الدبلوماسية و المنظمات الدوليةالقاموس السياسي

فن التفاوض Negotiation art

المقدمة

      التفاوض جزء أصيل من حياة الإنسان، إلى حد أنه يمكن القول إن الإنسان كائن مفاوض، فهو في حالة مفاوضات دائمة، سواء كانت على أمور صغيرة أو على قضايا كبيرة، ففي البيت يتفاوض المرء مع أولاده حول المكافأة، التي يستحقونها، في حالة تحقيق النجاح في الدراسة، أو عند تنفيذ أمر بعينه، كما قد يكون في حالة تفاوض معهم ومع والدتهم، حول المكان الذي سيقضون فيه العطلة الصيفية. وتدور مفاوضات أخرى بين أفراد الأسرة، بشكل أو بآخر، عن أشياء تتصل بحياتهم. ومنذ أن يضع الإنسان قدمه خارج البيت، يجد نفسه في مواجهة أنواع شتى من المفاوضات، التي قد تبدأ بحديث مع بواب العمارة عن شؤون العمارة، كالنظافة وأعطال المصعد وزحام المواقف، ثم تبدأ مفاوضات أخرى مع السكان، على أشياء مشتركة بينهم، أما في الشارع، فهناك مفاوضات لا تنتهي، وتفرض على الإنسان فرضاً، فقد تكون في مفاوضات مع بائع لخفض سعر سلعة ما، أو لانتقاد سلوك معين يؤثر فيه، أو لإقناع رجل الشرطة، مثلاً، بأن الإشارة لم تكن حمراء حين عبر بسيارته. أما في محيط العمل، فإن أنواع المفاوضات، التي يواجهها الإنسان، لا حصر لها، فقد تكون ذات طابع رسمي يتصل بالعمل مباشرة، أو قد تكون ذات طابع غير رسمي يتصل بالصداقات والعلاقات الاجتماعية، التي يفرضها التفاعل مع محيط العمل. ومهما كان مستوى التفاوض، فإنه يحتاج من الإنسان قدرات ومهارات، تعينه على مختلف المستويات، وإن من الخطورة عدم إدراك الإنسان أنه في وسط موقف يقتضي التفاوض. وإذا حدث ذلك، فإنه لن يستطيع تحسين النتائج لصالحه، لأنه إذا لم يخطر في باله، أن هذه الصفقة يدخل فيها بالتفاوض، ولم يكن مستعداً، فإن النتائج غالباً سوف تكون خطيرة وغير مرضية له.

      وقد تضمن النص القرآني حالات كثيرة من الحوار والجدل، تمثل شكلاً من أشكال التفاوض، وتأطيرا لما ينبغي أن يكون عليه الأخذ والعطاء في سبيل أن تمضي حياة الإنسان على نحو، يحقق له بلوغ غاياته، متخلصاً من مثالب المكابرة والمعاندة والمغالطة والسفسطة والمشاغبة.

      وقد ارتبطت خلافة الإنسان في الأرض بتوضيح رباني للملائكة عن هذا الخليفة، سبحانه وتعالى، جاء في قالب شائق، يتمثل في قوله تعالى: )وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون((البقرة، 30). وفي هذه الآية الكريمة يخبر، تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه، بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم، بقوله: )وإذ قال ربك للملائكة( أي واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك…”، “وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول، أي لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم فيه، وهنا أعلمهم بأنه سيخلف في الأرض خلقاً، وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا )أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء(؟ الآية. وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف، لله الحكمة في ذلك. يقولون: يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء، مع أن منهم من يفسد في الأرض، ويسفك الدماء؟ فإذا كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك، ونقدس لك، أي نصلي لك، ولا يصدر منا شيء من ذلك، هلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيباً عن هذا السؤال: )إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ(، أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد، التي ذكرتموها، ما لا تعلمون أنتم، فإني سأجعل منهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويكون منهم الصديقون، والشهداء والصالحون، والعُباد، والزُهاد، والأولياء، والأبرار، والمقربون، والعلماء العاملون، والخاشعون، والمحبون له تبارك وتعالى، المتبعون رسله، صلوات الله وسلامه عليهم”.

      ويشاء الله، سبحانه وتعالى، أن تبدأ حياة أبينا آدم بابتلاء، حينما دخل في عملية مفاوضات خبيثة مع الشيطان، الذي وسوس لآدم وحواء، وجعلهما أمام خيار حسَّنهُ في أعينهما ونمَّقه لهما. فقال لهما: ما نهاكم الله عن هذه الشجرة إلا لوجود فوائد عظيمة فيها، تتمثل هذه الفوائد في إمكانية الخلود. ولأن ابن آدم يحب الحياة وطول الأمد، ولا يرغب في تغيير ما يعتقد أنه وضع مؤقت، فقد وقع ضحية وساوس الشيطان، وعصى ربه بالأكل من الشجرة. وكانت نتيجة هذه المفاوضة، بإذن الله، نزول آدم وحواء من الجنة إلى الأرض، وما يحمل هذا النزول في طياته من ابتلاء.

      وقد جاءت غواية إبليس لآدم وحواء وخروجهما من الجنة في صورة مصيبة واقعة )وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ( (البقرة، 35 ـ 36).

      وجاء في التفسير: ” يبين الله تعالى، إخباراً عما أكرم به آدم، بعد أن أمر الملائكة بالسجود له، فسجدوا إلا إبليس، أنه أباحه الجنة، ليسكن منها، حيث يشـاء، ويأكل منها ما شاء رغداً، أي هنيئاً واسعاً، طيباً.. وأما قوله )ولا تقربا هذه الشجرة(، فهو اختبار من الله تعالى، وامتحان لآدم.. وقوله تعالى: )فأزلهما الشيطان عنها(، يصح أن يكون الضمير في قوله عنها، عائداً إلى الجنة.. فيكون معنى الكلام، فأزلهما، أي: فنحاهما) فأخرجهما مما كانا فيه( أي: من العيش، والمنزل الرحب، والرزق الهنيء، والراحة. )وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلـى حين(، أي قرار وأرزاق وآجال، إلى حين، أي إلى وقت مؤقت ومقدار معين، ثم تقوم القيامة”.

      أما عن دخول إبليس الجنة، لإغواء آدم وحواء، فقد قيل: إن المنع في دخوله مكرماً؛ أما عن طريق السرقة والإهانة، فلا يمتنع، كما قيل: إنه يحتمل أنه وسوس لهما، وهو خارج باب الجنة.

      وبعد أن تاب الله عليهما، كان الهبوط من الجنة. “ويخبر الله تعالى، بما أنذر به آدم، وزوجته، وإبليس، حين أهبطهم من الجنة، والمراد والذرية؛ أنه سينزل الكتب، ويبعث الأنبياء والرسل. ومن أقبل على ما أنزلت من الكتب وأرسلت به الرسل، )فلا خوف عليهم( (البقرة:38) أي: فيما يستقبلون من أمر الآخرة، )ولاهم يحزنون( (البقرة:38) على ما فاتهم من أمور الدنيا”. ومن القصص القرآني، الذي فيه ذلك الأخذ والعطاء، والتفاعل الاجتماعي، بين بني البشر، قصة قابيل وهابيل، إذ يقول تعالى:)وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ((المائدة27 ـ 31). وتبين هذه الآيات “عاقبة البغض، والحسد، والظلم، في خبر ابني آدم، وهما قابيل وهابيل، كيف عدا أحدهما على الآخر، فقتله، بغياً عليه وحسداً له، فيما وهبه الله من النعمة، وتقبل القربان، الذي أخلص فيه لله عز وجل، ففاز المقتول بوضع الآثام، والدخول إلى الجنة، وخاب القاتل، ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين”. وكان، من رحمته سبحانه وتعالى، أن “بعث غرابين أخوين اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه. فحفر له، ثم حثا عليه”. وفي هذا تصوير لما في الحياة من صراع، حتى بين الأخوين، مما يقتضي تخفيف حدته وإزالة أسبابه، ولا يكون ذلك إلا بالحوار والتفاوض للوصول إلى بناء جسور من التفاهم، يقوم على الاتفاق حول المصالح المشتركة.

      وتضمن النص القرآني، من قصص مترعة بالعبر والعظات، ما يعين الإنسان على فهم الحياة بكل أبعادها، بما فيها من سلم ووفاق وتعاون، وحرب ونزاع وصراع، واشتمل، كذلك، على المبادئ والقيم، التي تأطر سلوك الإنسان، وتوجهه في مختلف الأحوال؛ ليحيا متفاعلاً مع محيطه الاجتماعي، بكل عنفوان وقوة، متسلحاً بالتوجيه الرباني؛ ليتجاوز به وسوسة إبليس، كما في قصة آدم وحواء، ووسوسة النفس الأمارة بالسوء، كما في قصة قابيل وهابيل، ومستصحباً قيم الجدل بالتي هي أحسن.

المفاوضات في الإسلام

      الإنسان كائن اجتماعي، كما يقول علماء النفس، لأنه لا يستطيع أن ينعزل عن مجتمعه، ويتقوقع داخل ذاته، وإنما يمتلك ميلاً فطرياً إلى مد جسور الصلة مع أبناء جنسه، ليجد نفسه جزءاً من شبكة من العلاقات، التي تتشكل في صورة حلقات، تتسع كلما ترقى في السلم الحضاري.

      والمجتمع العربي، كغيره من المجتمعات الإنسانية، عرف، قبل الإسلام وبعده، علاقات اجتماعية وإنسانية، تجاوزت حدود الجزيرة العربية، على الرغم مما كان من صعوبة الاتصال، ووعورة الطرق، واضطراب الأمن، وأقام علاقات اقتصادية مع الشعوب المجاورة، وتضمنت مثل هذه العلاقات أنواعاً من المفاوضات، التي شملت جوانب الحياة الدينية، والسياسية، والاقتصادية. وكانت قريش ـ على سبيل المثال ـ تقوم بتأمين الطرق، وضمان حرية التبادل التجاري، وعقد مناذرة الحيرة تحالفاً سياسياً مع الفرس، بينما تحالف الغساسنة مع الروم، على أساس تبادل المنافع والمصالح المشتركة، كما كانت القبائل توقع فيما بينها معاهدات، لترسيم الحدود بينها، وتحديد مناطق الرعي لكل منها، وموارد المياه، واقتضت مثل هذه الصيغ للتعايش مفاوضات كثيرة، قبل أن تتبلور في شكل معاهدات وتحالفات. ومن صور المعاهدات المعروفة قبل الإسلام:

  1. المساندة: وهي تحالف قبيلة مع أخرى عند الحاجة، وهي أشبه ما تكون بالتحالفات العسكرية في عالم اليوم.
  2. الموادعة: وهي نوع من الصلح، بحيث لا تعتدي قبيلة على أخرى، وكان لها أجل محدود، ولم تكن مدتها تزيد على عشر سنوات.

      وعندما اتسعت حدود الدولة الإسلامية، اتخذت هذه المعاهدات أشكالاً أكثر تطوراً، تمثلت في عهد الأمان. وهذا يكون بين المسلمين ومواطني دولة العدو، فيستأمنون على حياتهم، وأموالهم، وأعراضهم. وكانت مدته، غالبا، لا تزيد على العام، بينما كان عهد الذمة يتمثل في التزام سكان البلاد المفتوحة من غير المسلمين، دفع الجزية، إذا ظلوا على ديانتهم.

      وهذا العهد كان ينسحب على الأجيال المتلاحقة، ما دامت متمسكة بدينها، أما عهد الصلح فكان يمكن أن يكون محدداً بأجل أو دائما، إلا أن المسلمين كانـوا ميالين إلى عدم زيادته على عشر سنوات، كما هو الحال عند عقد صلح الحديبية.

      ومن الطبيعي أن يكون الوصول إلى مثل هذه العهود، من خلال مفاوضات، تجري بين المسلمين وغيرهم. وكان المسلمون، إذا اقتربوا من مدينة، يبعث أمير الجيوش برسالة إلى من يتولى أمرها، يخيره فيها بين الإسلام، أو الجزية، أو القتال. وإذا رضي الطرف الآخر بدفع الجزية، يتم التفاوض بين الطرفين؛ لوضع الشروط والضمان اللازم. وكانت المفاوضات تتم إما من خلال قائد الجيش مباشرة، أو عن طريق مندوب يمثله، وفي حالة إقرار عهد بين الطرفين، يقوم الخليفة، أو من يفوضه، بالتوقيع عليه.

      وتحتاج مثل هذه المفاوضات إلى جولات، حتى تتبلور في صيغة معاهدة صلح، وقد تطول وتقصر حسب مجرياتها، ويتضمن النص ما اتفق عليه الجانبان تفصيلاً.

      ولخطورة ما يترتب على المعاهدات والاتفاقات، ولتعلقها بمستقبل الأمة، وجب توافر عدد من الشروط في الشخص المفوض بتمثيل المسلمين، ومن ذلك أن يكون التفويض خطيّاً أو شفهيّاً من الخليفة ، ما لم يكن الذي يقوم بالمفاوضات هو الخليفة نفسه. ولضمان سلامة ما يترتب على المفاوضات، لا بد للخليفة أن يوقع على المعاهدة، ومن هذه ألا يكون هناك إجبار أو إكراه، لأن من ضمانات نجاح أي اتفاقية، توافر الإرادة، وعدم الإملاء، وحسن النية، والتراضي بين الطرفين.

      أما مضمون المعاهدة، فينبغي ألا يكون مخالفاً لحكم شرعي، وأن يكون فيه مصلحة للمسلمين.

      ويستدل على مشروعية المفاوضات في القرآن الكريم، من قوله تعالى: )وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ( (التوبة، 6)، وجاء في تفسير ابن كثير: “يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: وإن أحد من المشركين”، الذين أمرتك بقتالهم، وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم، “استجارك”، أي: استأمنك، فأجبه إلى طلبته، حتى يسمع كلام الله، أي القرآن، تقرؤه عليه، وتذكر له شيئاً من أمر الدين، تقيم به عليه حجة الله، “ثم أبلغه مأمنه”، أي: وهو آمن مستمر الأمان، حتى يرجع إلى بلاده، وداره، ومأمنه، “ذلك بأنهم قوم لا يعلمون” أي: إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء، ليعلموا دين الله، وتنتشر دعوة الله في عباده، ولهذا كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعطي الأمان لمن جاء مسترشداً، كما جاءه، يوم الحديبية، جماعة من الرسل من قريش، فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما بهرهم، وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم، وأخبروهم بذلك، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم. ولهذا، أيضاً، لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال له: أتشهد أن مسيلمة رسول الله؟ قال: نعم، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، “لولا أن الرسل لا تقتل، لضربت عنقك”. والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة، أو تجارة، أو طلب صلح، أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أماناً، أعطي أماناً، مادام متردداً في دار الإسلام، حتى يرجع إلى مأمنه وموطنه”.

      ويتبيّن لنا من هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى شرع للمسلمين مفاوضة غيرهم، وعقد الصلح معهم. ومن آداب الإسلام، ألا يضار من جاء رسولاً إلى دار الإسلام أو طالباً لرزق، مادام قد طلب الأمان، ومن هذا المنطلق، تسامح الرسول الكريم مع رسول مسيلمة الكذاب. وقد تفاوض الرسول، مباشرة، أو من خلال وسيط، مع أطراف أخرى، كالمشركين في مكة، والمدينة وكاليهود، بل إن الرسول، صلى الله عليه وسلم، بدأ مفاوضات قبل الهجرة، تثبيتاً لدين الله ونشر دعوته، ففاوض ستة من عرب يثرب من الخزرج، في موسم الحج، وفي العام الذي تلاه، عقد بيعة العقبة الأولى مع اثني عشر رجلاً، منهم عشرة من الخزرج واثنان من الأوس، ثم عقد بيعة العقبة الثانية مع ثلاثة وسبعين رجلاً، اثنان وستون من الخزرج، وأحد عشر رجلاً من الأوس، وذلك بعد عام من بيعة العقبة الأولى.

      وبعد الهجرة والانتصار في غزوة بدر الكبرى، تمت مفاوضات بين المسلمين والمشركين حول الأسرى، فكان أن طلب المسلمون أربعة آلاف درهم عن كل أسير، ومن يحسن القراءة والكتابة، ولم يكن معه فداء، يعلم عشرة غلمان من المسلمين.

      ويقدم صلح الحديبية دليلاً حياً على أهمية المرونة في المفاوضات، واستصحاب الرؤية المستقبلية، وهذا ما كان من الرسول، صلى الله عليه وسلم، الذي قبل ألا يُكتَب “بسم الله الرحمن الرحيم”، وألا يذكر أنه رسول الله. بل إنه قبل اقتراح سهيل بن عمرو، ممثل المشركين، “على ألا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك، إلا رددته إلينا” وكان هذا موضع اعتراض عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وكان هذا الصلح، على ما يبدو في الظاهر، فيه إجحاف بحق المسلمين وانتصار لقريش، إلا أنه كان فتحاً للإسلام.

      وقد دخل المسلمون في مفاوضات شتى مع دولتي الفرس والروم، في عهد الخلافة الراشدة، وفي عهد الخلافتين الأموية والعباسية، بل إن المفاوضات، في العهدين الأموي والعباسي، أثَّرت فيهما الصراعات بينهما، فكان هناك مفاوضات لدعم التحالف بين العباسيين والفرنجة؛ لتهديد إمارة الأمويين في الأندلـس، بل إن المفاوضات أخذت أحياناً طابعاً ثقافياً، مثل طلب الكتب النادرة، ودراسة الأماكن التاريخية المتعلقة بأحداث الدولة الإسلامية، أو مما ورد ذكره في القرآن الكريم، مثل سفارة الخليفة الواثق العباسي (842 ـ 847م ) إلى أفيوس بآسيا الصغرى؛ لزيارة قبور أهل الكهف، الذين استشهدوا أيام الإمبراطور دقلديانوس، والذين ورد ذكرهم في سورة الكهف في القرآن الكريم.

      ولما كان للرسل المفاوضين من أثر في الطرف، الذي يفاوض المسلمين، كان حرص الخلفاء على اختيار من يرونه مناسباً لهذه المهمة العظيمة. ومن الصفات، التي توخوها، عند اختيار المفاوضين، أن يكون المفاوض جسيماً، تمام القد، جهير الصوت، ووسيماً، لا تعتمه العيوب، ولا تزدريه النواظر.

      وكان اهتمامهم عظيماً، بأن يكون المفاوض على درجة كبيرة من نفاذ الرأي، وحصافة العقل؛ لاستنباط غوامض الأمور، ومتحلياً بالفصاحة، وطلاوة الحديث، وبلاغة الكلام، كما كانوا يتوخون أن يكون على درجة عالية من الثقافة، وعارفاً بأحداث الأمم، وقبل ذلك، على معرفة بأحكام الشريعة، والأدب، والسير، والتاريخ، كما كان يفضل أن يكون ذا نسب، مترفعاً عن الدناءات وسفاسف الأمور.

      وحيث إن المجال يضيق عن ذكر أنواع المفاوضات، التي جرت في العصور الإسلامية المختلفة، نكتفي بذكر مثالين، يقدمان صورة واضحة عن المبادئ، التي كانت تحكم المفاوضات، في عهد الخلافة الراشدة، وفي العهود، التي تلت.

      من المفاوضات الشهيرة، التي شارك فيها المسلمون، تلك التي كان الروم طرفاً فيها. فنتيجة لما كان للروم من سلطان ونفوذ على مساحات واسعة من هذا العالم، تحتم أن يحدث بينهم وبين المسلمين صراعات مختلفة، لأن المسلمين رأوا أن من واجبهم تبليغ دين الله للناس كافة، فما كان لهم أن يتم ذلك ما لم يوسعوا من نفوذهم، ويبسطوا سلطانهم لإعلاء كلمة الدين، ولم تكن المبادرة بالحرب سياسة، يتبعها المسلمون، وإنما كانوا يبدؤون، دائماً، بالدعوة إلى الإسلام بالحسنى، وهذا ما فعله أبو عبيدة عامر بن الجراح، حين أرسل إلى الغساسنة، حلفاء الروم، بعثة برئاسة هشام بن العاص، شقيق عمرو بن العاص، فاستقبله زعيمهم جبلة بن الأيهم، فرغبه هشام في الإسلام، إلا أنه أعرض إعراضاً ، فوجه إليه هشام إنذاراً شديد اللهجة، فرد بأنه سوف يلتزم ما يلتزم به حلفاؤه الروم، وتوجهت هذه البعثة إلى أنطاكية، حيث هرقل، زعيم الروم، الذي رفض عرض المسلمين بأن يسلموا أو يدفعوا الجزية. فعاد هشام بن العاص، والوفد المرافق له، إلى أبي عبيدة، وأبلغوه بنتيجة سفارتهم، فلم يكن هناك بد من قتال الروم وحلفائهم الغساسنة. ولكن، قبل أن تبدأ المعركة، أرسلت الروم تهدد المسلمين، وتطالب أبا عبيده بالانسحاب والعودة بجيشه إلى بلادهم، بلاد الفقر والقحط، ولكن رد أبي عبيدة جاء أكثر شدة، وبيّن لهرقل إصرار المسلمين على تبليغ دعوتهم، ونشر دين الله، متأكدين من نصره، سبحانه وتعالى. أخافت هذه الرسالة الروم، فطلبوا أن يبعث إليهم أبو عبيدة رسولاً، حتى يمكن التفاهم، وكان ذلك الرسول هو معاذ بن جبل، الذي أعجب به الروم، قبل بدء المفاوضات، لهيبته وثقته في نفسه، وحذّره الروم من قوتهم، إلا أن معاذاً أوضح لهم أن المسلمين لا تعنيهم كثرة أعداد أعدائهم، لأنهم يستمدون أسباب النصر من الله سبحانه وتعالى، وبدأ الروم المساومة، حين وجدوا قوة موقفه، فأعلنوا تنازلهم عن أرض البلقاء، وما والاها من بلاد الأردن، على أن يعينوا المسلمين على قتال الفرس، وعندما أبى معاذ هذا العرض، غضب الروم، متوعدين المسلمين بتشتيت شملهم، ولكنهم رأوا قبل أن يبدأ القتال بينهم وبين المسلمين، أن يتثبتوا من أن هذا الرأي، الذي رآه معاذ، هو رأي قائد المسلمين، أبي عبيدة، أيضاً، فبعثوا إليه رسولاً، يعرض عليه أن يأخذ كل راجل من جند المسلمين دينارين، والفارس خمسة دنانير وثوبين، في حين يأخذ أبو عبيدة ألف دينار، وخالد بن الوليد خمسمائة، وأن يرسلوا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ألفي دينار، مقابل جلاء المسلمين عن بلاد الشام، واحتفاظهم بأرض البلقاء، وما والاها، فردّ أبو عبيدة على المبعوث الرومي، أن رسالة المسلمين تبليغ دين الله، وأنه ليس أمام الروم، إلا الدخول في الإسلام، أو دفع الجزية، لتقع بعد ذلك معركة فحل، في عام 13هـ، لينتصر المسلمون فيها على الروم.

      وقد جرت مفاوضات أخرى مع الروم، قبل معركة اليرموك، عندما بعث ماهان، قائد قوات الروم، مبعوثاً إلى أبي عبيدة، يطلب منه إرسال رسول للتفاوض قبل الحرب، فبعث إليه خالد بن الوليد، يرافقه ميسرة بن مسروق العبسي، مستشاراً له، وقد حاول ماهان أن يتقرب إلى خالد، وأبدى إعجابه بفسطاطه، فوهبه خالد إياه، وعرض ماهان أن يتنازل الروم للمسلمين، عما نالوا من أموال وأسرى في حروبهم مع الروم، مع دفع عشرة آلاف دينار لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وخمسة آلاف لأبي عبيدة، ومثلها لخالد، وألف دينار لمائة من رؤساء المسلمين، وخمسين ديناراً لكل من راجليهم، في مقابل انسحاب المسلمين من بلاد الشام وعدم العودة إليها. وقد رفض خالد هذا العرض، وخيره بين الدخول في الإسلام أو دفع الجزية، مبيناً حرص المسلمين على الموت، أكثر من حرصهم على الحياة، في سبيل إعلاء كلمة الله. وأعقب ذلك قيام المعركة وانتصار المسلمين.

      ومن أشهر المفاوضات في التاريخ الإسلامي تلك، التي تمت بين صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد، في أثناء الحملة الصليبية الثالثة على الشرق 587 ـ 588هـ (1191 ـ 1192م). وقد شهدت هذه الفترة معارك، عسكرية، طاحنة، بين المعسكرين الإسلامي والصليبي، وقد وضعت النهاية في صلح الرملة، الذي وقع بينهما، في 2 سبتمبر/أيلول 1192م (22شعبان 588هـ). وكان للفريقين مسوغاتهما في دخول المفاوضات، وتوقيع هذا الصلح، كما أنهما أظهرا مهارات جمة في التفاوض، ينبغي تحليلها، والوقوف على ما يفيد منها في توضيح الأسس، التي تقوم عليها الدبلوماسية.

      وقد بدأت المفاوضات، عقب وصول ريتشارد إلى الشرق، وبينما كانت المعارك تدور حول عكا، جاء رسول من ريتشارد إلى صلاح الدين، طالباً منه أن يجتمع بملك إنجلترا، فرفض صلاح الدين فكرة الاجتماع، من غير أن يكون هناك أساس يتفق عليه. وكان هذا الاتصال بمنزلة جس نبض لمعرفة الحالة النفسية لكل طرف، والروح المعنوية، التي عليها جيشه.

      وقد أهدى ريتشارد إلى السلطان صلاح الدين بعض الطيور الجارحة، كما كان صلاح الدين دائم التزويد له بالبلح، وما يفضله من فاكهة، وظل ذلك طوال المفاوضات، التي استمرت بينهما.

      ومع أن جيش ريتشارد دخل عكا، وأحدث الكثير من المذابح بين المسلمين، فإن المفاوضات ظلت مستمرة. ولم يرد صلاح الدين إقفال هذا الباب، حرصاً على جيشه، وانتظاراً للحظة المناسبة، وبخاصة أنه وقف على ما كان من خلاف بين قادة الحملة الصليبية، الذين كانت تتكون جيوشهم من جنسيات مختلفة.

      وقد بدأ هذا التمزق بانحياز فيليب الثاني، ملك فرنسا، الذي عاد إلى بلاده، إلى جانب كونراد، بينما أخذ ريتشارد قلب الأسد جانب جي لوستيان.

      وكان الملك ريتشارد على علم بهذا الواقع، فجعل المفاوضات بينه وبين صلاح الدين قائمة. وقد اشترك الملك العادل، سيف الدين، شقيق السلطان صلاح الدين، في هذه المفاوضات، واجتمع ريتشارد قلب الأسد بالملك، في 12 شعبان 587هـ (4سبتمبر 1191م)، وابتدأ الحديث بين الملك وريتشارد، بتناول عواقب الحرب وفوائد السلم، إلا أن الملك العادل طلب منه توضيح موقفه، وتحديد مطالبه، فكان أن رد ريتشارد، بضرورة أن يعود السلطان بجيشه إلى بلاده، وانتهى الاجتماع بخلاف بينهما. وأعقب ذلك انتصار ريتشارد في معركة أرسون، في 14 شعبان 587 (6سبتمبر/ أيلول 1191)، ليتجه بعد ذلك إلى مدينة عسقلان. واستغل السلطان صلاح الدين النزاع بين ريتشارد وكونراد، فدخل في مفاوضات مع الأخير، عن طريق رسول جاء إلى السلطان، وحدد مطالبه في أن يعطي المركيس كونراد بيروت وصيدا، نظير أن يناصر صلاح الدين، ضد الفريق الآخر من الفرنجة.

      ولكن صلاح الدين طلب من كونراد أن يجاهر بذلك، وأن يهاجم مدينة عكا ويأخذها منهم، وأن يطلق سراح الأسرى المسلمين الموجودين في مدينة صيدا. ولم تنته المفاوضات إلى نتائج، إلا أنها حفزت ريتشارد على معاودة الاتصال، طالباً التحرك نحو الصلح، وكانت مطالبه في هذه المرة استرجاع القدس، والصليب، واسترجاع البلاد، التي استولى عليها صلاح الدين، ومقاسمته في بعض المراكز، موضحاً، من خلال رسالة بعث بها إلى صلاح الدين، أهمية القدس والصليب عندهم، ولكن صلاح الدين ردّ بأن القدس لها عند المسلمين أهمية أكثر مما عند الصليبيين.

      فاجأ ريتشارد صلاح الدين، بأن اقترح عليه أن يتزوج الملك العادل سيف الدين شقيقته جوان، وكانت أرملة، وأن يؤول إليهما حكم البلاد الساحلية، الواقعة غرب نهر الأردن، وأن يشتركا في حكمها، وأن يسلم المسلمون القدس للفرنجة، وأن يُطلق سراح جميع الأسرى من الجانبين.

      وأبدى السلطان صلاح الدين موافقته، واستمر في التفاوض مع ريتشارد، معتقداً عدم جديته في الاقتراح، الذي قدمه، ومحاولاً كسب الوقت، مستغلاً ما بين ريتشارد وكونراد من خلاف ونزاع. ثم حدثت بعض المستجدات، التي غيرت اتجاه المفاوضات، منها اتجاه ريتشارد لإعمار عسقلان، في 20 يناير/ كانون الثاني 1191، حيث ظل هناك إلى يونيه/ حزيران 1192، ومنها عدم مشاركة كونراد بجيوشه في العمليات العسكرية ضد المسلمين، ومنها، أخيراً، وصول أنباء محاولة أخيه يوحنا الاستيلاء على حكم بلاده، كما تحرك فيليب الثاني ضد ممتلكاته في نورماندي.

      وقد حدث في ذلك الوقت أن اغتيل كونراد، وخلفه هنري، الذي تزوج أرملة كونراد، ونادى به الفرنجة ملكاً على بيت المقدس.

      وفتح هنري باب المفاوضات مع صلاح الدين، وتشدد في مطالبه، مما جعل صلاح الدين يطالب بأن تُعقد المفاوضات على الأساس، الذي كان بينه وبين سلفه كونراد، وحاول ريتشارد التدخل لإصلاح العلاقات بينهما، بل جعل مطالبه تتقلص، ليكتفي بكنيسة القيامة.

      وبعد استشارة رجاله، وافق صلاح الدين على عقد صلح، ويبدو أنه خشي من تململ جيشه، ورد على ريتشارد بأنه وافق على منحه كنيسة القيامة، وتقسيم بقية البلاد، بحيث تكون الساحلية بيد ريتشارد، والجبلية بيده وأن يتناصفا ما بينهمـا، بينما تكون عسقلان خراباً، ولا تكون لأي منهما.

      وتوافقت مع هذه المفاوضات معركة يافا، التي أمل صلاح الدين أن ينتصر فيها، لتقوية مركزه التفاوضي، إلا أن النصر كان حليف الصليبيين.

      وعند تقويم الوضع، وجد ريتشارد أن الظروف ليست في صالحه، بعد أن جاءت أنباء بتهديدات أخيه، وملك فرنسا، وإمكان وصول إمدادات إلى صلاح الدين من البلاد الإسلامية، كما أن صلاح الدين شعر بانخفاض معنويات جيشه، بعد طول المعارك، التي خاضها ضد الصليبيين، مما دفع الجانبين إلى عقد صلح الرملة، في 22 شعبان 588 (2سبتمبر/ أيلول 1192)، وتنازل ريتشارد مبدئياً عن عسقلان. وفي اللحظات الأخيرة، قبل توقيع الصلح، طالب بالرملة واللد، مقابل عسقلان، وأخذت المعاهدة صفة العموم بإشراك الملك هنري، كما اشترط صلاح الدين دخـول صاحب أنطاكية وطرابلس في الصلح.

      وأُجْري التصديق من الجانب الفرنجي، حيث اعتذر الملك ريتشارد عن القسم، لأن الملوك لا يحلفون، وشهد هذا التوقيع العادل سيف الدين، رسولاً عن صلاح الدين، بينما حضر الملك هنري وجماعته الأمراء توقيع صلاح الدين. ومما يمكن استنتاجه من هذه المفاوضات الطويلة، التي تمت بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد ما يأتي:

ـ أهمية أن يتسم المفاوضون بطول النفس، ورحابة الصدر، وعدم قفل باب المفاوضات، مهما بدت العلاقات معقدة، وإذا كان هذا الأمر في ظل بدائية الأسلحة، التي كانت مستخدمة في ذلك الزمان، فإنه يبدو أكثر إلحاحاً، في وقتنا الحالي، حيث يمثل استخدام السلاح خطراً، لا يهدد أطراف القضية وحدهم، بل يهدد أمن العالم وسلامة البشرية.

ـ ضرورة أن تكون هناك علاقات على المستوى الإنساني بين المفاوضين، ولا أدل على ذلك من استمرار صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد في تبادل الهدايا في أحلك الظروف.

وقد أقام ريتشارد علاقات وطيدة مع أمراء المسلمين، وكان يتباسط معهم، بل إن هناك من يرى أن اقتراحه زواج العادل سيف الدين بشقيقته جوان، كان من واقع هذه العلاقة، التي ارتبط بها مع قادة المسلمين.

ـ أهمية استخدام نقاط ضعف العدو، كما فعل صلاح الدين، حين استغل النزاع، الذي كان بين أمراء الحملة الصليبية وقادتها.

ـ استخدام عنصر المفاجأة، كاقتراح ريتشارد قلب الأسد زواج العادل سيف الدين من جوان.

ـ ضرورة أن يكون هناك أساس يبنى عليه التفاوض، وقد رفض صـلاح الدين لقاء ريتشارد من غير وجود أساس، تسير وفقه المفاوضات بينهما.

ـ ضرورة استقراء الواقع، ومواجهة الحقائق، وفقد شعر صلاح الدين بتململ جيشه، فكان ذلك دافعا له لوضع حد للحروب، كما أن ريتشارد قلب الأسد استقرأ الظروف المحيطة به، من انقلاب أخيه وتحركات فيليب الثاني ملك فرنسا ضده، فتعجل إتمام الصلح.

ـ الحرص على “البروتوكولات”، التي يتم بموجبها توقيع الاتفاقيات والمعاهدات، كرفض ريتشارد أن يحلف مسوغا رفضه بأن الملوك لا يحلفون.

ـ معرفة حد التنازلات، التي يمكن تقديمها في مقابل الوصول إلى اتفاق، وقد رفض صلاح الدين التنازل عن القدس، بينما قبل التفاوض على مدن أخرى.

التفاوض علم أم فن؟

      التفاوض علم، تتمازج فيه علوم الاجتماع واللغويات، وعلم النفس والإدارة، والعلوم السياسية والعلاقات الدولية، وعلم الأجناس. وهو علم يتصل بقضايا الإنسان الحيوية، بوصفه يرمي إلى إيجاد نوع من التفاهم الفاعل بين بني البشر سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو المؤسسات أو الدول.

      وهو علم يرمي إلى وضع حد لسوء التفاهم، وتجنيب الإنسان ويلات التصادم والصراع مع أخيه الإنسان، اعتماداً على ما يمكن أن يكون بينهما من أرضية مشتركة.

      وفي عالم الإنسان أصبح تحقيق الحد الأدنى من التفاهم في ظل الاعتراف بوجود مصالح مشتركة يقتضي العمل على تعميق ما يمكن تعريفه بثقافة التفاوض، التي تشتمل على وضع تصور نظري لماهية التفاوض، وتحديد وسائله وأساليبه وإستراتيجياته، مع اتباع الوسائل الممكنة لتنمية مهارات التفاوض في المجتمع. وذلك من منطلق أن من الطبيعي أن تتعارض مصالح البشر، وأن من الضروري السعي إلى تحويل هذا التعارض إلى تفاهم على قواسم ومصالح مشتركة، يمكن أن تتحقق من خلال تنازلات تقدمها الأطراف المعنية.

      وفي عصرنا الحاضر، وفي ظل هذا التقارب بين دول العالم والثورة المعلوماتية والاتصالية، التي أحالت العالم إلى قرية صغيرة، يعرف كل من فيها دقائق حياة من يعيشون معه، فإنه أصبح من الواجب حل كل ما قد ينشأ من صراع بين الدول والأفراد والمؤسسات بالطرق الودية، التي من أهم أشكالها عملية التفاوض، وبخاصة أن اللجوء إلى استخدام القوة لفض المنازعات أصبح ينذر بكثير من الويلات لأطراف النزاع، بل يمتد أثره إلى أطراف أخرى لا علاقة لها بهذا النزاع. أضف إلى ذلك أن القانون الدولي يحظر استخدام القوة في العلاقات الدولية، حيث تبلور في السنوات الأخيرة ما يعرف بالشرعية الدولية، التي تردع مثل هذا الفعل وتجرمه في ضوء مصالح الدول الكبرى.

      في ظل هذا الواقع، اتجه كثير من المؤسسات والأكاديميين إلى محاولة وضع توصيف محدد لعملية التفاوض، تعطيها الصفة العلمية، وتوفر لها الإطار النظري Theoretical Framework، الذي يضعها في مصاف العلوم الاجتماعية الأخرى استناداً إلى ما تراكم من خبرات عملية عبر العصور المختلفة. ولكن المفارقة تكمن في “وجود تباين كبير بين فريق الممارسين، الذين يعرفون المفاوضات بطريقة عملية، ولكن يفوتهم في كثير من الأحيان الجوانب النظرية أو الإطار النظري لعملية التفاوض.

      فالممارس يباشر المفاوضات ولكنه لا يتوقف لكي يدرك طبيعتها وطبيعة الأعمال التي يقوم بها أثناء عملية التفاوض. وبعبارة أخرى، فالممارسون المطبقون لعملية التفاوض لا يكترثون كثيراً بالنظريات، وإنما يعتبرونها، إما مضيعة للوقت، وإما افتعالاً لمسائل لا أساس لها في الواقع. وعلى النقيض من ذلك تماماً، يأتي فريق المنظرين، الذين يتحدثون عن المفاوضات بطريقة نظرية، وقد يصدرون الأحكام على الممارسات، دون أن يتعرفوا على وثائقها ودقائقها، غير أنه بالنظر إلى أهمية وضرورة الجمع بين الجانبين النظري والتطبيقي للمفاوضات، فإنه يتعين على المفاوض وعلى الدبلوماسي في الوقت الحاضر، وكثير من العاملين في الحقول الأخرى، أن يلموا بالجانبين، قدر الإمكان، وأن يتسلحوا بمعرفتهما بصورة دقيقة وشاملة، إذا كان لهم أن يكونوا مفاوضين ناجحين ومتميزين.

      وعلى الرغم من وجود هذا التنازع بين الممارسين وبين أصحاب الاتجاه النظري فإن هناك توجهاً قوياً في المؤسسات العلمية ومراكز الدراسات لوضع إطار نظري، يجعل من التفاوض علماً له أصوله وقواعده، بعد أن فرض واقع اليوم على الإنسان مواقف تفاوضية مختلفة في أغلب أوقاته، مما يقتضي إتقان هذا الفن؛ لتجاوز أسباب التوترات، التي تنشأ في التفاعلات الإنسانية، التي تتم على مختلف المستويات، والتي تزداد بوتيرة متسارعة كلما ازداد العالم تقارباً، والمصالح تشابكاً وتعقيداً. ولا أدل على ذلك من أن الإحصاءات تشير إلى أن “عدد العمليات التفاوضية، التي تتم على المستوى الرسمي أو شبه الرسمي في مدينة جنيف، يصل إلى نحو عشرة آلاف عملية في السنة، وهذا المعدل نفسه تشهده مدينة نيويورك، كما أن المديرين يقضون أكثر من 20% من وقتهم في عمليات تفاوضية مختلفة المستويات. ولذا، تحتم لهذه الظاهرة الإنسانية أن تأخذ حظها من الدراسة العلمية، ولا سيما في دول الغرب، وعلى وجه الخصوص في الولايات المتحدة الأمريكية؛ لتعاظم دورها في العالم، ووجود كثير من المنظمات الدولية فيها، وتزايد أعداد الشركات عابرة القارات، التي ميدان عملها العالم على اتساعه، ومن أشهر المشروعات العلمية المعنية بدراسة عملية التفاوض، مشروع جامعة هارفارد للمفاوضات، وتصب جهود القائمين على هذا المشروع في ثلاثة اتجاهات رئيسية هي: الإسهام في بناء نظريات للتفاوض Theory Building.. وفي مجال التدريس والتدريب.. وفي مجال النشر.

      وقد وجد الإطار النظري، الذي تمخض عن هذا المشروع طريقه إلى التطبيق في اتفاقيات كامب ديفيد، إذ قام الوسيط الأمريكي بوضع تصور بالاتفاقيات، بناء على أجندة المفاوض المصري والمفاوض الإسرائيلي، وكان القائمون على هذا المشروع قد أسهموا في تصميم ما يعرف: “بالتوسط من خلال نص واحد One-text، وهي طريقة تعتمد على كتابة نص، مبني على الأجندات المتصارعة للأطراف المتنازعة، بهدف تقليل الهوة أو الفجوة بين الأطراف.

      وهذا الجهد، الذي يتم على المستويين النظري والتطبيقي؛ لإيجاد علم يعنى بالمفاوضات، بوصفها وسيلة مهمة لخلق مجتمع إنساني، تحل مشكلاته بالطرق السلمية؛ لم يكن كافياً لوضع تعريف محدد لمفهوم التفاوض، وإذا جاز لنا أن نبدأ بالتعريف اللغوي للكلمة، فإننا نجد المعجم الوسيط يورد: “فاوَضَه في الأمرِ مُفَاوضةً أي: بادله الرأي، بغية الوصول إلى تسوية واتفاق، وفاوضه في الحديث: بادله القول. وفاوضه في المال: شاركه في تثميره .. والمفاوضة: تبادل الرأي من ذوي الشأن فيه، بغية الوصول إلى تسوية واتفاق”.

      “وإذا عدنا إلى الموسوعات والمعاجم اللغوية في اللغات: العربية والفرنسية والإنكليزية، وجدنا تعاريف متعددة للتفاوض، تطورت، وتدرجت بتطور، وتدرج فن التفاوض في مختلف الحقول والميادين. وفيما يلي أهم تلك التعريفات:

ـ التفاوض هو محادثات تجري بين فريقين متحاربين، من أجل عقد اتفاق هدنة أو صلح.

ـ التفاوض لغة الحوار والمناقشة بين طرفين، حول موضوع محدد للوصول إلى اتفاق.

ـ التفاوض مرحلة من مراحل الحوار، قبل الوصول إلى اتفاق.

ـ التفاوض هو محادثات بين طرفين أو أكثر، حول موضوع معين أو مشكلة قائمة، قصد الوصول إلى اتفاق.

ـ التفاوض هو الأسلوب، الذي يدير به السفراء والمبعوثون العلاقات الدولية، وهو عمل الرجل الدبلوماسي أو فنه.

ـ التفاوض: إجراء المناقشات والحوار من أجل تسويق مشروع معين أو الوصول إلى اتفاق حول تحديد الربح والخسارة، بهدف تحقيق المشروع، وفي المجالات الأخرى، التفاوض، هو بحث موضوع أو مشكلة بين طرفين، لكل منهما مصلحة في الوصول إلى اتفاق.

ـ التفاوض هو أن تدخل في حوار أو نقاش مع طرف أو أطراف أخرى، بهدف الوصول إلى اتفاق يرضي الأطراف المتفاوضة، ويضمن لها الحد الأدنى المقبول من المكاسب”.

      ويتبين، من هذه التعريفات، أن مفهوم التفاوض يضيق ويتسع حسب الزاوية، التي ينظر إليه من خلالها، فقد يحصره بعضهم في الجهد الدبلوماسي، فتكون ممارسة عملية التفاوض حكراً على الدبلوماسيين وممثلي الدول من أجل إيجاد اتفاق بين فريقين متحاربين، وقد يراها بعضهم وظيفة يضطلع بها القائمون على أمور التسويق، مما يجعل معناها قريباً من معنى عملية البيع أو المساومة، وقد يمتد مفهوم التفاوض، ليكون متصلاً بعملية النقاش والحوار، التي تتم بين طرفين أو أكثر، بينهم تعارض في وجهات النظر حول قضية محددة، أو تنازع للمصالح من أجل الوصول إلى اتفاق ينهي أسباب التوتر والتنازع، ويحقق مصلحة الطرفين أو أطراف القضية.

      ولما كان، من الصعب، أن يخلو مجتمع من المجتمعات، مهما كان صغيراً، من دواعي النزاع، “فإنه يمكن القول إن مجتمعاً حراً لا يمكن أن يعيش بلا تفاوض، لأن التفاوض طريق مفضل لتحقيق الرفاهية، ولحل الخلافات والنزاعات.. ومن هذا المنطلق ، فإن من الواجب الاجتماعي أن يكون جميع المواطنين مفاوضين جيدين، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً”.

      وتجد مثل هذه الدعوة، إلى إتقان عملية التفاوض والتمرس عليها، صدى كبيراً، لأن الإنسان يقضي معظم يومه مفاوضاً في مواقف مختلفة، فهو يتفاوض مع زوجته وأولاده على أمور شتى تتعلق بحياتهم، فالتفاوض يكون على طريقة تلبية حاجات كل واحد في الأسرة، وعلى الأسلوب، الذي يتم به الإنفاق عليهم، وعلى الطريقة، التي ينبغي أن يتعاملوا بها بعضهم مع بعض، ومع المجتمع من حولهم، وعلى ما يمكن أن يتخذه كل واحد منهم من أصدقاء، بل إن هناك مفاوضات تتم على نوعية ما يأكلون وما يشربون وما يلبسون، ويبدو في هذه المفاوضات ذلك الصراع المتأصل بين الأجيال، وما بينها من اختلاف في الرؤية والتوجه والذوق. ويواجه الإنسان مواقف تفاوضية في الشارع ومع الجيران ومع الباعة، وفي العمل مع الزملاء والرؤساء، وقد يكون ممثلاً لشركته في مفاوضات مع شركات أخرى منافسة، أو قد يكون ممثلاً لدولته في مفاوضات ذات طابع دولي، ولعل هذا الواقع ما وصفه ثلاثة من أقطاب علم السلوك التنظيمي والإداري: كيندي، وبينسون، وماكميلان بقولهم: “نحن نعيش اليوم عصر التفاوض، فأغلب مناشط حياتنا وما ينجم عنها من خلافات، قد أصبح في حاجة إلى التفاوض لكي نتمكن من تحقيق أهدافنا ومصالحنا المتناقضة والمتعارضة دائماً وأبداً. وفي الواقع، نحن نلجأ إلى التفاوض كل يوم، بل ربما عدة مرات في اليوم الواحد، لكي نجد حلولاً معقولة ومقبولة لمشكلاتنا الخلافية المشتركة، فالمفاوضات لم تبق وقفاً على ما يدور بين الشعوب والأمم من مفاوضات، بل هي مستخدمة بكثرة بين الجماعات والأفراد في مختلف مواقف الحياة؛ لحل المشكلات الخلافية المشتركة بين العمال وأصحاب الأعمال، وبين النقابات أو الاتحادات ورجال الإدارة، وبين الزوج وزوجته وأولاده، وبين الزملاء والأصدقاء، فكل طرف من هذه الأطراف يسعى للحصول على أفضل النتائج، بأقل قدر ممكن من الصراع، الذي يهدر الجهد الإنساني بغير داع”.

      وهناك من يرى أن التفاوض يعد “عملية اجتماعية حركية بالغة التعقيد، تتداخل فيها وتتفاعل عدة عناصر، وذكر في مقدمتها: المعلومات، والوقت، والقوة، وكذلك التكتيكات (أي الأساليب) المتبعة، ووسائل الاتصال المستخدمة. المفاوضات هي استخدام المعلومات والقوة، للتأثير على السلوك، وبهذا المعنى، نتفاوض طول الوقت، في العمل وفي حياتنا الخاصة”.

      وإذا كان على طرفي التفاوض، استخدام ما يملكان من قوة، قد تتمثل في إمكانات مالية ومعلومات ومكانة اجتماعية وغيرها من عناصر القوة، فإن التفاوض لا يصل إلى نتيجة مرضية ومقبولة ما لم يتوافر فيه عنصرا المعقولية والمرونة، لأن التشدد يؤدي دائماً إلى تطرف ومغالاة من الطرف الآخر، مهما بدا ضعيفاً في إمكاناته، وهو ما يصل بالمفاوضات إلى طريق مسدود. وفي حالة استخدام القوة في إملاء الشروط، ووضع حلول للمشكلة بناء على ذلك، فإن الطرف الضعيف يتحين الفرص للانقضاض والانتقام من واقع الإحساس بالذل والهوان، وهذا ما يؤدي إلى نتائج عكسية وانتكاسة في العلاقات المتوترة أساساً لوجود نزاع على قضية ما، فيتأجج بذلك الصراع، وقد يصل إلى مداه في حالة التلويح باستخدام القوة أو استخدامها فعلاً، بما يهدد مصالح طرفي عملية التفاوض.

      ولكي يمكننا فهم طبيعة التفاوض وهدفه، لا بد من تحديد عدد من السمات، التي ينبغي أن تتسم بها عملية التفاوض، والتي تجعلها تتميز من عمليتي البيع والمساومة، ومن ذلك:

  1. توافر عنصر الصراع الذي قد يكون بين طرفين أو أكثر.
  2. توافر الرغبة في الوصول إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف المتنازعة.
  3. الإيمان بأنه لا بد من وجود نوع من التعاون، وإن كان ذلك لا يلغي حقيقة وجود المنافسة.
  4. الاقتناع بأن فرض الشروط وإملاء الإرادة لا يوصلان إلى اتفاق مرض، وإنما قد يزيدان من تأجج الصراع.
  5. الجدية في بحث الأرضيات المشتركة، التي يمكن أن تتأسس عليها عملية التفاهم.

      ويعول الخبراء، في هذا الميدان، على أهمية تعميق ما يعتبرونه ثقافة التفاوض؛ من أجل حل ما ينشأ من مشكلات بين بني البشر بشكل فعال، من دون اللجوء إلى القوة. ومن الأسس، التي تقوم عليها هذه الثقافة:

أولاً: التركيز على حل المشاكل وتجنب التعرض للأشخاص، أي تحري الموضوع وتجنب الشخصانية في تناول المسائل.

ثانياً: تنمية حاسة الاستماع الجيد للآخرين..

ثالثاً: تعرُّف طبيعة ملامح حوارية كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:

أ. أصول إقامة الحجج.

ب. تعرف وظائف الصمت في الحوار التفاوضي.

ج. تعرف الاستخدامات الإيجابية لعامل الوقت.

د. تجنب الأسلوب غير المباشر في الأمور، التي تحتاج إلى توضيح دقيق.

رابعاً: تجنب أساليب المغالطات.

خامساً: تجنب التقوقع داخل الذات.

سادساً: انتهاج مبدأ “تحقيق الممكن” وتجنب السقوط في الحب النظري للكمال.

سابعاً: تجنب التفكير الأحادي.

ثامناً: أهمية تحديد النقاط، التي يمكن التفاوض بشأنها، والتي تؤسس الأرضية المشتركة مع الآخرين بقدر الإمكان.

تاسعاً: أهمية تحديد أولويات التفاوض.

عاشراً: أهمية تقويم الموقف التفاوضي دائماً؛ لتعرف المستجدات، التي حدثت أثناء العملية التفاوضية.

حادي عشر: تجنب سوء الظن بالآخرين، والوقوع في براثن التفكير التآمري.

ثاني عشر: التعرف على آليات الأسئلة تعرُّفاً جيداً؛ بهدف الاستفادة من دورها في إنجاح العملية التفاوضية.

ثالث عشر: مراعاة أسلوب الحوار مع الآخرين وطريقته الملائمة للسياق.

رابع عشر: مراعاة كم المعلومات التي يلقي بها على ساحة الحوار.

خامس عشر: أهمية توثيق أحداث التفاوض في المجالات المختلفة ومقارنتها بالأهداف عند بدء الدخول في التفاوض..”.

      الواقع أن توافر مثل هذه الأسس؛ لتحقيق ثقافة التفاوض وتجذيرها في أي بيئة تفاوضية، ليس بالأمر السهل؛ لأن هناك مجموعة من الموروثات الثقافية، التي تعرقل مثل هذه العملية، والتي تراكمت من خلال ممارسات تمت على مدى سنوات طويلة، واكتسبت صفة الديمومة. وقد تنبه الخبراء في ميدان التفاوض إلى هذا الأمر الخطير، الذي يحول دون سريان عملية التفاوض في مساراتها الطبيعية، وحذروا من استمراريته، خاصة في ظل عالم يموج بالصراعات والنزاعات، التي لم يبق حلها عن طريق الحرب مأمون الجانب، لما فيه من أضرار بالغة، وتهديد مباشر لاستمرارية الحياة على كوكب الأرض، ومن الموانع الثقافية والمفاهيم الخاطئة، التي تعرقل سير عملية التفاوض ما يلي:

ـ الخوف من الرفض الشخصي: إننا لا نحب أن نطلب شيئاً ونتحمل رفضه؛ خشية من أن نفقد ماء الوجه أو الشعور بالمودة تجاه الآخرين.

ـ الخوف من كراهية الآخرين: عادة ما يتجاهل المفاوضون المحترفون مثل هذه العواطف، بشكل سريع تماماً؛ لأنه ـ حسب ما أظهرته التجربة ـ من النادر أن يؤثر أي موقف في التفاوض على مدى حب الناس، بل إن أشد أشكال الجدال والاختلاف قد يتطور إلى روابط شخصية قوية.

ـ الخوف من حدوث شيء، كمن يخاف التنبيه إلى سوء الطعام في المطعم أو الشكوى من سوء الخدمة، بدعوى عدم إيذاء مشاعر الطرف الآخر.

ـ الشعور بأن محاولة التفاوض لتحقيق اتفاق أفضل من السلوكيات المشينة. وهذا بلا شك ناشئ من تقليد، يسود في كثير من الثقافات، وهو “دعنا لا نثير المشاكل”.

ـ من طبيعة الإنسان: الخوف من الفشل: وهذا من أكثر الأسباب، التي تعوق عملية التفاوض. إن النتيجة الرئيسية المستخلصة مما سبق، هي ألا تخشى التفاوض، لأنه لن ينقص من محبة الآخرين واحترامهم لك، وأن ممارسة التفاوض، بضوابط جيدة، سيرفع من مستوى العلاقات الإنسانية، ويزيل الخلافات العالقة، ويعزز تحقيق النتائج، التي ترجوها أيّاً كـان موضوع النقاش”.

      والواقع أن تعميق ثقافة التفاوض في المجتمع، يحتاج إلى وضع محددات، تؤطر الخصائص، التي ينبغي أن يتصف بها أي مفاوض جيد، لذا فإننا سوف نفرد جزءاً من هذا الموضوع للحديث عن تلك الخصائص في قالب مستقل يتناسب وأهميته.

خطوات التفاوض

      تمر عملية التفاوض بعدد من المراحل حتى تتبلور في شكل اتفاق بين طرفيها أو أطرافها، أو قد تنتهي بفشلها، وانهيارها من أساسها، أو قد يظل بـاب المفاوضات مفتوحا لجولة أو جولات جديدة. ولكن من المهم معرفة أن لكل مرحلة من مراحل عملية التفاوض، أثراً كبيراً في المرحلة، التي تليها، وفي المحصلة النهائية للعملية كلها، كما أن مستوى الاهتمام بهذه المراحل، ينعكس إيجابياً على الطرف، الذي يجتهد في كل واحدة منها، ويأخذ زمام المبادرة في أثنائها.

      ولم يتفق المختصون في هذا الميدان، على تقسيم واحد لهذه المراحل، مع أن هناك اتفاقاً على الخطوط العريضة لها. وفي الوقت نفسه يوجد نوع من التداخـل بين هذه المراحل، بحيث يصعب الفصل بينها أحياناً. كما تختلف درجة الأهمية لدى بعض أطراف التفاوض. فما يراه أحدهما فرعياً يراه الآخر أساسياً في الوصول إلى تحقيق أهدافه. وعلى سبيل الإجمال، يمكن القول إن مراحل عملية التفاوض تتحدد في النقاط التالية:

أولاً: مرحلة الإعداد والتهيئة للتفاوض

      يمثل عنصر المعلومات أهم أسس التفاوض المثمر، لأن من يمتلك المعلومات هو الذي تتوافر لديه قدرات التأثير في الطرف الآخر، بالحجج المقنعة، المعتمدة على الوثائق، ومن خلال معرفة مفاتيح شخصية من يفاوضه والأسلوب المناسب لإقناعه والتأثير فيه.

      ومن يملك المعلومات، أيضاً، يستطيع أن يحدد أغراضه من عملية التفاوض بدقة، اعتمادا على معرفة وثيقة بإمكاناته وإمكانات الطرف الآخر.

      فعلى المفاوض أن يكون متأكدا من كل الأهداف، التي يرمي إلى تحقيقها، وأن يرتبها حسب الأولويات، حتى تظل نصب عينيه طوال جلسات التفاوض، مع ضرورة أن يتسم بالمرونة، وأن يكون واقعياً فلا يبالغ في طلباته ويتشدد فيها، وأن يكون محددا حجم التنازلات التي يمكن أن يقدمها. “وتتكون المعلومات، التي ينبغي أن يسعى المفاوض إلى امتلاكها من عنصرين أساسيين:

  1. المعلومات، التي يحتاج إليها لتحديد أهدافه من عملية التفاوض وبلورتها.
  2. المعلومات، التي تمكنه من معرفة الطرف أو الأطراف الأخرى، التي يتفاوض معها.

      والواقع أن توافر هذه المعلومات وما يماثلها للمفاوض، يزيد من قدراته على التحكم في مسار عملية التفاوض، والتأثير في سلوك الطرف أو الأطراف الأخرى؛ باستناده إلى المعلومات، التي تمكنه من التعرف على خصائصهم وردود الفعل المتوقعة منهم، كما تدعم حجته في إقناعهم، وتعديل مواقفهم بالقدر، الذي يجعل سلوكهم متسقاً مع ما يبتغيه من مصلحة”.

      ولهذا السبب، فإن أهم ما تتضمنه مرحلة الإعداد هو جمع المعلومات، التـي تمثل الركيزة الأساسية لعملية المفاوضات، وتتعلق هذه المعلومات بفهم موضوع التفاوض بشكل واضح لا لبس فيه، “حيث يتعين معرفة وتحديد وتشخيص القضية المتفاوض بشأنها، ومعرفة كل عناصرها وعواملها المتغيرة ومرتكزاتها الثابتة، وتحديد كل طرف من أطراف القضية، والذين سيتم التفاوض معهم”.

      ومن لا يبذل الجهد في هذه المرحلة لتعرف القضية، التي تتم بشأنهـا المفاوضات، يجد نفسه كمن وقع في مصيدة، لم يعمل لها حساباً، لافتقاره القدرة على المبادأة والمبادرة، وعدم امتلاكه الحجة المستندة إلى الحقائق في الدفاع عن وجهة نظره، وقد يتورط، نتيجة لذلك، في تقديم تنازلات كبيرة.

      ومن متطلبات هذه المرحلة، تحديد البدائل لحل الصراع في حالة فشل عملية التفاوض، علماً بأن “العوائق، التي تحول دون ابتداع العديد من البدائل الممكنة تتمثل في الآتي:

  1. الأحكام المستعجلة السابقة لأوانها.
  2. البحث عن الحل المفرد.
  3. الافتراض القائم على هوس القطعة الثانية.
  4. التفكير بأن حل مشكلات الآخرين شأن يخصهم.

      إن الأحكام المتصوّرة سلفاً تحد من الخيال، كما أن البحث عن حل مفرد يغلق المجال أمام عملية اتخاذ قرارات، تتوافر فيها الظروف للاختيار من بين كم أكبر من الحلول الممكنة.. وافتراض القطعة الثانية يقوم على مبدأ أن كسب أحد الأطراف هو خسارة للطرف الآخر.. وتصور حل مشكلات الآخرين على أنه شأن يخصهم ولا يعنينا، يمثل نظرة حقيقية تقود إلى اتخاذ مواقف مبنية على مصالح طرف واحد، وتبني حججاً وحلولاً تمثل رغبات ذلك الطرف، من دون اعتبار للطرف أو الأطراف الأخرى”.

      ويستطيع المفاوض من خلال ما يجمعه من معلومات تحديد الموقف التفاوضي، بمعرفة الأوراق، التي يعتمد عليها في دعم حججه وتفنيد حجج الطرف الآخر، إذ تساعده المعلومات على توقع ما لديه من أفكار وآراء حول القضية موضع النزاع، وكلما انطلق المفاوض من حقائق الواقع، كان أقدر على تحقيق أهدافه، لأن المفاوضات لا تعترف بالتفاؤل المفرط، ولعبة الاحتمالات القائمة على غير أساس.

      وبعد أن يحدد المفاوض أهدافه، بناء على معرفة تامة بجوانب القضية، ومعرفة الطرف الآخر ودوافعه وأهدافه، وما يمكن أن يقدمه من تنازلات، ومدى تحمسه للتفاوض؛ يقوم بوضع الإستراتيجية، التي يبني عليها عملية التفاوض، وهي تعني وسائله في تقدير أهدافه ووسائله وترتيبها، إذ لكل هدف من الأهداف وسائله.

      ولا شك أن الإستراتيجية، التي يجب أن يتبعها المفاوض، مهمة في تحديد اتجاه المفاوضات، ويجب أن تمثل هذه الإستراتيجية إطاراً عاماً يتسم بالمرونة، ويقوم على أساس تقدير قوة أطراف التفاوض، والأوراق، التي يلعبون بها في عملية التفاوض.

      وفي هذه المرحلة يتم اختيار فريق المفاوضين بناء على موضوع القضية، حيث يفضل أن يكون هذا الفريق من المتخصصين في هذا الموضوع، والعارفين ببواطنه وتطوراته، وأن يكون رئيس هذا الفريق صاحب خبرة واسعة في عملية المفاوضات، وعلى معرفة كبيرة بالقضية وبالطرف الآخر. كما يتعين تحديد اختصاصات معينة لكل فرد في هذا الفريق، بحيث تقسم الأدوار بطريقة مدروسة للتأثير في الطرف الآخر، وتحقيق ما يمكن تحقيقه في اتجاه الأهداف المطلوبة.

      ولا بد، قبل بدء المفاوضات، من التأكد من أن الطرف المفاوض يملك صلاحيات اتخاذ القرار، حتى لا يكون هناك إهدار للوقت.

      وتتضمن هذه المرحلة تحديد جدول الأعمال، وينبغي أن يكون البدء بالقضايا، التي ليس عليها خلاف شديد، لوضع إرهاصات علاقات تعاونية بين فريقي التفاوض، ويُنصح بالمبادرة باقتراح جدول للأعمال، لأن ذلك يعطي فرصة بامتلاك زمام الأمور من البداية، كما يتم الاتفاق في هذه المرحلة على مكان المفاوضات وموعدها.

ثانياً مرحلة إجراء المفاوضات

      عندما تبدأ المفاوضات بين الفريقين، يُنصح بأن تكون هناك محاولة لإيجاد مناخ من التعاون، يزيل التوتر، ويخفف من المواقف العدائية، ويحتاج ذلك إلى جهد من المفاوضين لإظهار مشاعر الود، والتغلب على الأحكام المتصوّرة سلفاً، التي تشوه صورة كل منهما في ذهن الآخر. وسيتطلب خلق هذا المناخ اتباع أسلوب موضوعي في النقاش، والبعد عن التجريح الشخصي، وإبداء الاعتراض بطريقة مهذبة، واحترام الرأي الآخر، مهما كان الخلاف، وتقدير حق الاستماع والإنصات. وتشتمل هذه الخطوة على مجموعة من العمليات الأساسية، التي لا يتم التفاوض بدونها، بل إن من المستحيل تصور عدم القيام بها في عملية التفاوض، وهي:

ـ اختيار التكتيكات التفاوضية المناسبة، من حيث تناول كل عنصر من عناصر القضية التفاوضية أثناء التفاوض على القضية، وداخل كل جلسة من جلسات النقاش.

ـ الاستعانة بالأدوات التفاوضية المناسبة، وبصفة خاصة تجهيز المستندات والبيانات والحجج والأسانيد المؤيدة لوجهة نظرنا، والمعارضة لوجهات نظر الطرف الآخر.

ـ ممارسة الضغوط التفاوضية على الطرف الآخر، سواء داخل جلسة التفاوض أو خارجها وتشمل هذه الضغوط عوامل: (الوقت، والتكلفة، والجهد، وعدم الوصول إلى نتيجة، والضغط الإعلامي والنفسي).

ـ تبادل الاقتراحات وعرض وجهات النظر في إطار الخطوط العريضة لعملية التفاوض، وفي الوقت نفسه، دراسة الخيارات المعروضـة، والانتقاء التفضيلي منها.

ـ استخدام كل العوامل الأخرى المؤثرة على الطرف الآخر؛ لإجباره على اتخاذ موقف معين، أو القيام بسلوك معين يتطلبه كسبنا القضيـة التفاوضية، أو إحراز نصر أو الوصول إلى اتفاق بشأنها أو بشأن أحد عناصره أو جزئياته”.

      وبعد الشد والجذب والأخذ والعطاء بين فريقي التفاوض، يتم التوصل إلى اتفاق مبدئي بينهما، ويسهل التوصل إلى هذا الاتفاق، إذا قام الطرفان بالتركيز على المصالح المشتركة، أكثر من التركيز على المسائل الخلافية. ويساعد تلخيص ما أحرز من تقدم في المفاوضات على توضيح النقطة، التي وصل إليها الطرفان كما أن هذا يساعد على صياغة الاتفاق بشكل أسرع.

ثالثاً: مرحلة إبرام الاتفاق

      ما لم يتم التوصل إلى اتفاق نهائي واضح، تظل المفاوضات مجرد وجهات نظر متبادلة، وينبغي أن يكون هذا الاتفاق شاملاً وتفصيلياً، وواضحاً في صياغته، ومفهوماً لدى الطرفين، باختيار الألفاظ السهلة وصياغتها بأسلوب دقيق لا لبس فيه، حتى لا تكون هناك مشكلات عند التنفيذ، الذي لا بد أن تتحدد تواريخه، كما ينبغي تجنب الصيغ المملة بالنسبة إلى القضايا، التي لم يتم الاتفاق عليها في محاولة للتمويه بنجاح المفاوضات.

رابعاً: مرحلة تنفيذ الاتفاق

      لا يمكن الحكم على نجاح أي مفاوضات، ما لم يجد الاتفاق، الذي ينتج عنها طريقة إلى التقيد بالواقع، ولا بد أن يُرفق بالاتفاق برنامج زمني للتنفيـذ، والأسلوب، الذي سيتم وفقاً له هذا التنفيذ، من خلال فريق مشترك بين الطرفين، يقوم بمتابعة عملية التنفيذ في مراحله المختلفة، ولا بد للمعلومات المتعلقة بالتنفيذ، أن تصل إلى الأطراف المتأثرة به.

خامساً: تقويم التفاوض

      بعد نجاح عملية التفاوض وبلوغها مرحلة التنفيذ، لا بد من متابعة عملية التنفيذ للوقوف على مدى الالتزام بمراحله، وحل المشكلات، التي تعترضها، وذلك حتى يمكن التثبت من مدى جدية الطرف الآخر، والعمل على حل ما يعترض هـذه العملية من مشكلات. ومن أكثر المعوقات، التي تواجه مرحلة التنفيذ عدم معرفة الأطراف المتأثرة بالاتفاق بمضمونه، وما يتطلبه منهم هذا الاتفاق، كأن يكون هناك اتفاق مثلاً بين دولتين على تهجير السكان من منطقة معينة متنازع عليها، ولا يكون السكان على علم بما يترتب على هذا الاتفاق، أو أن يكون قد تمّ تجاهل ردود أفعالهم، عند التوقيع على الاتفاق، مما يجعلهم يتمردون عند محاولة التنفيذ، وإبداء درجة كبيرة من الاعتراض، الذي يصل إلى حد العنف. ويزيد من خطورة مثل هذه الترتيبات ونتائجها، ما يمكن أن يقوم به الإعلام في إثارة القضية، وبلورتها على أن في الاتفاق خرقاً لحقوق الإنسان.

      ولا بد من الأخذ في الحسبان، إمكان تغيير أحد أطراف الاتفاق رأيه فيه، إذا تغيرت موازين القوى، ومالت إلى صالحه، وقد يبدي تفسيراً آخر لمضمونه، مما يهدد بتوتر العلاقات مرة أخرى، لذا يبدو ضرورياً الاحتفاظ بأي وثيقة اتفاق على اختلاف المستوى، الذي يتم عليه هذا الاتفاق، لأن ذلك يعد داعما رئيساً في مواقف تفاوضية مستقبلية حول القضية نفسها.

أنواع التفاوض وأساليبه

      يتصل التفاوض اتصالاً وثيقاً بالحياة، فما دامت هناك حياة فلا بد أن يكون هناك تفاوض من أجل تفادي تضارب المصالح، ووضع حدود لأطماع النفس البشرية، وترسيم قواعد وأسس تقوم عليها العلاقات بين الناس، بحيث يتعايش الجميع في سلام بقدر ما يستطيعون. وقد أثبتت التجارب الإنسانية، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الصراع المستمر لا يحقق طموحات أي طرف مهما كانت قوته، لأن دوام الحال من المحال، وأن موازين القوى في حالة تقلب مستمر، ولذا فإن التعاون هو أفضل الصيغ من أجل حياة مستقرة، ويمثل أفضل وسيلة لتحقيق التقارب بين مختلف الأطراف على أسس متينة.

      وتختلف أنواع العلاقات بين البشر، فهناك علاقات تتم على مستوى الدول، حيث تتضارب المصالح، وتزداد الطموحات، وتتشابك العلاقات، التي تتطلب إطاراً مرسوماً وتقاليد عريقة لفض الاشتباكات والمنازعات، ولا يتم ذلك إلا بالتفاوض بين الدول لوضع أسس العلاقات، وطرائق تبادل المنافع، وأساليب تخفيف التوتر، وتتخطى هذه العلاقات ميدان السياسة إلى الميادين الاقتصادية، والقانونيـة، والاجتماعية، والتربوية، والثقافية.

      وفي ظل تقدم وسائل الاتصال أصبحت هناك علاقات واسعة بين الشركات والمؤسسات من مختلف دول العالم، حيث تتنوع مناطق الإنتاج والتسويق، وتتداخل العلاقات، التي قد يكون أحد أطرافها دولة من الدول.

      وتضيق أنواع العلاقات بين بني البشر، لتشمل ما بين أفراد الأسرة الواحدة من مصالح ومنافع، وأطر للعلاقات، وتتسع لتشمل ما بين أفراد الحي الواسع، ثم المدينة والدولة إلى جانب حلقات أخرى متشابكة. وكل نوع من هذه العلاقات يقتضي أشكالاً من التفاوض. ويكفي أن نعرف أن الدراسات في ميدان التفاوض أوضحت أن المديرين يقضون 20% من وقتهم في نشاطات تفاوضية.

      وتبعاً لذلك، تتنوع أنواع التفاوض تنوعاً كبيراً . ويمكن ذكر بعض أهم هذه الأنواع وإيجازها في الآتي:

  1. اتفاق يحقق مصالح الطرفين

      في مثل هذا النوع من التفاوض، ينتهج الطرفان أسلوب المصلحة المشتركة، أو ما يعرف بمباراة “اكسب ودع غيرك يكسب” win-win، حيث يعمل الطرفان جاهدين من أجل الوصول إلى صيغة اتفاق، تتحقق من خلالها مصالحهما، من دون أن يكون القصد الإضرار بالطرف الآخر. وهذا الاتفاق يكون من منظور مستقبلي، ويزيد عمق التعاون والعلاقات القائمة بينهما.

  1. التفاوض من أجل الكسب على حساب الطرف الآخر

      ويمكن أن نطلق على مثل هذا النوع من التفاوض عبارة “اكسب ودع غيرك يخسر” win-Lose، وهو غالباً ما يحدث في حالة اختلال توازن القوى بين الطرفين، وفشل أحدهما في اختيار الوقت المناسب للتفاوض، أو لتعرضه لضغوط من الطرف الآخر. ولا يتم الاتفاق الناجم عن هذا التفاوض بالديمومة، وإنما يكون عرضة للتغير في حالة تقلب موازين القوى. ويحاول كل طرف إنهاك الطرف الآخر، واستنزاف وقته وجهده وتشويهه، ومحاولة إحكام السيطرة عليه.

  1. التفاوض الاستكشافي

      وهذا النوع من التفاوض يتلمس فيه كل طرف ما لدى الطرف الآخر من نوايا، وقد يتم عن طريق وسيط أو عن طريق الأطراف المعنية مباشرة.

  1. التفاوض التسكيني

      يهدف هذا النوع من التفاوض إلى خفض مستويات الصراع، في حالة وجود عقبات تحول دون الوصول إلى حلول. وهو يعتمد على عامل الزمن، الذي قد يكون له الحسم في بعض الحالات.

  1. تفاوض التأثير في طرف ثالث

      ويقصد هذا النوع من التفاوض إلى التأثير في طرف آخر بخصوص موضوع الصراع من غير أن يكون الاتصال به مباشراً.

  1. تفاوض الوسيط

      وهذا النوع يشيع اليوم في ميادين الاقتصاد والسياسة، إذ يلجأ الطرفان المتصارعان إلى طرف ثالث؛ ليكون حكماً بينهما، وعلى الرغم من أن هذا النوع من التفاوض له فوائده وينفع في سياقات ومناخات محددة، فإن أحد محاذيره احتمال ميل الوسيط إلى أحد أطراف النزاع، مما يضعف النتائج المترتبة على مثل هذا التفاوض.

      وبناءً على أهداف التفاوض، هناك تقسيم وضعه فريد إيكل IKLE، في كتاب له صدر عن جامعة جورج تاون، وهو كالآتي:

أ. التفاوض من أجل مد اتفاقيات أو عقود قائمة Extension

ويكون هذا النوع من التفاوض بهدف إطالة إحدى اتفاقيات أو معاهدات قائمة بين عدد من الأطراف، وقد تتعلق بالإعفاءات أو التسهيلات العسكرية. ويكون التحرك من أجل تحديد فترة الاتفاق أو تجديده؛ لتفادي ما يترتب على انقطاعه من آثار سلبية.

ب. التفاوض من أجل تطبيع العلاقات Normalization

ويقصد منه إعادة العلاقات الدبلوماسية، أو إنهاء احتلال مؤقت، ويضرب إيكل مثلا على ذلك بالعلاقة بين مصر وإسرائيل والأمم المتحدة في عام 1949م.

ج. التفاوض لتغيير وضع ما لصالح أحد الأطراف. Redistribution:

والهدف هنا تشكيل وتغيير الأوضاع لصالح طرف، على حساب طرف آخر. وطابع هذا التفاوض عادة الإجبار والتهديد والقهر. ويقدم إيكل مثالا علـى ذلك إجبار هتلر الرئيس التشيكي في مارس 1939م على تسليم بقية بلاده للألمان.

د. المفاوضات الابتكارية Innovation

والمقصود به إيجاد علاقة جديدة والتفاوض لإنشاء مؤسسة جديدة. ويدخل في هذا النوع مفاوضات مثل تأسيس وكالة الطاقة النووية، ومفاوضات تأسيس الاتحاد الأوروبي وغير ذلك.

هـ. مفاوضات التأثيرات الجانبية Side Effects

والمقصود بها التأثيرات المهمة للتفاوض، والتي لا يكون الهدف منها التوصل إلى اتفاق أو توقيع اتفاقية، وإنما المقصود هو الأهداف الدافعة للتفاوض، كالحفاظ على الاتصال ووقف أعمال عنف قائمة أو محتملة، واستطلاع مواقف الخصم أو محاولة خداعه وتضليله.

      وطبقا لأنواع التفاوض، فإن هناك عددا من الأساليب:

ـ التفاوض الدبلوماسي.

ـ التفاوض الاقتصادي.

ـ التفاوض التجاري.

ـ التفاوض في العلاقات الصناعية والإدارية (العلاقات العامة).

ـ التفاوض في الإدارة العامة.

ـ التفاوض بين الحاكمين والمحكومين (الإعلام والاستعلام).

      ويحتاج كل أسلوب من هذه الأساليب إلى وقفة قصيرة؛ من أجل مزيد من فهم طبيعته، وما يتطلبه من مهارات.

أولاً: التفاوض الدبلوماسي والسياسي

      تحتاج الدول إلى مفاوضات في حالتي السلم والحرب، ففي حالة السلم تسعى الدولة إلى تأكيد علاقاتها مع غيرها من الدول، من أجل تحقيق مصالحها، سواء من خلال التبادل الاقتصادي، والتعاون لدرء مخاطر أطراف أخرى، وإقامة علاقات ثقافية، وغيرها من أنواع العلاقات، التي تضمن استمرار التعاون، وتمتّن أواصره. أما في حالة الحرب، فإن التفاوض يتم لوضع حد لأسبابها، والوصول إلى صيغة مناسبة لإنهائه، تراعي مصالح الطرفين، وتصل عملية التفاوض إلى تصورات واضحـة تشمل تفصيلات عديدة، كتوقيت وقف إطلاق النار، وترسيم الحدود، وعملية تنقل رعايا البلدين، وغيرها من الموضوعات ذات الأهمية في إطار ما ينبغي أن يكون من علاقات بين الطرفين المتصارعين، “ولا شك أن التفاوض وسيلة جيدة لحل المنازعات، والتفاوض وسيلة جيدة لأنه وسيلة سلمية، ولأنه طريقة تفاهم مباشرة بين الطرفين المعنيين بالأمر في موضوع يمثل مصلحة مشتركة بينهما، هما أدرى بها، وهما أصحاب الحق فيها، ولا قيمة لأي حل إلا إذا جاء باقتناع منهما، وهذا ما تحققه المفاوضات. ومن ثم، فالمفاوضات ليست إجراء شكليا، بل لا بد من توافر النية الحقيقية والاستعداد الطيب من كلا الطرفين؛ للوصول إلى حلول تفاوضية، يرضى عنها الطرفان. ومن هنا، فإن التفاوض يفترض وجود قدر من المرونة من الأطراف المعنية، بما يعني أن يراعي كل طرف حقوق الطرف الآخر، قد لا يدخل طرف في المفاوضات بهدف أول ووحيد وأخير، وهو الحصول على كل المكاسب، فهذا لا يؤدي إلى حلول متوازنة ومقبولة، يضمن لها النجاح”.

      وثمة موضوعات متشعبة يحتاج التفاوض حولها وقتا طويلا، كما أن الوقت الذي تأخذه المفاوضات، يتوقف على مدى المرونة، والرغبة الحقيقية في الوصول إلى اتفاق تدفعان الأطراف إلى اختصار الوقت، الذي تستهلكه عملية التفاوض، وفي حالة وجود طرف ثالث يقوم بعملية الوساطة فإن الوقت، الذي تستغرقه عملية التفاوض، يزيد، وبالطبع، فإن التفاوض أسلوب معقد من أساليب التسوية السلمية، فهو ليس أسلوبا بسيطاً أو واضحاً في آلياته وأشكاله. ولكن المدى، الذي تصل إليه تعقيداته يتوقف على طبيعة القضايا محل النزاع، وطبيعة العلاقة بين الطرفين المتنازعين، ومدى توافر خيارات أخرى لدى كل منهما لحل النزاع، وإضافة إلى الظروف، الإقليمية والدولية المحيطة بطرفي المشكلة، وهي الظروف التي تدفع نحو ضرورة اتباع أسلوب التفاوض أو غيره لحل النزاع.

      ومن المؤثرات، في عملية التفاوض بين الدول، أسلوب صنع القرار الخارجي، إذ توجد مؤسسات تتولى عملية صنع مثل هذا القرار المتعلق بمصالح الدولة وعلاقاتها الخارجية، ويؤكد الواقع أن الدولة، التي تأخذ بالأسلوب المؤسسي، يكون اتخاذ القرار فيها أسرع من الدولة الشمولية، كما أن تعدد الجهات المرتبطة بموضوع التفاوض يطيل عملية التفاوض، وكلما كانت المفاوضات على مستوى أعلى، كان الوقت أقصر، كما أن للرأي العام تأثيراً كبيراً في القضايا المصيرية، كما تتأثر المفاوضات بشخصية القائمين بها، حيث من الطبيعي أن يكون للدوافع الذاتية، كالفرح والثقة والشدة والقلق، أثرها في عملية التفاوض، إلى جانب ما يتوافر لهؤلاء من مهارات في عملية التفاوض، وخبرات تراكمية، إضافة إلى تأثيرات الأطراف الأخرى في سير التفاوض، سواء كان هناك طرف وسيط، أو طرف آخر يهمه نتائج المفاوضات، يعمل على توجيهها إلى الوجهة، التي يريدها، بالتأثير في أحد الأطراف، إضافة إلى ذلك فإن توازن القوى يؤثر في عملية التفاوض ومداها الزمني وقراراتها والاتفاقيات، التي تتمخض عنها.

      وبناء على ما سبق يمكن اختصار الشروط المطلوبة لنجاح المفاوضات الدبلوماسية والسياسية في القواعد التالية:

  1. التخلص تماماً من روح التعصب والتصلب والالتزام الشديد بالمواقف، أي يكون المتفاوضون عمليين ومرنين.
  2. ضرورة تحديد أهداف السياسة الخارجية في إطار المصلحة القومية والأمن القومي، مع الأخذ في الاعتبار ما يؤازرها من قوة.
  3. أهمية النظر إلى المسرح السياسي من وجهة نظر الأمم الأخرى، أي مراعاة مصالح واتجاهات الدول الأخرى.
  4. توافر الرغبة في التراخي والتوصل إلى حل وسط Compromise حول كل القضايا غير الحيوية.

      أما كيف يمكن التوصل إلى هذه التسوية، فإن ذلك يتطلب الشروط الخمسة التالية:

  1. ضرورة التنازل عن حقوق ثانوية من أجل مزايا جوهرية.
  2. تلافي التورط في مركز لا يمكن التراجع منه بدون فقدان ماء الوجه، أو لا يمكن تجاوزه بدون مخاطر مهلكة.
  3. عدم السماح للحليف الضعيف بأن يصنع لنا قراراتنا.
  4. اعتبار القوات المسلحة أداة للسياسة الخارجية ، وليست موجَّهة لها.
  5. الحكومة قائدة للرأي العام، وليست تابعة له”.

      والنقطة الأخيرة المتعلقة بالرأي العام توجب ضرورة فهم طبيعته ومؤثراته، وإذا كان هناك اختلاف حول تعريف الرأي العام، فإنه يمكن ارتضاء التعريف الآتي: الرأي العام هو ما يسود من رأي بين أغلبية المواطنين، أو ما يعرف بالرأي العام الوطني، أو ذلك الرأي السائد بين أغلبية شعوب العالم، وهو ما يعرف بالرأي العام العالمي. وقد تزايدت أهمية الرأي العام بزيادة تأثيرات وسائل الاتصال، إذ أصبحت هناك أساليب متنوعة لاستمالة الرأي العام وحشده؛ لتبني وجهات نظر معينة على المستوى الوطني أو الدولي.

      ومع أن هناك قوى كثيرة مؤثرة في المجتمع تتشارك في تكوين الرأي العام فإنها، جميعاً، تستخدم وسائل الاتصال في إحداث عملية التأثير. والعلاقة بين المفاوضين والرأي العام متبادلة، إذ يسعى الأخير إلى التأثير في المفاوضين؛ لتبني وجهة نظره، مما يجعل المفاوضين يحاولون ذلك من أجل كسب رضائه، وهم في الوقت نفسه، يعملون على تغيير قناعته، إذا كانت لا تتفق مع الاتجاهات، التي يتبنونها، والتي تسير وفقاً لها عملية التفاوض.

      وكلما كان النظام السياسي يسمح بقدر كبير من المشاركة السياسية، كان للرأي العام تأثيره في توجهات فريق المفاوضين. ومع أن ذلك قد يؤدي إلى تطوير عملية التفاوض، فإنه يعضد مواقف الحكومة، ويمثل عنصراً ضاغطاً للحصول على المزيد من المكاسب، كما أن الدول أصبحت تولي الحصول على تأييد الرأي العالمي جهداً كبيراً، من خلال وسائل شتى، أهمها توظيف وسائل الاتصال من أجل دعم وجهات نظرها.

      وتعد إسرائيل من أكثر الدول، التي تميل إلى توظيف عنصر الرأي العام ليكون ورقة من أوراق التأثير في المفاوضات، “وهي تجيد استخدام هذه الورقة كثيراً بالنسبة إلى شقي الرأي العام الداخلي المتمثلين في الأحزاب والقوى السياسية وفي الشعب الإسرائيلي في مفهومه الواسع. فعلى مستوى الأحزاب والقوى السياسية، خصوصاً القوى السياسية المشاركة في الائتلاف الحكومي، نجد أنه في أثناء المفاوضات، التي جرت مع الليكود، بعد زيارة الرئيس السادات للقدس، أن الإسرائيليين كانوا دائما يدّعون بأنهم، لو ساروا في موضوع ما على نحو معين، لانفرط عقد الائتلاف الحكومي، خاصة أن هناك من يعارض ذلك داخل الائتلاف. ويأتون بهؤلاء الأشخاص المعارضين، وهم وزراء؛ ليحاولوا إقناع الطرف الأمريكي بأنه لو تحركت إسرائيل قيد أنملة في هذا الاتجاه أو ذاك، لانهار الائتلاف الحكومي. وكثيراً ما كانت تنطلي هذه الأساليب على الأمريكيين. وعلى مستوى الشعب الإسرائيلي، عادة ما يدعي الإسرائيليون أن الشعب غير قابل لمسألة ما. ويضربون مثلا باستطلاعات الرأي العام، ويفترضون في كلامهم وآرائهم ـ إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ـ أن الوضع مختلف في العالم العربي، وأن الحكومات العربية تستطيع أن تقرر ما تشاء، من دون الاكتراث بالرأي العام”.

      ويبدو البعد الثقافي مهما في عملية التفاوض بين الدول، إذ لا بد لكل دولة أن تعرف الخلفية الثقافية للدولة، التي تتفاوض معها، لأن اختلاف دلالات اللغة والسلوك الاجتماعي قد يؤدي إلى سوء الفهم، الذي يزيد من عدم الثقة، ويؤدي إلى تدهور العلاقات وتعقد عملية حل المشكلات، ولعل ما سبق يعطى تصوراً موجزا عن المفاوضات بين الدول، من حيث أساليبها ومؤثراتها، والاعتبارات الداخلة في عملية التفاوض؛ لإنجاح أهدافها في عالم السياسة والدبلوماسية.

ثانياً: التفاوض الاقتصادي

      شاءت سنن الله، سبحانه وتعالى، في الحياة أن تكون قضية تبادل المنافع الاقتصادية بين الدول من أهم الجوانب في العلاقات الدولية، وهذا أمر واقع منذ أقدم العصور. وقد كان تضارب المصالح الاقتصادية من أسباب الحروب في كثير من الأحيان، ويزداد التشابك بين المصالح مع التقدم، الذي يشهده العالم، فالدول المتقدمة في حاجة إلى تسويق منتجاتها، وقبل ذلك، هي في حاجة إلى مواد خام لتصنيع هذه المنتجات، بينما الدول النامية في حاجة إلى كثير من المنتجات المصنعة في العالم المتقدم، كما أنها في حاجة إلى تقانة حديثة تعينها على استثمار ما لديها من مواد خام. وقد دخلت الشركات المتعددة الجنسيات طرفاً في العلاقات الاقتصادية، بما لديها من إمكانات، تفوق أحياناً ما لدى كثير من الدول.

      وهذا الواقع جعل المفاوضات المتعلقة بالشأن الاقتصادي تجري أحياناً على مستوى الدول، ومن الموضوعات، التي تطرح في مثل هذه الحالة، ما يتعلق بالاستيراد والتصدير، وقضايا الترانزيت وحرية المرور وحق العمل والإقامة، وتنشيط السياحة، ودعم التبادل الزراعي والصناعي، وقد تجري المفاوضات على مستوى البعثات الدولية، أو من خلال الوزارات المتخصصة في البلدين.

      ومن الأمثلة الواضحة على التفاوض الاقتصادي، تأسيس منظمة التجارة العالمية، التي تجسد المصالح الكبرى للدول الغربية، وما يحصل الآن من مفاوضات صعبة بين هذه المنظمة ودول العالم للدخول فيها، وما تتعرض له دول العالم الثالث من ضغوط سياسة عالمية؛ لتوقيع معاهدة الانضمام إلى هذه المنظمة، وما يعني ذلك من فقدان بعض السيادة السياسة والاقتصادية.

      وتشتمل المفاوضات الاقتصادية على عدد من الخطوات، التي تختلف في حالة إجرائها بين دولتين عن الحالة، التي تكون فيها المفاوضات بين دولة وشركات، أو شركات رأس مال.

      فعندما يكون التفاوض بين دولتين، حول إقامة وتنفيذ أحد المشاريع أو عقد معاهدة أو اتفاقية اقتصادية، يجري التفاوض على النحو التالي: “تجري المفاوضات الأولى أو المبدئية عن طريق البعثات الدبلوماسية.. فتقترح السفارة على المسؤولين في دولتها رغبة الدولة الأخرى في عقد معاهدة اقتصادية معينة.

      يدرس خبراء الدولة المقترح عليها المشروع، وبعد موافقة المسؤولين تبلغ الدولة الأخرى عن الموافقة المبدئية لبدء عمليات التفاوض، فتعين كل دولة فريقها المفاوض من الخبراء المختصين والمسؤولين، ويتفق على عقد الاجتماع الأول للفريقين المتفاوضين، ويحدد مكانه وزمانه ويدور البحث في الاجتماع الأول بصورة مفصلة في المواضيع الأولية، التي تعتبر نقطة انطلاق في التعرف على الأوضاع الاقتصادية، في كل من البلدين المتفاوضين، وهذه أهمها:

  1. النظام المالي والضريبي.
  2. نظام الاستيراد والتصدير.
  3. ميزان المدفوعات.
  4. الحاجات المتقابلة والفوائد المتبادلة.

أ. كل فريق يأخذ، من حكومته، التعليمات الواضحة، والخطوط العريضة الكبرى لسياسة دولته، والتفويض اللازم.

ب. إذا توصل الطرفان إلى الاتفاق على عقد معاهدة أو اتفاقية اقتصادية يوقعان عليها، ويرفع كل منهما إلى حكومته الوثيقة لعرضها على المرجع الرسمي، الذي له حق الموافقة النهائية عليها، بحسب دستور كل من الدولتين المتفاوضتين.

      أما في حالة التفاوض بين دولة وشركة أو شركات متخصصة، فإن المبادئ العامة، التي تنبغي مراعاتها، هي:

  1. نظرية النشاط الاقتصادي.
  2. تحديد أوليات الأهداف الوطنية.
  3. تفهم أهداف المستثمر الأجنبي.
  4. تفهم الوضع التنافسي.

      وذلك لأن أي شركة استثمارية، يهمها تحقيق الربح والحصول على عائد مادي، ومن ثم لا يمكنها المغامرة بالدخول في عمليات استثمارية، ما لم تحط بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في الدولة، التي تريد الاستثمار فيها، وحيز الحرية في التحرك المتاح لها، فكلما كثرت القيود وتعددت جهات الاختصاص وتعرقلت الإجراءات، تضاءلت فرص الاستثمار. ومن الملاحظ أن دولا عربية كثيرة فيها فرص استثمارية جيدة، تعجز عن استقطاب رؤوس الأموال الوطنية والأجنبية للاستثمار فيها؛ بسبب عدم الاستقرار السياسي، وعدم وضوح سياستها الاقتصادية، وتعقد الإجراءات، وتضارب صلاحيات جهات الاختصاص. وفي الوقت نفسه، فإن هناك دولاً تقع فريسة لفرط التفاؤل بالمشروعات الاستثمارية، التي تقدمها الشركات العالمية الكبرى، فتقدم لها ما تستطيع من تسهيلات، وتكون المحصلة استفادة هذه الشركات على حساب الدولة ومصالحها، وتعرض البنية السياسية والاجتماعية والثقافية للمخاطر المحتملة من جراء هذا الانفتاح الواسع غير المدروس. وهذا ما يقتضي ضرورة توافر قواعد معلومات ضخمة عن الشركات الاستثمارية ومشروعاتها وإمكاناتها وغاياتها، قبل الدخول طرفاً في أي تفاوض معها، حتى يأتي أي مشروع استثماري محققاً لمصالح الدولة، بقدر ما يحقق الربح والكسب للشركة الاستثمارية.

      وينبغي للدولة، كذلك، أن تسعى لتأسيس استقرار أوضاعها السياسة والأمنية من أجل استقطاب مشروعات استثمارية، تحقق صالح المواطن، لأن المناخ الاقتصادي جزء لا يتجزأ من المناخ العام السائد في الدولة، كما أن عليها إبراز المشروعات الاستثمارية الكبرى، التي وجدت طريقها إلى التنفيذ لطمأنة الشركات الكبرى الراغبة في الاستثمار واستقطاب مشروعات ذات جدوى اقتصادية.

ثالثاً: التفاوض التجاري

      أثبتت الدراسات أن التجارة تعد أول النشاطات الإنسانية ومن أكثرها أهمية، في تعميق العلاقات بين الأفراد والدول، كما أنها كانت من أسباب النزاع، حيث عملت الدول على تأمين طرق التجارة، وكان استقرارها يقاس بما في هذه الطرق من أمن وطمأنينة. واليوم أصبح العالم أكثر اتصالاً وقرباً، بعد تلاشي المسافات وتشابك العلاقات، وتبعاً لذلك أصبح أكثر تطلعاً إلى تعميق التبادل التجاري، وجعله أكثر فائدة في تحقيق التكامل بين اقتصاديات الدول المختلفة، ولم يبق منطقياً، في ظل هذا التقارب، الذي تفرضه وسائل الاتصال؛ وضع العراقيل، التي تحول دون انسياب التجارة بين الدول، بما يحقق مصالح الإنسان في تحقيق رفع مستواه الاقتصادي ورفاهيته، إلى جانب ضرورة وضع الضوابط، التي تحارب التجارة الضارة المتمثلة في تهريب الممنوعات من أسلحة ومخدرات وغيرها. ويسهم انسياب التجارة في إطار ضوابط، تراعي مصالح الدول والقرب إلى أن “يكون لدينا مستوى معيشي مرتفع، تشترك فيه جميع الأمم لدرجة لا تزيد معها، على الأقل، تلك الفروق الحالية في توزيع الثروة في العالم.

      ولكي نحرز تقدماً ملموساً، نحتاج إلى درجة من الكفاءة، لا يمكن أن تتأتى إلا عن طريق توافر مراكز تجارية حرة، على قدر الإمكان، في جميع أجزاء العالم، تؤدي إلى ترابط الناس بعضهم ببعض. وتمدهم بالأساس اللازم للاستثمار والتوسع الدولي، مما قد يؤدي إلى إقرار السلام”.

      “وتتعدد وسائل التفاوض التجاري بتعدد أنواع التجارة، برية كانت أو بحرية عن طريق الأفراد، كتجار أو ممثلين أو وكلاء للشركات والمؤسسات التجارية، وفي جميع حالات البيع والشراء، تتناول المفاوضات الأمور التالية:

ـ نوع السلعة وأوصافها.

ـ العرض والطلب والسعر.

ـ الكمية المطلوبة والنوعية.

ـ كيفية دفع الثمن وفتح الاعتماد.

ـ مدة التسليم والتأمين ومخاطر النقل ونسبة تحمل كل من البائع والمشتري لهذه المخاطر.

ـ تحديد المرجع الصالح لفض النزاعات الناتجة عن تطبيق العقد.

      ويتطلب التفاوض التجاري استخدام إستراتيجيات للتأثير والإقناع، ومن أهمها:

  1. الإستراتيجية الابتكاريةInnovation Strategy

      وهي الإستراتيجية، التي تستخدمها شركة أو طرف ما، يسعى إلى إيجاد وبناء علاقة طيبة بين الشركة والجمهور، في محاولة لاستقطاب أو تكوين جمهور لمنتجاتها أو خدماتها، التي تشبع رغبات ومتطلبات هذا الجمهور، وذلك من خلال الدراسة الدقيقة لترويج المبيعات بطريقة مغرية، أفضل مما يفعله المنافسون…

  1. إستراتيجية التحصينfortification strategy

      وهي الإستراتيجية، التي توظفها الشركة أو المنشأة، بحيث تستخدم إمكاناتها ومصادرها، للتحويط على العملاء، الذين يستخدمون منتجات الشركة أو خدماتها، للحفاظ على هيكل الأسعار، التي توازن بين المنفعة والقيمة، التي يدفعها المستهلك.. وهذه الإستراتيجية توظف كذلك، من خلال العمل على تحسين الأوضاع التنافسية للمنشأة.

      وأحياناً يطلق على هذه الإستراتيجية اسم إستراتيجية الاحتفاظ Retention Strategy بتسهيل أمر البيع، كتوصيل المنتج لمنازل العملاء، والبيـع بالكتالوجات، وأحياناً تهتم المؤسسة بعمل نشاطات أو رحلات أو ندوات عن موضوعات مهمة تجتذب بها عملاءها.. كذلك تعتمد هذه الإستراتيجية، مثل معظم الإستراتيجيات التسويقية الخارجية، على الإبقاء على المنتج أو السلعة في ذهن الجمهور من خلال الإعلان الغريب. مثل هذا الإعلان لسيارة الفولكس واجن، حيث يقول المذيع: إنها ليست سيارة.. إنها فولكس واجن”.

  1. إستراتيجية المواجهة

      وهي تلك الإستراتيجيات، التي توظفها الشركة أو المؤسسة للتصدي لمؤسسات أو شركات منافسة أخرى، تقوم بالاعتداء على الشركة من خلال إطلاق الإشاعات أو ما شابه ذلك.

  1. إستراتيجية الاستفزاز أو المضايقةHarassment Strategy

      وهنا توظف شركة أو مؤسسة ما هذه الإستراتيجية؛ بهدف التأثير في إمكانات المنافسين، كالاتصال بالموردين لتقليل مبيعاتهم لهم، أو الضغط على الموزعين للحد من مبيعات المنافسين، أو دفع رجال البيع بالشركة أو المؤسسة أو من خلال الحملة الإعلامية، للنيل من المنافسين بإبراز أو ادعاء عيوب منتجاتهم للسوق، وهذه الإستراتيجية قد تؤدي إلى تدمير المنافسين، ولا سيما إذا كانت الإمكانات المادية والترويجية للشركة أو المؤسسة المستهدفة، ليست لها قدرات ابتكارية وإنتاجية عالية للحفاظ على حصتها من الجمهور في الأسواق، وطريقة الإعلان، عن منتج شركة ما من خلال مقارنته بمنتج مثيل له، بالهجوم عليه ووصف عيوبه كما في حالة مهاجمة شركة الكوكاكولا مثلاً لشركة البيبسى أو العكس، جهاراً نهاراً، وهذا من الأمور الشائعة في التنافس بين الشركات العالمية.

  1. إستراتيجية النوعية المتميزةQuality Strategy

      وتوظف هذه الإستراتيجية، من قبل بعض الشركات أو المؤسسات المتميزة للغاية؛ للحفاظ على حصتها التسويقية من خلال الاحتفاظ بمستوى معين من جودة الإنتاج أو الخدمة، بما يجعلها دائماً في مستوى جودة مفضل لدى المستهلك عن السلع المنافسة.

  1. إستراتيجية العمل على زيادة الطلب على منتجات الشركةPrimary Demand Strategy

      وهي الإستراتيجية، التي تهدف إلى زيادة مستوى الطلب الكلي على منتجات الصناعة أو الخدمات، مع حصول المؤسسة أو الشركة على النصيب الأكبر من هذه الزيادة، وذلك من خلال زيادة عدد مستخدمي المنتجات، إما من خلال زيادة الرغبة في الشراء، عن طريق إعادة عرض السلع أو الخدمات بطريقة مغرية للمتعاملين مع الشركة أو من خلال فرص البيع بالتقسيط، أو منح الائتمان للموزعين.. وكذلك من خلال خلق استخدامات جديدة لسلع راهنة، أو من خلال خفض الأسعار للإقبال على المنتج أو الخدمة”.

      ومهما كان الأخذ والعطاء بين البائع والمشتري، وطبيعة الأساليب المستخدمة في التأثير على عملية التفاوض التجاري، فإن هناك مجموعة المبادئ الأساسية التي ينبغي أن يلتزمها كل طرف، وهي:

      “يلتزم البائع في عقد البيع بالتنازل عن ملكية شيء، ويلتزم فيه المشتري بأن يدفع ثمناً، وتتوقف صحة البيع على المفاوضات، التي توصل الطرفين على ماهية العقد، وإلى البيع والثمن، والشروط العامة لصحة الموجبات التعاقدية.

ـ يجب أن يكون كل من البائع والمشتري أهلاً للالتزام.

ـ لا يجوز التفاوض على بيع الأشياء، التي لا تجوز المبايعة فيها، ولا الأشياء، التي ليس لها قيمة يمكن تخمينها، ولا التي لا يمكن تسليمها بسبب ماهيتها.

ـ لا يجوز التفاوض على بيع ملك الآخرين.

ـ يجب أن يعين المتفاوضون ثمن المبيع.

ـ يجب أن يتركز التفاوض على انتقال الملكية بين البائع والمشتري، في أن المشتري يكتسب حتما ملكية المبيع، إذا كان عينا معينا، عندما يصبح البيع تاما، وأنه يحق للمشتري منذ إتمام العقد، حتى قبل التسليم، أن يفرغ عن المبيع، ما لم يكن ثمة اتفاق أو نص قانوني مخالف، ويحق للبائع أن يفرغ عن حقه في الثمن، قبل قبضه.

ـ يجب أن تشمل المفاوضات التجارية بين البائع والمشتري، المواضيع التالية:

  1. تسليم المبيع: المكان والزمان والمصاريف.
  2. الضمان: العيوب، التي يضمنها البائع وما يترتب عليها.
  3. دفع الثمن.
  4. الاستلام وموجباته”.

رابعاً: التفاوض في المؤسسات الاقتصادية والإدارية

      أدت الثورة الصناعية وما تلاها من تطورات تقنية وقفزات اقتصادية عملاقة، إلى كبر حجم الأعمال، وتوسع حجم التعاملات الاقتصادية والإدارية، واشتراك أطراف عدة في عملية الإنتاج والتسويق والبيع والإدارة، ويتطلب الأمر، مع استمرار تزايد حجم بيئة العمل، وجود أسلوب إداري لتنظيم العلاقات بين الأطراف المختلفة. وكان إنشاء إدارة العلاقات العامة، في المؤسسات الصناعية الكبرى، وسيلة من أجل إيجاد التفاهم بين أصحاب الأعمال والعمال، وبناء جسور من العلاقات الوثيقة بين المنشأة والجمهور.

      وقد تبلورت العلاقات العامة في شكل علم متخصص، له قواعده وأصوله. ومن أهم مهام العلاقات العامة، تمتين العلاقات في داخل المنشأة، وإيجاد التفاهم بين المنتمين إليها، مهما اختلفت مستوياتهم الوظيفية، من خلال تلمس حاجات العاملين؛ ورغباتهم، وإيصالها إلى الإدارة العليا، إلى جانب شرح سياسات هذه الإدارة للعاملين لإزالة ما قد ينشأ من سوء التفسير، كما أن العلاقات العامة تسعى إلـى تلمس حاجات ورغبات جمهور المتعاملين مع المنشأة، ومعرفة التأثيرات النفسية وأساليب الاستمالة المناسبة لهذا الجمهور؛ ليقبل على منتجات المنشأة. ويقوم عمل هذه الإدارة المهمة، في أي منشأة، على التخطيط الجيد المعتمد على الحقائق والمعلومات الصحيحة، لا على الانطباعات، التي قد تضلل، وهذا ما يعينها على تحديد الجمهور المستهدف وطبيعة هذا الجمهور وخصائصه، والأساليب، التي تؤثر في عملية الإقناع.

أسلوب التفاوض بين الحاكم والمحكوم

      في ظل ثورة الاتصالات أصبح من الصعب إخفاء الحقائق عن أي شعب من شعوب الأرض ، مما استوجب ضرورة أن يكون اتصال السلطة الحاكمة بالشعب مباشرا ومفتوحا، بحيث تتلمس السلطة الحاكمة الحاجات الحقيقية للشعب وما لديه من رغبات وتطلعات ، وما يعانيه في حياته ، من أجل العكوف على حل كل مشكلاته، من خلال دفعه إلى المشاركة الفعالة، في تحمل مسؤولياته، بوصف السلطة الحاكمة والشعب ركاب سفينة واحدة. كما أن تسليم الحقائق للشعب أصبح ضروريا حتى لا يتم التشويش عليه من خلال الشائعات المغرضة والأساليب الدعائية المضادة. وما يتم بين الحكومة والشعب، عبر وسائل الاتصال، هو نوع من التفاوض، الذي يهدف إلى خلق تفاهم وتوافق بينهما ، وإذا أدى هذا التفاهم إلى تشكيل وجهة نظر معينة لدى الشعب، حول قضية من القضايا؛ فإننا نكون إزاء ما يطلق عليه خبراء الاتصال ” الرأي العام”، وهو يحتاج إلى جهد كبير من الإعلام الذكي المبنى على الحقائق، والمستخدم لأساليب التأثير والإقناع، التي تتناسب مع طبيعة الشعب وخلفياته الثقافية والحضارية وأفكاره، حول القضية المطروحة.

إستراتيجيات ومباريات التفاوض

      تمثل إستراتيجيات التفاوض التصور العام للمسار، الذي ينبغي أن تسلكه المفاوضات، وتشتمل على تحديد للأهداف والغايات المرجوة من عملية التفاوض، والتكتيكات والسياسة الموصلة إليها.

      والمهارات الحقيقية للتفاوض تبدو واضحة في مدى نجاح المفاوض، في توظيف التكتيكات والسياسات والوسائل؛ لتحقيق أهدافه وإشباع حاجاته، وفي كيفية تفاعله مع المواقف التفاوضية المختلفة. ومن أهم الإستراتيجيات المعروفة فـي مجال التفاوض إستراتيجيات متى؟ وإستراتيجيات كيف وأين؟

      ومن الواضح، أن إستراتيجيات متى؟ تركز على المفهوم الحقيقي للتوقيت، وما يأتي في إطاره من أمور، بينما تشمل إستراتيجيات كيف؟ وأين؟ على طرق ووسائل سير المفاوضات، وما يأتي في إطارها من اعتبارات.

أولاً :إستراتيجيات متى؟

      تشتمل هذه الإستراتيجية على الأساليب والتكتيكات التالية:

  1. الصبرForbearance

      هذا الأسلوب يهدف إلى كسب الوقت، وشعاره “بالصبر تبلغ ما تريد” Patience pays، ومن وسائل كسب الوقت، عدم الرد الفوري على سؤال، أو تغيير مجرى الحديث، أو الرد بسؤال مضاد؛ لإعطاء النفس الفرصة للتفكير وتقرير ما يمكن فعله.

      ومع أن هذا يعطي الطرف الآخر الفرصة نفسها. فإنه ضروري؛ من أجل عدم التورط بإعطاء إجابات من غير تفكير، وهذا يتطلب معرفة الوقت المناسب للصمت، والوقت المناسب للكلام. إن من يبادر بالاستجابة إلى طلبات خصمه وتقديم التنازلات، يشجع الآخر على عدم التوقف عن طلب المزيد.

  1. المفاجأة:Surprise

      وتتضمن هذه الإستراتيجية تغييراً مفاجئاً في الأسلوب وطريقة الحديث؛ بهدف إرباك الخصم، والحصول منه على تنازلات. ويبدو هذا التغيير في ارتفاع الصوت أو استخدام العنف أو التراجع في الاتجاه المضاد تماما.

      وتكمن خطورة هذا التكتيك في أنه بقدر ما يمكن أن يحقق مكاسب لمستخدمه، قد يحدث انهياراً في المفاوضات.

  1. الأمر الواقع:Fait Accompli

      شعار هذه الإستراتيجية، الآن يتوقف الأمر على الطرف الآخر Now it is up to you

      ويقوم على أساس وضع الطرف المفاوض أمام الأمر الواقع، وذلك عند وجود شك في الوصول إلى عمل محدد أو نتيجة محددة.

      ومن الأمثلة الكلاسيكية، زواج فتى وفتاة من أسرتين غير متكافئتين، من غير علم الأسرتين، إذا شعرا أن هناك تياراً قوياً رافضاً لزواجهما.فبعد أن يتم الزواج يعلنانه للأسرتين، ويتمثل هذا التكتيك على مخاطر، لذا لا بد من توافر عدة شروط لضمان نجاحه، أهمها:

أ. أن يكون احتمال قبول الطرف المعارض للنتيجة في النهاية احتمالاً كبيراً.

ب. أن تكون خسارة الطرف المعارض، في حالة استمرار معارضته، أكبر ماديا ومعنويا من خسائر عدم تقبله الأمر الواقع.

  1. الانسحاب الهادئ:Bland withdrawal

      وهنا يقوم المفاوض باتباع سلوك معين، يحصل به على بعض المميزات، ثم يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بالاعتذار عما فات، وإعلان استعداده لموافقة الطرف الآخر في رأيه.

  1. الانسحاب الظاهري:Apparent withdrawal

      في هذه الإستراتيجية يعلن أحد الأطراف انسحابه في اللحظة الحاسمة، للحصول على مزيد من التنازلات من الطرف الآخر، وهذا التكتيك مزيج من التسويف والخداع.

      ومن الأمثلة، التي تساق، ما أورده Niernberg من أن هناك شقة يملكها ورثة، وأرادوا بيعها لأحد المشترين، وتم الاتفاق مع أحد المشترين على السعر وتراضت الأطراف، وقبض البائعون مقدم الثمن، وتحدد اليوم الثاني للتسجيل وتسليم باقي الثمن، وقد شعر ممثل البائعين أنهم في حاجة إلى الشقة، وأن بيعها سيحدث لهم إرباكا شديداً، فجاء إلى المشتري، وأبلغه اعتذار البائعين، بحجة أن أحد الورثة الشرعيين يرفض بيع حصته، وأن ذلك يتطلب اللجوء إلى القضاء لإتمام صفقة البيع، وهو ما يحتاج إلى وقت لا يقل عن ستة أشهر، أما الحل الثاني فهو رفع السعر بنسبة 20% في مقابل الحصول على موافقة ذلك الشخص المعترض. لذا وافق المشتري على إتمام الصفقة، لأنه سيخسر كثيراً إن لم يفعل.

      وهذه الإستراتيجية، مع أنها شائعة الاستعمال لدى كثير من المفاوضين، يحرمها  الإسلام، كما أن القوانين الوضعية لا تجيزها وتحد من استخدامها.

  1. الكر والفر أو التحولReversal

      وشعارها “يمكنك التحرك للأمام أو للخلف” You can forward, backward، وتعبر عن استعداد المفاوض أن يحول مواقفه وفق ظروف المفاوضات، وهذا الأسلوب مبني على المثل الإنجليزي While it is hot strike hard يقابله في العربي “اضرب على الحديد وهو ساخن”، وهو ما يعني أن يضرب على الحديد بمجرد خروجه من النار؛ لأنه يكون أكثر مطاوعة، ويكون المفاوض في هذه الحالة مستعداً للكر والفر، والزيادة والنقصان، وتقديم العروض وسحبها، ما لم تتوافق مع مصلحة الجهة، التي يمثلها.

  1. القيود

      شعار هذه الإستراتيجية “نهاية المطاف”، ويقوم المفاوض في هذه الحالة بوضع قيود على بعض جوانب التفاوض، مثل الاتصالات وعدد الأفراد المشاركين في التفاوض، ومن الذي يتكلم أثناء التفاوض؟ ومن الذي يستطيع أن يتحدث؟ وبعد من؟ أو الوقت المحدد للتفاوض، أو أماكن التفاوض.

      ومن الأمثلة على ذلك، أن يطلب التاجر من المشتري عدم إعلان السعر المتفق عليه، وإذا أعلنه، فإنه لن يكمل الصفقة أو لن يبيع له بعد ذلك، أو أن يضع المورد قيداً زمنيا على المشترين، حتى يسرعوا في اتخاذ القرار.

      وهذه الإستراتيجية قد يكون فيها أحياناً بعض التمويه والخداع، وترمي إلى إجبار الخصم على اتخاذ قرار سريع، وقبل استخدامها، لا بد من التأكد أن الجو ملائم، حتى لا تأتي النتائج عكسية.

  1. الخداع

      وطبقاً لهذه الإستراتيجية، فإن أحد المفاوضين يأتي بتصرف يحول ذهن الطرف الآخر إلى اتجاه معين، بعيداً عن حقيقة التصرف، أو أن يحاول أحد المفاوضين التظاهر بأن لديه معلومات تفوق ما لديه بالفعل.

      وقد يلجأ المفاوض إلى تسريب بعض المعلومات الخاطئة؛ بقصد تضليل الطرف الآخر، أو قد يخرج عضو من أعضاء وفد التفاوض معلناً وصول المفاوضات إلى طريق مسدود، وغير ذلك من أنواع الخداع.

      ومن القصص الشائعة، أن اثنين من اللصوص مرَّا على رجل ينام تحت شجرة، متدثراً بعباءة من نوع جيد، وأراد اللصان أن يسلباه إياها، ولكن خافا أن يستيقظ الرجل أثناء السرقة، فاستخدما أسلوب الخداع ونفذاه بدقة، إذ اقتربا من الرجل النائم، وقال أحدهما للآخر: إن حصيلة اليوم من السرقة كانت ثمينة، ولكن ماذا سنفعل بهذا العقد الثمين، ثم اقترح وضعه في علبة خشبية صغيرة دفنها تحت الشجرة ليعودا غداً لأخذه، ثم قاطعه الآخر قائلاً: إن الرجل النائم يمكن أن يسمعنا ويأخذ العقد أو يبلغ الشرطة عنا، فرد عليه الآخر أن الرجل في سبات عميق، وطلب منه أن يذهب ليحفر تحت الشجرة، حتى يتأكد هو من أن الرجل نائم بالفعل وذلك بأخذ عباءته. وكان الرجل، فعلاً، مستيقظاً، ولكنه لما عرف غلاء العقد، عزم على أن يتركهما يأخذان العباءة ليفوز هو بالعقد، وبلع الرجل الطعم، إذ سحب اللص الأول العباءة وأخذها وانصرف، في حين كان الآخر يتظاهر بالحفر تحت الشجرة.

      يتضح أن هذه الإستراتيجية، تقوم على إعطاء الطرف الآخر انطباعات خاطئة، يبني عليها قراراته، التي لن تكون بالتأكيد في صالحة، ما دامت قائمة على أساس خاطئ .

ثانياً :إستراتيجية كيف؟ وأين؟

      أما النوع الآخر من الإستراتيجيات فيتمثل في الآتي:

  1. المشاركة في العمل:Participation

      وفيها يحاول المفاوض الحصول على تعاون أطراف، أخرى بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وشعار هذه الإستراتيجيـة “نحن أصدقاء”، وتعني إمكان اللجوء إلى أطراف أخرى للحصول على مساعدة، في موقف تفاوضي معين. ومثل هذا النوع يكون بين الأعضاء في كيان واحد ملتزمين سياسته، كما هو الحال في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أو دول منظمة الأوبك.

      وتحتاج هذه الإستراتيجية حداً أدنى من السياسات العليا والأهداف العليا المشتركة بين الأعضاء، حتى يتسنى أن يكون كلُّ عضوٍ معيناً للآخر.

  1. المساهمة:Association

      وشعارها “احملني وأحملك” أو “ارفعني وأرفعك”، ومن أمثلة تطبيقها، ذلك المحامي الذي يقبل أتعاباً أقل من مستواه في بعض القضايا المهمة، التي يمكن أن تؤدي إلى زيادة شهرته وحصوله على مكانة اجتماعية مرموقة. أو ذلك المفاوض، الذي يقدم تنازلات لخصمه في سبيل أن يدخل إلى أسواق جديدة أو لفتح مجال عمل أمامه.

      ويتضح استخدام مثل هذه الإستراتيجية عملياً، في استخدام بعض الشركات ممثلين أو رياضيين مشهورين في الإعلانات؛ لإعطاء انطباع للجمهور بمشاركة هؤلاء الأبطال في استخدام هذا المنتج المعلن عنه، كما قد توظف بعض الشركات شخصيات اجتماعية مرموقة؛ من أجل الاستفادة من مكانتهم، لإضفاء الأهمية على الشركة. ومثل هذه الإستراتيجية لا تحقق نجاحاً، ما لم تكن هذه الشخصيات قادرة على العطاء فعلاً.

  1. التوصية المفتعلة ورد الفعل السلبي (عدم المساهمة)DIA-Association

      وهي عكس الإستراتيجية السابقة، وتشير إلى أن الدعاية المكثفة يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية، ومثال ذلك، أن كثرة الشهادات العلمية ذات الخبرة والتوصيات، قد تعطي انطباعاً عكسيا عن صاحبها، فتكون سبباً في عدم توظيفه.

  1. مفترق الطرق:Cross Roads

      وتستخدم هذه الإستراتيجية للحصول على تنازلات في القضايا الكبيرة، مقابل تقديم المفاوض تنازلات في القضايا البسيطة، ولكن يخشى أن الطرف الآخر حين يجد هذه المبادرة، بالتنازل قد يتمادى في طلب تنازلات أكبر، مما يتطلب ضرورة اختيار التوقيت المناسب.

  1. التغطية:blanketing

      يهدف المفاوض، باستخدام هذه الإستراتيجية، إلى تغطية جوانب الضعف لديه، حتى لا ينتبه إليها الطرف الآخر، وهي محاولة لكسب مميزات كبيرة بأقل جهد، وفيها يتم التحرك نحو اتجاه معين لتغطية أهداف كبيرة.

      ومن الأمثلة الشهيرة لهذه الإستراتيجية، تلك، التي اتبعها روكفلر، رجل الأعمال الأمريكي المشهور، في شراء الأراضي، التي كانت مخصصة للمسالخ ومناطق تعبئة اللحوم في مدينة نيويورك، بحجة تخليص المدينة من التلوث وتجميلها، بينما أرادها هو لإقامة مشروع الأمم المتحدة ومباني الجمعية العمومية. وبعد أن عُرف المشروع الحقيقي، ارتفع ثمن الأرض في هذه المنطقة ارتفاعاً كبيراً. وقد حققت له الأراضي، التي كان يملكها فيها أرباحاً خيالية.

  1. العشوائية:Randomizing

      وهذه الإستراتيجية تعنى استخدام قانون المصادفة في كسب أكثر ما يمكن كسبه من خصمك، ولكنها قد تنجح أو تفشل، مما يجعل اللجوء إليها محفوفاً بالمخاطر.

  1. إستراتيجية التدرج:Salamiأو إستراتيجية الخطوة خطوة Step by step Strategy

      في ظل هذه الإستراتيجية، يقوم المفاوض بتجزئة الموضوع إلى أجزاء، حتى تتم مناقشة كل جزء، على حدة، واتخاذ قرار بشأنه، ويكون بعد ذلك، الانتقال إلى الجزء الآخر، وهكذا.

      وهذه الإستراتيجية مفيدة في القضايا المعقدة، أو عندما لا تكون هناك خبرات تفاوضية بين الجانبين.

      ومثل هذه الإستراتيجية تستخدم في حالة العقود الكبيرة، التي يخشى أن تكون خسارتها كبيرة في حالة الاندفاع إلى التوقيع.

  1. التصنيف الفئوي:Bracketing.

      وهي لا تشبه الإستراتيجية السابقة، لأن التجزئة فيها تكون بغرض المناقشة فحسب، من غير الوصول إلى الهدف النهائي، من خلال أهداف مرحلية.

  1. التوكيل:Agency.

      وتتمثل هذه الإستراتيجية في توكيل بعض الأطراف؛ للقيام بالوساطة والتحدث نيابة عن الأطراف المعنية. ومن ميزاتها أنها تساعد على إجراء المفاوضات، من غير إحراج للأطراف. ومن أمثلة ذلك المستشار القانوني، أو المستشار الاقتصادي، أو السمسار الرسمي أو الخاطبة وغيرها.

  1. العينة العشوائية:Random Sample

      وتقوم على أساس اختيار عينة عشوائية، وإجراء دراسات عليها، ثم الافتراض أن العينة المختارة تمثل حجم البحث كله.

      ومن خلال هذه الدراسة، يتم الحصول على بعض المعلومات المتعلقة مثلا ـ بالمفاوض أو المفاوضين كنوعية السلع، التي يتعاملون فيها، وتجاربهم في عقد الصفقات، ومدى مرونتهم في المفاوضات، ومقدار التنازلات، التي يمكن أن يقدموها، ومدى حرصهم على تلبية خدمات العملاء، وبناء على ذلك يتم اتخاذ الخطوات اللازمة للتحرك.

  1. تغيير المستوى:Shifting Levels

      في هذه الإستراتيجية تبدأ المفاوضات بمستويات أقل من مستوى الرئيس أو المدير العام. وعندما تبدأ المفاوضات في التعثر أو الوصول إلى طريق مسدود، يتم تصعيد شخص لينضم إلى الوفد المفاوض. ويكون على مستوى أعلى، وقد يتطلب الأمر تدخل أعلى المستويات؛ من أجل تسريع عملية المفاوضات. ولمثل هذه المشاركة تأثير نفسي كبير، وتشجيع الطرف الآخر على المضي بجدية في عملية التفاوض.

      ويبدو مما سبق، أن الإستراتيجية تتعلق بفن استخدام القوة الشاملة لتحقيق الهدف التفاوضي العام، ولذا فإن الإستراتيجية التفاوضية يجب أن تعطي وتحدد عنصرين أساسيين هما: العنصر الأول ـ عنصر الشمول: أي أن تشمل الإستراتيجية الهدف العام الذي يحيط بكل عناصر القضية التفاوضية.

      العنصر الثاني ـ عنصر الزمن: أي الفترة الزمنية المطلوب تحقيق الهدف التفاوضي العام أو النهائي خلالها. ومن ثم، فإن الإستراتيجية التفاوضية تعد أشمل وأوسع من حيث المستوى، الذي تغطيه، وأطول مدى من حيث الزمن، الذي يستغرقه تنفيذها، وتعد، في الوقت نفسه، أكبر من حيث الحجم، الذي تشغله، حيث يجب أن تحتوي الإستراتيجية على كل عناصر القضية بكاملها وبكل أبعادها وجوانبها. ويقسم بعض الخبراء إستراتيجيات التفاوض وفق المنهج المستخدم، ومن أكثر المناهج المعروفة، منهج المصلحة المشتركة والصراع.

      ومن إستراتيجيات منهج المصلحة المشتركة: إستراتيجية التكامل، وإستراتيجية تطوير التعاون الحالي، وإستراتيجية تعميق العلاقة القائمة وإستراتيجية توسيع نطاق التعاون ليشمل مجالات جديدة. أما منهج الصراع فيشتمل على إستراتيجية الإنهاك، وإستراتيجية التشتيت، وإستراتيجية إحكام السيطرة، وإستراتيجية الدحر (القدر المنظم)، وإستراتيجية التدمير الذاتي.

      وقد تتضمن الإستراتيجية الواحدة مجموعة إستراتيجيات فرعية، فإستراتيجيات منهج المصلحة المشتركة تشتمل على هذه الإستراتيجيات الرئيسية والفرعية الآتية:

أ. إستراتيجية التكامل:

ويعني التكامل تطوير العلاقة بين طرفي التفاوض، إلى درجة يصبح فيها كل منهما مكملاً للآخر في كل شيء. ويتم تناول إستراتيجية التكامل عن طريق أحد بدائل ثلاثة هي :

(1). التكامل الخلفي:

ويتكون هذا البديل الإستراتيجي من قيام أحد الأطراف المتفاوضة بإيجاد علاقة أو رابطة مصلحة، يتم من خلالها الاستفادة مما لدى الطرف الآخر، من مزايا وإمكانات؛ لإنتاج أو لتحقيق منفعة مشتركة تعود على الطرفين، مما يقوي قدرات الطرفين المتفاوضين أو من ربحهما من المنافع المشتركة، التي ينالانها حقاَ.

(2). التكامل الأمامي:

على عكس البديل الإستراتيجي الأول، يقوم هذا التكامل على مبادرة أحد الأطراف المتفاوضة بالكشف عما لديه من مزايا ومنافع، يمكن أن يستفيد منها الطرف الآخر لاستكمال ما يحتاج إليه من قدرات ومهارات لإنتاج منتج جديد. ويقوم التفاوض في هذه الحالة على تغيير نمط الإنتاج القائم، أو تعديل بعض وحداته؛ لإنتاج مواد جديدة تماماً، أو إنتاج سلع وسيطة كمكونات في صناعات جديدة .

(3). التكامل الأفقي:

وهو توسيع نطاق المصلحة المشتركة بين الطرفين المتفاوضين، بإشراك طرف ثالث معهما، أو أطراف جديدة؛ لزيادة فاعلية قدرات ومهارات المجموعة إجمالا.

ب. إستراتيجية تطوير التعاون الحالي:

تقوم على أساس الوصول إلى تحقيق مجموعة من الأهداف العليا، التي تعمل على تطوير المصلحة المشتركة بين طرفي التفاوض، وتوثيق التعاون بينهما. ومن الإستراتيجيات البديلة الفرعية:

(1). توسيع مجالات التعاون:

وتتم عن طريق إقناع الطرفين المتفاوضين بالتعاون في عدة مجالات.

(2). الارتقاء بدرجة التعاون:

وتقوم هذه الإستراتيجية البديلة على الارتقاء بالمرحلة التعاونية، التي يعيشها طرفا التفاوض، حيث إن هناك مراحل للتعاون منها مرحلة التفهم المشترك، ومرحلة الاتفاق في الرأي، ومرحلة العمل على التنفيذ، ومرحلة اقتسام المائدة.

ومن العوامل المؤثرة في الارتقاء بمراحل التعاون: درجة التوافق في الاتجاه والميول، والتناسب في الظروف، ومدى الرغبة المتوافرة عند الأطراف، لتحقيق الارتقاء المطلوب.

  1. إستراتيجية تعميق العلاقة القائمة:

يقوم على أساس الوصول إلى مدى أكبر من التعاون بين طرفين أو أكثر، تجمعهم مصلحة ما، حيث يقوم كل منهم بإحداث عمق في علاقته بالآخر.

وهذه الإستراتيجية مناسبة لأطراف المصالح المشتركة، التي يرغب كل منهم في تطوير العلاقة القائمة، خاصة في العلاقات الاقتصادية والتجارية، بين الدول المتقدمة والدول النامية.

  1. إستراتيجية توسيع نطاق التعاون بمده إلى مجالات جديدة:

تعتمد على العلاقة التاريخية الطويلة بين طرفي التفاوض، وتنطلق من إحساس كل منهما بأهمية التعاون مع الآخر. وقد يكون مد التعاون إلى مجال زمني جديد، كتحديد فترة زمنية جديدة، يتم خلالها استمرار التعاون بنفس معدلاته، أو توسيع نطاق التعاون بمده إلى مجال جديد، يتم فيه التعاون بصورة أفضل.

ثالثاً: إستراتيجيات منهج الصراع

      تعتمد هذه الإستراتيجية على الخداع والتمويه، تحت دعوة المصالح المشتركة والمنفعة المتبادلة.

  1. إستراتيجية الإنهاك (الاستنزاف) ومن أنواعها

أ. إستراتيجية استنزاف الطرف الآخر:

ويتم هذا الاستنزاف عن طريق تطويل فترة التفاوض، حيث تأخذ النتائج طابعاً شكلياً، كالتفاوض حول مبدأ التفاوض نفسه أو التفاوض في جولة أو جولات حول التوقيت، وكذلك حول تحديد المكان، أو الموضوعات المطروحة، ثم لتحديد الأولويات، التي يسير وفقها التفاوض.

ب. استنزاف جهد الطرف الآخر:

ويتم ذلك بتوجيه جهود الطرف الآخر إلى عناصر شكلية، بإثارة العقبات القانونية حول كل عنصر من عناصر الموضوعات، التي سيتم تناولها، وحول مسميات كل موضوع، وبأشياء شكلية أخرى. ومن وسائل هذا الاستنزاف، تنظيم برنامج حافل للاستقبالات والحفلات والمؤتمرات الصحفية وحفلات التعارف، وزيارة الأماكن التاريخية والمناطق الترفيهية، والاهتمام بالنواحي الفنية الشديدة التشعب، كالنواحي الهندسية والجغرافية.

ج. استنزاف أموال الطرف الآخر:

ويتم ذلك عن طريق زيادة معدلات إنفاقه وتكاليف إقامة وأتعاب مستشاريه طوال العملية التفاوضية، وزيادة الأعباء المالية، قد تجعله يبدي مرونة أكبر لحفظ ماء الوجه.

ومن أمثلة هذا الاستنزاف، ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية، عند ما طلب الاتحاد السوفيتي شراء قمح منها. وقد عرض السوفييت سعراً كبيراً، إلا أن الولايات المتحدة استخدمت عنصر الاستنزاف، باشتراط أن يكون الدفع بالذهب لاستنزاف رصيد الذهب لدى الكرملين، كما حاولت إظهار الاتحاد السوفييتي بالدولة المتخلفة تقنيّا، والتي توجه أموالها للإنفاق على ترسانتها العسكرية، لدفعها إلى تحويل نفقات برنامج التسليح إلى قطاع الزراعة، وإبراز الولايات المتحدة الأمريكية بالدولة ذات القيم، التي تمد يدها حتى لعدوها، كما حاولت الولايات المتحدة إجبار السوفييت على تخفيض برنامج مساعداتهم للدول النامية. مما يعطيها الفرصة لتغيير أنظمة الحكم في تلك الدول. ولزيادة عناصر الضغط استخدم الأمريكان تكتيك المماطلة وكسب الوقت.

  1. إستراتيجية التشتيت (التفتيت)

      تقوم هذه الإستراتيجية على تحليل أهم نقاط الضعف والقوة في الآخر، وتحديد انتماءات أعضائه وعقائدهم ومستواهم العلمي والفني والطبقي؛ من أجل استخدام هذه الخصائص لرسم سياسة ماكرة، لتفتيت وحدته ليبدو متصارعاً.

      كما قد يتم تفريع القضية التفاوضية، وعناصرها ومكوناتها، إلى أفرع متعددة وجوانب وأبعاد تفصيلية وشكلية، وتستخدم هذه الإستراتيجية بنجاح، في حالة التعرض لضغط تفاوضي.

  1. إستراتيجية إحكام السيطرة (الإخضاع)

      وتقوم هذه الإستراتيجية على أساس القدرة على التنويع والتشكيل والتعديل والتبديل للمبادرات التفاوضية، التي يتم طرحها على مائدة المفاوضات. وهذا يجعل الطرف الآخر يتعامل مع مبادراتنا، التي نعرف عنها كل شيء، قبل أن يحيط بها إحاطة شاملة، كما أنها تعتمد على الحركة السريعة والاستجابة التلقائية والفورية والاستعداد الدائم للتفاوض، فور إبداء الطرف الآخر رغبته في ذلك؛ لتفويت الفرصة عليه في أخذ زمام المبادرة والسيطرة على عملية التفاوض، ثم الحرص على إبقاء الطرف الآخر في مركز التابع أو مركز الدفاع دائماً.

  1. إستراتيجية الدحر (الغزو المنظم)

      تستخدام هذه الإستراتيجية، بغض النظر عن قلة المعلومات عن الطرف الآخر، ووفقا لها يتم استخدام التفاوض التدريجي، خطوة خطوة، ليصبح عملية غزو منظم للطرف الآخر، وتبدأ العملية باختراق حاجز الصمت أو حاجز نـدرة المعلومات، بتجميع المعلومات الممكنة، من خلال التفاوض التمهيدي، مع هذا الطرف، وأهم الميزات التنافسية التي يمتلكها.

  1. إستراتيجية التدمير الذاتي (الانتحار)

      لكل طرف أهدافه وآماله وأحلامه، وفي حالة ازدياد العقبات، التي تحول دون تحقيق تلك الأهداف والأماني والأحلام، فإنه قد يصرف النظر عنها، أو يبحث عن وسائل جديدة تمكنه من الوصول إليها. ويعني ذلك اليأس من تحقيق الأهداف أو الإصرار على تحقيقها، ومن يستخدم البديل الثاني يكن صاحب عزيمة، وتستخدم معه وسائل وأساليب التفاوض الذكي كأداة لتدميره ذاتيا، بإفقاده مؤيديه وتحويل أصدقائه إلى أعداء، ولتحويل مصادر القوة، التي لديه إلى ضعف.

      وقد استخدمت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، مارجريت تاتشر، هذه الإستراتيجية مع رئيس نقابات العمال البريطانية، حين جمدت أرصدة النقابة، وعملت على إجبار العمال على العودة إلى العمل راضخين، وعندما طلب رئيس النقابة مساعدات خارجية، ظهر بعدم الولاء للنظام الحاكم، وأضفى ذلك شرعية على قرارات رئيسة الوزراء.

      ودفعت مارجريت ثاتشر أعضاء من الجيش الجمهوري السري الأيرلندي إلى الانتحار في السجن؛ محاولةً منهم لكسب تأييد الرأي العام البريطاني، ولم يغير ذلك موقف رئيسة الوزراء.

      وإذا كانت إستراتيجيات المصلحة المشتركة أو الصراع، توضح الأطر العامة، التي تسير وفقا لها العملية التفاوضية، فإن هناك نظريـات المباريات Game Theories، التي تساعد على التحليل التقويمي لعمليات التفاوض وإدارة الأزمات والإعداد الجيد لها، ومن نماذج المباريات Game Theories: نماذج المنفعة أو الوصول إلى تسوية، أو حل Utility Models. وفيها يتم التركيز على المنافع، التي سيتم الحصول عليها من خلال عملية التفاوض، وتستخدم هذه النماذج في حالة وجود رغبة حقيقية وقوية مشتركة لأطراف التفاوض، للوصول إلى شيء ما، بدلاً من لا شيء، وتتمحور الجهود في هذه الحالة حول الوصول إلى أفضل تسوية أو حل ممكن، وتجنب أسوأ تسوية ممكنة.

نماذج التفاعل الإستراتيجي Models of strategic Interaction

      ويركز فيها في تحديد الإستراتيجيات التفاوضية، التي تعظم المنافع وتقلل الخسائر، وتعتمد اللعبة هنا على البحث عن المعلومات وتوظيفها؛ لتحقيق تأثير ما يريده طرف في الطرف الآخر.

      وتتضمن هذه النماذج استخدام إستراتيجيات مختلفة كإستراتيجيات استجابة تنازلية، أو قبول بالخضوع التام، أو إستراتيجيات الاستجابة والتنازل إلى أبعد الحدود، أو إستراتيجية الثبات أو “عدم التنازل البتة”، وقد يستعد طرف للوصول بالنزاع إلى مرحلة الحرب، باستخدام إستراتيجية الهجوم والتظاهر بالمفاوضات حتى يحدث الهجوم.

المباريات ذات المعلومات التامة Perfect information

      وهي المباريات، التي يكون، لدى أطراف اللعبة فيها، معلومات يتحركون على ضوئها، كما هو في لعبة الشطرنج.

المباريات ذات المعلومات غير التامة Imperfect information

      وهي التي يتحرك فيها اللاعبون، من غير أن تكون لديهم معلومات واقعية عن تحركات خصمهم.

مباريات التحالف والتنازع

      المفاوضات، التي تتم بين أكثر من طرفين، عادة ما تتسم بمباريات التنازع Adversary Bargaining ومباريات التحالف Alliance Bargaining، وتتداخل أفعال الأطراف في اللعبتين، ولكن تختلف طبيعة ذلك التداخل، ففي مباريات التنازع تتسم طبيعة التداخل بمقدار الأذى، الذي قد يلحقه طرف ما بالخصم، إذ تكون هناك عملية تقويم مستمر للمصالح مع الاستعداد لإلحاق الأذى بالآخر، أما في مباريات التحالف، فإن التداخل يكون بالقدر، الذي يحتاج فيه المتحالفون بعضهم إلى بعض.

مباراة القائد

      وهذه المباراة تعتمد على أن تحرك القائد يعني تحرك حلفائه، ومن الأمثلة على ذلك، أزمة السويس في عام 1956، حيث تخيلت إنجلترا وفرنسا أن تحركهما سوف يدفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى اتباعهما، إلا أن تقديراتهما كانت خاطئة، لأنهما ظنتا أن أمريكا لن تتوانى عن أي تحرك ضد الرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان في نظرهما عميلاً للشيوعية.

مباراة الحامي والزبون Protector-Client Game

      وهذا كما في المثال السابق، إذ تمثل فرنسا وإنجلترا (الزبون) والولايات المتحدة الأمريكية (الحامي)، الذي يقف ضد أي تدخل سوفييتي محتمل موجه ضد الحلف الأطلنطي.

مباريات السوبر Super Game

      ووفقاً لهذه المباريات، فإن اللاعبين ينظرون إلى طبيعة العلاقات بينهم على المدى المستقبلي البعيد، وهي تتضمن، في حقيقتها، نتائج ثلاث مباريات، في آن واحد، وهي مباريات التنازع من ناحية والتحالف من ناحية أخرى، إلى جانب مباريات الإعداد للتفاوض أو الصراع. وهي تأخذ في حسبانها ما سيتمخض عنها من تنازع في المستقبل، وما يحصل من تأثيرات في علاقات القوة والقدرة بين أطراف التفاوض أو درجة حدة الصراع بينها.

      والأطراف، التي تبرع في استخدام هذا النوع من المباريات، تفلح في عدم الوصول بالتفاوض إلى طريق مسدود؛ خوفاً من الخسائر، التي قد تترتب على ذلك مستقبلاً.

      ويحتاج استخدام هذه المباراة إلى معلومات دقيقة وتامة، حتى لا تعتمد على تصورات خاطئة عند اتخاذ القرار، ويتطلب مثل هذا الأمر هدوءاً ومرونة شديدين لمن يدير هذا الصراع. ويتبين من هذا العرض خطورة استخدام إستراتيجيات الصراع، التي قد تزيد الأمور تعقيداً، لقيامها على أساس الخداع والتمويه والروح الأنانية، التي يمتلكها أحد الأطراف، حين يصر على أن يأخذ كل شيء، دون تقديم أي شيء، من غير أي محاولة للبحث عن أرضية مشتركة توصل إلى التفاهم والتعاون حول القضية المطروحة، بما يحقق مصالح الطرفين. ولا شك أن هذه المباريات في مجملها، تميل إلى اختيار أساليب غير أخلاقية، مما يجعلها عرضة لمخالفة الأديان وقيم الإنسان المتحضر.

      وفي ظل تشابك العلاقات على مستوى الأفراد والمنظمات والدول، يبدو استخدام ممثل هذه الإستراتيجيات خطراً يهدد الأمن والسلام في العالم، ويزيد من سوء التفاهم، ويؤجج الصراعات على مختلف مستوياتها؛ لأن ذلك يعني أن هناك طرفاً يحاول إقصاء الآخر، وتجريده من كل مصادر القوة، مما يعني أننا إزاء مباراة صفرية Zero- Sum Game، تقوم على أنني ينبغي أن أكسب كل شيء، وليذهب الآخر إلى الجحيم، وهذه المباراة في جوهرها تعني استمرار الصراع، بل زيادة حدته في حالة الإصرار على استخدامها، بينما لا بد أن يسود بين المتفاوضين مبدأ “اكسب ودع غيرك يكسب” Win Win approach”، الذي يقوم على أساس البحث عن أرضية مشتركة؛ لتحقيق التفاهم بين الأطراف. وقد وضع الخبراء إطاراً لمبدأ الأخذ والعطاء، الذي أخذ صورة معادلات ثلاث، تتمثل في الآتي:

المعادلة الأولى: الطرف الأول: عطاء وأخذ ، الطرف الثاني عطاء وأخذ:

      في هذه المعادلة، الطرفان على استعداد لإعطاء شيء مقابل أخذ شيء يريده، وقد دخلا في عملية التفاوض وفق خطط معينة، والسؤال يكون عن مقدار التنازلات وزمنها، وهذا من التفاصيل، التي يتم الاتفاق عليها. وهذه المعادلة هي الأكثر نجاحاً.

المعادلة الثانية: الطرف الأول: أخذ وعطاء ، الطرف الثاني عطاء وأخذ:

      واحتمال نجاح هذه المعادلة جيد، لأن الطرفين على علم بالتنازلات وفق مبدأ الأخذ والعطاء، ولكن من معوقات نجاحها أن أحد الطرفين مستعد لأن يعطي، شرط أن يحصل على شيء بالمقابل، ولكن الطرف الثاني مستعد للعطاء ولكن بعد الأخذ أولاً، والصعوبة تكمن في أن الطرف الذي أخذ قد يفكر في المقدار، الذي سوف يحصل عليه مقابل ألا يعطي. وإذا لم يقرر هذا الطرف بسرعة ماذا سيعطي، فإن الطرف، الذي قرر أن يعطي سوف يسحب تنازلاته، مما قد يوصل التفاوض إلى مرحلة حرجة.

المعادلة الثالثة: الطرف الأول: أخذ وعطاء ، الطرف الثاني: أخذ وعطاء:

      وفي هذه المعادلة يدخل المتفاوضان العملية التفاوضية، وفي ذهن كل منها ألا يعطي شيئاً قبل أن يأخذ، وهذا ما قد يؤدي إلى اختلاف بينهما، وما لم يتزحزح طرف عن موقفه، فإن التفاوض قد يصل إلى طريق مسدود.

      ونحن، في هذا العصر، نحتاج إلى أن تسود ثقافة التفاوض القائمة على مبدأ (اكسب ودع غيرك يكسب)، أو فلسفة الربح المزدوج، التي تعني أن يربح كل طرف في عملية التفاوض؛ لأن التفاوض المستمر، هو الذي ينتهي بحصول الطرفين على احتياجاتهما، وهناك كارثة سوف تحل، حينما يدخل المفاوض على أساس المساومة وفكرة “أنه يحب أن يربح دون أن يكترث بالطرف الآخر” وفلسفة الربح المزدوج تتطلب أن يبذل الطرفان كل جهودهما للوصول إلى اتفاق مرض لهما.. وقد عبر عن ذلك بنيامين فرانكلين، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، عندما قال: لن تكون هناك صفقة ما لم يحصل كل طرف على فوائد.

      ومن الصفات، التي ينبغي أن يتحلى بها المفاوض، الآتي:

  1. امتلاك موقف إيجابي تجاه الربح المزدوج.
  2. القدرة على فهم واستخدام أساليب حل النزاعات.
  3. المرونة والاستعداد لتقديم بعض التنازلات، مقابل الحصول على ما يريد.
  4. التعاون.
  5. فهم مبدأ الأخذ والعطاء في التفاوض.
  6. الاستعداد للتفكير في أهداف التفاوض، بحدود ما يريده واحتياجاته الفعلية وأهميتها في المستقبل.
  7. الاهتمام باحتياجات الطرف الآخر في التفاوض، والاستعداد للاستماع إلى رأيه ومبادئه الأساسية.
  8. التحلي بالصبر والقدرة على الإقناع، بدلاً من الإجبار.

صفات المفاوض الناجح ومهارات

      التفاوض، بوصفه سلوكاً اتصالياً، يحتاج من المفاوض، امتلاك القدرة على عرض وجهة نظره بأسلوب مؤثر ومقنع، إذ لا يكفي أن يكون الحق معه حتى يكون مقنعاً للطرف الآخر، وإنما لا بد أن يكون قادراً على تفنيد حجج الطرف الآخر، بأسلوب موضوعي، يتناسب مع طريقة تفكير هذا الطرف، وقدراته الإداركية، وخلفياته الثقافية، كما أن عليه أن يعرض وجهات نظره، من خلال أساليب ووسائل ملائمة، لا تكتفي بعملية توصيل المعلومات، وإنما لا بد أن تكون مؤثرة عاطفياً، وقادرة على استمالة الطرف الآخر، مع حفظ ماء وجهه.

      “ومن الأمور الغريبة المتعلقة بالتفاوض، أن الذكاء الحاد، في حد ذاته، لا يعد دليلاً، على الإطلاق، على درجة المهارة المحتملة للشخص في عملية التفاوض، وإنما المهم القدرة على التفكير السريع، وأن تعي نقاطاً جديدة بصورة سريعة، وأن تستجيب لهذه النقاط بأسلوب مناسب. ويجب ألا تغفل طلبات الجانب الآخر، وألا تنحاز دوماً لمطالبك.. فإذا كنت تلقي بأوراقك، فدع الآخرين يلقون بأوراقهم.. وكما هو الحال بالنسبة إلى الذكاء، فإن منزلة الشخص في المجتمع والخلفية التعليمية الجيدة، لا تضمن النجاح في عملية التفاوض”.

      ويعني ذلك أنه لا بد من تفهم قواعد عملية التفاوض والمهارات الرئيسة، التي لا بد من توافرها في المفاوض، ومن أهم ما ينبغي أن يتوافر للمفاوض الناجح، وجود هدف واضح يسعى إلى تحقيقه، بكل السبل، لأنه في غياب الهدف لا يستطيع المفاوض تحديد أساليبه ووسائله في عملية التفاوض، كما أن تحديد الهدف يساعد على المثابرة على تحقيقه، ولا بد أن تتوافر للمفاوض القوة، التي لا تنفر الآخرين من التفاوض معه، وإنما عليه توظيف قوته في دعم حججه، وأن يتجنب ألا يكون “كتلاميذ المدرسة، الذين لا يظهرون قوتهم إلا على الضعفاء، مما لا يرغب أحداً في اللعب معهم”، والقوة وحدها لا تكون كافية في قيادة عملية التفاوض بمهارة، وإنما ينبغي أن يكون هناك طموح عال في الوصول إلى الهدف، مع استخدام المهارات الاتصالية والإقناعية “بشكل جدي، لأن التجارب أوضحت أن المفاوضين المهرة أصحاب القوة العالية، ينزعون إلى الكرم مع خصومهم غير المهرة”.

      وقبل أن نحدد بالتفصيل المهارات الأساسية، التي لا بد أن يمتلكها المفاوض الناجح، نشير إلى أن هناك بعض الأخطاء، التي تجعل المفاوض يضل طريقه إلى هدفه، ومن هذه الأخطاء:

  1. الإعداد غير الجيد: إذ يجب على المفاوض أن يضع من الخطط والبرامج والإستراتيجيات ما يتناسب مع الظروف التفاوضية، التي يعمل في ظلها، ومع طبيعة الهدف، الذي يسعى إلى تحقيقه.
  2. إغفال مبدأ الأخذ والعطاء: فالتعنت ومحاولة فرض الشروط والإملاء قد تؤدي إلى فشل العملية التفاوضية، ورفض الطرف الآخر الاستمرار في التفاوض، وإنما ينبغي أن يكون طرفا التفاوض مقتنعين بأن التفاوض يعني الأخذ والعطاء، وأنه ليست مباراة صفرية، أي أن يكسب طرف كل شيء، في حين يخسر الطرف الآخر كل شيء أيضاً، وإنما التفاوض عملية تبادل مصالح مشتركة، تتطلب المرونة وعدم الميل إلى الأنانية.
  3. استخدام أسلوب الترهيب: وقد بنيت الدراسات أن التهديد والوعيد لا يؤديان إلا إلى مزيد من سوء الفهم والتعنت والتشدد في المواقف، مهما كان الطرف الآخر ضعيفا.
  4. نفاد الصبر: تحتاج العملية التفاوضية إلى صبر ومثابرة من أجل البحث عن أرضيات مشتركة للتفاهم وإقامة جسور التعاون، ونفاد الصبر يؤدي إلى ردود أفعال سلبية تأخذ طابع الانفعال والبعد عن العقل.
  5. ثورة الغضب: وهذه تؤدي إلى عدم التحكم في الانفعالات، والوصول أحياناً إلى درجة الإساءة الشخصية، والبعد عن الموضوعية، مما يفقد صاحبها التحكم في الموقف، ووضع متاريس أمام عملية التفاوض.
  6. الكلام الكثير والإصغاء القليل: وذلك تطبيقاً للحكمة القائلة: إذ أحببت الاستماع تكسب المعرفة، وإذا فتحت أذنك فسوف تصبح حكيماً. والإصغاء يعني التمعن في الأفكار والآراء، التي يطرحها الطرف الآخر، حتى يمكن تفنيدها والرد عليها.
  7. المجادلة بدلاً من التأثير: إذ يمكن أن يكون الموقف التفاوضي أفضل بكثير في حالة اللجوء إلى الموضوعية والأسلوب العلمي في الإقناع، بدلاً من الدخول في جدل عميق يزيد من التوتر وسوء الفهم.
  8. تجاهل النزاع: ويتطلب ذلك الصدق مع النفس، وعدم دفن الرؤوس في الرمال، وإنما لا بد أن يتقبل المفاوض الأمر الواقع، وأن يعترف بوجود النزاع، ويعمل على حله، بدلاً من أن يتفاداه. وبما إن مراحل عملية التفاوض متعددة، فإن مهارات المفاوض الناجح ينبغي أن تتعدد، بحيث تشمل جميع المراحل، التي تتضمن إعداد جدول الأعمال، وتسيير المفاوضات، وإدارة النقاش، وأسلوب الحوار، وعرض المبادرات، وتقويمها، وأسلوب التعامل مع المبادرات، التي يقدمها الطرف الآخر، وإعداد الصيغة المؤقتة أو النهائية للاتفاق.

      “وهناك عدد من الخصائص والمواصفات، التي يجب أن تتوافر في رجل التفاوض المحترف، حتى يستطيع أن يقوم بوظيفته التفاوضية خير قيام، وهذه الخصائص يتكامل بعضها مع بعض، لتضع الإطار العام والخاص لشخصية رجل التفاوض، وأهم الخصائص للمفاوض الناجح:

أولاً: الخصائص الموضوعية

  1. القدرة على التحليل: تتعلق هذه القدرة بمدى معرفة رجل التفاوض بفن التحليل العلمي للقضايا التفاوضية وعناصرها وعواملها، ومعرفة العناصر التي تتكون وتتركب منها هذه القضايا، وربط الأسباب بالنتائج وإيجاد العلاقة بين المؤثر والسبب، وبين الباعث والمحصلة.
  2. المعرفة الاقتصادية: حتى يستطيع حساب حجم التكلفة ومقدار العائد الخاص بكل عنصر، يتم التفاوض عليه.
  3. معرفة قانونية: لتساعد رجل التفاوض على القيام بمفاوضاته بشكل سليم، أما إذا لم يكن لديه هذه المعرفة، فإن عليه أن يستعين بأحد المتخصصين في الشؤون القانونية.
  4. معرفة لغوية: حتى يمكن أن يفرق بين المعنى الاصطلاحي للكلمة والمعنى المعجمي لها، والمعنى الدارج لها.
  5. معرفة نفسية: ليحدد الطبيعة والمزاج النفسي للطرف الآخر، الذي يتفاوض معه، وفي الوقت نفسه يحدد الأدوات النفسية، التي سوف يستخدمها في ممارسة الضغط النفسي.
  6. معرفة قياسية: وتتصل هذه المعرفة بعلم القياس، الذي من خلاله يتم ترجمة النقاط التفاوضية إلى قياس كمي.
  7. معرفة عامة: وتضم هذه المعرفة العامة كل النواحي الثقافية، التي تشكل الإطار العام لثقافة التفاوض.

ثانياً: الخصائص الشخصية

  1. قوة التحمل ونضج الشخصية: لا بد أن يتمتع المفاوض بشخصية قوية ناضجة وجذابة، بحيث لا يؤدي إلى نفور وتأفف المحيطين به أو الذين يمارسون معه العمل التفاوضي.. وأن يدرب نفسه على أن يتحمل جهداً وضغطاً متواصلاً لمدة كبيرة.
  2. الذكاء والدهاء: يرتبط الحوار التفاوضي بذكاء المفاوض في تحديد أوجه القصور والضعف لدى الطرف الآخر لاستغلالها، ومعرفة أوجه القوة ليتجنبها.
  3. حسن التصرف وسرعته: ويعتمد على معرفة أبعاد العملية التفاوضية ومحور القضية المتفاوض بشأنها.
  4. إجادة فن الاستماع والإنصات: فالاستماع مصدر حيوي للحصول على البيانات والمعلومات التفاوضية.
  5. اللباقة والكياسة: وتعكس الاحترام والود والرغبة في الوصول إلى الحل التفاوضي.
  6. سرعة الملاحظة والفطنة: تساعد على إدراك ومعرفة الأشياء الصغيرة والاستفادة منها في الجلسات التفاوضية.
  7. الإدراك الشامل والكامل: يجب أن يتصف رجل التفاوض بالقدرة على الرؤية الشاملة والكاملة والمتكاملة للقضية التفاوضية إجمالاً”.

      ويمكن القول، إجمالاً، إنه لا بد للمفاوض، الذي يريد أن يصل إلى مبتغاه، أن يكتسب مهارة الإقناع من خلال استخدام خصائصه الشخصية الفطرية، إلى جانب السعي إلى اكتساب خصائص أخرى، من خلال التعلم والتدريب وتراكم الخبرة. وتتضافر هذه الخصائص في إيجاد مفاوض قادر على إدراك جوانب الموضوع محل التفاوض، وإدارك الظروف التفاوضية، وفهم أبعادها، وفهم الطرف، الذي يتفاوض معه، وتحليله نفسياً، لمعرفة جوانب القوة والضعف، والأساليب المناسبة للتأثير فيه، وربط العناصر التفاوضية بعضها مع بعض حتى تكتمل في ذهنه الصورة، ليستطيع الوصول إلى حكم بشأن العملية التفاوضية ككل، يمكن صياغته في شكل اتفاق يحقق أهدافه، مع عدم إغفال أهداف الطرف الآخر. ولا يتحقق تكامل الصورة، ما لم يستطع المفاوض جمع المعلومات عن الطرف الآخر، من خلال وسائل شتى، من بينها الإنصات إلى مفاوضه، وتعرف وجهات نظره وتصوره للقضية وأفكاره عن طريقة حلها، ويتطلب منه ذلك اليقظة التامة في التقاط المعلومات، والربط بين أجزائها، والقدرة على تذكرها، وهذا التصور المتكامل المبني على المعلومات ودقة التحليل، يمكنه من ابتكار المبادرات التفاوضية والحلول المتسقة مع أهدافه، وصياغتها بشكل جذاب مؤثر، وبلغة بسيطة يفهمها الطرف الآخر، ولا تعقد المسائل عند تنفيذ الاتفاق، الذي يصلان إليه في ختام جولات التفاوض.

أثر البعد الثقافي في عملية التفاوض

      الخبرة المشتركة Common Experience من أهم أسس أي عملية اتصال، وما لم تكن هذه الخبرة متوافرة، فإن كل طرف في الاتصال كمن يغني على ليلاه. ولعل أبسط مثال على أهمية الخبرة المشتركة أن “النكتة”، التي تجعل أحدهم يستلقي على قفاه من فرط الضحك، قد لا تجد من آخر حتى ابتسامة صفراء. ولا تمثل اللغة وحدها أساس هذه الخبرة، وإنما تؤثر الثقافة بكل مكوناتها والتعايش الاجتماعي بكل أبعاده، في إيجادها وتعميقها.

      وعملية التفاوض لا تتم إلا من خلال الاتصال، بل إن الاتصال المباشر من أهم أنواع الاتصال، الذي يتم في هذه العملية. ومن الأمثلة الشائعة على مستوى التعامل الدولي، الذي يؤكد أهمية الخبرة المشتركة في تحقيق التفاهم بين الأطراف، وأهمية فهم الخلفية الثقافية، التي ينطلق منها المفاوضون؛ ما أورده عالم اللغويات الإيطالي “أمبرتو إيكو ” أنه عند تحليل الوثائق الخاصة بإلقاء القنبلة النووية على اليابان، قامت الولايات المتحدة، وقبل اتخاذ آخر الخطوات لتنفيذ عملية ضرب اليابان، بمحاولة للتأكد من إمكان استسلام اليابان، من دون الاستخدام القنبلة، وهنا استعانت الولايات المتحدة بالاتحاد السوفيتي؛ ليقوم بجس نبض اليابان بخصوص الاستسلام الكامل والنهائي. إلا أن رسالة اليابانيين، التي نقلها السوفييت اتسمت بظاهرة حوارية يابانية حيث تضمنت استخداماً متعدداً لأدوات النفي، مع أفعال التوقع والاستنكار والاستثناء، والتي فهم منها طرف الحوار الأمريكي رفض اليابان للاستسلام، بينما قصد الطرف الياباني من توظيف هذه الظاهرة الحوارية القبول بالاستسلام مع التفاوض، وليس الرفض”.

      ولعل صعود نجم اليابان مع تطورها اقتصاديا، دعا علماء الغرب إلى أن يعكفوا على دراسة المجتمع الياباني والتأثيرات الثقافية، التي تحكم سلوكه، وبخاصة أن هناك اختلافاً كبيراً بين الثقافة الغربية والثقافة اليابانية، كما أن الموازنة بين اليابان والبلاد الغربية يوضح اختلاف المنطلقات الثقافية، التي تنعكس في الإدارة وأساليب التفاوض، “فالإدارة في الشركة اليابانية تقوم أساساً على المشاركة في اتخاذ القرار، وينشأ عن هذا، أن سلطة اتخاذ القرار تتوزع على جماعات عمل كبيرة تنتشر رأسيا وأفقيا في التنظيم الياباني كما أن المسؤولية الجماعية أكثر تقديراً، بعكس الحال في التنظيم الغربي، الذي يحدد المسؤولية دائما عند شخص واحد”.

      وهذا التقدير لروح العمل الجماعي، لا شك، ينعكس على أسلوب اتخاذ القرار، إذ يقتضي الوصول إلى قرار ما، إلى وقت قد يبدو طويلاً لمن لا يعرف طريقة تفكير اليابانيين، فيفسره على أنه نوع من التسويف والمماطلة، ومن ثم لا يستطيع أن يدخل معهم في عملية تفاوضية ناجحة.

      ولا تأتي أساليب التفاوض من فراغ، وإنما ترتكز على خلفيات ثقافية تكونت من خلال تراكم الخبرات والتجارب، فعلى سبيل المثال “يرجع كره اليابانيين للعقود التفصيلية إلى عوامل تاريخية واقتصادية ونفسية. فمن ناحية تاريخية، ظلت اليابان لقرون طويلة تقدس السلام في الهيكل الاجتماعي، مهما كان الثمن، وكانت القوانين السائدة تعاقب الشاكي والمشكو منه بنفس العقوبة، حتى يتعود الجميع على حل مشاكلهم، من دون إزعاج للهيكل الاجتماعي”.

      وتأثير البعد الثقافي في عملية التفاوض له جوانبه الكثيرة، عددها الخبراء، ونالت منهم قدراً كبيراً من الاهتمام، ومن ذلك، هل هدف التفاوض عقد أم علاقة؟ فالأمريكيون، على سبيل المثال، يفضلون الوصول إلى عقد يحدد الحقوق والواجبات، بينما العرب واليابانيون ينظرون إلى هدف المفاوضات، على أنه علاقة بين الجانبين في المقام الأول.

      أما الجانب الثاني، الذي يبدو فيه تأثير البعد الثقافي، فيتمثل في السؤال التالي: موقف التفاوض:فوز /خسارة، أم فوز / فوز؟، وهو يعني هل الطرفان يريان ضرورة أن يكسب كل منهما من عملية التفاوض، أم أن أحدهما يريد أن يكسب كل شيء، ويجعل الآخر يخسر كل شيء، ومن ذلك أن الدول النامية ترى، في علاقتها مع الشركات الكبرى، أن أي مكسب للمستثمر هو خسارة للدولة، مما يجعلهم يركزون في المفاوضات على تحديد أرباح المستثمر، بدلا من اكتشاف كيف يمكن الحصول على أقصى حد من الفوائد من المشروع، لكل من المستثمر والدولة المضيفة.

      ويبدو استخدام الألقاب والميل إلى الرسمية أو عدم استخدامها، من المؤثرات في سير العملية التفاوضية، فقد يكون استخدام الألقاب في ثقافة ما دليلاً على الاحترام، بينما يكون لدى أصحاب ثقافة أخرى تكلفاً، وسبباً في عدم التواصل الإيجابي. واحترام مثل هذه الشكليات من الأمور المهمة في التفاوض؛ تفادياً لسوء التفاهم، الذي ينشأ بين الأطراف، فعلى سبيل المثال يفضل الخليجيون استخدام الكنية، بينما يميل المصريون إلى استخدام الألقاب، أما السودانيون فلا يرون بأساً في التخاطب من غير ألقاب، بل يرون أن من الحميمية عدم استخدام اللقب.

      وهناك من يفضل استخدام الاتصال المباشر والردود الواضحة في عملية الاتصال، كالألمان، ولكن، في ثقافة تقدر المجادلة، كالثقافة العربية، فإن الردود لا تأتي مباشرة، وبخاصة إذا كانت سلبية، وإنما سيكون هناك نوع من التلطف في إيصال المعلومة، وهذا بلا شك ناتج من تغليب العاطفة، ويبدو ذلك في عملية التفاوض ، حين بميل بعض الناس إلى إظهار عواطفهم في أثناء تلك العملية، بينما يميل آخرون إلى العقلانية في التعامل.

      ومن المؤثرات الثقافية في عملية التفاوض، مدى الاستعداد لتحمل المخاطر، إذ إن من يدخل في هذه العملية، عليه أن يدرك أن لها مخاطرها، وأنها لن تكون آمنة على طول الخط، ويختلف أهل الثقافات في إلقاء هذا اللوم على الآخرين، وهناك من يتنصل من هذه المسؤوليات، عند حدوث أي خطأ، ولا يأتي ذلك من فراغ، وإنما يتصل، أوثق صلة، بالبيئة الثقافية، التي تؤثر في تكوين الشخصية.

      ويؤثر البعد الثقافي في الطريقة، التي تصاغ بها المعلومات المتعلقة بالمفاوضات في وسائل الإعلام المختلفة، إذ لا بد للرسالة الإعلامية أن تأخذ في الحسبان دلالات الكلمات المستخدمة بالنسبة إلى المستقبل، ولا بد لها أن تتميز بالدقة والوضوح والعقلانية، ويفضل استخدام الأرقام الإحصاءات، لما لها من مصداقية عالية، كما يفضل البعد عن المبالغة عند سرد الحقائق، وتقديم المعلومات بطريقة عقلانية هادئة.

نتائج عامة

      بعد تناول موضوع التفاوض من حيث التعريف والخلفية التاريخية والأنواع والأساليب والإستراتيجيات والبعد الثقافي، يمكن أن نخلص إلى أن وجود قضية ما أو نزاع مع طرف آخر, لا يعني، أحياناً، المبادرة بالتفاوض، لأن على المفاوض في البداية أن يكون مدركاً طبيعة أوراقه التفاوضية، وكيف يستطيع أن يلعب بها لتحقيق أهدافه، ولا يجب على المفاوض أن يعتمد على قدراته التفاوضية فقط للبدء في عملية التفاوض، لأنه “لا يمكن لمهارات التفاوض أن تمنحك القدرة على التفاوض، إذا لم يكن لديك شيء تبدأ به. وما لم يكن هناك شيء واقعي لتتفاوض حوله، أي إذا لم يكن لديك ما تساوم به، فلن يكون هناك الكثير مما يمكن أن يحسن موقفك… كما أن إحدى المهارات الأساسية للتفاوض هي المقدرة على أن تقول “لا”، إذا لم يكن لديك سلطة تقديم التنازلات، فلم هذا الأمر؟ إن هذا أحد الأسباب وراء عدم السماح للكثيرين من مندوبي المبيعات بالبيع بسعر يختلف عما هو وراد في قوائم الأسعار. ولهذا السبب فإن عليهم أن يقولوا “لا” للعروض الأقل. وهو ما يطلق عليه قوة السلطة المحدودة. لكن، كن يقظاً لأن هذا الأمر يمكن أن يستخدم لغير صالحك، فالمشترون المهرة، على سبيل المثال، يتجهون للتعامل مع رئيسك بغرض تحقيق أفضل الأسعار بالنسبة إليهم، ما لم تكن، وأنت الأقرب للعميل بسلطتك المحدودة، قادراً على أن تقدم لهم تلك التنازلات”.

      وهذا الأمر، الذي ينطبق على مندوبي البيع، ينطبق كذلك على المفاوضين على مختلف المستويات، فإذا لم يكن لدى المفاوض السلطة، التي تخوله لتقديم التنازلات، فإن الطرف الآخر سيسعى إلى التفاوض مباشرة مع من هو أعلى منه سلطة. ويصدق هذا على التفاوض السياسي، الذي يتطلب وضع حدود لسلطات المفوضين بالتحدث نيابة عن أطراف القضية، وهذه السلطة المحدودة، التي تمنح لممثلي الدول في كثير من الأحيان، تجعل أمد المفاوضات، يطول، بينما يقصر زمن المفاوضات حين تجري على مستوى رؤساء الدول والحكام، كما أن هؤلاء قد يترددون في أغلب الأحيان، حين يشعرون أن الشعب قد لا يوافق على ما يقدمونه من تنازلات. وهذا ما دفع بعض الأنظمة إلى اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي في حالات القرارات السيادية المتعلقة بالعلاقات الخارجية مع الدول الأخرى. ومن أهم أسلحة التفاوض، أن يخفي المفاوض بعضاً من أوراقه، فلا يكشفها مرة واحدة، “فهناك بعض المناسبات، التي يجب أن يقول فيها الشخص نصف سره؛ من أجل أن يخفي الباقي.. كما أن من لا يقول شيئاً أو يقول كل شيء فلن يقال له شيء” فالمهم في المفاوضات أن يكون المفاوض مدركاً أبعاد ما يقوله أو يعد به، إذ لا بد لكل كلمة أن يكون لها معناها المحدد، حتى لا يسيء الطرف الآخر التفسير، ويبني على ذلك تحركاته وردود أفعاله.

      ولا بد من الإشارة إلى أن صياغة المطالب أو تحديد التنازلات، يحتاج في أغلب الأحيان إلى متخصصين، يدركون أبعاد القضية، ويعرفون ما يترتب على كل خطوة من آثار ونتائج. وحتى لا يتم التلاعب بالألفاظ والمصطلحات الفنية عند التنفيذ، فإنه لا بد لفريق متخصص أن يصوغ ما يتم الاتفاق عليه.

      ويوضح مؤلف كتاب How to Negotiate بعض المواقف البسيطة، التي تبرز أهمية القدرة على التفاوض لمواجهة مواقف مختلفة في الحياة، فيذكر أنه ليس غريباً على زائر باريس، أن يجد بعض المغربيين والتونسيين، الذين يبيعون منتجات جلدية ومجوهرات وبعض أنواع الحلي الصغيرة، وهو أسلوب قاس لطلب الرزق، وفي واقع الأمر أن السعر، الذي يضعونه لبضائعهم يشتمل على هامش كبير للتفاوض، فالتجار يتبعون إحدى أهم قواعد التفاوض: التطلع إلى هدف بعيد.

      وعندما يبدي الراغب في الشراء بعض الاهتمام بما يبيعون، فإنهم يتبعون قاعدة، “كن مثابراً”، وإذا اختلف معهم على السعر فإنهم يطلبون منه أن يقارن بين أسعارهم وأسعار الآخرين، ولأنه ليس هناك وقت للقيام بهذه المقارنة، فإنه قد يتم قبول العرض المقدم.

      ويسوق المؤلف أيضاً مثالاً آخر، فيقول عن تجربة شخصية له: ” بعد أن قمت بزيارة للمتحف المصري في القاهرة، وجدت من يبيع بعض المجوهرات للسياح، ولم أكتشف أن أسعار هذا الرجل عالية إلا بعد أن بقيت بالمدينة بعض الوقت.. وقد عرضت على البائع نصف سعره تماماً وتوقعت وقتها أن يصدر منه ما يوحي بالغضب، لكنه بدلاً من ذلك طلب مني أن أقدم عرضاً آخر، وهو مستمر في البيع بأسعاره العالية مع زبون آخر، مما جعلني أصعق من قدرة الرجل على القيام بعمليتي تفاوض بمستويين مختلفين، في آن واحد”.

      وهذان المثالان يؤكدان أن على الإنسان أن يتسلح بمهارات التفاوض، لأن التفاعل مع الحياة يتطلب ذلك، وإذا تمعنا في هذين المثالين نجد كم يخسر من لا يحسنون التفاوض، حين يضطرون إلى الشراء بأسعار عالية، أو حين يقدمون تنازلات في مواقف تفاوضية أكبر مما يتوقعه الطرف الآخر؛ نتيجة لفقدان القدرة على التفاوض.

      ولا ينبغي أن ينطبع في أذهاننا أن البائع دائماً هو الأكثر مقدرة على التفاوض، ففي كتابه ” المفاوضات الناجحة” يتساءل مادوكس: لماذا يكسب توني أكثر من جون؟ وهذان المعنيان بالسؤال مندوبا بيع بإحدى الشركات، ويحصل كل واحد منهما على عمولة ثابتة، تحسب على أساس إجمالي مبيعاتهما، ولكل منهما المستوى نفسه من السلطة للمساومة مع العملاء، ومع أن كلاً منهما باع الكمية نفسها من النوع نفسه من السجاد فإن توني كسب أكثر مـن جو بنحو 5000 دولار، فما السبب؟.

      اتضح من دراسة هذه الحالة أن جو يتعامل مع العملاء، وفي ذهنه أن السعر هو كل اهتمامهم، وهو يقضي وقتاً قليلاً في مناقشة مزايا المنتج، ولا يبذل جهداً كبيراً لكسب العملاء، وغالباً ما يقدم خصماً على البضاعة حتى قبل أن يطلب العملاء ذلك، وهو لا يمهد للمفاوضات، وإنما كل ما يعنيه أن يعقد اتفاقاً بسرعة، بتقديم تخفيضات كبيرة على السعر عند أول بادرة تردد من المشتري.

      أما توني، فيبذل مجهوداً كبيراً في البداية لكي يبيع للمشتري ويقوم بعرض مزايا السجاد، لأنه يعتقد أن هذا هو الأهم للعميل قبل السعر. وهو يتوقع أن يحصل على سعر التجزئة العادي لما يبيعه، ونادراً ما يقدم خصماً، وعندما يتطرق العميل إلى موضوع الخصم، فإن توني يفاوضه من أجل ضمان البيع بتنازلات بسيطة.

      وهذا المثال يؤكد كذلك أهمية أن يعرف المفاوض النقطة، التي يبدأ منها التفاوض، واضعاً هدفاً أعلى دوماً، لأن فقدان الطموح يعني القبول بأقل المكاسب، وهناك قاعدة تقول “إن المفاوضين الناجحين لديهم القدرة عادة على تقديم تنازلات أقل”.

      وقد بات تعلم المهارات التفاوضية مسألة ضرورة، إذ نشط الخبراء في وضع وسائل وأساليب تدريب ترفع من مستوى تلك المهارات، وتزيد من قدرات المفاوضين على مواجهة المواقف التفاوضية، متسلحين بمعرفة دروب التفاوض الوعرة ودهاليزه، ومن هذه الوسائل والأساليب التدريبية المتبعة في هذا الميدان:

  1. أسلوب دراما المجموعات ويشمل نوعين: أولهما الدراما النفسية، وثانيهما الدراما الاجتماعية. وقد نشأ هذا الأسلوب في حضن علم النفس، وأفاد كثيراً في تحليل شخصيات الفرقاء، والتوصل إلى افتراضات مناسبة فيما يتعلق بتصرفاتهم. وتظل قيمة أسلوب دراما المجموعات بالنسبة إلى إدارة التفاوض، فيما يتيحه من إمكانات لدراسة وتحليل نوايا وبدائل الأطراف الأخرى، وتبادل الرأي بشأنها في إطار المجموعة. كما يسمح هذا الأسلوب بالتدريب على التفاوض، لأنه يتيح تمثيل الأدوار بالقدر، الذي يساعد على تصور ما سيجري في المفاوضات. إن هذا الأسلوب، الذي ينبني على لعب الأدوار، يعين على تنمية تصور أعضاء الفريق للقضايا المطروحة للتفاوض بصورة درامية، ويمكنهم من استكشاف بعض الصعوبات والأخطاء المتوقعة في أثناء التفاوض.
  2. أسلوب المؤتمرات: يتيح هذا الأسلوب الفرصة لمجموعة من الأفراد، بصرف النظر عن عضويتهم في فريق التفاوض أو عدمها، للمشاركة في مؤتمر صغير لمناقشة مختلف عناصر عملية التفاوض. ويشمل المؤتمر علاقات اتصال إلى أعلى، لحل المشكلات، أو إلى أسفل، للإعلام وإعطاء تعليمات، أو في خط أفقي بهدف التنسيق. إن العديد من المزايا يمكن تحقيقها بالإفادة من أسلوب المؤتمرات، متى تم الاتصال وفق المعطيات، عبر هذه القنوات بيسر، وعلى نحو متكامل في أثناء هذا المؤتمر.
  3. أسلوب تداعي التفكير الخلاق: وهو أسلوب إثارة التنبؤ الحدسي وإطلاق التفكير في الموضوع المطروح، من دون قيد لتوليد الأفكار الجديدة، وطرح بدائل متعددة، يمكن أن يفيد منها فريق التفاوض، وفي جلسة تداعي التفكير الخلاق، تتم دعوة مجموعة مناسبة من الأفراد للتفكير جهراً، ويجوز لكل فرد أن يتجه بتفكيره على أي نحو يراه، وله أن يقول ما يجول بخاطره دون أدنى قيد. وفي هذه المرحلة لا يسمح مطلقاً بتصحيح أو تقويم أي فكرة، وعلى سكرتير الجلسة أن يسجل كل ما يقال، مهما كان غريباً، ثم تعرض القائمة في نهاية الجلسة للتقويم والمراجعة والتعديل، للتوصل إلى الأفكار المبدعة.

      يضاف إلى ما سبق، بعض البرامج التدريبية، لزيادة مهارات الاستماع والقدرة على التعبير وتنمية قدرات الملاحظة، وزيادة المهارة في الرصد والتلخيص، باكتساب المعارف الفنية المتصلة بهذه الجوانب، وغير ذلك من المهارات، التي يحتاج إليها أعضاء فريق التفاوض”. وإذا أردنا إجمال مجموعة الخصائص، التي تميز المفاوضات الناجحة، وبعض الأسس، التي تؤدي إلى بلوغ الغايات من عملية التفاوض، فإن ذلك يكون على النحو الآتي:

  1. المعلومات تمثل القاعدة، التي تبني عليها عملية التفاوض، والمفاوض الناجح هو من يتمكن من الحصول على معلومات عن شخصية الطرف الآخر وسلوكياته وقيمه، وتجاربه التفاوضية السابقة وأسلوب تفكيره. ويتطلب ذلك معرفة المصادر، التي يستقي منها هذه المعلومات، التي ينبغي أن تخضع للدراسة والتحليل، وصولاً إلى نتائج قائمة على الحقائق لا الخيال.

ولا بد من الحصول على معلومات واقعية عن موضوع التفاوض، وتطوره التاريخي، وهل سبق إثارته وتناوله من قبل، وما الأسباب الداعية، إلى إثارته في الوقت الحالي.

  1. الوقوف على مكامن القوة والضعف لدى الطرف الآخر، وتقويمه بموضوعية؛ ليساعد على عدم التهوين من شأنه أو التهويل وإعطائه تقديراً أعلى مما يستحقه.

والمفاوض الناجح هو الذي يستطيع أن يقوِّم ذاته، ويعرف مواطن قوته، ليعرف متى يقدم على التفاوض، ومتى يحجم، أو متى يستطيع الانسحاب من غير أن تلحق به أضرار.

“ويمكن إخفاء الضعف من خلال القيام ببناء قوة مدركة في عقل الطرف الآخر، أو من خلال تحويله بعيدا عن نقاط القوة لديه، وفي حالة ضعف قاعدة القوة لدى المفاوض، يمكن أن يركز على المشاعر بدلاً من الجدل العقلاني”.

  1. من المؤثرات في سير عملية التفاوض، حسن الإدارة والقدرة على عرض وجهات النظر، بصوت واضح وأسلوب عرض جذاب، وتسلسل في الأفكار، وقدرة على استخدام أساليب الاستمالة والإقناع، لأنه لا يكفي أن يكون الحق معك، وإنما لا بد أن يحسن المفاوض عرض قضيته ووجهة نظره بوضوح وثقة.
  2. لا بد من تجنب الجدل العقيم والسفسطة، واستخدام الحسنى في الإقناع والتحرر من المؤثرات العاطفية والأحكام المسبقة.
  3. توقع الحقائق والحجج، التي يمكن أن يوردها الطرف الآخر، والاستعداد للرد بحيث يأتي مقنعاً.
  4. تحديد هدف أعلى للتفاوض وهدف أدنى، ومعرفة أن العرض الأول ليس هو الأفضل، وعدم السماح بمشاعر الضعف بالتسلل إلى الذات، وألا يدع المفاوض الشعور ينتابه بأنه مغلوب على أمره.
  5. تنمية القدرة على استخدام عملية الاتصال، لعكس وجهات النظـر، ولإقناع أطراف، لها صلة بموضوع التفاوض، قد يحتاج المفاوض إلى دعمها في مرحلة قادمة.
  6. أخذ المبادرة في طرح وجهات النظر والمقترحات، يساعد المفاوض على تجاوز وضع المدافع، الذي يفاجأ بما يطرحه الطرف الآخر، وقد يترتب على ذلك اختلاط أوراقه وارتباك موقفه التفاوضي.
  7. احترام وجهات نظر الطرف الآخر، من أسباب نجاح عملية التفاوض، لأنه يخلق جواً من التفاهم، وأساسا لعلاقات طيبة، كما أن عدم الاستجابة للاستفزاز والسيطرة على الموقف التفاوضي بالهدوء وببرودة الأعصاب، يكسب المفاوض احتراماً، ويجعله قادراً على تقويم الموقف بما يحقق مصالحه.
  8. البدء بالحديث عن أشياء محببة إلى النفوس لإزالة الحواجز النفسية.
  9. يتطلب التفاوض ثقافة واسعة، تعين على فهم الأمور، أما الأشياء التخصصية فينبغي تحويلها إلى اللجان الفنية المتخصصة لدراستها وتحليلها، بما يعين على اتخاذ المواقف الإيجابية المحققة لمصلحة المفاوض. ويرتبط هذا بتوزيع المهام بين أعضاء الوفد، مع وجود قائد قادر على التنسيق، واتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.
  10. من الضروري التأكد من الصلاحيات الممنوحة للطرف المفاوض، حتى لا يكون هناك اتفاق على أمور، لا يمكن أن يعتد بها، وحتى لا يهدر الوقـت فيما لا طائل منه.
  11. عند طرح الأسئلة، لا بد من البعد عن الأسئلة، التي تتسم بالغموض، أو تلك التي تحمل معاني التشكيك والاتهام، كما لا بد من تحاشي الأسئلة، التي تتطلب الإجابة بنعم أو لا؛ لما فيها من إحراج للطرف الآخر.

“والواقع أن الأسئلة في المفاوضة تخدم عدة أغراض:

ـ تستثير انتباه الأطراف الأخرى في التفاوض.

ـ تمكن من الحصول على المعلومات عن الأطراف الأخرى المشاركة في التفاوض.

ـ تتيح إعطاء معلومات للأطراف الأخرى المشاركة في التفاوض.

ـ تحث الأطراف الأخرى المشاركة في التفاوض على التفكير.

ـ تعمل على وقف المناقشات والتوصل إلى نتائج محددة.

  1. التلخيص عند انتهاء كل مرحلة من مراحل التفاوض، يساعد على كتابة صيغة الاتفاق بسهولة.
  2. لا بد من التفكير في الآثار السلبية المترتبة على إخفاق المفاوضات.
  3. يُمْكٍنُ استخدام المواعيد عاملَ ضغطٍ للحصول على التنازلات.
  4. الأخذ في الحسبان أن الطموح الأعلى يؤدي إلى نتائج أفضل.
  5. ينبغي الإدراك أن التفاوض يتطلب معرفة كبيرة بمبادئ علم النفس والاجتماع “نظراً لأن عملية التفاوض تتم بين الأفراد، فينبغي على المفاوض أن يكون على فهم بالسلوك الإنساني، وأن يكون قادراً على التنبؤ به. ولحسن الحظ، فإنه، على الرغم من تعقد هذا السلوك، يمكن فهمه والتنبؤ به، إذا ركزنا على معرفة كيف يتصرف الأفراد في موقف معين، بدلاً من التركز على لماذا يتصرف الأفراد بالطريق، التي يتصرفون بها في موقف معين”.

وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك عدداً من جوانب السلوك الإنساني تمثل مشكلات أساسية في الفهم، مثل:

ـ التبرير: وهو إعطاء سبب وهمي للسلوك، يخالف السبب الحقيقي.

ـ الإسقاط: وهو قيام الفرد بنسب دوافعه إلى الآخرين.

ـ الإزاحة: وهو سلوك التخفيف أو التنفيس عن الغضب، بالرغبة في الاعتداء على أفراد أو أشياء أخرى، غير المسبب الحقيقي لحالة الغضب ( البحث عن كبش فداء).

ـ النكوص: وهو التفكير أو التصرف بطريقة معاكسة تماماً للغرائز أو المشاعر أو الأفكار، التي تم كبتها خلال فترة معينة.

ـ الصورة الذهنية الشخصية: وهي تلك الصورة، التي يكونها الفرد عن ذاته وطموحاته وخبراته.

ـ تمثيل الأدوار: كل منا يلعب عدة أدوار في الحياة، ومعظمها يستند إلى الخبرات السابقة لنا في الحياة، وكل فرد يعرف ما هو الدور، الذي يجب أن يلعبه في موقف معين.

ـ السلوك العقلاني: عادة ما يتصف الأفراد وفقاً للسلوك العقلاني، الذي يبدو، عقلانياً، ليس منهم، وليس من قبل الآخرين. ولذا فإن السلوك العقلاني لا يمكن فهمه إلا إذا عرفنا أسبابه، وإلا بدا لنا سلوكاً غير عقلاني”.

  1. قد تتطلب العملية التفاوضية استخدام عدد كبير من الإستراتيجيات والسياسات والتكتيكات وفقاً لطبيعة كل رحلة، وبناء على تقويم الموقف التفاوضي.
  2. لا بد من الأخذ في الحسبان أثر الخلفيات الثقافية في عملية التفاهم بين الأطراف، ويتطلب ذلك معرفة واسعة بعادات الشعوب وتقاليدها؛ لأنها تلقي بظلالها على عملية الاتصال وتحدد مدى فعاليتها.

ويفضل أن يكون المفاوضون على علم كاف بلغة الطرف الآخر حتى يسهـل التفاهم، ويتوافر قدر كبير من الخبرة المشتركة Common experience، ليعين على بناء جسور الثقة، ويزيد من فرص التفاهم.

المصادر المراجع

أولاً: المراجع العربية:

ـ “المفاوضات الناجحة: أساليب وطرق نظرية الربح المزدوج”، روبرت. بي. مادوكس، ط3 (بوسطن، 1995).

ـ “المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم”، محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة، ط3، 1411هـ/1991م.

ـ “كيفية عقد المعاهدات في الإسلام”، د. إحسان هندي، منهج الإسلام، العدد 29، ربيع الأول 1408هـ نوفمبر/ تشرين الثاني 1987م، ص(82 ـ 93).

 “مختصر تفسير ابن كثير”، اختصار وتحقيق محمد علي الصابوني، المجلد الثاني، ص 127، دار القرآن الكريم، بيروت، د.ت.

ـ “السفارات الإسلامية إلى أوربا في العصور الوسطى”، د. إبراهيم أحمد العدوي، دار المعارف، القاهرة 1957م.

ـ “المفاوضات في الإسلام”، ندوة المفاوضات الدولية، معهد الدراسات الدبلوماسية الرياض، 22 ـ 25 شعبان 1413هـ (13 ـ 16فبراير / شباط 1993م، د. وهبة الزحيلي.

ـ “المفاوضات بين العرب المسلمين والروم إبان فتوح الشام في ضوء ما ورد في كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي”، إحسان صدقي العمد، الوعي الإسلامي، العدد 114، جمادي الآخرة 1394هـ (يونيه/ حزيران 1974م)، ص (86 ـ 93).

ـ “الدبولوماسية الإسلامية والعلاقات السلمية مع الصليبيين”، عمر كمال توفيق، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1986م، ص (169 ـ 185).

ـ “المفاوضات السياسية، دراسة حالة المفاوضات المصرية الإسرائيلية”، السفير الدكتور أسامة الباز، وكيل وزارة الخارجية ومدير مكتب رئيس جمهورية مصر العربية، ندوة المفاوضات الدولية، معهد الدراسات الدبلوماسية، الرياض (22 ـ 25 شعبان 1413هـ).

ـ “مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والسياسي: دراسة لتنمية مهارات الأداء من واقع الحوار”، د. حسن وجيه، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 190، ربيع الآخر 1415هـ، (أكتوبر/ تشرين أول 1994م).

ـ “المعجم الوسيط”، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ج2، ص712، المكتبة العلمية في طهران، د.ت.

ـ “التفاوض: فن ومهارة”، د. حسن الحسن، المنظمة العربية للعلوم الإدارية، عمان، الأردن، 1989م.

ـ “مهارات التفاوض: سلوكيات الاتصال والمساومة الدبلوماسية والتجارية في المنظمات الإدارية”، د. السيد عليوة، المنظمة العربية للعلوم الإدارية، عمان، الأردن، 1987م.

ـ “التفاوض: علم تحقيق المستحيل انظلاقاً من المملكة”، د. محسن أحمد الخضيري، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1988م.

ـ “الإعداد للتفاوض”، د. حسن أبشر الطيب، الإدارة العامة، العدد الثاني، ربيع الآخر 1415هـ/ سبتمبر/ أيلول 1994م.

ـ “المفاوضات الدولية: علم وفن”، د. مفيد محمود شهاب، محاضرة ألقيت في ندوة المفاوضات الدولية، معهد الدراسات الدبلوماسية، الرياض، 13 ـ 17 فبراير/ شباط 1993م.

ـ “الدبلوماسية في عصر الذرة”، لستر. ب. بيرسون، لجنة الكتب السياسية، القاهرة، 1961م.

ـ “تدريبات وأنشطة في تنمية المهارات الإدارية”، أحمد صقر عاشور أحمد عبد الحليم، وربحي محمد الحسن، المنظمة العربية للتنمية الإدارية، عمان، الأردن.

ـ “تنمية المهارات التفاوضية”، محسن الخضيري، الدارة المصرية اللبنانية، القاهرة، 1993م.

ـ “أسرار الإدارة اليابانية”، د. حسين حمادي، مركز اكسفورد للاستشارات والتدريب الإداري، القاهرة، 1989م.

ثانياً: المراجع الأجنبية:

  1. Kennedy, G., Benson, J. and Mcmillan,j,: Manging Negotiations, How to Get Better Deal,. 3ed. Ed. London, Hunchison Bussiness. 1987.
  2. Roger Fisner & Willjam URY: Nogotiating Agreement Without Giving in, (Virginia, Donnelley & sons Co. 1983) p.59.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى