما من ليبيا جبل نفوسة في البداية ثم من الجزائر.

ففقهاء غرداية وعلماؤها منذ القرن السابع عشر تحولوا إلى مرجعية دينية للمذهب الإباضي في العالم، وهذا يفسر اهتمام فقهاء سلطنة عمان بزيارة المعاهد الإسلامية في غرداية، وهذا ما تعجز الجزائر اليوم عن استغلاله، فبينما نرى تركيزا كبيرا من القيادة السياسية على بعض الزوايا، نرى حالة شبه غياب للمذهب الذي توجد مراجعه الدينية في الجزائر اليوم”.

الهيئات العرفية في وادي ميزاب 

يعود الفضل في بقاء النظام الاجتماعي القوي في ميزاب وصلابته، إلى الهيئات العرفية التي أقامها علماء المنطقة ودعموها طيلة 10 قرون من الزمن، وأقوى هذه الهيئات على الإطلاق حلقة العزابة، وهي حلقة دينية تضم الأئمة في كل مسجد من المساجد العتيقة في قرى واد مزاب.

ويسمى العزابة بهذا الاسم نظرا لانشغالهم عن الدنيا بالدين، وهذا لا يعني الانصراف التام عن الدنيا لأن كل أعضاء حلقة العزابة لديهم أعمالهم الخاصة وأسرهم، وكل نشاطهم تطوعي.

الهيئة الثانية المهمة وربما الأكثر تأثيرا هي مجالس العشائر، ففي قرى ميزاب يشرف وجهاء على كل عشيرة من العشائر، ويتكفل مجلس العشيرة بمسائل التضامن، مساعدة الفقراء تنظيم الأعراس الجماعية، وتنظيم الحملات التطوعية الجماعية مثل “التويزة”.

ويوزع مجلس العشيرة المساعدات على فقراء العشيرة، بعد أن يمنحها له أغنياء العشيرة، ويسعى في الصلح بين أفراد العشيرة، وفي كل قرى وادي ميزاب توجد قاعات حفلات أقيمت بتبرعات أبناء العشائر.

والهيئة الثالثة المهمة جدا هي مجلس الفتوى الرسمي في ميزاب، المسمى مجلس عمي سعيد، الذي أسس على يد الشيخ عمي سعيد الجربي وحمل اسمه، ويضم كبار علماء الدين في قرى ميزاب وورجلان.

وأخيرا مجلس باعبد الرحمن الكرثي، والمؤسس على يد الشيخ الكرثي، وهو مجلس يضم وجهاء قرى وادي ميزاب، ويجتمع فقط عند اقتضاء الضرورة لمواجهة أزمة معينة ويتخذ بشأنها قرارات، ويعد، حسب بعض المصادر،  الهيئة العليا التي تعنى بشؤون ميزاب، نقطة القوة في كل هذه الهيئات هي أنها لا تعترف بقيادة، بل تعمل وفقا لآلية ديمقراطية. 

هندسة فريدة للقصور والمباني

في العادة تتوسع المدينة بشكل أفقي، يجعل من أقامها في البداية قادرا على تصحيح أي أخطاء تقع في البداية، لكن الإشكالية في القصور القديمة هي أن مبانيها قد تتحول إلى فوضى غير متجانسة، بعد قرون من بداية البناء، لأن من بدأ في البناء غفل عن توقع كيفية توسع القصور عموديا من أعلى إلى أسفل.

وهذا أحد ألغاز قصور غرداية التي بنيت على مراحل طيلة 5 إلى قرون، إلا أن مبانيها بقيت متجانسة متراصة بشكل غريب، حيث استمدت منطقة ميزاب شهرتها العالمية في الأساس من نمط العمران المميزة، التي استمد منها مهندسون كبار أفكارا مهمة حول العمارة الوظيفية، والتي تراعي الحاجات الدينية الاقتصادية والاجتماعية.

وقد أقام بنو ميزاب القصور التاريخية السبعة الموجودة في بلاد الشبكة، والتي تسمى الآن القصور السبعة المشيدة قبل 1000 سنة، وفق تصور يحول كل قصر إلى ما يشبه “المدينة الفاضلة” وفق الأفكار التي بنيت القصور على أساسها  المدينة، والتي يجب أن تكون محصنة بشكل طبيعي ضد أي هجوم خارجي.

ولهذا أقيمت القصور في أعلى مجموعة من الهضاب، ويجب أن تقام المدينة فوق هضبة يمكن فيها بسهولة حفر آبار، لهذا كانت الهضاب التي بنيت فوقها المدن غير عالية كثيرا، ورغم طبيعتها الصخرية حفرت فيها آبار.

المدينة أيضا يجب أن تقام فوق هضبة غير متصلة بهضاب أخرى أو على الأقل يمكنها الانعزال عن الهضاب، حتى لا يتسلل إليها أي غاز أو عدو من مواقع عالية، ويجب أن تقابلها منطقة منبسطة في الأسفل يمكن فيها إقامة سوق يتم فيه تداول السلع تحت إشراف العزابة.

ويقول المهندس بن إدريس عمار المختص في ترميم المباني القديمة “يمكن تلخيص ميزات البناء في منطقة ميزاب في ميزات تجعل القصور السبعة القديمة فريدة من نوعها في العالم، ففي القرى السبعة لا توجد قصور أو سكنات فخمة، حيث تعارف السكان على أن مساحة البيوت لا تتعدى أكبرها 90 مترا، ولا تتكون من أكثر من طابقين أرضي وأول، ولا توجد بها نوافذ تطل على الشارع، ولا يجوز أن يرتفع أي مبنى فوق المبنى المجاور. وتصطف المساكن في شكل متدرج إلى أعلى الهضبة حيث يوجد المسجد ومعه مدرسة القرآن”.

ويضيف “الأزقة أيضا روعي في تخطيطها أن لا يقل عرضها عن متر واحد ولا يزيد عن متر، بشكل يسمح بمرور الدواب، ويحاط القصر بسور يحوله إلى شبه قلعة أو حصن مع أبواب خشبية كبيرة، المدينة بوادي ميزاب أقيمت دائما قرب واحة نخيل تسمح لسكانها بالحصول على الإعاشة”.

أما ميزات المعمار، كما يقول المهندس ابن إدريس عمار “فهي الاعتماد إلى أقصى حد على أبسط الوسائل للبناء، وربطها بالواحة المسجد والسوق، وجعلها قادرة على الدفاع عن نفسها في مواجهة أي غازي خارجي، ولكن الميزة الأهم في قصور غرداية أن بناءها تم على مدى قرون من الزمن، والغريب أنها متناسقة إلى الآن، وكأن الذي قام بوضع أول بناء فيها وأقامه وفقا لمخطط وضع سلفا، وهذا أغرب ما عجز عن تفسيره الباحثون في نمط البناء في المنطقة”.

 تاريخ ميزاب 

أي باحث لتاريخ الجزائر سيكتشف بسرعة أن المنطقة الوحيدة التي قام أبناؤها بكتابة تاريخها طيلة قرون، كانت غرداية، والسبب في هذا هو أن المنطقة كانت طيلة 10 قرون سابقة منطقة علم وتعليم.

وباستثناء فترات تاريخية قصيرة، فإن الجهة كانت تضم علماء دين وشعراء وكتاب تاريخ لدرجة أن كتابا مزابيين بعضهم مغمور تماما كتب عن تاريخ الجنوب الجزائري والجزائر ككل في القرون الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. ويقول الباحث التاريخي ماضوي عبد الرحمن “أبرز ما لاحظته أثناء البحث في بعض المخطوطات، أن مناطق توات أو أدرار غرداية، هي أغنى المناطق التي يمكن فيها للباحث في التاريخ أن يجد فيها وثائق تسمح له بدراسة تاريخ المنطقة”.

ويضيف المتحدث “من المهم أن تنشأ مؤسسة علمية للبحث في تاريخ الصحراء الكبرى باستغلال المراجع التاريخية المتوفرة في المنطقة”.

التعليم

عرفت غرداية أيضا بأنها إحدى المدن القلائل في الجزائر التي تواصل فيها التعليم على مدى قرون من الزمن دون انقطاع، وبقيت مدارسها الحرة التي لم تكتف بتحفيظ القرآن، مفتوحة في أسوأ الظروف، لكن الأكثر أهمية في غرداية هي أنها ساوت في التعليم في المدارس الحرة بين الذكور والإناث، وسواء اليوم أو قبل قرنين أو ثلاثة، يندر أن تجد سيدة لا تتقن القراءة والكتابة في ميزاب.

في السابق كان التعليم الحر محصورا في المساجد أو مباني صغيرة ملحقة بالمساجد، وفي القرن التاسع عشر تحول التعليم الحر إلى مؤسسة مستقلة بذاتها، لديها مبانيها وموظفوها من أساتذة ومعلمين وعمال.

وتتوفر غرداية اليوم على منظومة تعليم حر كاملة، من الحضانة إلى غاية الجامعة، وفي تجربة رائدة تتوفر غرداية على هيئات خيرية متخصصة في تقديم دروس الدعم للمقبلين على الشهادات الدراسية.

وبدأ التعليم في غرداية في وقت مبكر على يد الشيخ الفرسطائي، ثم حقق التعليم قفزة نوعية في عهد الشيخ عمي سعيد الجربي، الذي أسس لما يمكن أن يسمى تعليما أكاديميا في المنطقة، وتم تطوير المنظومة والمنهاج على يد أبو النهضة أو هكذا يلقب الشيخ أبي زكرياء الأفضلي في القرن التاسع عشر، ويعود له الفضل في تخريج جيل من علماء الدين أبرزهم الشيخ الثميني، ثم جاء الشيخ بيوض الذي أنشأ ما يعرف الآن بالتعليم الحر والمعاهد الحرة في منطقة ميزاب، وقد لعب الشيخ طفيش الدور الأهم في إنشاء منظومة تعليم حديثة على أنقاض نظام تقليدي.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى