حظر هواوي وبدايات الحرب التكنولوجية الباردة بين أمريكا والصين

Huawei ban and the beginnings of the technology cold war between America and China

القائمة السوداء

وقّع الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” سنة 2019 أمرًا تنفيذيًّا يقضي بحظر استخدام الشركات الأمريكية لمعدات الاتصالات التي تُصنّعها شركاتٌ يُعتقد أنها تمثل تهديدًا للأمن القومي الأمريكي. وبذلك يحظر عليها استخدام معدّات اتصالات أجنبية، يمكن أن تشكل خطرًا أمنيًّا. ولتمرير ذلك الأمر التنفيذي وتطبيقه على شركة هواوي الصينية، أعلن “ترامب” عن حالة “الطوارئ الوطنية”.

وعلى خلفية ذلك، أضافت وزارة التجارة الأمريكية “هواوي تكنولوجيز Huawei Technologies” و(70) شركةً تابعةً لها إلى ما يُطلق عليه “قائمة الكيانات” أو “لائحة الشركات المشبوهة”، في خطوةٍ تمنع شركة الاتصالات الصينية العملاقة من الحصول على بعض المكونات التكنولوجية الأمريكية، والقيام بعملياتٍ تجارية مع شركاتها دون الحصول على موافقةٍ مسبقةٍ من السلطات، والتنافس للفوز بعقودٍ حكومية أمريكية.

كما تضغط الحكومة الأمريكية على حلفائها من الدول الغربية، لإقناعهم بإجراءاتٍ مماثلة، واستبعاد هواوي من المشاركة في شبكات الجيل الخامس، تحت دعاوى التجسس، مهددةً بخفض مستوى التعاون الاستراتيجي بينها وبين الدول التي تتعاقد معها.

المبررات الأمريكية

برّر البيت الأبيض قراره بشأن شركة هواوي بحماية الأمن القومي الأمريكي من كافة المحاولات التي تستهدف مواطن ضعف الخدمات والبنى التحتية التكنولوجية الأمريكية في مجالي الإعلام والاتصالات، بجانب التصدي للأعمال الخبيثة، بما في ذلك التجسس الاقتصادي والصناعي على الولايات المتحدة ومواطنيها.

ويأتي القرار على خلفية العلاقات الوطيدة التي تربط هواوي بالحكومة الصينية من ناحية، ورغبة الشركة في الهيمنة على أسواق الجيل الخامس لتقنية الهواتف المحمولة من ناحيةٍ أخرى، وارتباط هواوي بالجيش الصيني من ناحيةٍ ثالثة. وهو ما يُمكن فهمه بالنظر إلى عمل مؤسسها “رين زينجفي” ليس فقط في الحزب الشيوعي الصيني، ولكن في الجيش الصيني أيضًا. وهو الأمر الذي يثير ريبة الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية.

وترى الولايات المتحدة أن الشركات الصينية لا تخضع لنفس ضوابط وشروط الخصوصية التي تخضع لها الشركات الأمريكية المنافسة لها، بل تخضع بالأساس للقوانين الصينية التي تُلزم شركة هواوي بتزويدها بالمعلومات الاستخباراتية. وهو الأمر الذي أكدته لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس النواب الأمريكي في تقاريرها، التي أشارت فيها إلى إمكانية اعتراض شركتي هواوي وZTE للاتصالات في حال السماح لهما بالعمل داخل الولايات المتحدة. ووفقًا لها، يمكن للشركتين شن هجماتٍ إلكترونية على البنية التحتية الأمريكية، مثل: شبكة الكهرباء، والطرق، وغيرها.

مأزق هواوي

قررت شركة جوجل على خلفية إدراج هواوي على القائمة السوداء قطع علاقاتها التجارية معها امتثالًا لأمر “ترامب” التنفيذي، وحظر التعامل معها، بل وتعليق كافة الأعمال التي تنطوي على نقل المواد أو البرمجيات أو الخدمات الفنية عدا تلك المتاحة للعموم عبر المصادر المفتوحة. وتتزايد خطورة ذلك القرار بالنظر إلى اعتماد الشركة الصينية على نظام التشغيل “أندرويد” في هواتفها الذكية.

ونتيجةً لذلك، تجد هواوي نفسها بين خيارين؛ أولهما، تطوير نظام تشغيل جديد بديلٍ لنظام التشغيل أندرويد. وثانيهما، الانسحاب الدراماتيكي من السوق حال عجزها عن إيجاد البدائل المناسبة.

فعلى الرغم من تأجيل وزارة التجارة الأمريكية للحظر المفروض على هواوي والقيود التجارية المفروضة عليها لمدة (90) يومًا، ومنح الشركة ترخيصًا مؤقتًا حتى 19 أغسطس 2019، وقدرة مستخدمي هواوي على الوصول إلى مختلف التطبيقات خلال تلك الفترة؛ إلا أن انقضاء أمدها دون إيجاد البدائل المناسبة يعني بدء سريان الحظر على الفور، ليشمل شركاتٍ تابعة لها في كلٍّ من: كندا، واليابان، والبرازيل، والمملكة المتحدة، وسنغافورة، وغيرها. وكذلك حرمان هواتف هواوي الذكية من تحديثات نظام التشغيل، ومن التطبيقات التي لا يستغني عنها مستخدمو الهواتف الذكية؛ مثل: محرك البحث جوجل، ومتجر التطبيقات (جوجل بلاي)، واليوتيوب، وخرائط جوجل، وغيرها.

وقد يتّسع نطاق الحظر مستقبلًا ليشمل شركاتٍ أخرى. وإن حدث ذلك، فستجد هواوي نفسها بلا مزيدٍ من التطبيقات الأساسية. ولكن من المرجّح أن تطرح الشركة نظام التشغيل الخاص بها للهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر المحمول بحلول الخريف القادم، حيث صرح “ريتشارد يو” (رئيس أعمال المستهلكين في شركة هواوي) بقوله: “إن النسخة الدولية من النظام  تكون جاهزة في الربع الأول أو الثاني من عام 2020”.

ويتزايد مأزق شركة هواوي بعد إدراجها رسميًّا على القائمة السوداء، لامتناع شركات صناعة الرقائق الإلكترونية الأمريكية (إنتل، وكوالكوم، وبرودكوم، وسيلينكس) عن تزويد هواوي بمنتجاتها حتى إشعارٍ آخر، على الرغم من تجاوز حجم مبيعاتها للشركة الصينية 100 مليون دولار سنويًّا. كما اتخذت “إنفنيون الألمانية لصناعة الرقائق” قرارًا مماثلًا.

وتعتبر الولايات المتحدة أن المكونات الحساسة التي تبيعها الشركات الأمريكية إلى هواوي والشركات التابعة لها ساهمت في النمو المضطرد للشركة، لتصبح أكبر مورد في العالم لمعدات شبكات الاتصالات، وثاني أكبر مُصَنِّع للهواتف الذكية. وفي المقابل، باتت تلك الهواتف الذكية حصان طروادة الذي يُشكل تهديدًا لكافة الشبكات المعلوماتية حول العالم.

وفي السياق ذاته، سحبت شركة ARM التي يقع مقرها الرئيسي في بريطانيا رخص تصميم المعالجات من هواوي، كما طالبت موظفيها أيضًا بقطع التعامل مع أي شركةٍ تابعة لها، بما في ذلك شركة أشباه الموصلات “هايسيليكون”، التي تنتج معالجات كيرين المستخدمة في هواتف هواوي. ويأتي ذلك القرار على إثر القانون الأمريكي الذي يمنع تعامل الشركات الأمريكية مع هواوي دون تصريحٍ من الحكومة الأمريكية؛ لأن التقنيات المستخدمة في تصميم وبناء معمارية رقاقاتها أمريكية الأصل.

رد الفعل الصيني

كشفت التصريحات الرسمية للصين على قرار الرئيس الأمريكي بإدراج هواوي على القائمة السوداء تمسكها بمبادئها الرئيسية، وعدم تقديمها أي تنازلات، وهو ما يعني من بين أمورٍ أخرى عدم التراجع عن القانون الصيني الذي يُلزم شركات التكنولوجيا بالتعاون مع أجهزة الاستخبارات، ومساعدة الحكومة الصينية في جمع المعلومات الاستخبارية، وتقديم الخدمات الأمنية عندما يُطلب منها.

وردًّا على القرار الأمريكي، تقدمت الحكومة الصينية في 23 مايو 2019 باحتجاجٍ رسمي لدى الولايات المتحدة. كما اتهمت مجموعة هواوي واشنطن في بيانٍ لها بعد القرار الأمريكي بانتهاك حقوقها، وفرض قيودٍ غير معقولة، تثير بدورها مسائل قانونية عدة. كما حذّر رئيس الشركة الإدارة الأمريكية من الاستمرار في ترويع الشركات الأجنبية. كما عارضت وزارة التجارة الصينية فرض عقوباتٍ أحادية الجانب من قبل الدول الأخرى على الكيانات الصينية.

واتهمت الصين الولايات المتحدة بالضلوع في عملية تخريبٍ صناعي، تحت ذريعة حماية الأمن القومي الأمريكي، مطالبةً إياها بوقف تلك الممارسات، وخلق أجواء أفضل قوامها التعاون التجاري. كما شددت على قدرتها على حماية الشركات الوطنية الصينية التي ستواصل نموها.

ومن جانبها، دأبت شركة هواوي على نفي أي ضغوطٍ تتعرض لها من قبل الحكومة الصينية لإمدادها بالمعلومات، والتأكيد على عدم وجود أدلةٍ على ضلوعها في عمليات التجسس. وفي هذا الإطار، صرّح “رين زينجفي” بأن “الممارسة الحالية للسياسيين الأمريكيين تُسيء تقدير قوتنا”.

فعلى خلفية هيمنة الشركات الأمريكية -خاصة أوراكل، ومايكروسوفت- على أسواق تخزين قواعد البيانات، ورغبة الشركة الصينية في كسر احتكار تلك الشركات من ناحية، وإظهار بدائلها المتاحة ردًّا على القرارات الأمريكية من ناحيةٍ أخرى، أطلقت هواوي أول قاعدة بيانات مدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي -التي أُطلق عليها (GaussDB)- لتحسين خدماتها السحابية وخدمات البيانات في قطاعاتٍ مثل: المالية والسيارات، والخدمات اللوجستية، ما يؤكد قدرتها على تقديم خدمات البرمجيات بجانب منتجات الأجهزة الذكية، تعزيزًا لقدراتها التنافسية في مجال تكنولوجيا المعلومات، وتكيفًا مع تغيرات الأسواق العالمية، وتطويرًا لقدراتها التنافسية من جانب، واحتفاظًا بمميزاتها العالمية من جانبٍ آخر.

وتؤكد هواوي استعدادها لتوقيع اتفاقيات عدم تجسس مع الحكومات لضمان عدم وجود أبوابٍ خلفية في معداتها، لتعزيز أمن الشبكات، وتسهيل التعاون العالمي معها. كما تذكر أيضًا أنها لا تملك أي بياناتٍ للمستخدمين، وأنها توفر فقط التقنيات التي تدعم معالجة تلك البيانات ونقلها.

ردود الأفعال الدولية

على الرغم من إقالة وزير الدفاع البريطاني على خلفية قرار بريطانيا الاستعانة بهواوي لبناء أجزاء غير أساسية في شبكة الجيل الخامس؛ قررت شركتا “إي إي” و”فودافون” إطلاق شبكة الجيل الخامس دون شركة هواوي. ووفقًا لتصريحات “جيرمي رايت” وزير الثقافة البريطاني، فمن المتوقع تأخر شبكات الجيل الخامس في المملكة المتحدة التي لن تقبل باستخدام أدواتٍ رخيصةٍ ذات مخاطر أمنية.

وتحقق أجهزة الاستخبارات الهولندية في شبهة تجسس شركة هواوي لحساب الحكومة والاستخبارات الصينية، من خلال الثغرات التي يمكن الدخول منها إلى بيانات زبائن شركات الاتصالات الكبرى، وتحديدًا: فودافون/زيجو، وتي-موبايل/تيلي2، وكاي بي إن.

ويأتي ذلك في توقيتٍ يدرس فيه عددٌ من الدول الغربية مخاطر السماح لهواوي بالمشاركة في إنشاء شبكة الجيل الخامس الجديدة للهواتف النقالة من ناحية، وتقرر فيه هولندا مشاركة الشركة الصينية في شبكة الجيل الخامس من ناحيةٍ أخرى.

وفي اتجاهٍ معاكس للموقف الأمريكي، انتقد الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” حجب شركة هواوي أو أي شركةٍ أخرى، منتقدًا شن الحرب التكنولوجية أو التجارية ضد أي دولة في الوقت الراهن. وهو الموقف الذي ثمّنته الخارجية الصينية كونه موقفًا “عادلًا” من مساهمة شركات التكنولوجيا الصينية.

ورغم اشتعال الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، أحرزت الأخيرة والاتحاد الأوروبي تقدمًا على صعيد شبكة الجيل الخامس، وهو ما تجلى واضحًا في الاجتماع الحادي والعشرين بين بكين والاتحاد، ناهيك عن نجاح الدورة الرابعة من حوار التعاون الابتكاري بينهما، والذي تمخض عنه تجديد اتفاقية التعاون العلمي والتكنولوجي الثنائية.

التداعيات المحتملة

تُعد هواوي واحدة من أكبر شركات التكنولوجيا في الصين، وثاني أكبر شركات إنتاج أجهزة الهواتف المحمولة في العالم. وقد تمكّنت من بيع أكثر من مائتي مليون هاتف محمول في شتى أنحاء العالم خلال العام الماضي. وبعيدًا عن القرارات الأمريكية، لا تزال الشركة حتى هذه اللحظة لاعبًا رئيسيًّا في السوق العالمية بحصةٍ سوقية تصل إلى (17%) بعد شركة سامسونج التي تتصدر القائمة بإجمالي (21%) من تلك الحصة.

وفي ظل تلك الحقائق، تدفع بعض التحليلات إلى عدم تأثر هواوي على الإطلاق، ولا سيما في ظل قدرتها على صناعة ما تحتاج إليه من شرائح إلكترونية من ناحية، وعدم قدرة الولايات المتحدة وحلفائها من الدول الغربية على تقويض انتشارها في مختلف الدول الإفريقية والآسيوية من ناحيةٍ ثانية. ناهيك عن قدرتها على إنتاج ملايين الهواتف المحمولة دون حاجتها لجوجل من ناحيةٍ ثالثة.

والأهم من ذلك، عدم قدرة دولةٍ واحدةٍ منفردةٍ بما في ذلك الولايات المتحدة على التأثير في شركة هواوي العالمية مع تعدد شركائها العالميين. وهو الأمر الذي يسلط الضوء على مخاطر ظاهرة الدومينو حال قررت دولٌ وشركاتٌ أخرى اتخاذ إجراءاتٍ مماثلة. أو بعبارةٍ أخرى، التغيرات التي تحدثها دولةٌ واحدة -بما في ذلك الولايات المتحدة- قد يتضاءل تأثيرها على أعمال الشركة العالمية.

وفي المقابل، تذهب تحليلاتٌ أخرى إلى تصدع مرتقب في شركة هواوي، بالنظر إلى تجربة شركة “زد تي إي” في العام الماضي، والتي أوشكت على الانهيار جرّاء منع الولايات المتحدة إياها من شراء رقائق إلكترونية لا تنتج إلا فيها لعدة أشهر. كما لا يمكن إغفال حقيقة سيطرة جوجل على نظام التشغيل (أندرويد)، وهو الوحيد الذي يتماشى مع الهواتف الذكية التي تُنتجها الشركة الصينية.

وبين هذا وذاك، من المرجّح أن تتأثر الشركات الأمريكية أيضًا؛ حيث ساهمت الشركة الصينية في انتشار نظام التشغيل أندرويد على مستوى العالم، بصفتها إحدى الشركاء العالميين لها، حيث شهدت مبيعات الهواتف التي تعتمد عليه نموًّا خياليًّا، بفعل انتشار هواتفها. وبدون شركة هواوي، ستضطر الولايات المتحدة -في سبيل تأسيس شبكة الجيل الخامس- إلى التعاقد مع شركاتٍ ذات تكلفةٍ مرتفعةٍ وجودةٍ أقل.

دلالات التصعيد

تعكس القرارات الأمريكية تجاه هواوي تحولًا جذريًّا في مسار الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، إلى الحد الذي وصفته بعض التحليلات بـ”الحرب التكنولوجية الباردة”. وهو التحول الذي من شأنه أن يُغير من طبيعة الاستثمارات والابتكارات الدولية في قطاع تكنولوجيا المعلومات مستقبلًا. أو بعبارةٍ أخرى، نحن بصدد حلقةٍ جديدةٍ من حلقات الصراع التجاري الضاري بين واشنطن وبكين، وإن انصرف هذه المرة إلى قطاع التكنولوجيا الصيني الآخذ في التوسع.

ولا تعدو تلك الحرب كونها واجهةً لحماية شركة آبل الأمريكية التي تمكنت هواوي من إزاحتها من المرتبة الثانية عالميًّا، وسط تقارير تُدلل على قدرتها على انتزاع المرتبة الأولى من سامسونج. أو بعبارةٍ أخرى، وظفت الولايات المتحدة أمنها القومي كأداةٍ للحماية التجارية، وإقصاء الشركات الصينية من المنافسة الحرّة، والحيلولة دون اكتساب الشركات الصينية حصة في الأسواق الأمريكية من خلال تشويه صورتها. وما يدلل على ذلك، توجيه الانتقادات للسلطات الأمريكية باختراق بيانات شركاتٍ مثل: جوجل، وياهو، في العام الماضي دون تداعياتٍ تذكر.

وختامًا، يترقب كثيرون رد الفعل الصيني الذي يتوقع أن يحظر المنتجات الأمريكية في أسواقها، بعد أن أصبحت الشركات التكنولوجية كبش فداء الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والتي يتوقع أن تطال بتداعياتها الشركات الأمريكية وفي مقدمتها: آبل، ويليها: إنفيديا، وكوالكوم، وإنتل.

طبيعة التصعيد التجاري والتكنولوجي بين الولايات والصين

ينذر التصعيد التجاري والتكنولوجي بين الولايات والصين بإشعال حرب باردة جديدة تقضي على حالة التوافق الدولية، وتفتح الطريق أمام تآكل النظام الليبرالي، وتزايد النزاعات بين الأمم.

منذ أن أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عن خطواتها التصعيدية ضد عملاق تكنولوجيا المعلومات الصينية شركة هاواوي، بدأ يتنامى في التغطية الإعلامية ظهور بعض المصطلحات من أبرزها “الحرب البادرة التقنية أو التكنولوجية” The Tech Cold War.

ويبرر تنامي هذا المصطلح السياق الذي جاء فيه قرار الرئيس ترمب التنفيذي والقاضي بفرض حالة الطوارئ الاقتصادية لحماية شبكات الاتصالات الأمريكية من التجسس التي تشنها جهات محسوبة على الصين منها أنشطة الشبكة التي تقوم بتشغيليها داخل الولايات المتحدة شركة هاواوي. وهذا يندرج بطبيعة الحال ضمن سياق التصعيد بين واشنطن وبكين والمتمثل في الحرب التجارية والتكنولوجية بينهما والتي بدأت بزيادة التعريفة الجمركية منذ ما يقرب من العام من الآن.

يذكرنا إعلان الرئيس ترمب لحالة الطوارئ الاقتصادي بإعلانه السابق لحالة الطوارئ الوطنية والتي أراد بها التحايل على الكونجرس من أجل استكمال تمويل الجدار الفاصل على الحدود مع المكسيك من أجل صد الخطر المتخيل إليه والمتمثل في تدفق المهاجرين من أمريكا الجنوبية الذين يحلوا للرئيس دوماً أن يصفهم “بالغزاة”.

الاعتمادية الكبيرة التي تفرضها العولمة بين دول العالم تستوجب النظر في التعامل مع الدول الكبرى من منطلق الدبلوماسية والحلول المشتركة وليس من خلال لعبة كسر العظم.

ومن شأن انتهاج مبدأ الإعلانات المتكررة والمتنوعة لحالة الطوارئ إخبارنا الكثير عن الحالة النفسية للرئيس ترمب المسكونة بهاجس الخوف من الآخر، وعن الأجندة التي يحملها فريقه من عتاة اليمين الشعبوي الذين يحيطون به القائمة على سياسة القوة، والحلول أحادية الجانب في التعاطي مع المشكلات التي تهدد الولايات المتحدة. وهذه السياسة هي التي تجعل من واشنطن شرطي العالم الذي لا يبالي بالقانون ولا بالأعراف الدولية.

لا شكّ أن هناك تحدٍّ واضح يفرضه صعود الصين على هيمنة الولايات المتحدة، ولكن يتجاهل الرئيس ترمب وفريقه حقيقة أن الاعتمادية الكبيرة التي تفرضها العولمة بين دول العالم تستوجب النظر في التعامل مع الدول الكبرى من منطلق الدبلوماسية والحلول المشتركة وليس من خلال لعبة كسر العظم.

إن فرض العقوبات التقنية على الشركات الصينية، ووضعها على القائمة السوداء، وفرض حظر على الشركات الأمريكية والأوروبية والتي تدور في فلكها من التعامل معها إنما يعزز من التوجهات الانعزالية والحمائية التي تتبناها إدارة الرئيس ترمب.

وهي التوجهات التي تتساوق مع فلسفة تيارات اليمن الشعبوي في كل مكان تقريباً وتقوم على مبدأ إقامة الجدران والمتاريس بين الأمم والشعوب إيماناً منهم بأن هذه هي الطريق الوحيدة في مجابهة الخطر الخارجي؛ في تعارض صارخ مع مبادئ النظام الليبرالي الذي أقامته الولايات المتحدة ودافعت عنه طيلة أكثر من سبعة عقود؛ أي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

إن فرض العقوبات التقنية على الشركات الصينية ووضعها على القائمة السوداء إنما يعزز من التوجهات الانعزالية والحمائية التي تتبناها إدارة الرئيس ترمب.

إن سياسة الرئيس ترمب تجاه الصين في حربه التجارية والتقنية معها من شأنه أن يعيد العالم إلى التقسيمات السابقة التي كانت سائدة إبان الحرب البادرة بين المعسكرين الشرقي والغربي. ولكن لا يتم التقسيم هذه المرة وفق الخطوط الجيوسياسية والعسكرية–الأمنية وإنما وفق الخطوط الاقتصادية والتكنولوجية.

فالعالم الذي وقف أمام حتمية الاختيار سابقاً بين الانضواء تحت مظلمة الحماية النووية الرأسمالية للولايات المتحدة أو مظلمة الحماية النووية الشيوعية للاتحاد السوفيتي يقف الآن أمام حتمية اختيار جديدة: بين النموذج الرأسمالي المنفتح للتكنولوجيا الغربية، أو النموذج الشرقي المغلق للتكنولوجيا الصينية.

ربما تبدو إرهاصات هذا الاختيار الصعب قد بدأت تطل برأسها مع استجابة بعض كبريات الشركات التكنولوجية للأمر التنفيذي للرئيس ترمب. فمن جانبها قالت شركة Alphabet Inc. Goodge إنها سوف توقف تعاملاتها مع هواوي بما في ذلك الحد من وصول الشركة الصينية إلى نظام تشغيل الهاتف المحمول الذي يعمل بنظام أندرويد Android. كما أوقفت شركات الاتصالات في كل من اليابان وبريطانيا وتايوان طلبات شراء أحدث أجهزة هواوي. أما شركة مايكروسوف فقد حظرت منتجات هواوي من الظهور في موقعها للبيع الإلكتروني Azure Stack، بينما قالت كل من شركة سوفتبانك البريطانية وإفنيوين الألمانية لصناعة الرقائق بأنهما ستدرسان إيقاف التعامل مع شركة هواوي؛ خصوصاً فيما يتعلق بالوصول إلى بعض الملكيات الفكرية المستخدمة في تصنيع أشباه الموصولات.

إن سياسة الرئيس ترمب تجاه الصين في حربه التجارية والتقنية معها من شأنه أن يعيد العالم إلى التقسيمات السابقة التي كانت سائدة إبان الحرب البادرة بين المعسكرين الشرقي والغربي.

سيعتمد تبلور حدود هذه المعسكرات المتنافسة حديثاً على عاملين حاسمين:

أولا، قدرة الصين على تجاوز الحظر التكنولوجي الغربي، وسد الثغرات التكنولوجية في صناعاتها من خلال الاعتماد على الصناعات المحلية، وذلك من أجل أن تجعل نموذجها التكنولوجي أكثر جاذبية وتكاملاً.

وهنا تشهد التجربة أن الصين قد قطعت مراحل جوهرية في تطوير تكنولوجيا ذاتية. فعلى سبيل المثال طورت الصين محرك بحث خاص بها على غرار Google يدعى بيدو baidu. كما طورت منصات تواصل اجتماعي خاصة بها مثل com.51 وRenren، أما موقع weibo فهو النسخة الصينية من تويتر. هذا فضلاً عن تقدمها الواضح في مجال تطوير الجيل الخامس من الشبكان G5، وتكنولوجيا الفضاء، وهندسة الجينات.

ستعمل الصين على تعزيز موقفها هذا من خلال استثمار أمرين اثنين في غاية الأهمية يتعلق أولهما بالاستراتيجية التجسسية التي طورتها الصين على مدار عقود، واستطاعت من خلالها سرقة معلومات تكنولوجية، وملكيات فكرية غاية في الحساسية من الغرب. هناك بعض التقديرات تشير إلى أن خسائر الولايات المتحدة من سرقة الملكية الفكرية يصل سنوياً إلى 100 مليار وأكثر. أما ثاني هذين الأمرين فيتعلق بالنموذج الصيني للإنترنت والذي تغلب عليه ثقافة التحكم المركزي والخضوع للمراقبة وهو النموذج الذي يروق للحكومات غير الديمقراطية؛ وهو النموذج السياسي الذي يشهد تنامياً حالياً. لذلك ستجد الصين سهولة في تسويق نموذجها التكنولوجي المعادي لحرية التعبير في الدول التي يسعى حكامها لفرض حالة من الرقابة الشديدة على المعارضين والمطالبين بالتحول الديمقراطي خصوصاً في العالم العربي.

ثانياً، ستعتمد حدود تنافس هذه المعسكرات على بقاء نفوذ تيارات اليمين في الحكم خصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكية. وبذلك فإن التجديد للرئيس ترمب لولاية ثانية، وتحقيق اليمين مزيد من الانتصارات في أوروبا، سوف يسهم في تآكل النظام الليبرالي، وينحو بالنظام الدولي نحو حكومات يروقها أن تفرض عقبات أمام التدفق السلس والآمن للأفكار، والبضائع، والبشر، جنباً إلى جنب مع إضعاف القانون الدولي والمنظمات الدولية. وهذا من شأنه أن يعزز مناخ الصراع والتنافس بين الدول الكبرى، ويفرض على الدول المتوسطة والصغيرة أن تختار مع أي من هذه القوى لا بد لها أن تصطف، وبالنتيجة فنحن أمام توجه يذهب بنا إلى تقطيع الأواصر بين الشعوب والأمم، وهذا بلا شك سيكون محفزاً لمزيد من الصراعات وعدم الاستقرار.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button