كتاب مدخل إلى دراسة التداولية: مبدأ التعاون ونظرية الملاءمة
نظرية الملاءمة بين المقاربة التداولية والمقاربة التأويلية
يقصد بالنظرية التداولية: تلك النظرية التي ينصبُّ اشتغالها على دراسة استعمالات اللغة في حياة الناطقين لها، فهي كما عرَّفها الدكتور طه عبدالرحمن: “نظرية استعمالية، حيث تدرس اللغة في استعمالات الناطقين لها، ونظرية تخاطبية تعالج شروطَ التبليغ والتواصل الذي يقصد إليه الناطقون من وراء هذا الاستعمال للغة”[1].
وأهمُّ ما يميز المقاربة التداولية للغة هو انفكاكها من الصرامة المنهجيَّة، والحدود المغلقة التي خطتها من قبلُ المقارباتُ اللسانية للوقائع اللغوية، والتي يمكن اختزالها في قولة العالم السويدي فردناند دي سوسير: “دراسة اللغة في ذاتها ولذاتها”[2]؛ أي: باعتبارها نظامًا مغلقًا، تتفاعل فيه مستويات اللغة وَفْقَ مجموعة من العلاقات: الصوتية، والتركيبية، والدلالية، في إقصاء صارخٍ للبعد التداوليِّ، الذي أدرجه سوسير ضمن مجال الكلام الذي لا يصلح للدراسة العلمية.
ولئن كانت هذه هي نظرة اللسانيات للبعد التداوليِّ، فإن الأمر لم يدم طويلًا حتى ظهرت أصواتٌ تنادي بإعادة الاعتبار للدراسات التداولية، سواء في بُعدها النظريِّ (الذي جسَّدته مجموعة من الأعمال المتفرِّقة، تم استغلالها فيما بعدُ من طرف روَّاد مبحث فلسفة اللغة، لصياغة الإطار النظريِّ لاشتغال النظرية التداولية)، أم في بُعدها التطبيقيِّ (تجسِّده مجموعة من النظريات التي حاولت بناء نماذج معيارية تداولية، كما هو الشأن في اللسانيات الوظيفية).
وقد ظهرت ضمن الاتجاه الأول مجموعةٌ من النظريات حاولت مقاربة ظاهرة التواصل الإنسانيِّ في بعدها الأخلاقيِّ؛ وذلك بوضع مجموعة من المبادئ التي يؤدي الأخذ بها إلى نجاح العمليات التواصلية – التخاطبية، سواء في تمظهراتها البسيطة أم في أبعادها المعقَّدة.
وسنحاول في هذه الإطلالة كشف الحجب عن نظرية الملاءمة التي تقف شامخة في صلب الدراسات التداولية المعاصرة؛ كيف لا؟ وهي التي تجد لنفسها امتداداتٍ في مظانِّ الدراسات اللغوية القديمة، ومنها العربية على وجه الخصوص[3].