...

كيف ترسم الهجرة والجغرافيا البشرية خرائط “العالم الجديد”؟

“أين ستعيش في عام 2050؟”.. يعد هذا السؤال نقطة البداية لرؤية “باراج خانا” لمستقبل الحراك البشري خلال العقود المقبلة؛ فالعالم الجديد ستشكله القوى المحركة لتغير “الجغرافيا البشرية” وحتميات الهجرة؛ فإذا كانت الجغرافيا والديمغرافيا من الثوابت المحددة لمصير البشرية، فإن الاتصال قد أصبح من هذه القوى الحتمية، وكذلك الحركة والتنقل “Mobility is destiny” وفقاً لرؤ ية الكاتب.

وفي هذا السياق، يطرح الكاتب والخبير الاستراتيجي الأمريكي الشهير “باراج خانا” –في كتابه الجديد “تحرّك: القوى تقتلعنا” الصادر في الثاني عشر من أكتوبر 2021– خريطة جديدة للعالم تحكمها الهجرة والحركة والابتكار والاتصال العالمي والتفاعل بين الأجيال وتحولات الديمغرافيا. ويستثمر “باراج خانا” في هذا الكتاب تراكم الأفكار الذي طرحه في كتبه السابقة “المستقبل آسيوياً”، و”العالم الثاني” و”جغرافيا الاتصال: رسم خرائط لمستقبل الحضارة العالمية”، بالإضافة إلى خبرات عمله ضمن شركة “فيوتشر ماب” (Future Map) المتخصصة بتقديم الاستشارات الاستراتيجية.

اتجاهات الهجرة العالمية

سلّط الكتاب الضوء على وجود حالة “حراك” بشري متواصلة عبر أقاليم العالم، مع تركيز بعض الدول على استقطاب المواهب، وما يرتبط بحالة الحراك البشري من ظواهر ناشئة وغير تقليدية، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1– تسارُع دوامة الحراك البشري (The swirl of humanity): يرى الكتاب أن المرحلة القادمة سوف تشهد تسارع “الدوامة البشرية” وما يرتبط بها من تنقلات وهجرات نتيجة لعدة عوامل؛ منها اختلالات التركيبة السكانية (Demographics) بين الشمال الأكثر شيخوخةً والجنوب الذي يغلب عليه الشباب القادر على توفير العمالة للشمال. ومنها، الأسباب السياسية (Politics) من استمرار طلبات الهجرة واللجوء بسبب الحروب الأهلية وفشل الدول والاضطهاد العرقي وغير ذلك، ومنها العوامل الاقتصادية (Economics) من الهجرة للبحث عن فرص واعدة بسبب الأزمات المالية وعدم اليقين الاقتصادي والاجتماعي.

وكذلك التطورات المتلاحقة في مجال التكنولوجيا (Technology) والذكاء الاصطناعي التي تتطلب مهارات معينة. وأخيراً، المناخ (Climate) وما تشمله الظواهر المناخية الطويلة الأمد، من ارتفاع درجات الحرارة ومنسوب البحار، والعواصف والأعاصير. ووفقاً للكتاب فإن جميع العوامل السابقة تتفاعل معاً نتيجة تزايُد التواصل والترابط البشري (Connectivity)؛ ما يؤدي إلى تسارع حركة البشر (Accelerated mobility).

2– سياسات استقطاب المواهب منذ الصغر (Get them while they’re young): يرى الكتاب أن الولايات المتحدة هي البلد الأكثر استفادةً في صراع الحرب على المواهب؛ فما يقرب من 40% من العلماء الأمريكيين هم من المهاجرين، وكذلك ثلث أطبائها وجراحيها، وأكثر من ثلثي العاملين في التكنولوجيا الخاصة وُلِدوا في الخارج، لا سيما الصين والهند. وحسب الكتاب، فإن البديهيات التقليدية التي تؤكد أن الولايات المتحدة هي الدولة الأكثر استقطاباً للمواهب العالمية، تواجه تحدياً الآن، معتبراً أن الطريقة المثلى هي استقطاب المواهب منذ الصغر في المدارس والجامعات.

3– تحول المدن الكبرى إلى “بوتقات صهر” (Micro melting pots): وفقاً للكتاب، فقد كانت المدن الكبرى عبر التاريخ منفتحة على التجارة والمواهب، على اعتبار أن بقاءها يعتمد على ذلك. وعلى سبيل المثال، فإن لدى بعض المدن العالمية –مثل دبي ونيويورك وبرلين وجنيف ولندن وسنغافورا– نسبة عالية من المقيمين المولودين في الخارج. وقد تبدو مثل هذه العوالم الحضرية ذاتية التنظيم، لكنها ليست كذلك؛ حيث تتطلب تنظيماً مستمراً لخلق بيئة متناغمة متعددة الأعراق يمكن للجميع أن يزدهر وينصهر فيها دون خوف من الآخرين.

4– تراجع معدلات السكان في الدول الثرية (Rich countries, vanishing people): رأى الكتاب أن عدد سكان العالم سوف يتراجع في العقود القادمة، لا سيما أن أغنى مناطق العالم في أوروبا وأمريكا الشمالية وشمال شرق آسيا، لديها نقص متزايد في الخصوبة، وارتفاع سريع في معدلات الشيخوخة. ويظهر هذا الأمر جلياً في اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة. وحسب الكتاب، فإن تراجع أعداد السكان يؤثر سلباً على الاقتصاد؛ حيث سيؤثر سلبياً على حجم الضرائب اللازمة لتمويل البنية التحتية المختلفة، وكذلك سيعطل المطاعم ومراكز التسوق، ويقلل حجم الاستهلاك والاستثمار، ومن ثم يجب تعويض هذا النقص المتزايد في عدد السكان بالهجرة.

5– دعوة إلى التحرك نحو الشمال (Go north, young man!): يدعو الكتاب الشباب إلى البحث عن فرص العمال في الشمال، مثل كندا، وخاصةً في مناطق الحدود بينها وبين أمريكا التي تعج بفرص عمل دوام كامل عوضاً عن العمل المؤقت.

6– صعود نفوذ الأوروبيين الآسيويين: على مدار الثلاثين عاماً الماضية، كانت هناك منافسة ناعمة بين دول أوروبا الغربية لجذب الأفضل والأذكى من الهجرة الجماعية من الاتحاد السوفييتي السابق؛ حيث كانت ألمانيا وبريطانيا جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة وإسرائيل في طليعة الدول الفائرة في هذا الأمر. وعلى الرغم من استحواذ الولايات المتحدة على النصيب الأكبر من المواهب اليابانية والكورية والصينية والهندية، فإن السنوات المقبلة ستشهد طفرة في عدد السكان الآسيويين الأوروبيين “Asian–Europeans”.

وسيتحول الآسيويون الأوروبيون إلى فئة في حد ذاتها في أوروبا، بل ربما يتفوقون على الأمريكيين الآسيويين في العدد. وعلى سبيل المثال، تمتلك رومانيا خطة لجذب كثير من العمالة الماهرة من الهند وباكستان وسريلانكا وفيتنام للعمل في البناء والطب والتكنولوجيا والزراعة؛ وذلك للتغلب على النقص الموجود لديها في هذا الإطار. وتعد جمهورية التشيك واحدة من أهم وجهات إعادة التوطين في أوروبا؛ حيث يشكل الأجانب 10% من القوة العاملة في البلاد.

7– تهديد “الألمان الجدد” للهوية الوطنية (The new Germans): يمثل الأتراك في ألمانيا واحدةً من أكثر الجاليات استقراراً، وتبلغ نسبتهم الآن 5% من السكان الألمان، وهي جالية كبيرة سعت حكومة أردوغان إلى التأثير عليها من خلال توجيه القنصليات والجمعيات التركية للترويج بقوة لدروس اللغة التركية بين الشباب الأتراك. ولمواجهة نفوذ تركيا، بدأت العديد من المدارس العامة الألمانية تدرس اللغة التركية أيضاً، إلا أنها تواجه نقصاً في المعلمين الأتراك القادرين على تعزيز مهارات اللغة الأم لدى الشباب التركي.

ويعتبر 20% من سكان ألمانيا من أصول مهاجرة، سواء من دول الاتحاد الأوروبي، أو البلقان أو روسيا أو الشرق الأوسط، ويوجد نحو مليون شخص من أصل إفريقي في ألمانيا. وقد شجع هذا الواقع السكان الأفارقة على المطالبة في عام 2020 بإحصاء رسمي للسكان السود، كما تتزايد أعداد الهنود والعرب والفيتناميين أيضاً في المجتمع الألماني، وبات يُطلق عليهم وصف الألمان الجدد “The new Germans”. ويُشكل هذا الواقع تهديداً للهوية الألمانية.

8– تزايد التوجه نحو القطب الشمالي (Moving to the Arctic): يزداد التوجه نحو الدائرة القطبية الشمالية في ظل مشكلة الاحتباس الحراري؛ حيث تتوسع الزراعة والغابات إلى الشمال، وتشهد المدن القطبية نمواً ملحوظاً، مثل ترومسو وكيركينيس شمال النرويج، وولاية ألاسكا الأمريكية. كما تشهد أوروبا اندفاعاً نحو عقارات القطب الشمالي، وتُخطط لبناء بؤر استيطانية هناك. وتنشر روسيا كاسحات الجليد والغواصات النووية لتأكيد مطالبها الإقليمية. وأبدت الصين أيضاً اهتماماً متزايداً بالقطب الشمالي، وسعى المستثمرون الصينيون إلى شراء مساحات استراتيجية من أراضي أيسلندا والنرويج.

كما سيكون القطب الشمالي أيضاً مغرياً للعلماء والمهندسين وعلماء البيئة والباحثين الذين يسعون إلى إنشاء مستوطنات بحثية. وقد يجتذب القطب الشمالي السكان بحيث لا يقتصر على الأوروبيين والروس والأمريكيين الشماليين فقط، بل يجتذب المزارعين السوريين والهنود والمهندسين الصناعيين الصينيين والأتراك وعشرات الجنسيات الأخرى في أعمال الزراعة والتشييد والتنقيب. وقد تساعد طرق الشحن الجديدة على تجنب اختناقات الممرات التقليدية.

9– استعداد الأمريكيين لعصر التنقل الدائم (Mobile Real Estate): تتزايد شعبية المعيشة المتنقلة والبسيطة في الولايات المتحدة؛ حيث يختار الشباب بوعي عدم شراء منازل لا يستطيعون تحمل تكلفتها، ويشترون منازل متنقلة بدلاً من ذلك. وتعد المنازل المتنقلة جزءاً من التقاليد الأمريكية، لكنها سمة مدهشة لحاضر الولايات المتحدة ومستقبلها. وأصبحت العقارات المتنقلة فئة أصول في حد ذاتها، واستثماراً حكيماً لعالم يمكن أن تكتسح فيه الفيضانات المنازل الثابتة.

وتسهل المنازل المتنقلة رغبة بعض الأمريكيين في الانتقال للعمل في مناطق أخرى. ويجب أن يتوقف الشباب الأمريكي عن تقييد أنفسهم في منازل لا يحتاجون إليها ولا يستطيعون تحمل تكاليفها. وبدلاً من ذلك، يجب أن تتهيأ الولايات المتحدة لعصر التنقل الدائم. ويدعم ذلك أن الانكماش الديمغرافي الكبير يعني انهياراً حتمياً في أسعار العقارات، وستؤدي منافسة المنازل الجاهزة إلى مزيد من الانخفاض.

10– تعظيم المكاسب من المسافات الاجتماعية الجديدة (New social distances): كان نحو 4% فقط من القوى العاملة الأمريكية يعملون عن بعد قبل الجائحة، ويمكن أن يزيد هذا الرقم أربعة أضعاف أو أكثر في السنوات المقبلة. وتفضل العديد من الشركات دفع رواتب أو تقديم عقود استشارية للعمال عن بُعد، الذين لديهم اتصال جيد في المنزل بدلاً من الإنفاق على العقارات التجارية الباهظة الثمن.

 وفي ضوء أن الجيل الجديد في الولايات المتحدة أصبح حريصاً على حساب تكلفة المعيشة بعد خصم الضرائب قبل تحديد المكان الذي سيأخذ فيه الوظيفة؛ فإن من الضروري تعظيم المكاسب من المسافات الاجتماعية الجديدة التي خلقتها الجائحة. ومن المحتمل أن يؤدي ارتفاع تكاليف العيش في المدن وظروف الإغلاق والميل إلى العمل عن بُعد، إلى إحياء الضواحي بقدر أكبر، وهو ما يعني –بالتبعية– فقدان المدن سكانَها.

ملامح حراك الأجيال العالمي

ركَّز الكتاب بدرجة كبيرة على قضايا الحراك الجيلي في ظل تبلور جيل عالمي جديد، وما يرتبط بذلك من ظواهر مُلحَّة في مختلف مناطق العالم، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1– اعتبار جيل Z “آخر الأجيال العظيمة” (The Last Great Generation): حسب الكتاب، فإنه لما يقرب من قرن من الزمان، كان كل جيل جديد أكبر من الجيل الذي يسبقه، إلا أنه ونتيجة للأزمات الاقتصادية وجائحة “كوفيد–19″، فإن من المتوقع أن يكون جيل “ألفا” Generation Alpha (الجيل الذي ولد بين أوائل 2010 ومنتصف 2020) أقل بقليل من الجيل “زد” Generation Z وهو الجيل الذي ولد في الفترة ما بين عامي 2000 إلى 2010.

2– تشكل” الجيل العالمي الأول” (The first global generation): أشار الكتاب إلى امتلاك شباب العالم، في الوقت الحالي، رؤية مشتركة بفضل التكنولوجيا، لافتاً إلى أن عالم الاجتماع الراحل أولريش بيك، أشار إلى أن التكنولوجيا أتاحت الوعي الذاتي خارج نطاق الجغرافيا والطبقة. وعلى سبيل المثال، لم تكن تظاهرات الطلاب لعام 1968 عالمية ولا شاملة مثل #MeToo اليوم. ويمتلك شباب اليوم وجهات نظر مشتركة عبر المناطق الجغرافية أكثر بكثير مما لديهم مع كبار السن في بلدانهم.

وعلى الرغم من الميل إلى التفكير في الدول على أنها عقلية مشتركة، فإن جيل الألفية والجيل Z يتشاركان القيم على نطاق عالمي، خاصةً الحق في الاتصال والتنقل والاستدامة. ولم يكن بمقدور أي جيل سابق أن يحدد بثقة هذه السمات المشتركة أو غيرها كما يمكن لمليارات من الشباب اليوم. ومن ثم، فإن الانقسام الكبير في العالم ليس الشرق مقابل الغرب، أو الشمال مقابل الجنوب، بل الشباب مقابل كبار السن.

3– تفاقم مشكلات صراع الأجيال (The clash of generations): وفقاً للكتاب، فإن هناك امتعاضاً شبابياً من تحمل عبء المعاشات التعاقدية. وحسب الكتاب، يفرض العقد الاجتماعي الحديث على الشباب رعاية كبار السن من خلال دفع الضرائب في المعاشات التقاعدية وتوظيف الخدمات الاجتماعية لكبار السن، وهي عملية من المفترض أن تكرر نفسها جيلاً بعد جيل. وتُقدر التزامات المعاشات التقاعدية بنحو 78 تريليون دولار، وهي التزامات لا يرغب شباب اليوم في دفعها. ويحدث هذا الصراع بين الأجيال في النقاشات المالية في الغرب. وقد دفع هذا الواقع بعض الحكومات إلى رفع سن التقاعد من خمسة وستين إلى سبعين عاماً.

4– اهتمام جيل الشباب بساعة المناخ (Climate clock): وفقاً للكتاب، فإن جيل طفرة المواليد (Baby boomers) يتذكر “ساعة يوم القيامة” (Doomsday Clock)، التي حذرت من تدمير نووي وشيك مع تصاعُد التوترات الجيوسياسية. ولكن شباب اليوم أكثر دراية بـ”ساعة المناخ” (Climate clock)، التي ستبدأ بالعد تنازلياً حين ترتفع درجة حرارة الأرض درجتين مئويتين.

5– إيمان متزايد بمسألة “المواطن العالمي” (global citizen): حسب الكتاب، تشير عبارة المواطن العالمي “global citizen” بوجه عام إلى إدراك الشخص بإنسانيتنا المشتركة واهتمامنا بالمصالح العالمية، مثل حقوق الإنسان أو البيئة. ويوجد اليوم العديد من المنظمات والحركات التي تحمل اسم “المواطن العالمي”، على غرار المنظمات التي تكافح الفقر وتهتم بمسألة القيادة الشبابية، وتدعو إلى المزيد من المشاركة المدنية. ويتم تربية الشباب على التفكير في أنفسهم كمواطنين عالميين من خلال العدد المتزايد من المدارس التي تدرس فصول “المواطنة العالمية”.

6– توقعات بنقص حاد في معدلات المواليد (The Great Baby Bust): توقع الكتاب تراجُع خصوبة “الجيل Z” بسبب جائحة كورونا وما ترتب عليها من انكماش اقتصادي، وأن هذا التراجع سيكون أكثر حدة من الذي حدث لجيل الألفية بعد الأزمة المالية العالمية. ويلفت الكتاب إلى أن هناك اتفاقاً كبيراً على أن التحدي الأكبر الذي سيواجه العالم في العشرين سنة القادمة هو تراجع أعداد سكان العالم.

7– تراجع الإقبال على التجنيد الإجباري (Conscription: The test of nationalism): وفقاً للكتاب، فإن معدلات الهروب من التجنيد الإجباري تزايدت في العالم، وكذلك توجه العديد من دول العالم إلى تقليص سنوات التجنيد الإجباري، وهو ما يعتبر دليلاً إضافياً على تراجع القومية في العالم والالتزامات الجماعية لدى الكثير من الشباب.

8– اعتبار “كرة القدم” حج ما بعد الحداثة (Postmodern pilgrimages): حسب الكتاب، فقد تحولت كرة القدم إلى ما يشبه نوعاً جديداً من الأديان، يحتوي على طوائف ومذاهب، كما أن عدداً من لاعبي كرة القدم الكبار، مثل ميسي ورونالدو وغيرهما، تحولوا إلى ما يشبه “الآلهة”، وأن الكثير من الناس باتوا يكرسون وقتاً لمشاهدة كرة القدم والاهتمام بها أكثر من الصلاة وقراءة الكتب المقدسة.

القوى المحركة للمستقبل

طرح الكتاب عدة اتجاهات مستقبلية متصاعدة، يمكن أن تُعيد تشكيل الحياة على الكوكب، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1– مطاردة الروبوتات للوظائف التقليدية (Running from the robots): حسب الكتاب، فإن جائحة “Covid–19″، ستسرع جهود الأتمتة في جميع أنحاء العالم، كما تسعى الشركات إلى ذلك لتقليل الاعتماد على البشر؛ ففي الولايات المتحدة يمكن أن يفقد ما يصل إلى 3 ملايين من سائقي الشاحنات وظائفهم بسبب المركبات الذاتية القيادة. ومن ثم، فإن اللجوء المتزايد إلى الروبوتات يدفع البشر بعيداً عن الوظائف التقليدية المستقرة، نحو الوظائف التي تتطلب مهارات عالية، مثل البرمجة والذكاء الاصطناعي وغيرهما.

2– صعود ملامح “المستقبل الكمي” (A quantum future): وفقاً للكتاب، فإن الجغرافيا الإنسانية غامضة لدرجة يُمكن معها القول إن البشر أصبحوا كالجزيئات في فيزياء الكوانتم؛ حيث إن سرعتهم وموقعهم في تغير مستمر بسبب النزوح والهجرة واللجوء من مكان إلى آخر في العالم.

3– اقتراب الإنسانية من مرحلة الذروة (peak Humanity): وفقاً للكتاب، فإن عدد سكان العالم في الوقت الحالي يقترب من 8 مليارات نسمة، وسيصل إلى الذروة بحلول عام 2045، ولكنه لن يصل إلى نحو 9 مليارات نسمة، وهذا يتوقف على التنبؤ بعدد السكان في الدول العالية الخصوبة، ممن يرون أن كثرة الإنجاب هو استثمار جيد، لكن في الجهة المقابلة يشهد العالم مثبطات للخصوبة، كالطموح في الحياة، وعدد كبير ممن يرون عدم جدوى الزواج وإنجاب الأطفال.

4– تزايد احتمالات “موت القومية” (Nationalism heads to the grave): يرى الكتاب أن التنوع مصدر قوة، وأن الأقليات لعبت دوراً كبيراً في تقدم العديد من الدول، وأن القومية بمظهرها التقليدي في طريقها إلى الزوال، لافتاً إلى أنه ينبغي الاحتفاء بالتنوع، وأن الإمبراطوريات القديمة التي قامت بذلك، استطاعت الحفاظ على قوتها. مؤكداً أن الهويات المتعددة تعتبر مصدر قوة وليس العكس.

5– الانتقال من “اقتصاد الإنسان” إلى “الإنسان الصانع” (From homo economics to homo faber): حسب الكتاب، فإن التحدي الحقيقي ليس بين الإنسان والآلة، بل بين المهارة والجغرافيا، وأن حل مشكلة العمالة يكمن في إعادة التوزيع؛ فعمل الإنسان في المستقبل سوف يتوقف على “أين يعمل”.

6– تبلور الموجة الثالثة للحضارة البشرية (civilization 3.0): حسب الكتاب، فإن كل فترة من فترات الانكماش تلتها موجة عولمة أسرع وأعمق. ويتوقع الكتاب أنه بعد موجة الإغلاق وتصاعد الشعبوية الحالية، فإن العالم سوف يشهد موجة غير مسبوقة من الهجرة والانتقال وبناء العشرات من المدن الجديدة في المناطق غير المأهولة سابقاً.. كل هذا نتيجة للتغيرات المناخية والأزمات التي تشهدها الكثير من مناطق الكوكب.

ووفقاً للكتاب، فإنه يجب على البشرية أن تنتقل من نموذج حضارة إلى آخر؛ فالنموذج الأول للحضارة كان بدوياً، اعتمد بدرجة كبيرة على الزراعة، وكان عدد سكان العالم صغيراً، ثم جاء النموذج الثاني للحضارة وأصبح الإنسان صناعياً وأكثر استقراراً في المدن الكبرى أكثر من أي وقت مضى. بيد أن النموذج الثالث من الحضارة يجب أن يعتمد على التنقل والاستدامة، وعلى الطاقة المتجددة، والتواصل الجيد. وحسب الكتاب، فإن المهمة الكبرى التي تواجه الحضارة البشرية اليوم هي “إعادة التوطين”، والعمل على خلق الانسجام بين المشاكل السياسية والاقتصادية والجغرافيا البشرية، معتبراً أن الحضارات القديمة انهارت لأنها فشلت في التغلب على التحديات التي صنعتها بأيديها.

سيناريوهات مستقبل الهجرة

قدّم الكتاب أربعة سيناريوهات متوقعة لمستقبل حركة الهجرة حول العالم، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1– سيناريو “الحصون الإقليمية” (Regional Fortresses): حسب الكتاب، فإن من المرجح –وفق هذا السيناريو– أن تزداد استثمارات الطاقة النظيفة، وسيتم الترويج للزراعة المستدامة؛ ما يؤدي إلى الحد من الهجرة مع تعزيز الاستدامة. ويتركز هذا السيناريو في دول الشمال الغنية.

2– سيناريو “العصور الوسطى الجديدة” (New Middle Ages): حيث يتم التخلي عن الاستثمارات، وتستولي الجيوش على المياه والطاقة والموارد بالقوة؛ ما يؤدي إلى انخفاض معدلات الهجرة، وكذلك الحد من الاستدامة.

3– سيناريو “الهمجيون عند البوابة” (Barbarians at the Gate): حيث تزداد أزمات تغير المناخ، مع اندلاع حروب المياه؛ ما يحد من الاستدامة. ووفقاً لهذا السيناريو، فإن أعداداً كبيرة من المهاجرين سوف تهرب من الأماكن المدمرة وتنتقل إلى المناطق الصالحة للعيش.

4– سيناريو “الأضواء الشمالية” (Northern Lights): حيث يوجد تخطيط متقدم، وسعي إلى إعادة توطين البشر على نطاق واسع، بالإضافة إلى تحرك الاقتصاد بسرعة نحو الطاقة المحايدة للكربون. وتساعد تلك الخطوات على تعزيز الاستدامة، وهجرة مئات الملايين من البشر مع وجود استثمارات كبيرة لإعادة التأهيل وتجديد البيئة في نصف الكرة الجنوبي.

وختاماً، فإن الكتاب يُفضِّل السيناريو الأخير على السيناريوهات الثلاثة الأخرى، خاصةً مع ما يرتبط به من مزايا مختلفة تنعكس إيجابياً على المجتمع البشري مع إيلاء أهمية كبيرة لقضايا البيئة والتغيُّرات المناخية حول العالم.

المصدر:                                                                                                        

Parag Khanna, Move: The Forces Uprooting Us, (New York, Scribner, 2021).

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button