سياسة الصين تجاه الأزمة السورية: هل تعكس تحولات استراتيجية جديدة في المنطقة؟

سنية الحسيني  – نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 440 في تشرين الأول/ أكتوبر 2015.

اتسم موقف الصين تجاه الأزمة السورية الحالية بالاختلاف عن موقف الولايات المتحدة تجاهها، وهو تباين في المواقف ليس جديداً. فطالما تناقضت التوجهات السياسية للصين مع مثيلاتها الأمريكية خلال الحقبة الأخيرة، في ظل سياسة خارجية صينية براغماتية تحكمها تقاطعات الأيديولوجيا بالمصالح. إلا أن الجديد في موقف الصين تجاه الأزمة السورية بأنه تعدى حدود الاختلاف الموقفي المعهود مع سياسات الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وبلغ حد التصادم والمواجهة السياسية في سابقة تعد الأولى من نوعها في هذه المنطقة. ويسهم تدخل الصين في واقع توازنات معادلة القوى في الشرق الأوسط إلى جانب كل من روسيا وإيران في مواجهة الولايات المتحدة والدول الغربية، في إحداث تطور جديد على تلك المعادلة، خصوصاً في ظل تصاعد أزمات المنطقة إلى حدٍ بلغ نزاعات مسلحة تعكس واقع تلك التوازنات.

استعملت الصين الفيتو أربع مرات لإحباط صدور قرارات عن مجلس الأمن، اثنان منها دَعَوَا إلى تنحي الرئيس السوري (بشار الأسد) وثالث طالب بتطبيق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة على النظام السوري، الذي ينص على فرض عقوبات، والرابع سعى إلى إحالة الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية. فعارضت الصين أي تدخّل عسكري في سورية، حتى وإن جاء لمحاربة التنظيمات الإرهابية فيها. جاء ذلك الاستخدام الصيني المتكرر لحق النقض في مجلس الأمن، على الرغم من أن الصين تعتبر الدولة التي لم تستخدم هذا الحق إلا نادراً من بين دوله الدائمة الخمس، كما أنها لم تلجأ إلى استخدامه لتقويض إصدار قرارين مشابهين وجِّها ضد النظام الليبي في عهد الرئيس السابق (معمر القذافي) خلال فترة الثورة الليبية، رغم اعتراضها على صدورهما. فهل يعدُّ الموقف الصيني المتقدم من الأزمة السورية صياغة جديدة لدورها في منطقة الشرق الأوسط، أم أنه مجرد موقف يتعلق بمصالح الصين المباشرة في سورية؟ تحاول هذه الورقة دراسة توجهات السياسة الخارجية الصينية تجاه سورية، من خلال تحليل محددات هذه السياسة، في محاولة لاستشراف حدود تطور سياسة الصين تجاه الأزمة السورية.

تقوم السياسة الخارجية الصينية على عدد من المحددات التي تساعد على استشراف توجهاتها تجاه قضايا دولية محددة، فتؤدّي اعتبارات الأيديولوجيا وتحقيق المصالح دوراً رئيسياً في تحديدها في سياسة خارجية توصف عموماً بالبراغماتية. كما أن هناك علاقة وثيقة تربط بين سياسة الصين الخارجية وبين فكرها السياسي القائم على أساس رؤيتها لمكانتها وإيمانها بعقيدتها واستفادتها من تجربتها التاريخية. بالإضافة إلى ذلك باتت الصين تتعامل وفق سياسة خارجية تتناسب مع دورها المتصاعد كأحد الأقطاب المؤثرة في المنظومة الكونية.

وتشكل العقيدة الكونفوشية مرتكزاً رئيساً للفكر الصيني ومحدداً مهماً للهوية الصينية. وتقوم السياسة الخارجية الصينية على أساس عدد من مبادئ تلك العقيدة. فأسهم اعتزاز الصينيين بهويتهم، معززين تلك الفكرة بالعامل السكاني الكبير الذي تمتلكه الصين، في إبراز تمايز الشخصية الصينية. يؤمن الصينيون بأن جميع المذاهب الفكرية والسياسية التي دخلت الصين على مرّ العصور، ذابت في إطار الفكر الصيني، وشكلت رؤى جديدة صينية النكهة. يأتي ذلك منسجماً مع المثل الصيني «البحر يغيّر طعم ألف نهر»، فالصينيون يعتقدون أن البوذية التي دخلت إلى الصين قادمةً من الهند باتت بنكهة صينية تختلف عن الأصل من حيث الطقوس والعادات، تماماً مثلها مثل الدين الإسلامي الذي دخل إلى الصين وبات بثوب صيني، في حين لم تنجح الديانة المسيحية القادمة من أوروبا في أن تجد لها مكاناً في الصين، وحتى المذهب الشيوعي الذي أخذت به الصين نقلاً عن الاتحاد السوفياتي تلوَّن بالطابع الصيني باعتماده على الفلاحين لا على العمال.

تحثّ العقيدة الكونفوشية على التآخي والسلام وفعل الخير؛ الأمر الذي يفسر سيادة طابع التعامل بالقوة الناعمة بدلاً من الصلبة في سياسة الصين الخارجية عموماً. كما تعتمد الصين في سياستها الخارجية على المبادئ الخمسة للتعايش السلمي، التي أقرّها الحزب الشيوعي الصيني منذ نشأة جمهورية الصين الشعبية عام 1949، والتي تتقاطع تقاطعاً تاماً مع تلك المبادئ الكونفوشية. فاعتمد الفكر السياسي الصيني منذ قيام جمهورية الصين بقيادة ماو تسي تونغ بشكل أساسي على الأيديولوجية الشيوعية، التي تركت أثراً واضحاً في سياستها الخارجية. وتتمثل المبادئ الخمسة التي تقوم عليها السياسة الخارجية الصينية على الاحترام المتبادل للسيادة، وسلامة الأراضي، وعدم الاعتداء والتدخل في شؤون الغير، والمساواة والمنفعة المتبادلة والتعايش السلمي.

انتهجت الصين سياسة خارجية محايدة، معترضة على نظام الأحلاف العسكرية وسباق التسلح، وكان من بين أهم أسباب الخلافات بينها وبين الاتحاد السوفياتي ما بين عامي 1961 و1976 اعتراضها على سياسته التوسعية[1]. ومنذ استقلالها وقفت الصين في وجه الإمبريالية الغربية، وساندت نضال الشعوب في كفاحها ضد الاستعمار. فأيدت الصين حركات التحرر في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا، واعتبرت إسرائيل الأداة الغربية لتمزيق البلدان العربية. ومع أنَّ إسرائيل قد سبقت البلدان العربية في الاعتراف بالصين عام 1950، إلا أن الصين أيدت المواقف العربية، وشجبت العدوان الثلاثي على مصر عام 1956‏[2]؛ فشكل تأييد الصين للموقف العربي خلال العدوان الثلاثي على مصر بداية التقارب الصيني – العربي في العصر الحديث.

ورغم سياسة العزلة التي كانت تعيشها الصين خلال النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني، وعرضت السلاح والمقاتلين لتحرير فلسطين[3]. كما أدانت الصين الاعتداء الإسرائيلي في حرب عام 1967، واستهجنت دور الولايات المتحدة في هذه الحرب، وانتقدت الاتحاد السوفياتي لتخلفه عن مساعدة العرب[4].

في ذلك الوقت تعهدت الصين بتقديم مئة وخمسين ألف طن من القمح وعشرة ملايين دولار بدون شروط للبلدان العربية. كما عرضت على سورية تقديم أسلحة نووية لمساعدتها على استعادة أراضيها المحتلة، وحشدت عشرة آلاف جندي لنصرة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية[5]. ودعمت الصين مصر في حرب عام 1973، وصوتت ثمانِي مرات في مجلس الأمن لمصلحة قرارات تدين إسرائيل ما بين عامي 1971 و1974‏[6]. وخلال الثمانينيات من القرن العشرين دعمت الصين عملية السلام العربية – الإسرائيلية[7]، في إطار مساعي البلدان العربية وإسرائيل لحلّ الصراع بينهما بالطرق السلمية.

وبعد انتهاء الحرب الباردة رفضت الصين الهيمنة الدولية المفروضة من القطب الواحد، وأعلنت صراحة رفضها تدخُّل الولايات المتحدة في شؤون الشرق الأوسط. فرغم الانقسام العربي حول حرب الخليج الثانية (1990 – 1991)، عارضت الصين الهجوم العراقي على الكويت ورفضت محاولة الولايات المتحدة حلّ الأزمة العراقية – الكويتية بالقوة، وشددت على ضرورة حلّها وفقاً للقرار العربي المشترك، وهو الموقف الذي توافق مع الموقف السوري في حينه[8]. ورغم تأييد الصين لحل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بالطرق السلمية، انسجاماً مع ما جاء به مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، بقيت الصين تدافع عن الحق العربي في استقلال الجولان وإقامة الدولة الفلسطينية[9].

وترفض الصين المبدأ الذي تتبناه الولايات المتحدة والدول الغربية والذي يقوم على فرض العقوبات على الدول التي تتعارض مع سياساتها كالعراق وإيران وسورية وكوريا الشمالية. ففي أواسط التسعينيات في القرن الماضي قامت الصين بتزويد سورية بمئة وخمسين صاروخ أرض – أرض مضادة للدبابات، متمردة على قرار الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة على البلدان العربية – وخاصة سورية – لشراء الأسلحة. وقد ساعد ذلك على تطوير العلاقات العسكرية بين الصين وسورية[10]. وهو الموقف نفسه الذي اتخذته الصين تجاه إيران متحدية قرار العقوبات الاقتصادية عليها. واتجهت سورية إلى إقامة علاقات وطيدة مع الصين بعد اتهامها من قبل الولايات المتحدة والدول الغربية بالدولة الداعمة للإرهاب، حيث حظروا بيع الأسلحة لها في ظلّ علاقاتها مع حزب الله في لبنان. تجسدت تلك المساعي بزيارة الرئيس السوري بشار الأسد الصين لأول مرة عام 2004، وعكست تلك الزيارة اتفاق الطرفين الصيني والسوري على رفض الحرب الأمريكية على العراق في إطار حرب الولايات المتحدة على الإرهاب. فبقي الموقف الصيني من العرب متوازناً، وحافظت الصين على التزامها بدعم حقوقهم بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر.

وخلال عهد الثورات العربية رفضت الصين التدخل الخارجي لتقويض الأنظمة – كما حصل في ليبيا وسورية والضربة العربية الموجهة ضد الحوثيين في اليمن – معتبرة أنَّ التدخل الخارجي في أفغانستان والعراق ومن بعدها ليبيا وسورية واليمن لتغيير الأنظمة بالقوة ألحق مخاطر ومعاناة بالشعوب. وتنظر الصين إلى الثورات العربية على أنها اضطرابات، ترجع إلى عوامل داخلية اجتماعية واقتصادية في الأساس وليس لأسباب سياسية. وترفض الصين أي تدخل خارجي في تلك الثورات، معتبرة أنه يعكس التدخل في الشؤون الداخلية للدول. يأتي ذلك الموقف الصيني تأكيداً لحق العرب في تقرير الشكل الديمقراطي الذي يناسبهم وطبيعة التنمية التي يحتاجون إليها، وليست تلك المفروضة عليهم من الخارج.

وترى الصين أن الثورة السورية تحوّلت إلى نزاع مسلّح بين الدولة ومسلّحين معارضين بعضهم متطرف، فرحبت بجهود حلّ الأزمة السورية بشكل سلمي ضمن إطار مؤتمر جنيف[11]. وكان مؤتمر جنيف الأول قد طرح ضرورة التزام الدول المشاركة فيه بسيادة سورية واستقلالها ووحدتها الوطنية وسلامة أراضيها، والتحرك السياسي بقيادة الدولة السورية باتجاه الترتيب لعملية انتقالية تلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري، والعمل على وضع حدّ للعنف وانتهاكات حقوق الإنسان، إلا أن الصين عارضت مؤتمر جنيف الثاني بسبب التوجه لعزل إيران عن المشاركة في المؤتمر. كما وافقت الصين على أول قرار أصدره مجلس الأمن بخصوص الأزمة السورية الذي نص على مهام رقابية لتجاوزها وذلك بموجب الفصل السادس من الميثاق. بالإضافة إلى ذلك عارضت الصين استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية، وسعت إلى دعم الجهود الأمريكية – الروسية للتخلص منها. فشاركت الصين في حماية السفينة الأمريكية التي وجهت لتدمير ترسانة الأسلحة الكيميائية السورية، تنفيذاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2118.

إلا أن الصين لا تثق بنيّات واشنطن الراغبة في إسقاط النظام السوري، وتعتبر التدخل العسكري الغربي في سورية مقدمة للسيطرة الغربية عليها. يأتي ذلك الموقف الصيني في إطار اتهامها الصريح لواشنطن بالسعي لبسط هيمنتها على سورية كما تبسطها على معظم مناطق الشرق الأوسط. فاستخدمت الصين الفيتو أربع مرات لإسقاط مشاريع قرارات تبنتها الولايات المتحدة في مجلس الأمن تهدف إلى تقويض النظام السوري، متحججة بأن نصوص تلك المشاريع تتنافى مع مبدأ احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والذي يعد أحد المبادئ الخمسة الثابتة التي تؤمن بها الصين في تحقيق سياستها الخارجية. كما قاطعت الصين المشاركة في عدد من مؤتمرات أصدقاء سورية، بعد أن اتهمتها بالسعي لحلّ الأزمة السورية عسكرياً. رفضت الصين كذلك الاشتراك في الحرب على التنظيمات الإرهابية في سورية التي أعلنت عنها الولايات المتحدة.

وتتفق كل من الصين وسورية في عدد من القضايا أهمها إحلال السلام في الشرق الأوسط وفقاً لمبادئ الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام، وهما يرفضان الهيمنة الأمريكية. ويتفق الطرفان على ضرورة عدم ربط الإرهاب بدين أو قومية أو بشعب معيّن، كما يميز الطرفان بين الإرهاب المدان وبين النضال المشروع للشعوب من أجل الحرية والاستقلال، وكلها مبادئ أيديولوجية أخلاقية سامية. ويأتي دعم الصين لسورية بناء على معطيات أيديولوجية يقوم الفكر السياسي الصيني على أساسها، بالإضافة إلى اعتبارات أخرى.

عكست المعاناة التي عاشتها الصين بسبب التدخل الاستعماري منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى ظهور جمهورية الصين الشعبية، نظرة صينية سلبية إزاء تدخلات الأجانب، وبقي ذلك محدداً رئيساً من المحددات التي تحكم سياستها الخارجية. فشكلت الحروب الاستعمارية أول اتصال للصينيين مع العالم الغربي، تبعت بحرب الأفيون الأولى ومقايضة البريطانيين الأفيون بالفضة الصينية، التي انتهت بمعاهدة مذلّة تفرض على الصين دفع تعويضات وفتح الأسواق وإقامة مستعمرات للبريطانيين. كما يجسد الاحتلال الياباني للصين وما لحقه من تنكيل بالشعب الصيني عام 1894 صفحة من صفحات المعاناة الصينية من التدخل الأجنبي. ويصعب على الصينيين إغفال التأثير السلبي للعقوبات التي فُرضت على بلادهم بقيادة الولايات المتحدة لسنوات طويلة خلال فترة الحرب الباردة، كأحد فصول المعاناة التي لحقت بالشعب الصيني.

بقيت الصين تشكك في نيات الطرف الآخر خصوصاً الغربي منها، فظل مفهوم الأمن القومي الصيني مركزاً على حماية الحدود. وترفض الصين أي تدخلات خارجية في سياستها، وتتحسس لأي تحركات عسكرية ضمن محيطها الاستراتيجي. وفضل الصينيون الدخول في سياسة من العزلة التامّة عن العالم لقرون طويلة مضت كنتيجة مباشرة لمعاناتهم من التدخل الأجنبي، وكإحدى الاستراتيجيات التي تبنتها الدولة الصينية في تعاملاتها الخارجية. ولم تتردد الصين في العودة إلى تلك الاستراتيجية خلال العصر الحديث، فانتهجت استراتيجية خارجية تقوم على العزلة بعد قيامها بالثورة الثقافية الكبرى ما بين عامي 1966 و1976، وذلك عملاً بنظرية أطلق عليها «سور الصين العظيم»، الأمر الذي يفسر تقوقعها داخل حدودها وامتناعها عن ممارسة أي دور حيوي خارج تلك الحدود. فقلصت الصين حجم التمثيل الدبلوماسي مع دول العالم، ومالت إلى سياسة النأي بالنفس وعدم الانخراط في الشؤون العالمية. ورغم تراجعها عن سياسة العزلة وتبنيها سياسة خارجية منفتحة على العالم بعد انتهاء الثورة الثقافية، بقي الهاجس من خطر التدخل الغربي حاضراً في رؤيتها الخارجية. فلم تنجح الصين في التخلص من التهديدات الخارجية لأمنها واستقرارها خصوصاً من قبل الولايات المتحدة.

تنبهت الولايات المتحدة لخطر الصعود الصيني منذ نشأه الجمهورية الصينية عام 1949، فدعمت تايوان للانفصال عن الصين، كما ساندت عسكرياً كلاً من اليابان والهند، بما اعتبرته الصين موجهاً ضدها لتحجيم دورها الإقليمي والعالمي. وفي فترة الحرب الباردة رغم تلاقي أهداف الطرفين الأمريكي والصيني في السعي للحد من النفوذ السوفياتي في آسيا، لم تتخل الولايات المتحدة عن قلقها من الصعود الصيني، فعانت الصين الآثار السلبية للعقوبات الأمريكية التي فرضت عليها.

توسعت حدة الصراع بين الدولتين الأمريكية والصينية بعد انتهاء الحرب الباردة، بعد اعتقاد الولايات المتحدة بأن الصعود الصيني بات يهدد مصالحها الحيوية وأمنها القومي. يأتي ذلك في ظل رفض الصين هيمنة القطب الواحد ودعوتها لقيام عالم متوازن متعدد الأقطاب. فسعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى وجود عسكري في آسيا وفي مناطق تمثل مجالاً حيوياً للصين، وذلك بهدف تطويق الصين وردعها ولتحقيق توازن إقليمي في آسيا. واعتبرت الصين أن تمدد الناتو شرقاً وعملياته العسكرية في كوسوفو والانتشار الصاروخي الدفاعي الأمريكي في مناطق عديدة من العالم، وتقوية التحالف الأمني الأمريكي – الياباني، وتصاعد مبيعات الأسلحة الأمريكية لتايوان، تهديداً مباشراً لأمنها[12].

وصلت العلاقات الأمريكية – الصينية إلى ذروة سلبيتها عندما أرسلت الولايات المتحدة اثنتين من حاملات الطائرات إلى منطقة تايوان، فتقابل الطرفان لأول مرة منذ حرب فيتنام في مواجهات عسكرية مباشرة وذلك عام 1996. ورغم المساعي لتطوير العلاقات إيجابياً بين الطرفين، بقي التشكك وعدم الثقة بالنيات حاكماً للعلاقة بينهما. فرغم تحسن العلاقات بين الصين والولايات المتحدة بعد زيارة الرئيس الصيني (زيانغ زيمين) للولايات المتحدة عام 1997‏[13]، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الصين، وباعت مقاتلات إف 16 لتايوان في العام التالي[14]. وعكست تفاعلات حادثة إسقاط الصين لطائرة التجسسّ الأمريكية عام 2001 تعقيدات تلك العلاقة.

بعد توجه إدارة الرئيس بوش الابن لكسب الصين إلى جانب التحالف الدولي في الحرب على الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، حيث عكست زيارات الرئيس بوش للصين خلال عامي 2001 و2002 ذلك التوجه، تعاونت الصين مع الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب. ورغم ذلك التعاون لم ينتهِ الصراع بين الدولتين، خصوصاً مع تصاعد مكانة الصين كقطب عالمي مؤثر ومنافس للولايات المتحدة، ولم تخفِ الولايات المتحدة قلقها من ذلك الصعود الصيني، فقامت بإعادة تمركز قواعدها العسكرية في مناطق آسيوية قريبة من الحدود الصينية، في حين عارضت الصين إقامة نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي في مناطق نفوذها، وبقي جوهر الصراع على حاله.

تزامن عهد الثورات العربية مع إعلان الولايات المتحدة عن تمركز استراتيجيتها الخارجية خلال القرن الحادي والعشرين على الاستثمار الدبلوماسي والاقتصادي في منطقة المحيط الهادئ بما يعتبر تهديداً مباشراً للصين في منطقة نفوذها. فدعا الرئيس باراك أوباما عام 2012 الولايات المتحدة لمراجعة منظومتها الدفاعية المتركزة في آسيا ومنطقة المحيط الهادئ. واعتبرت الصين أن المناورات العسكرية الأمريكية المشتركة مع اليابان وكوريا الجنوبية تشكل تهديداً يهدف إلى تطويقها أمنياً، ولم تخفِ قلقها من بيع الولايات المتحدة أسلحة لتايوان في صفقة قيمتها ستة مليارات دولار. وساهم وضع الدرع الصاروخية للناتو في تركيا في تزايد ضرورة تدخل الصين ضمن معادلات منطقة الشرق الأوسط، في ظل الدور التركي الصاعد فيها، وحساسية العلاقات التركية – الصينية، بسبب الامتداد الديمغرافي التركي داخل الصين في إقليم سينكيانج المسلم، حيث يوجد في الصين نحو خمسة وعشرين مليون مسلم.

وتخشى الصين من وصول صدى الثورات العربية إلى أراضيها وكذلك من سيطرة الأحزاب الدينية في دول الشرق الأوسط، خوفاً من أن يشكل ذلك تصعيداً لحراك عدد من الحركات الانفصالية في الصين، وعلى رأسها المسلمون. ويحارب بعض أفراد من الأقليات الصينية المسلحة الموجودة في الصين إلى جانب المعارضة في سورية، ومنهم متشددون صينيون من قومية الأغور تلقوا تدريباً على يدّ مسلحي الدولة الإسلامية في العراق والشام لتنفيذ أعمال إرهابية في الداخل الصيني. وتعتقد الصين أن استقبال الولايات المتحدة الدلاي لاما زعيم الأقلية البوذية عام 2011 يعتبر بمنزلة تشجيع للجماعات الانفصالية، بما لا ينفصل عن توجّهها للمصالحة مع الإسلام السياسي، وشكلاً من أشكال التدخل في سياستها الداخلية. وتعتبر الصين أن انتقادات الولايات المتحدة لها بزيادة إنفاقها العسكري، ومطالبتها برفع أسعار عملتها وبإصلاحات داخلية، واتهامها بانتهاك حقوق الأقليات وحقوق الإنسان والحريات العامة، هو تدخل في شؤونها الداخلية.

وتعتبر الصين أيضاً أن محاولات الولايات المتحدة لزعزعة استقرار المنطقة العربية يأتي لسدّ الطريق أمام إمدادات النفط التي تصل إليها، وخصوصاً أن ذلك جاء بعد تراجع اهتمام الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط وسعيها للخروج منها، بعد اكتشاف كميات هائلة من النفط في كندا والبرازيل وتطوير العديد من التقنيات لاستخدام الطاقة البديلة والطاقة الكامنة في باطن الأرض كبديل مستقبلي للنفط. في حين تعتقد الصين أنَ التعاون الاقتصادي يحتاج إلى توافر الأمن والسلم في العالم؛ الأمر الذي يفسر مساعيها للتهدئة وحلّ المشكلات الدوليّة بطرق دبلوماسية من خلال استراتيجية تقوم على أساس علاقة صفر مشاكل مع العالم الخارجي[15]؛ فسعت الصين إلى المحافظة على علاقتها التجارية مع الحكومات الجديدة في الدول التي اجتاحتها الثورات الشعبية. وتخشى الصين من أن يؤدي سقوط النظام السوري إلى صعود نظام جديد يكون أقرب إلى الغرب، فتفقد الصين حليفاً مهماً لها في منطقة الشرق الأوسط. كما أن أي تدخل غربي في سورية من شأنه أن يمتد ليصل إلى العراق الذي يشكّل مورداً نفطياً مهماً للصّين.

أدت التطورات الدولية، وخصوصاً تلك الحاصلة في الشرق الأوسط، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وما أعقبها من تطورات حتى انطلاق حقبة الثورات العربية، إلى فرض التدخل الصيني في معادلة الصراع في هذه المنطقة، وخصوصاً أن انهيار المنطقة أمنياً بات يشكل خطورة محتملة على الأمن القومي الصيني مباشرة، وليس فقط على مصالحها الاقتصادية. ولا تخرج تلك التحولات الأمنية الخطيرة في الشرق الأوسط عن التدخلات والترتيبات الأمريكية فيها التي تعد منطقة لنفوذها منذ ما يقرب من قرن من الزمان. ولا تستطيع الصين أن تفصل تلك الأوضاع الأمنية المتدهورة في منطقة الشرق الأوسط، عن إعلان الولايات المتحدة بتحويل مناطق اهتمامها إلى مناطق النفوذ الصيني المباشرة في آسيا والمحيط الهادئ.

تعد المرونة السياسية لتحقيق المصالح ركيزة من ركائز الفكر السياسي الصيني، وهي تظهر في العديد من الروايات الصينية التقليدية. فقد شبَّه لاو تزي، الفيلسوف الصيني ومؤسس الديانة الطاوية في كتابه التاو، المرونة السياسية بحركة التنين المتناسقة. ويرى العديد من المحللين أنَّ جذور البراغماتية السياسية جاءت من الصين. ويُطلق مصطلح الدولة البراغماتية على الدولة التي تنتهج سياسة خارجية تضع المصلحة الوطنية أساساً لعملها، دون التزام بتوجه أو سلوك معين، ودون الاعتبار لمبادئ أو مثل محددة كحقوق الإنسان أو مصلحة الدول الأخرى. ورغم ذلك التناقض بين مبادئ الدعوة للتآخي والسلام وفعل الخير وبين البراغماتية السياسية استطاعت الصين الموازنة بينها في سياستها الخارجية في تناغم غريب عكس الطبيعة المميزة للهوية الصينية. فتعتمد السياسة الخارجية الصينية استراتيجية التغيير بهدف تحقيق مصالحها دون وضع اعتبار لتحالف معين أو مبدأ محدد، الأمر الذي يسمح لها بتبديل تحالفاتها بسهولة، وبمعارضة السلوك السياسي لدولة معينة من جهة؛ وبإقامة علاقات اقتصادية معها من جهة أخرى.

يُظهر تتبع مسار الاستراتيجية المتغيِّرة للسياسة الخارجية الصينية، أنها بعد نشأتها انتقلت في سياستها الخارجية من الاعتماد على الاتحاد السوفياتي كشريك استراتيجي، إلى الاعتماد على النفس من أجل إعادة البناء ومتطلبات النهضة، وذلك خلال عهد الثورة الثقافية في إطار عهد من العزلة التامّة عن المجتمع الدولي. وبعد عام 1975 انتقلت السياسة الخارجية الصينية من استراتيجية العزلة إلى الانفتاح على دول العالم خصوصاً النفطية منها، بعد توجهها نحو التطور الاقتصادي والتصنيع. وبعد انتهاء الحرب الباردة باتت الصين تبحث عن دور ونفوذ سياسي، ينسجم مع مكانتها الاقتصادية التي نجحت في تحقيقها. وبعد دخول الألفية الجديدة اعتمدت الصين سياسة تتناسب مع مكانتها الدولية الجديدة، بعد أن باتت أحد الأقطاب العالمية على خريطة السياسة الدولية، فانخرطت في القضايا الدولية، وقاومت هيمنة القطب الواحد، ودافعت بقوة عن مناطق نفوذها.

ولا تتوانى الصين عن تبديل تحالفاتها تحقيقاً لمصالحها، فبعد أن وصلت علاقاتها مع الاتحاد السوفياتي إلى تحالف متين بعد انتصار الثورة الشيوعية في الصين، تخلت عن ذلك التحالف في إثر تباينات أيديولوجية ومشاكل حدودية ما بين عامي 1959 و1966، ثم عادت الصين وطورت علاقاتها إيجابياً مع روسيا بعد انتهاء الحرب الباردة؛ فحلت مشكلة الحدود بشكل نهائي بين البلدين، ووقع البلدان اتفاقية أمنية مشتركة، وأعيد العمل بتبادل الزيارات على أعلى مستوى[16]. وأيدت الصين السياسة الروسية في الشيشان، ودعمت روسيا وحدة الصين وحقها في استرجاع تايوان، وناهضت المطالب الانفصالية في إقليم التبت. وأسس البلدان منظمة شنغهاي، الأمر الذي عكس توافقهما حول الأهداف في المنطقة الآسيوية[17].

وتعارض الصين السلوك السياسي لدولة معينة صراحة من جهة، وتحتفظ بعلاقات سياسية واقتصادية وحتى عسكرية معها من جهة أخرى. فرغم سيطرة حالة من الشك وعدم الثقة على العلاقات الصينية – الأمريكية، خصوصاً بسبب توطيد العلاقات العسكرية الأمريكية مع تايون منذ التسعينيات من القرن الماضي[18]، استمرت الزيارات المتبادلة بين البلدين، واستؤنف التعاون العسكري، وشهد التعاون الاقتصادي وحجم التبادل التجاري تطوراً متصاعداً. فلم تعاكس الصين سياسات الولايات المتحدة أو عملت على التصادم معها، ويرجع ذلك لتقاطع المصالح الاستراتيجية الصينية بين البلدين[19].

تتجسد براغماتية السياسة الخارجية الصينية في تناقض مواقفها تجاه قضايا بعينها. فرفضت الصين توجيه الاتهامات الأمريكية للعرب والمسلمين على أنهّم أطراف في أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، كما رفضت أي تدخّل عسكري أمريكي في المناطق التي وصفتها الولايات المتحدة بأنها معقل للإرهابيين، دون تقديم أدلة على ذلك. في حين تعاونت الصين مع واشنطن في الحرب على الإرهاب، فدعمت جميع قرارات الأمم المتحدة ضد الإرهاب، وأصدرت منظمة شنغهاي التي تعتبر الصين أحد أعضائها قراراً يدعو إلى مقاومته، شبيهاً بذلك الذي صدر عن الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي. كما ساهمت الصين في استهداف تمويل الأنشطة «الإرهابية»، وتبادلت مع واشنطن المعلومات الاستخبارية لأجل ذلك الهدف[20].

ورغم معارضة الصين لحرب الولايات المتحدة على العراق، اعترفت بنتائج الحرب وساهمت في مشاريع إعادة إعمار العراق. كما استجابت الصين للضغوط الغربية بخصوص إيران، وبعد أن كانت شريكها النووي الرئيس، قللت اعتمادها على النفط الإيراني لمصلحة زيادة وارداتها من نفط دول الخليج. كما استفادت الصين من عروض تكنولوجية إسرائيلية في إطار صفقات متبادلة بينها وبين إسرائيل، مقابل تعهد صيني بالحدّ من بيع السلاح إلى الدولة السورية وإيران، ورغم ذلك لم تفقد الصين علاقاتها بهذين البلدين. ورغم مواقفها المؤيدة للحق الفلسطيني والعربي في الأراضي المحتلة عام 1967، رفضت الصين الاعتراف بحكومة حركة حماس بعد فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2007، أو اعتبار القدس عاصمة الدولة الفلسطينية في مؤتمر التعاون العربي – الصيني عام 2010. ويتناقض موقف الصين المؤيد للوجود الأمريكي والعمليات العسكرية في أفغانستان مع موقفها المعارض للتدخل الأجنبي في ليبيا وسورية واليمن إبان حقبة الثورات العربية، ومع دعواتها عموماً بعدم التدخل في سياسات الدول الخارجية.

عبَّرت الصين صراحة عن الهدف الرئيس لسياستها الخارجية والممتد حتى أواسط القرن الحادي والعشرين، بالسعي لتحقيق القوة والازدهار للبلاد والرفاهية للشعب الصيني، وخصوصاً أن الصين ترى نفسها دولة في طور النمو. فدخلت إلى مرحلة الانفتاح الاقتصادي متجهة نحو التصنيع، بعد دعوة الرئيس دنغ شياو بينغ عام 1978 إلى التوجه نحو الإصلاح الاقتصادي بهدف تدارك التخلف الذي لحق بها خلال عهد الثورة الثقافية. ويقوم أساس مصالح الصين على توفير سبل تطوير اقتصادها، وضمان علاقات سياسية ودبلوماسية مع دول العالم. فاهتمت الصين بتوفير موطئ قدم وجني تحالفات في المناطق ذات الطبيعة الاستراتيجية. ويعد العامل الجيوسياسي من بين أهم المتغيرات المتحكمة في سياسة الصين الخارجية، إذ لم يفقد ذلك المتغير أهميته لدى الصين. فرغم أن إزالة الحدود التقليدية بين الجغرافيا الاقتصادية والجغرافيا السياسية قد برزت بوضوح مطلع القرن الحادي والعشرين[21]؛ فإن الصين تعتبر من الدول السباقة التي وصلت إلى تلك النتيجة مبكراً منذ خمسينيات القرن الماضي، ومن الملاحظ أن أهمية العامل الجيوسياسي تطور طردياً مع تصاعد مكانة الصين عالمياً.

بعد التوجه نحو تطوير الاقتصاد في منتصف السبعينيات، تبوأت القضايا الاقتصادية مقدمة قضايا سياستها الخارجية، فشرعت الصين في تطوير رؤيتها لأمنها القومي لإشباع مصالحها خارج حدودها. فأعادت علاقاتها السياسية والدبلوماسية مع دول العالم، وسعت للحصول على الموارد النفطية بعد أن أصبح إنتاجها من النفط لا يغطي حاجتها[22]. وبرز الاهتمام الصيني بأمن الطاقة، كأحد مرتكزات أمنها القومي الذي يضمن استمرار دوران عجلة اقتصادها. واهتمت الصين بتطوير علاقاتها مع منطقة الخليج العربي وآسيا الوسطى وأفريقيا لضمان تنوع مصادرها النفطية. فجاء اهتمام الصين بمنطقة الشرق الأوسط انطلاقاً من أهميتها كأهم مصدر من مصادر الطاقة في العالم، ناهيك بكونها إحدى أهم الأسواق الاستهلاكية للمنتجات الصينية[23].

وتعتبر الصين منطقة الشرق الأوسط عامة وسورية خاصة منطقة ذات أهمية اقتصادية واستراتيجية وأمنية لها. ويعود تاريخ العلاقات الصينية – السورية إلى مئات السنين، فهي نقطة التقاء لثلاث قارات عبر عدد من الممرات البرّية والبحرية والجوية. وشكلت سورية الطريق التجاري الذي ربط بلاد الصين ببلاد العرب والذي عُرف بطريق الحرير قديماً. وخلال العصر الحديث اهتمت الصين بسورية منذ نشأة جمهورية الصين الشعبية منتصف القرن الماضي. فشكلت سورية النقطة الأضعف للنفوذ الغربي في منطقة الشرق الأوسط، وخط الدفاع الأول عن مصالح الصين في آسيا الوسطى والقوقاز، والجسر الموصل للبترول من روسيا الاتحادية إلى الصين، وبلد العبور لمعظم النفط العراقي ما بين عامي 1934 و1982 والكثير من النفط السعودي ما بين عامي 1973 و1982. كما تعتبر سورية الرابط الأساسي للبحار الخمسة وفقاً للنظرية الاقتصادية للرئيس السوري بشار الأسد، المتوافقة مع مطامع الصين المستقبلية في بناء حزام اقتصادي مبني على مفهوم طريق حرير جديد.

اهتمت الصين بمد نفوذها السياسي إلى سورية عبر إقامة علاقات مبكرة معها، فوقع الطرفان على اتفاقية دفع التجارة عام 1955‏[24]، قبل قيام أية علاقات دبلوماسية بينهما. وما بين العقد الخامس والسادس من القرن الماضي، وقعت الصين مع سورية نحو ستة عشر اتفاقية ومعاهدة. كما دعمت الصين صمود سورية في التصدي للأسطول السابع الذي أرسلته تركيا لتهديدها بتحريض أمريكي. وعلى الرغم من اضطراب العلاقات الصينية – السوفياتية منذ بداية النصف الأول من العقد السادس في القرن الماضي، وتحالف عدد من البلدان العربية مع الاتحاد السوفياتي على رأسها مصر وسورية، حرصت الصين على استمرار تواصلها السياسي مع سورية، فارتبطت معها بمجموعة من الاتفاقيات منها اتفاقية لزيادة التعاون التجاري جرى توقيعها عام 1963، وأخرى للتعاون الثقافي عام 1965 شكلت أول تعاون ثقافي بين الدولتين.

تطورت العلاقات بين البلدين بعد توجه النظام المصري للتحالف مع الغرب خلال السبعينيات من القرن الماضي، وخصوصاً بعد توقيع مصر معاهدة كامب ديفيد في نهايته، بعد أن باتت سورية نقطة التوازن الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط في وجه السيطرة الغربية. وساهم تلاقي سياسة الطرفين في دعم إيران[25]، طوال فترة حرب الخليج الأولى (العراقية – الإيرانية) التي امتدت بين عامي 1980 و1988، في صقل تلك العلاقات الإيجابية. فوقعت الصين مع سورية عام 1982 اتفاقاً تجارياً طويل الأجل حلّ محل اتفاقية عام 1963. كما قدمت الصين لسورية عام 1985 مساعدة عسكرية وصفقات شراء أسلحة، كما أرسلت مفاعلات نووية لأغراض سلمية، ودربت الخبراء السوريين على كيفية استخدامها، وساعدت الحكومة السورية على بناء مصانع لإنتاج الصواريخ في مدينتي حلب وحماة[26].

وشهد العقد التاسع من القرن الماضي اهتماماً كبيراً من قبل السياسة الخارجية الصينية بالدولة السورية. فوقعت الصين مع سورية العديد من الاتفاقيات؛ منها اتفاقية تشجيع وحماية الاستثمارات المتبادلة، والاتفاق على تقديم قرض بقيمة مئة مليون يوان لمدة عشر سنوات، لاستخدامه في تمويل مشاريع بترولية ومعامل إنتاج الغزل في مدينة حماة السورية عام 1996. كما قدمت الحكومة الصينية عدة منح لسورية بقيمة عشرين مليون يوان على شكل هبات لا ترد خلال عام 1999. ووقعت الصين وسورية اتفاقية بقيمة أربعة وخمسين مليون دولار في بداية الألفية الثانية. وشهد التبادل التجاري بين البلدين تطوراً ملحوظاً خلال تلك الفترة، فارتفع حجم التبادل من سبعين مليون دولار أمريكي عام 1989 إلى مئة وخمسين مليون دولار أمريكي في عام 2000.

بعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، وما ترتب على ذلك من حدوث لقفزتها الاقتصادية الثانية، خلال الأزمة المالية التي واجهت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، تصاعدت حدة المنافسة الصينية للدول الصناعية الأخرى، خصوصاً بعد الإقرار الغربي بمكانة الصين. فسعت الصين إلى ترسيخ نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، مراعاة لمصالحها النفطية وسوق منتجاتها الصناعية. والتقت أهداف السياسة الخارجية السورية، مع المساعي الصينية الهادفة إلى زيادة نشاطها الاقتصادي في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط، بعد طرح الرئيس بشار الأسد عام 2002 استراتيجية تسعى لتحويل سورية إلى قاعدة لنقل الغاز، ومنطقة تجارة حرّة تصل بين الشرق والغرب، عبر ربط البحار الخمسة (البحر المتوسط، بحر قزوين، البحر الأحمر، البحر الأسود والخليج العربي) من خلال سورية. وبينما لم تتحمس الولايات المتحدة والدول الغربية لذلك[27]، رأت الصين في استراتيجية الرئيس الأسد مشروعاً لإحياء طريق الحرير، يمكن أن يسهم في بناء منطقة جديدة للتنمية الاقتصادية في غرب الصين، تكون بمنزلة جسر يربط آسيا والمحيط الهادئ شرقاً بالمنطقة العربية في الوسط ومناطق أوروبية أخرى غرباً، وتشكل بذلك أطول ممرّ اقتصادي رئيسي في العالم، ونمطاً جديداً للانفتاح الصيني[28]. وخلال تلك الفترة وقع الطرفان الصيني والسوري اتفاقات للتعاون في مجالات النفط والغاز والزراعة والصحة والعلوم الطبية والسياحة والتعليم والثقافة والموسيقى والمسرح ما بين عامي 2004 و2005. كما منحت الصين قروضاً ميسرة لسورية. وفتحت سورية المجال أمام الشركات الصينية للاستثمار في مجال النفط والإسمنت. كما تمَّ إنشاء مدينة صناعية في سورية بمساعدة صينية. وقفز حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى تسعمئة مليون دولار أمريكي عام 2005.

وجاء اهتمام الصين بتداعيات الثورات العربية انطلاقاً من تأثيراتها السلبية في مصالحها الاقتصادية، وخصوصاً أن البلدان العربية تشكل سادس أكبر شريك اقتصادي للصين من خلال اتفاقات ثنائية، وتمثل بلدان الخليج نحو 70 بالمئة من تلك الشراكة، وعلى رأسها السعودية. وبالإضافة إلى أهمية سورية الاستراتيجية بالنسبة إلى الصين، تخشى الصين أن يؤثر سقوط النظام السوري الحالي في مكانة إيران الإقليمية كحليف استراتيجي لسورية. وتحتل إيران المرتبة الرابعة في الاستثمارات الصينية، فارتفع عدد الشركات الصينية العاملة في إيران من مئة شركة عام 2010 إلى مئة وست وستين شركة عام 2011‏[29]. وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين اثنين وخمسين مليار دولار عام 2014، الأمر الذي يعني أنَّ الشركات الصينية استثمرت الانسحاب الغربي من السوق الإيرانية لمصلحتها. وتشكل إيران مورداً نفطياً هاماً للصين، كما تعد شريكاً شرساً في رفض الهيمنة الأمريكية.

بدأت العلاقات بين الصين وإيران رسمياً عام 1917، وبرز التعاون العسكري الواضح خلال الحرب العراقية – الإيرانية، حيث زودت الصين إيران بالسلاح الذي كانت بحاجة إليه خلال تلك الحرب في حين رفض الغرب ذلك. ويقوم أساس سياسة الصين تجاه منطقة الخليج ومنها إيران على مبدأ تم إرساؤه في عام 1973، حيث صدقت الصين على مقترح إيران بأن الشؤون الأمنية للخليج ينبغي معالجتها من قبل دول المنطقة وليس من قبل القوى الكبرى. ورغم تغير الظروف السياسية بعد ذلك بقي هذا المبدأ ركيزة أساسية تحكم توجهات السياسة الصينية تجاه إيران. ووفر ذلك المبدأ قاعدة للصين لمعارضة أي تدخل عسكري أمريكي في الخليج بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران، كما شكل أساساً لدعم الصين لإيران خلال سنوات مواجهتها مع الولايات المتحدة بحجة برنامجها النووي. يرتبط ذلك المبدأ برؤية كل من الطرفين الصيني والإيراني لعصر ما بعد الهيمنة الأمريكية الذي يُعتقد أن تؤدي فيه الدول غير الغربية أدوار بارزة. فبقي مبدأ التعاون ثابتاً بين الطرفين والموجه ضد الخصم الاستراتيجي الأمريكي في إطار سعي الطرفين لتحصيل القوة والنفوذ[30].

فرغم رفض الصين المعلن لامتلاك إيران للسلاح النووي، التزمت بالدفاع عن الملف النووي الإيراني في مجلس الأمن والمنظمات الدولية مشددة على سلميته، ونجحت أكثر من مرة في الحيلولة دون إحالته على مجلس الأمن، وإبقائه في حدود الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لكن دون أن تضطر إلى استخدام حقها بالنقض في مجلس الأمن في سبيل ذلك[31]، فتتمسك الصين بحل للملف النووي الإيراني عبر المفاوضات، وترفض التصعيد العسكري أو عقوبات مرتفعة السقف ضد إيران.

كما تراعي الصين في تدخلها في الأزمة السورية، علاقتها الوطيدة مع روسيا، فالبلدان يشتركان في حدود يصل طولها إلى نحو 3500 كيلومتر. ويتفق الطرفان حول العديد من المبادئ الاستراتيجية الحاكمة لعلاقاتهما الدولية على رأسها رفض الهيمنة الأمريكية كقطب أوحد في العالم والتشكّيك بنيات الولايات المتحدة، وتكريس مبدأ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. كما تعدّ الصين شريكاً تجارياً رئيساً لروسيا، إذ وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى سبعين مليار دولار عام 2010، مع توقعات وصوله إلى مئة مليار دولار عام 2015، وتضاعفه عام 2020‏[32]. كما تجمع الدولتين أُطر تنظيمية موّحدة، حيث يشاركان في منظمة شنغهاي ومنظمة الآسيان، إضافةً إلى كونهما عضوين في اللجنة السداسية الخاصة بالملف الكوري، ودول البركس ومجلس الأمن.

وتقلق روسيا من خطط تمدد قوات الناتو ونشر ترسانة درعها الصاروخية على مصالحها الإقليمية والدولية، تماماً كما تقلق تلك التحركات الصين. وتسوِّق روسيا حجة سعي حلف الناتو لتطويق الحضارات السلافية التي تنتمي إليها روسيا والكونفوشية التي تنتمي إليها الصين والهندوسية التي تنتمي إليها الهند بالإضافة إلى الحضارة العربية والإسلامية، وذلك لبناء تحالف رادع لتوسعاته في تلك المنطقة. فاهتمت روسيا بعد صعود بوتين إلى حكمها مطلع الألفية الجديدة بإنشاء تحالفات استراتيجية مع القوى الآسيوية الكبرى على رأسها الصين والهند واليابان وكوريا الشمالية وإيران[33]. كما دعت إلى تكوين مثلث استراتيجي يضم بالإضافة إليها كل من الصين والهند، لمواجهة الهيمنة الأمريكية.

وتقوم روسيا بمحاولات لاستعادة نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري في منطقة الشرق الأوسط، ومزاحمة الولايات المتحدة تدريجياً[34]. فبدأت في التفاعل السياسي النشط في المنطقة، وسعت للانضمام إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، وتحالفت مع الدول المعارضة لسياسة الولايات المتحدة كسورية وإيران، واقتربت من دول حليفة للولايات المتحدة كمصر. كما أعادت روسيا وجودها العسكري في سورية وإيران وليبيا، والمياه الدولية والإقليمية القريبة بتحريك أسطولها البحري في تلك المنطقة. ونجحت روسيا في فتح أسواق جديدة في الشرق الأوسط للأسلحة والبضائع الروسية بأسعار تنافسية خصوصاً مع السعودية وإيران وسورية وحتى مع إسرائيل. ووقفت روسيا إلى جانب النظام السوري في حربه ضد التنظيمات الإرهابية، من أجل تأمين مصالحها في ميناء طرطوس السوري. وتقاربت العلاقات الروسية – الصينية عقب الأزمة الروسية – الجورجية الأخيرة، بعد أن حولت روسيا تجارتها في مجال الطاقة إلى الشرق وتحديداً باتجاه الصين، عقاباً للدول الغربية. وقدرت الصين جدية الموقف الروسي في مواجهة التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة[35].

رغم تجاذب العلاقات الصينية – السورية خلال ستة عقود ما بين المد والجزر، لم تقدم الصين على خسارة علاقاتها السياسية والدبلوماسية والاقتصادية مع سورية حتى في وقت الأزمات. فأدت الصين في الغالب دور الحليف المتعاون والمساند للدولة السورية. ومن الملاحظ أنه كلما تصاعدت مكانة الصين الدولية، تصاعد اهتمام الصين بسورية كنقطة ارتكاز لها في المنطقة. وبعد الثورات العربية أضحت الصين في حاجة ملحة لأخذ زمام المبادرة لتشكيل نمط سياسي ودبلوماسي جديد يكفل الانتقال من الاستجابة الدبلوماسية السلبية وسياسة الانتظار في الشرق الوسط إلى استجابة أكثر إيجابية[36]. فرغبة الصين في الاحتفاظ بعلاقتها التجارية مع الحكومات الجديدة في الدول التي تجتاحها تلك الثورات لا تكفي لضمان مصالحها في تلك المنطقة.

تعتبر الصين قطباً صاعداً بين أقطاب عالمية متعددة، إلا أنها حققت تمايزاً واضحاً خلال عدد محدود من العقود. وتمثل الصين ثالث أكبر دول العالم مساحةً، وأكثرها تعداداً للسكان. ويتوقع أن يتجاوز ناتجها المحلي الإجمالي نظيره الأمريكي في عام 2021‏[37]. كما أن للصين مكانة سياسية متميزة لامتلاكها حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن كواحدة من بين خمس دول في العالم فقط تمتلك هذا الحق. بالإضافة إلى ذلك جعلت القدرات العسكرية المميزة للصين من جيشها ثالث أقوى جيوش دول العالم بعد الولايات المتحدة وروسيا، كما تمتلك السلاح النووي منذ ستينيات القرن الماضي.

بعد صعوده إلى الحكم اعتبر جورج بوش الابن الصين منافساً دولياً محتملاً، رافضاً الاستفادة من توصيات الإدارة السابقة والتابعة للرئيس بيل كلينتون واعتبارها شريكاً استراتيجياً. واعتبرت الصين أحداث الحادي عشر من سبتمبر مساع أمريكية لتكريس مسار النظام الأحادي القطبية، بتعديلها مفهوم الأمن القومي لتكريس هيمنتها في مناطق العالم والشرق الأوسط. فاتبعت الصين استراتيجية خارجية تتناسب مع دورها ومكانتها المتصاعدة، لمواجهة الاستراتيجية الأمريكية بعد أحداث أيلول/سبتمبر. ويمكن تحديد بعض معالم الاستراتيجية التي سلكتها السياسة الخارجية الصينية بعد تلك الأحداث، والتي تتطابق مع إجراءات حددها شين باي أستاذ علم الاجتماع بجامعة بكين في كتابه الصين ستقود العالم أهمها[38]:

– السعي للسيطرة على النفط الآسيوي والتوسع في النشاط الاقتصادي.

– العمل على إنشاء تكتلات سياسية حول الصين، تشكل الصين محورها.

– التحرك العسكري الصيني في أنحاء العالم، خصوصاً في الممرات المائية الهامة، والسعي للسيطرة على بعضها.

– تقوية الوجود الصيني في منطقة الشرق الأوسط عبر استراتيجية منظمة وطويلة الأمد.

– تقديم السلاح والتدريب لدول منطقة الشرق الأوسط.

– إظهار الآثار السلبية لسياسة الولايات المتحدة الخارجية.

وقد تزايد اهتمام الصين بالقضايا الدولية، كمكافحة الإرهاب ومنع انتشار السلاح النووي والجريمة الدولية والتدهور البيئي والدفء الكوني وتأمين الطاقة وحفظ السلام الدولي والصحة العامة واستقرار النظام المالي الدولي[39]. وانضمت الصين إلى عدد من المنظمات الدولية كمنظمة التجارة العالمية في عام 2001، وشاركت في تأسيس منظمة شنغهاي للتعاون، واستضافت الألعاب الأولمبية. كما عينت الصين مبعوثاً خاصاً للشرق الأوسط، وطرحت رؤية لتحقيق السلام في الشرق الأوسط، رفضتها إسرائيل. وطورت الصين علاقاتها الإقليمية الآسيوية والعربية، وركزت على زيادة مشاريعها ومعوناتها الموجهة للدول الحليفة، كما اهتمت بالدفاع عن العدالة وحقوق الشعوب في المحافل الدولية، في مواجهة المواقف الأمريكية المنتهكة لتلك المبادئ والحقوق.

وأدت القدرة العسكرية الصينية دوراً مؤثراً في سياسة الصين الخارجية، وبرز ذلك الدور في ردع الولايات المتحدة من التدخل في الحالة التايوانية، وساهم التسلح العسكري الصيني في منع تايوان من اتخاذ أي سياسات انفصالية. وبعد أن كان الوجود العسكري الأمني الصيني معدوماً في منطقة الشرق الأوسط، بدأت الصين في خلق وجود أمني لها فيها، فقامت بتمويل بناء قاعدة بحرية في ميناء غوادر الباكستاني المطل على بحر العرب القريب من مدخل الخليج العربي ومضيق هرمز، لاستخدامه في مراقبة وتأمين الملاحة، وبخاصة الواردات النفطية. كما أعلنت الصين نهاية عام 2009 عن نيتها إقامة قاعدة بحرية في خليج عدن لحماية سفنها من القرصنة الصومالية. وأرسلت الصين مدمرات حربية إلى الخليج العربي في أكبر وجود بحري صيني في المنطقة. وفي سياق تطوير الصين لانتشار قوتها البحرية، تمكنت لأول مرة من إرسال أساطيلها بعيداً لحماية خطوط النفط المستورد من أفريقيا ومنطقة الخليج[40]. كما نجحت في زيادة التعاون العسكري ومبيعات السلاح لتونس وقطر والكويت وعمان والأردن وسورية والإمارات ومصر والسعودية.

لم يتغير واقع علاقة الصراع بين الطرفين الأمريكي والصيني عندما أعلنت الولايات المتحدة عن تمركز استراتيجيتها الخارجية خلال القرن الحادي والعشرين على الاستثمار الدبلوماسي والاقتصادي في إطار منطقة النفوذ الصيني خلال السنوات الأخيرة، وتماديها بدعم تايوان وانتقاداتها لسياسات داخلية صينية، تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان. إلا أن موقع الصين على الخريطة السياسية الدولية وتوجهات سياستها الخارجية هو الذي تغير. فمنذ مطلع الألفية الجديدة، باتت الصين من بين أهم الأقطاب العالمية الصاعدة، كما باتت سياستها الخارجية أكثر تحدياً وصلابة في الدفاع عن مصالحها كدولة قطبية في هذا العالم المتغير. ويعتبر موقف الصين تجاه الأزمة السورية الحالية انعكاساً لرؤيتها لمكانتها المتصاعدة في المنظومة الدولية، وترجمة لواقع باتت فيه أحد أطراف المعادلة السياسية في منطقة الشرق الأوسط. فتعدى ذلك الموقف حدود الاختلاف الموقفي المعهود مع سياسات الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط ووصل حد التصادم والمواجهة السياسية في سابقة تعد الأولى من نوعها في هذه المنطقة.

طالما دعمت الصين الدولة السورية انطلاقاً من تحقيق مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية، وطالما امتلكت الصين المبرر الأيديولوجي الذي تؤمن به لإضفاء الشرعية على مواقفها الداعمة والمساندة لسورية. إلا أنه بعد أن باتت الصين منافساً رئيساً للولايات المتحدة في العالم وليس في منطقة الشرق الأوسط فقط، كما أصبحت الولايات المتحدة تتجه صراحة للتصدي للنفوذ الصيني حتى في مناطق نفوذها، في ظل تشكيك الصين بنيات الغرب نتيجة تجربتها التاريخية، فمن الممكن اعتبار أن الجبهة السورية تشكل اليوم نقطة توازن هامة للنظام الصيني في منطقة الشرق الأوسط لا يمكن للصين التخلي عنها بسهولة.

خاتمة

تطورت السياسة الخارجية الصينية تجاه سورية اعتماداً على محددَّي المصلحة والأيديولوجيا، وهما محددان أصيلان في الفكر السياسي الصيني. فما بين أهمية سورية الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية للصين، وما بين دعم الصين لسورية على أساس تحقيق العدالة وإرجاع الحقوق والدفاع عن المظلوم، استطاعت الصين أن ترسم سياستها الخارجية تجاه سورية بانسجام تام ما بين تحقيق مصالحها والدفاع عن المبادئ التي تؤمن بها. إلا أن الدعم الصيني لسورية خلال هذه الحقبة يستند بالإضافة إلى اعتبارات المصلحة والأيديولوجيا إلى اعتبار حفظ الصين لنفوذها في معادلة توازن قوى منطقة الشرق الأوسط، كونها باتت أحد الأقطاب الرئيسية لهذا الكون. فتطور السياسة الخارجية الصينية تجاه سورية جاء موازياً لتصاعد مكانة الصين وقوتها.

(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 440 في تشرين الأول/ أكتوبر 2015.

(**) سنية الحسيني: أستاذة العلوم السياسية، برنامج الدراسات الإقليمية، جامعة القدس، أبو ديس – فلسطين.

[1] حسين آغا والخالدي جعفر، الصين واليابان والشرق الأقصى، الدراسات الاستراتيجية (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1982)، ص 113 – 115.

[2] جابر سلمان، «الصين والصراع العربي الإسرائيلي،» الفكر السياسي، العدد 24 (2006)، ص 32.

[3] هينري بيري، الصين في طريق الاشتراكية (دمشق: دار ابن الوليد للنشر، 1956)، ص 112.

[4] هشام بهبهاني، سياسة الصين الخارجية في العالم العربي، 1955 – 1975 (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1984)، ص 62.

[5] مسعود ضاهر، «الحوار بين الثقافة العربية والثقافة الصينية: العلاقات العربية – الصينية… الواقع والآفاق والمستقبل،» المجلة العربية للثقافة، العدد 38 ([د. ت.])، ص 342 – 343.

[6] سعيد الحسن، «العلاقات السورية – الصينية: الوقائع والآفاق المستقبلية،» (رسالة ماجستير، جامعة حلب، حلب، 2006)، ص 89.

[7] صلاح سالم زرنوقة، «التحولات الداخلية والسياسة الخارجية،» السياسة الدولية (1 نيسان/أبريل 1998)،       <http://www.ahramdigital.org.eg/articles.aspx?Serial=219082&eid=3379>.

[8] منعم العمار، «الصين وتطور موقفها من تجارة الأسلحة في الشرق الأوسط،» معهد دراسات الشرق الأوسط، العدد 106 (1997)، ص 32ـ33.

[9] أبو بكر الدسوقي، «الصين والقضية الفلسطينية: الدور والفرص والقيود،» السياسة الدولية (1 تشرين الأول/أكتوبر 1998)،       <http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=219294&eid=8811>.

[10] محمد نبيل، «الصناعات العسكرية الصينية ومبيعاتها لدول الشرق الأوسط،» السياسة الدولية (1 نيسان/أبريل 2000)،       <http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=219828&eid=3987>.

[11] «باريس تشهد مؤتمر أصدقاء سوريا بدون الصين وروسيا،» العربية نت (19 تشرين الثاني/نوفمبر 2014)،       <http://www.alarabiya.net/articles/2012/07/05/224709.html>.

[12] أيمن السيد عبد الوهاب، «تحولات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه القوى الآسيوية،» السياسة الدولية (1 كانون الثاني/يناير 2002)،  <http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=220338&eid=1541>.

[13] رهام الفقي، «مستقبل العلاقات الأمنية الصينية الأمريكية،» قراءات استراتيجية، العدد 3 (آذار/مارس 2001).

[14] أميرة محمد عبد الحليم، النظام الدولي الجديد (القاهرة: دار الأهرام للنشر، 2003)، ص 14 – 18.

[15] يزيد صايغ، «موقف الصين حيال سوريا،» مركز كارنيغي للشرق الأوسط (9 شباط/فبراير 2012)،     <http://carnegie-mec.org/publications/?fa=47149&reloadFlag=1>.

[16] نورهان الشيخ، صناعة القرار في روسيا والعلاقات العربية الروسية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998)، ص 46.

[17] جمال مظلوم، «التعاون الروسي الصيني في إطار منظمة شنغهاي،» السياسة الدولية، السنة 42، العدد 164 (نيسان/أبريل 2006)، ص 62.

[18] شيماء عاطف الحلواني، «دبلوماسية الصين الجديدة،» معهد الإمام الشيرازي الدولي للدراسات – واشنطن،       <http://www.siironline.org/alabwab/arweqat_alketab(20)/213.htm>.

[19] عزمي بشارة، «عودة إلى الحرب الباردة، أم واقع دولي جديد مختلف،» المستقبل العربي، السنة 31، العدد 356 (تشرين الأول/أكتوبر 2008)، ص 18 – 19.

[20] عبير عبد الحليم، «التنين الصيني؛ التحدي الاستراتيجي الجديد القديم للغرب،» معهد الإمام الشيرازي الدولي للدراسات – واشنطن (2005)، <http://www.siironline.org/alabwab/derasat(01)/283.htm>.

[21] جوزيف. س. ناي، مفارقة القوة الأمريكية، ترجمة محمد توفيق البجيرمي (الرياض: مكتبة العبيكان، 2003)، ص 36.

[22] محمد السيد سليم، تحليل السياسة الخارجية، ط 2 (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1998)، ص 100 – 102.

[23] عزت شحرور، «الصين والشرق الأوسط: ملامح مقاربة جديدة،» مركز الجزيرة للدراسات (11 حزيران/يونيو 2012)،       <http://studies.aljazeera.net/reports/2012/06/2012611142554206350.htm>.

[24] محمد دياب، «العلاقات الروسية الصينية: الغلبة للشركة الاستراتيجية،» شؤون الأوسط، العدد 62 (1997)، ص 213.

[25] فهد خزار، «الأبعاد الاستراتيجية للعلاقات الإيرانية الصينية،» دراسات إيرانية (جامعة البصرة)، العدد 15 (2012)، ص 5 – 20.

[26] أحمد طاهر، «توازنات جديدة: مستقبل العلاقات الصينية الأمريكية،» السياسة الدولية (1 تموز/يوليو 2013)،       <http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=1370395&eid=52>.

[27] عبد الوهاب المسيري، «الشرق الأوسط الجديد في التصور الأمريكي الصهيوني،» مركز الجزيرة للدراسات (2 تشرين الثاني/نوفمبر 2006)، <http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2006/11/2/>.

[28] عبد الصمد سعدون عبد الله، «الصراع على موارد الطاقة: دراسة لمقومات القوة في السلوك الدولي للصين،» المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 15 (صيف 2007)، ص 95 – 98، <http://www.caus.org.lb/PDF/EmagazineArticles/15-6.pdf>.

[29] وليد عبد الحي، «محددات السياستين الروسية والصينية تجاه الأزمة السورية،» مركز الجزيرة للدراسات (3 نيسان/أبريل 2012)، <http://studies.aljazeera.net/reports/2012/04/20124314543996550.htm>.

[30] جون جارفر، الصين وإيران: صديقان قديمان في عالم ما بعد الإمبريالية (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2009)، ص 165.

[31] شحرور، «الصين والشرق الأوسط: ملامح مقاربة جديدة».

[32] المصدر نفسه.

[33] منعم صاحي العمار، «نظرة في الأداء السياسي لروسيا،» قضايا دولية (مركز الدراسات الدولية – جامعة بغداد)، العدد 40 (2000)، ص 17.

[34] إبراهيم عرفات، «روسيا والشرق الأوسط: أية عودة،» السياسة الدولية، العدد 170 (2007)،
<http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=221977&eid=1835>.

[35] ثناء فؤاد عبد الله، «العلاقات الصينية الروسية وتحديات النظام الدولي الجديد،» السياسية الدولية، العدد 137 (تموز/يوليو 1999)، ص 24.

[36] نادية حلمي، «التكيف: التوجهات الصينية تجاه الشرق الأوسط بعد الثورات،» السياسة الدولية، <http://www.siyassa.org.eg/newsq/2701.aspx>.

[37] أحمد السيد النجار، «الإمبراطورية الأمريكية: الهيمنة الاقتصادية الآفلة،» السياسة الدولية (9 كانون الأول/ديسمبر 2010)،       <http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=362396&eid=46>.

[38] السيد ولد أباه، عالم ما بعد 11 سبتمبر 2001: الإشكالات الفكرية والاستراتيجية (بيروت: الدار العربية للعلوم – ناشرون، 2004)، ص 78.

[39] فضيلة محجوب، «وعود وحدود الشراكة الأمريكية الصينية،» قراءات استراتيجية (2004).

[40] محمد السيد سليم، «واقع ومستقبل التحالفات في آسيا،» السياسة الدولية، السنة 47، العدد 183 (كانون الثاني/يناير 2011)، ص 52.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button