الدبلوماسية و المنظمات الدولية

صعود دبلوماسية المنتجات الثقافية في سياسة كوريا الجنوبية

تسويق ناعم

وفي ضوء الجدل الذي أحدثه المسلسل الكوري الجنوبي Squid game عالمياً ما بين تحليله كعمل فني شديد الإبهار، وتحليله كأداة للتأثير في الواقع الاجتماعي والسياسي العالمي؛ تتصاعد التساؤلات حول ما يمثله جملة الإنتاج الثقافي الكوري الجنوبي وتأثيره في السياسة العالمية، وكيفية تحول الثقافة الكورية الجنوبية من التسويق للدولة إلى قوة ناعمة تعكس التحولات والظواهر الاجتماعية والسياسية التي يشهدها العالم؛ حيث يمكن إلقاء الضوء على مسارات هذا التحول فيما يلي:

1– سعي مبكر لإيجاد موطئ قدم على خريطة الثقافة العالمية: في بداية انتشار الثقافة الكورية ومنتجاتها، وفي إطار تعزيز الرواج الثقافي لكوريا الجنوبية ودفعه إلى دوائر التأثير في السياسة الخارجية للبلاد؛ أولت حكومة سيول هذا التوجه اهتمامها الكبير من خلال إشراك أشهر الفنانين ومطربي البوب وغيرهم من رموز الفن، ممن يحظون بشهرة واسعة في المحافل الدولية وغيرها من الأحداث التي لم تكن ذات صلة مباشرة بالفن؛ الأمر الذي دفع البعض إلى القول بأن هذا التوظيف لم يتعد كونه مجرد تسويق سياسي (Nation Branding) لم يصل آنذاك إلى مرتبة القوة الناعمة.

2– توجيه الفنون نحو أهداف السياسة الخارجية الكورية: تأتي الخطوة اللازمة في سبيل تفعيل القوة الناعمة لاستغلال الانتشار الواسع الذي حققته منتجات الثقافة الشعبية لكوريا الجنوبية، لتتمثل في توجيه حكومة كوريا الجنوبية كبار نجوم ثقافة البوب لخدمة أجندة السياسة الخارجية للدولة. ومثال ذلك ما قام به رئيس حكومة كوريا الجنوبية عندما استدعى أبرز المطربين للقاء الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وكذلك عند لقائه الرئيس الفرنسي إيمانول ماكرون. وقد عملت كل هذه الفعاليات بأسلوب غير مباشر على توطيد العلاقة بين المتابعين حول العالم وبين الثقافة الكورية الجنوبية من خلال تمثيل هؤلاء الفنانين تقاليدَ وفنونَ ونمطَ الزي التقليدي الخاص بالثقافة الكورية.

دراما نقدية

لم تقتصر مضامين المنتجات الثقافية لكوريا الجنوبية على الترويج للدولة أو تعضيد أجندة سياستها الخارجية فحسب، بل اتجهت الدراما إلى تضمين التحولات والظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية العالمية في إطار نقدي محمل باعتبارات قيمية وثقافية متعددة؛ الأمر الذي يمكن قراءته وفقاً للنقاط التالية:

1– إبراز الهوة الطبقية للعولمة الرأسمالية Global Capitalism: إذ يعد العمل الدرامي الكوري الجنوبي الأكثر شهرة حالياً –وهو (Squid Game)– من أهم الأعمال التي ترصد تداعيات الرأسمالية، اجتماعياً واقتصادياً، على مستوى المجتمع المحلي لكوريا الجنوبية، وكذلك على المستوى العالمي؛ حيث يرصد ما أدت إليه الرأسمالية من فوارق طبقية واسعة، وزيادة إفقار الطبقات الدنيا، وأزمة الديون، وهو ما يفسر ظواهر اجتماعية أخرى بكوريا الجنوبية، مثل ارتفاع معدلات الانتحار، وانخفاض معدل الخصوبة.

2– تصاعد اتجاهات العنف في إطار عولمة الوحشية: يبرز في الدراما التي تنتجها كوريا الجنوبية بوجه عام، تناوُل وتحليل العنف كظاهرة أساسية، باختلاف تصنيفه، مثل مسلسل (العالم الجميل) الذي يناقش التنمر والعنف المدرسي، ومسلسل (أكثر من أصدقاء) الذي يناقش التنمر والاستغلال العاطفي. ومؤخراً مسلسل (Squid Game) الذي تتمركز الوحشية الدموية المباشرة فيه، لتكون بمنزلة الحل الأوقع الذي يقدمه العمل للتكيف مع العالم الرأسمالي وتحدياته المعاصرة.

3– تقويض القيم التقليدية للمجتمع الآسيوي: عبرت الحضارات الآسيوية عن قيمها التقليدية المقدسة عبر تراثها الفكري والثقافي وما يفرضه من تحديات تستهدف تقويض المقوم الأساسي للإنسانية، وهي: قيمة التعاطف مع الآخرين والتضامن مع آلامهم، باختلاف ما تكرسه الأعمال الفنية والدرامية، التي تؤكد أن مراعاة الآخرين والتعاطف معهم سلوك ذميم كإدمان المقامرة، واتضح ذلك في مسلسل (Squid Game) الذي جاءت سمة البطل الأساسي فيه هي التعاطف مع الآخرين وتقديم الدعم، بينما يكرس المسلسل لضرورة التجرد منه كوسيلة للنجاة وتحقيق المكاسب المادية.

4– المغالطات اللغوية ومقاومة التعددية الثقافية: من الملاحظ كذلك حول صعود الإنتاج الثقافي لكوريا الجنوبية من أفلام ودراما؛ احتلالها أعلى نسب المشاهدات في المنصات العالمية، وأشهرها نتفليكس. ويلاحظ كذلك إقبال المتابعين حول العالم على أصناف الفنون بلغات أجنبية وثقافات أخرى، ومنها الكورية، بخلاف ما هو دارج من الهيمنة الثقافية الأمريكية التي ارتبطت بلغة واحدة، وهي الانجليزية، والمنتج الثقافي الأمريكي.

ويرجع ذلك إلى محاولة الهرب من واقع مأزوم باللجوء إلى الخيال الذي يجسد واقع مجتمعات أخرى، لكن سرعان ما يتبدد ذلك عند اكتشاف التحيز السياسي والثقافي الذي تتعرض له هذه المنتجات الثقافية الأخرى من أخطاء ومغالطات في عملية الترجمة التي توفرها نتفليكس إلى اللغة الإنجليزية، والتي تحاول إخفاء رسالة الأعمال المناهضة للرأسمالية والتقليل منها، والتي تعكس تأثيراتها السلبية على الثقافات المختلفة. وتسهم هذه المغالطات اللغوية في محو عامل الاختلاف الثقافي، وتحول دون نقل صورة حقيقية عن الثقافات الأخرى.

5– عولمة ثقافة اللعب لتبرير العنف والوحشية: تبرز بصورة واضحة في الأفلام والدراما الكورية الجنوبية، مفهوم اللعب كثقافة لتبرير العنف والوحشية، وجعلهما مسألة مستساغة، وهي الثقافة ونمط الحياة الذي تفرضه الرأسمالية عالمياً؛ حيث تفرض متطلبات وطموحات عريضة على الأفراد لا يمكن تحقيقها إلا بالتعامل مع العالم من حولهم كأنه لعبة مجردة من قواعد الإنسانية، وإنما يفوز الفرد بقدر استجابته للقواعد المادية التي تفرضها الرأسمالية والانشغال بالتدبير للمراحل التالية عقب كل مرحلة انتصار، بصرف النظر عن إيذاء الآخرين وارتكاب الجرائم. ومن هنا لا يستطيع الفرد أن يخرج نفسه من دائرة اللعبة وقواعدها باستثناء من يُحيد نفسه عن هذا النظام.

دبلوماسية “البوب”

تمكنت فرق موسيقى البوب في كوريا الجنوبية من التأثير، على نطاق واسع، في القضايا المختلفة التي تحتل مركز اهتمام متصاعد في السياسة العالمية، من خلال قدرتها على خلق تيار عريض من جماهير البوب في الولايات المتحدة الأمريكية منذ خمسينيات القرن العشرين، من خلال تضمين موسيقى البوب الأمريكية في موسيقاهم. وقد تزعَّم هذا التوجه فرقة الأخوات كيم (The Kim Sisters) التي كانت بمنزلة أيقونة للثقافة الكورية، وهو ما يمكن تسليط الإضاءة عليه فيما يلي:

1– توظيف فرق البوب الكورية كناشطين سياسيين: تصدت فرق البوب للعديد من القضايا السياسية الثقافية منذ السبعينيات من القرن العشرين، مثل جرائم الكراهية ضد الآسيويين في الولايات المتحدة الأمريكية، عن طريق القضايا التي تبنتها هذه الفرق في أعمالها الفنية، مثل مناهضة التنمر، ورفع الوعي الاجتماعي بقضايا التنوع الثقافي والاختلاف.

2– هيمنة فرق البوب الكورية على مواقع التواصل الاجتماعي: توالت أجيال من فرق البوب، بدايةً من الجيل الأول في التسعينيات، والجيل الثاني من عام 2000، وصولاً إلى عام 2010، ليبدأ الجيل الثالث الذي يستمر إلى الوقت الراهن. ويعد الجيل الثالث لفرق البوب الكورية هو الأكثر تأثيراً في العالم، وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث تمكن من كسر هيمنة الولايات المتحدة على عملية تصدير المنتجات الثقافية إلى العالم، وإغلاق فرص الاستيراد من خلال استخدام منصات وتطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، وأبرزها تيك توك وإنستجرام، للنفاذ إلى الجمهور الأمريكي.

وختاماً؛ فإن هناك العديد من العوامل التي ساهمت في تصاعد تأثير الإنتاج الثقافي لكوريا الجنوبية بمختلف تنويعاته على السياسة العالمية، وفي مقدمتها دعم حكومة كوريا الجنوبية الثقافةَ من خلال سياساتها الرسمية، وتركيزها على تعزيز مفاهيمها حول الدبلوماسية الثقافية لتحويل المنتجات الثقافية إلى قوة ناعمة فعالة؛ هذا بجانب مراعاة القائمين على الصناعة الثقافية الكورية اعتبارات الإبهار البصري الظاهر في الأعمال الدرامية والأفلام، سواء من حيث الديكور والإضاءة والألوان، أو من حيث الإثارة في المحتوى من خلال تضمين محتويات العنف والجريمة أو الألعاب التي تعزز نزعات المنافسة والتحدي في سياقات العولمة.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى