...
دراسات سياسية

ماهية الأيديولوجية؟ WHAT ID THE IDEOLOGY

الأستاذ الدكتور كمال محمد محمد الأسطل

هناك إشكالية تعريف قائمة فيما يخص مصطلحات العلوم الإنسانية؛ فهي ليست كالعلوم الطبيعية قياسية موضوعية في دلالاتها لا مجال للرأي فيها؛ إنما هي ذاتية تخضع لنسبية المنظور الفردي والاجتماعي، تحتمل التأويل وتخضع لواقعها؛ لذا عند استعراضنا لمفهوم الأيديولوجيا فلا سبيل لتجاوز الإشكالية على سبيل القطع ولكن يمكننا على الأقل أن نستعرض مجموعة من التعريفات نتمكن عن طريقها من إبراز المشترك وإعادة التعريف.

أولاً: تعريف الأيديولوجية

تتكون الكلمة من مقطعين «idea» وتعني فكرة، و«logos» وتعني علم أو دراسة. وعند تركيب اللفظين يصبح المصطلح «علم الأفكار» الذي يعرفه دوتراسي على أنه «العلم الذي يدرس الأفكار، بالمعنى الواسع لكلمة أفكار، أي مجمل واقعات الوعي من حيث صفاتها وقوانينها وعلاقتها بالعلائم التي تمثلها».

الأيديولوجية في تصورنا نستطيع أن نعرفها بأنها تلك المجموعة من الأفكار والمبادئ والقيم المرتبطة بتصور العالم السياسي عندما تصل إلى درجة معينة من الترابط والتماسك مع تقديم أدوات الحركة الصالحة للانتقال بالمجتمع السياسي من الوضع الحاضر إلى ذلك النموذج المثالي التي تدور حوله عملية البناء الأيديولوجي.

ثانيًا: عناصر الأيديولوجية

إن المفهوم الأيديولوجي يفترض العناصر الأربع التالية:

  1.    صورة معينة للمثالية السياسية، نموذج واضح المعالم للخصائص التي تعبر عن خير النظم التي تستطيع أن تحقق للفرد سعادته في الحياة المدنية.
  2.    الأيديولوجية تفترض تفسيراً للتطور السياسي وتصوراً للعلاقة بين المواطن والسلطة وكل ما ارتفعت إلي حد الكمال بمعنى الترابط والتماسك أي بمعنى تقديم إجابة على جميع الاستفهامات أو أغلبها التي يصادفها ويرتطم بها الواقع السياسي على مستوى الفرد ومستوى الجماعة، فإن الأيديولوجية تكون أكثر تعبيراً عن مستوى الكمال.
  3.    الأيديولوجية رغم وضعها أنها حقيقة سياسية إلا أنها في الواقع تعني فلسفة للوجود والحركة. هي تفسير للتطور السياسية وإعلان عن إيجابية معينة إزاء الوظيفة الحضارية بجميع معانيها.وهي لذلك في حقيقتها مجموعة من القيم تفترض وتنبع من مفهوم التنظيم التصاعدي لتلك القيم. وهي ليست فقط قيم فردية أو قيم جماعية. إنها أداة من أدوات الربط بين القيم الفردية والقيم الجماعية.
  4.    أهم ما يميز الأيديولوجية هو الطابع العملي  أي الطابع الحركي بمعنى تقديم أدوات الصراع والكفاح السياسية في سبيل الانتقال من الفكر المجرد إلي المتابعة العملية، ومن التصور والنظرية إلي التطبيق، من المثالية والخيال إلي المواجهة مع ما تعنيه من التزام والحركية مع ما تفرضه من مغامرة.

من خلال ما سبق؛ فإن الأيديولوجية بهذا المعنى ظاهرة حديثة نسبياً، ولكن لو عدنا تاريخياً لمتابعة كيف تكونت الظاهرة الأيديولوجية بغض النظر عن مضمونها لوجدنا أنها تعبير عن ذاتية شخصية : أنها فلسفة تقدمها عقلية خلاقة، ولكن هذه الفلسفة تنتقل في مرحلة لاحقة ليستقبلها اتجاه سياسي فإذا بها تعبير عن مذهب سياسي مترابط تنصهر في داخله شخصيات متعددة بحيث يصير هذا المذهب وقد عبر عن نوع القيادة الفكرية مع المتابعة الزمنية من خلال الأعوان والأنصار، استقبال الفلسفة كمذهب سياسي ليس إلا مقدمة لمرحلة لاحقة عندما يتقبل ذلك المذهب حزب أو شعب يرى فيه تصوره ومنطقة السياسية. وصول الحزب إلى الحكم يعني الانتقال إلى المرحلة الرابعة التي تعبر عن أقصى مراحل النجاح للظاهرة الأيديولوجية.

ثالثًا: علاقة الأيديولوجيا بالعلوم المختلفة

ترتبط الأيديولوجيا بعلاقات متعددة ومتشابكة مع العلوم المختلفة، وتتصل بها اتصالًا وثيقًا حسب طبيعة هذا العلم، ومن أبرز هذه العلوم: علم الفلسفة، وعلم السياسة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وغيرها، وفيما يأتي توضيح للعلاقة التي تجمع بين الأيديولوجيا وهذه العلوم المختلفة:

 1- علم الفلسفة: إن مفهوم الأيديولوجيا يتضمن في داخله فلسفة، كونه متصلًا بالفكر، فالأيديولوجيا تتضمن بُعدًا فلسفيًّا، فالعلاقة بينهما متشابكة، فكل منهما يتضمن الآخر فيه.

2- علم السياسة: ويتأثر علم السياسة بالأيديولوجيا؛ فهي العامل المؤثر في النظام والسلطة، فلكل سلطة أيديولوجيا معينة، تحاول أن تفرضها على الناس، وتؤثر فيهم، وفي أفكارهم، وقد يؤدي الخلاف الأيديولوجي إلى خلاف سياسي يصل إلى حد الصراع بين الأفراد والجماعات المختلفة. بل إن علم السياسة علم قائم على الأيديولوجيا التي تتغير بتغير الزمان والمكان، والظروف المحيطة. علم الاجتماع: تتأثر الأيديولوجيا بالمجتمع، وتؤثر فيه، ويمكن أن تكون الأيديولوجيا سببًا في التحام فئة من الناس مع بعضهم فيه، وذلك لتشابه الأيديولوجيا التي ينطلقون منها، ويمكن أن تكون الأيديولوجيا سببًا في الاختلاف مما يؤدي إلى وجود صراع طبقي، كما رأى ماركس. ولكل مجتمع من المجتمعات ثقافة خاصة به، تؤثر في الأيديولوجيا التي تتكون فيه، وعند أفرادها.

3- علم النفس: تؤدي الأيديولوجيا في علم النفس وظيفة معاكسة لما تؤديه في علم الاجتماع؛ إذ تحاول أن تخلق انسجامًا وشعورًا بالانتماء للأفراد والجماعات الذين ينتمون إلى الأيديولوجيا نفسها.

4- الأدب: يوجد نص أدبي بريء تمامًا من الأيديولوجيا؛ إذ لا بُدّ أن يحمل النص الأدبي على اختلاف نوعه سواء أكان قصة قصيرة، أم مقالة، أم رواية؛ لأن الأدب صورة من صور الفكر الذي يعبر فيه الأديب عن رؤيته، وعلاقاته المتعددة مع الإنسان، والمجتمع، وتظهر الأيديولوجيا في الأدب بصورة متشابكة ومعقدة؛ لأن معرفة الأيديولوجيا فيه يتطلب فهم العلاقات بين العناصر المتعددة في النص، ويعد الحوار من العناصر المهمة في الرواية، أو المسرحية، أو القصة القصيرة؛ لأنه يمكن القارئ من سماع صوت الشخصيات وهي تتحدث، وتبرز طبيعة الصراع بين الشخصيات في النص.

رابعًا: أنواع الإيديولوجيات

 لو حاولنا التمييز بين أنواع الأيديولوجيات من منطلق المضمون والمقومات لاستطعنا ودون الدخول في التفاصيل أن نقدم خريطة الأيديولوجيات المعاصرة وقد تمركزت حول ستة تصورات لتفسير الحركة السياسية :

(1) الديمقراطية الليبرالية التقليدية والتي تقوم على أساس تعدد القوى السياسية وانتشارها فضلاً عن إيمانها بتلقائية التطور. إن الصراع بين المصالح من خلال قانون التنافس السياسي كاف وحده لتحقيق المثالية الديموقراطية.

(2)  الشيوعية ترفض التلقائية وتجعل من منطلق الفكر الماركسي حول وجود حزب سياسي واحد يسعى نحو التحقيق الإكراهي للصورة الجديدة من صور الوجود الإنساني منطلقها لتكوين المدينة المثالية حيث تختفي الظاهرة السياسية وتتحقق الديموقراطية  الحقيقية في أنقى معانيها.

(3) النقابية فلسفة تجعل من النقابة ركيزتها وحماية المهنة غايتها. المجتمع السياسي يصير تنظيماً لمهن فردية وتجمعاً لمصالح مهنية تتابع في إطار تصاعدي يقود إلى الإرادة العليا ينتهي بقمة الممارسة، النقابية رغم انتشارها كظاهرة لم تستطع بعد أن نصل إلى حد خلق النظام السياسي المعبر عن تصوراتها.

(4) تأتي الاشتراكية فتتوسط بين الديموقراطية والشيوعية في سعيها نحو تحقيق نوع معين من العدالة التوزيعية، دون أن تستطيع أن ترتفع لتقدم مذاقا واضحاً متميزاً للأيديولوجية السياسية.

(5)  الفاشستيه تقوم على أساس السيادة العنصرية : شعب مختار، طبقة مختارة، إنسان متفوق، تنظيم الإرادة القومية ينبع من ذلك التصور : أيديولوجية شمولية لم يعد لها موضع في المجتمع المعاصر.

(6) وهناك من يجعل من الدين إيديولوجية بل يشتق من الدين مجموعة متنافرة ومتنافسة بل ومتضاربة من الإيديولوجيات الدنيوية (الإسلام السياسي نموذج واضح). الدين في حقيقته هو اعتقاد المرء بوجود قوة خارقة خفية لا يستطيع إزاءها سوى التسليم والإذعان والإيمان والطاعة والخضوع والعبادة.

جميع الأيديولوجيات المعاصرة تتراوح في واقع الأمر بين الديمقراطية التقليدية والشيوعية في عملية تطوير دائمة للأولى على حساب الثانية أو الثانية على حساب الأولى. لا يزال المجتمع المعاصر يبحث عن إيديولوجية وهو قد يزعم أنه ق وصل إلى لك من خلال ما يسميه بعض الفقهاء بالنظام الجماهيري أو ما يعبر عنه البعض الآخر بالنظام القيادي. ولكن في حقيقة الأمر جميع هذه المحاولات إنما تعكس قصور حقيقي أدى بالبعض إلى الحديث ما أسماه ” نهاية الإيديولوجيات “الذي هو في حقيقته لا يعني سوى الفشل الواضح للأيديولوجيات التقليدية التي تعبر عن واقع المجتمع الذي نعيشه وتبرز هذه الظاهرة أكثر وضوحاً في المجتمعات المتخلفة.

خامسًا: مستويات الإيديولوجيا وأنماطها

يحدد “كارل مانهايم” في كتابه “الإيديولوجيا واليوتوبيا” مفهوم الإيديولوجيا، من خلال مستويين:

المستوى التقويمي: وهو يتعامل مع الإيديولوجيا على أساس أنها تتضمن أحكاماً تُعنى بواقع الأفكار وبناءات الوعي.

المستوى الدينامي: وهو يتناول الإيديولوجيا من خلال سمتها الدينامية، على أساس أن هذه الأحكام دائماً ما تُقاس من طريق الواقع، ذلك الواقع الذي يحيا في ظل تدفق ثابت أو جريان دائم.

وحول الأنماط التي تسلكها الإيديولوجيا في تطبيقاتها يشير مانهايم إلى ما سمَّاه بـ«التشوُّه الإيديولوجي» والوعي الزائف، أي التفسير غير الصادق الذي يضعه شخص ما. وهذا ما أكّده  ديفيد هوكس من أن كلمة «إيديولوجيا» تشير أحياناً إلى طريقة خاطئة في التفكير على نحو نسقي، ووعي زائف. وهكذا فرّق مانهايم بين نمطين من الإيديولوجيا، هما:

الإيديولوجيا الخاصة التي تتعلَّق بمفهوم الأفراد وتبريراتهم للمواقف التي تهدِّد مصالحهم الخاصة.

الإيديولوجيا الكلية التي تتعلق بالتفكير السائد داخل الطبقة أو الحقبة التاريخية، كما هي الحال في نمط التفكير السائد لدى البرجوازية أو البروليتاريا (الطبقة العاملة).

في ضوء هذين النمطين عرّف مانهايم الإيديولوجيا بوصفها “مجموعة قيم أساسية ونماذج للمعرفة والإدراك، يرتبط بعضها ببعض، وتنشأ صلات بينها وبين القوى الاجتماعية والاقتصادية”. فإذا أخذنا بتصور مانهايم هذا لمفهوم الإيديولوجيا، نستطيع أن نميِّز في أي مجتمع طبقي بين نمطين منها:

النمط الأول: إيديولوجيا الجماعات الحاكمة التي تريد فرض تصوراتها وأفكارها على بقية أفراد المجتمع، وتبرير الأوضاع الراهنة والدفاع عنها.

النمط الثاني: إيديولوجيا الجماعات الخاضعة، التي تحاول تغيير هذه الأوضاع لمصلحتها، وإحداث تغيرات في بناء القوة القائم، بما في ذلك تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الدخول توزيعاً عادلاً.

في مضمار أعماله حول «الإيديولوجيا وأجهزة الدولة الإيديولوجية» يستكشف المفكر الماركسي الفرنسي لويس ألتوسير اهتمام الفيلسوف الايطالي انطونيو جرامشي بالمجتمع الذي تَبَرعَم من دون أن يكتمل بالمؤسسات المادية التي تحقن الجماهير بالإيديولوجيا. وهو يتتبع في هذا المجال إشارة جرامشي إلى «حاجة الرأسمالية إلى تشكيل نمط جديد من الإنسان مناسب للنمط الجديد من العمل والعملية الانتاجية». فالمهمة الأولى لأي نظام اقتصادي – وفقاً لألتوسير- هي إعادة  شروط إنتاجه الخاصة، ويتضمن ذلك إعادة إنتاج أنماط البشر الذين سيكونون قادرين على الإسهام في عملية الانتاج، واستطاعة الدولة الرأسمالية الحديثة أن تقوم بذلك معتمدة على نمطين من المؤسسات: «أجهزة الدولة القمعية» مثل البوليس والمحاكم والجيش، و«أجهزة الدولة الإيديولوجية» التي تضم الكنيسة والعائلة والأحزاب السياسية ووسائط الاتصال وأكثرها أهمية هو النظام التعليمي. وكما نتوقع، فإن الفرق بين الجهازين أن الجهاز القمعي يعمل بواسطة «العنف»، في حين أن الجهاز الإيديولوجي يعمل «بواسطة الإيديولوجية».

من هنا؛ فإن الإيديولوجيا متجسدة في الممارسة المادية. ويلاحظ ألتوسير أن «إيديولوجيا ما توجد دائماً في جهاز وفي ممارسته أو ممارساته. وهذا الوجود مادي». أن جرامشي قال ما يشبه ذلك كثيراً. ولكن ألتوسير يزعم أنه يترتب على ذلك أن «الأفكار بوصفها أفكاراً قد اختفت». وهكذا يصل ألتوسير إلى النتيجة الغربية «التي لامسوِّغ لقبولها» وهي أنه نظراً لأن الأفكار يجري التعبير عنها ونقلها بواسطة مؤسسات مادية فستكون هي نفسها مادية. والقول بغير ذلك كما يزعم هو «إيديولوجيا»: «ينشأ الوجود المثالي والروحي «للأفكار» حصراً في إيديولوجية «الفكرة» و»علم الأفكار»، ودعنا نضيف في إيديولوجية ما يبدو  أنه «أسس» ذلك التصور منذ نشوء العلوم، أي ما تمثّله ممارسات العلوم لنفسها في إيديولوجيتها التلقائية باعتبارها «أفكاراً» صحيحة أو خاطئة. وبطبيعة الحال فإن هذه الأطروحة مقدمة بشكل إيجابي ليست مبرهنة.

وفي الحقيقة يتطلب الأمر سلسلة طويلة من الحجج لبرهنة أن الأفكار مادية. وواقعة أن ألتوسير يسأل قراءة أن يقبلوا ذلك كمسألة إيمان تنبغي أن تكون علامة على أننا رجعنا إلى نوع من المادية «الميتافيزيقية» التي كانت سمة مميزة للتنوير الفرنسي. لكن الالتزام الجدالي بالمادية الذي يطبع أعمال ألتوسير بطابعه يتحرر من أن المادة تحدد الأفكار لينتقل إلى افتراض أن الأفكار لا توجد: «إن وجود أفكار بأن أفعال هي أفعالها المادية أُدرجت في ممارسات مادية تتحدد هي نفسها بواسطة جهاز، إيديولوجي مادي تُستمد منه أفكار تلك الذات»، فإذا كانت الأفكار مادية فإن الذات التي تمتلك أفكاراً يجب أن تكون موضوعاً، ويقال إن مجرد تصور ذات مستقلة مثله مثل مفهوم أفكار لامادية هو  أمر إيديولوجي.

«إن مقولة «الذات» عنصر أساسي في الإيديولوجية التي لا توجد إلَّا بتشكيل ذوات عيانية… وإن وجود الإيديولوجية ونداء الأفراد باعتبارهم ذوات هو الشيء الواحد نفسه.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى