دراسات استشرافية

علم اجتماع المستقبل

عندما قرأت دراسة العالم السوفييتي A.Negfakn من أكاديمية العلوم السوفييتية في عام 1992،لفت انتباهي قوله “أن كل ما يتخيله الإنسان يمكن أن يحققه يوما ما”، ويقدم نماذج على الأساطير التي داعبت خيال الشعوب قديما وأصبحت حقائق ووقائع،وحيث أن التكنولوجيا تعيد تشكيل البيئة الاجتماعية وأنماط التفاعلات، فإنني أتصور أن العالم سيعرف بنيات اجتماعية جديدة تعيد تشكيل مفهوم العائلة والزواج والقرابة والجنس والحلال والحرام…الخ، ولنأخذ نماذج توضيحية حاولت أن ارصدها في عدد من البحوث التي نشرتها في أماكن مختلفة:

1- عندما ثارت قضية المرأة البريطانية التي تعاني من مشاكل في الرحم، قام الأطباء بتخصيب البويضة منها والحيوان المنوي من زوجها ثم تم وضع المخصب في رحم أم المرأة ،ثار نقاش أخلاقي وقانوني حول الموضوع، وتخيلت بعد ذلك أن النساء الارستقراطيات والممثلات وعارضات الأزياء سيعملن على الاستفادة من هذه المسألة(surrogate mother) للحفاظ على رشاقتهن وقوامهن، وقد تصبح فيما بعد وظيفة، وهناك نساء يقمن بهذه الوظيفة(كالمرضعة في التاريخ القديم)،وهو أمر قد يربك مفاهيم القرابة ومعاني الزنا،ويدخلنا في نقاش قانوني وأخلاقي جديد..فهل المولود الجديد سيقول للام الرحم “ماما” ولأم “البويضة” ماما أيضا؟وما هو التوصيف الأخلاقي لهذا الفعل؟

2- لو تخيلنا أن الاستنساخ على البشر أصبح حقيقة (كالنعجة دوللي والجمل الإيراني)،وأصبح الناس يستنسخون أنفسهم في المستقبل، سيترتب على ذلك أسئلة مثل : ما علاقة زوجة الرجل بنسخته؟ وما علاقة الرجل بنسخة زوجته،وهل تعد ضمن الأربعة المسموح له بهن؟ وماذا سيقول أبناء الأصل لنسخة أبيهم(أب أم عم أم ماذا)، وإدا مات الأصل ما نصيب النسخة من الإرث؟..الخ

3- تتحدث الأوساط الطبية عن أن العلم في طريقه إلى تصميم الطفل أو المولود(baby design)، هل تريده ذكرا أو أنثى ؟ أشقر أم اسود أم اسمر أم حنطي؟عيونه زرق أو سود؟…هل سيترتب على ذلك تزايد عدد الذكور على حساب الإناث طالما اننا نحن من يختار جنس المولود والحالة هذه ؟ وهل سيؤدي ذلك إلى تعدد الأزواج مقابل تعدد الزوجات؟ وهل سترتفع المهور بسبب نقص العرض؟ألا يترتب على ذلك انفجار كل القيم التقليدية وتحلل البنيات الاجتماعية؟

4- هل يمكن أن نصل لمرحلة نستبدل سباق التسلح بسباق الجينات؟ ويصبح هناك إمكانية للتحكم في مستويات الذكاء من خلال التحكم في الجينات الخاصة بالذكاء فيصبح لدينا مجتمع من “الآينشتاينيين”؟

5- هل يمكن أن يصبح استبدال الأعضاء للجسم الإنساني مثل استبدال قطع الغيار لأية آلة ؟ وهل سيؤدي ذلك لأن يكون للمريض قدم ياباني وعين صيني وأعضاء تناسلية تايوانية؟ وهنا ماذا يصبح معنى القبيلة والنسب والأصل؟؟

6- هل يمكن أن يرتفع معدل عمر الإنسان في المراحل الأولى إلى 200 سنة بفعل التطور العلمي وتحسن التغذية والتطور الطبي؟ألم يكن معدل عمر البشر في العقود القديمة أقل من المعدل الحالي بإقرار كل الدراسات التاريخية والانثروبولوجية؟ ماذا يترتب على ذلك؟هل يصبح الشباب من 90 الى مائة سنة ؟

قد تبدو المعطيات السابقة غير مستساغة، ولكن لو قلنا قبل 300 سنة أن العلم سيجعل أربعة أفراد أحدهم في موسكو والثاني في واشنطن والثالث في القاهرة والرابع في باريس يرون بعضهم ويسمعون بعضهم ويتشاجرون في نفس اللحظة وفي نفس المكان؟ ألا نراهم الان على شاشات التلفزيون يفعلون كل هذا؟ لقد كانت المسافة بين المحاربين القدماء لا تزيد عن طول الذراع والسيف ويشاهدون بعضهم..ثم اصبحت لمسافة البندقية…ثم المدفع فالصاروخ الى ان وصلنا للنووي القادر على ضرب اية بقعة على الارض وغدا ستدور الحروب في القمر والفضاء الخارجي كله…ومن يدري فاليابانيون يدرسون بناء مدن في قاع المحيط…

كل هذا سيغير المنظومة القيمية للبشرية، وستزيد العولمة من الترابط والتماثل..فكل طلاب العالم الان يحملون نفس المعلومات عن تخصصاتهم..وتتشابه النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية تدريجيا، ويتشابه المعمار والفن بانماطه بل ويزداد التأثير المتبادل.. وهو ما يعني ان على علماء الاجتماع ان يستعدوا لتغيير مسلماتهم..وسنرى الروابط الالية ( اللغة والدين والعرق…الخ) تتراجع لحساب الروابط العضوية كما تنبأ دوركهايم..والشرط لكل هذا ان يتحرر العقل من أسر اللحظة الراهنة وان يمارس الاسقاط( projection) للاتجاهات التاريخية على المستقبل.

إن العقل الجامد الملتصق بالأرض، والمجدِب في خياله،والذي يأسره الماضي،سيبقي مجتمعه مكبلا،ولا يحسن إلا استهلاك ما يبدعه الآخرون ثم يتفنن في شتمهم..

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى