أخبار ومعلومات

ما الذي تكشفه أزمة أوكرانيا عن مستقبل النظام الدولي؟

إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

تختلف الأزمة الأوكرانية عن أي أزمة أخرى حدثت في العالم على مدار العقود الثلاثة الماضية، وتحديداً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي؛ وذلك بالنظر إلى حجم التشابكات والتداخلات بها؛ حيث لا تقتصر أطرافها على الجانبين الروسي والأوكراني، بل تمتد لتشمل شريحة واسعة من دول العالم. كما أن تداعيات هذه الأزمة طالت معظم دول العالم حتى قبل تحولها إلى حرب حقيقية. وقد دفع هذا الوضع الكثيرين إلى الاعتقاد بأن العالم يعيش نسخة ثانية من الحرب الباردة. وتتمثل أبرز العوامل التي دفعت البعض إلى اعتقاد ذلك، في الحشود العسكرية الضخمة من قبل أطراف الأزمة؛ حيث حرص كل طرف منخرط في الأزمة الأوكرانية على تعزيز حضوره العسكري، على أمل تحقيق تفوق عسكري على حساب الطرف المقابل إذا وقعت المواجهة العسكرية الفعلية أو على الأقل تحقيق هدف الردع للخصم.

يُضاف إلى ذلك وجود انسداد سياسي نتيجة فشل الجهود الدبلوماسية لحل الأزمة، ومحاولة أطراف الأزمة التحكم في سردية ومجرى الأحداث، ومساهمة الأزمة الأوكرانية في وصول العلاقات الأمريكية الروسية إلى أدنى مستوياتها، وانقسام شريحة واسعة من المجتمع الدولي إلى محورين، وتطلُّع قوى إقليمية عديدة إلى الاستفادة من الغزو المحتمل، ووجود تأثيرات سلبية كبيرة للأزمة على الاقتصاد العالمي. وبوجه عام، من الواضح وجود جملة من العوامل والمعطيات التي تؤكد مرور النظام الدولي بمرحلة دقيقة تكاد تكون مفصلية، خاصةً أن الأزمة باتت معقدة للغاية، ويغذي هذا التعقيد حالة التصلب الموجودة في مواقف الأطراف المختلفة.

عوامل مفسرة

من هذا المنطلق، يمكن استعراض أبرز العوامل التي قادت البعض إلى الحديث عن وجود نسخة جديدة من الحرب الباردة في العالم في الوقت الحالي، في ضوء تفاعلات الأزمة الأوكرانية؛ وذلك على النحو التالي:

1– الحشود العسكرية الضخمة من قبل أطراف الأزمة: حرص كل طرف منخرط في الأزمة الأوكرانية على تعزيز حضوره العسكري، على أمل تحقيق تفوق عسكري على حساب الطرف المقابل إذا وقعت المواجهة العسكرية الفعلية، أو على الأقل تحقيق هدف الردع للخصم. وفي هذا الإطار، قام الجانب الروسي بحشود عسكرية ضخمة قرب حدود أوكرانيا، فضلاً عن القيام بمناورات عسكرية كبيرة. وفي المقابل، حرصت أوكرانيا وحلفاؤها الغربيون على تعزيز دفاعاتهم في مواجهة الغزو الروسي المحتمل.

وعلى سبيل المثال، قام حلف شمال الأطلسي “الناتو” في الأيام الأخيرة بتحركات مكثفة لمواجهة الخطر المتصاعد من جانب روسيا وتزايد احتمالية غزو أوكرانيا. وتتمثل أبرز المؤشرات الدالة على ذلك في تعزيز الحلف تطبيق برنامج “الوجود الأمامي المعزز”، الذي تم الاتفاق عليه في قمته لعام 2016؛ حيث تقوم دول الحلف بنشر قوات إضافية في الدول المهدَّدة من جانب موسكو، فضلاً عن دعم الحلف لقوة الدفاع الجوي في شرق أوروبا، كما قامت بعض دول حلف الناتو بإنشاء جسر جوي لنقل شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا.

2– الانسداد السياسي نتيجة فشل الجهود الدبلوماسية: عُقدت ثلاث قمم بين روسيا والغرب خلال يناير الماضي على أمل التوصل إلى حل للأزمة الأوكرانية ومنع تفاقم الأمور إلى صدام عسكري. وبدأت هذه القمم بإجراء الولايات المتحدة وروسيا محادثات أمنية في جنيف في 10 يناير الماضي. وأعقب ذلك انعقاد اجتماع مجلس روسيا–الناتو في بروكسل في 12 يناير الماضي، كما توجه الدبلوماسيون إلى فيينا في 13 يناير الماضي لحضور اجتماع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. وقد جاءت نتائج القمم الثلاث متواضعة للغاية؛ حيث فشلت هذه القمم في إيجاد حل للخلافات الروسية الغربية.

ويمكن تفسير ذلك بمجموعة من العوامل، التي يأتي على رأسها تشبث موسكو بشروطها لحل الأزمة الأوكرانية؛ حيث تطالب موسكو، الناتو بعدة أمور؛ من بينها التوقف عن التعاون مع أوكرانيا، ومنح ضمان قانوني بأن أوكرانيا وجورجيا لن ينضمَّا أبداً إلى الحلف. ويُضاف إلى ذلك، رفض حلف الناتو الانصياع للإملاءات الروسية، ورؤية موسكو وجود مماطلة غربية في المحادثات، والتهديدات المتبادلة من جانب روسيا والغرب بشأن عواقب قيام موسكو بغزو أوكرانيا، وتهميش أوكرانيا في المحادثات رغم كونها الدولة المحورية في الأزمة.

3– محاولة أطراف الأزمة التحكم في سردية الأحداث ومجراها: من الملاحظ تطلع أطراف الأزمة الرئيسيين إلى التحكم في سردية الأحداث ومجراها. ويندرج هذا الأمر ضمن سعي كل طرف إلى تشكيل الرأي العام العالمي ضد الخصم؛ وذلك عبر تقديم معلومات بشأن الخطط والتحركات المتقابلة، والحرص على نفي وتكذيب المعلومات المضادة بسرعة. وعلى سبيل المثال، يدلل على المسعى الأمريكي إلى امتلاك رواية الأزمة الأوكرانية، تحذيرُ مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، يوم 11 فبراير الجاري، من أن موسكو قد تشن هجوماً كبيراً على أوكرانيا قبل نهاية دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين في 20 فبراير الجاري.

يُضاف إلى ذلك تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، في 11 فبراير الجاري، التي قال خلالها إن “الغزو يمكن أن يبدأ في أي وقت. ولكي نكون واضحين، يشمل ذلك وقت انعقاد الأولمبياد”. كما تحدثت مواقع إخبارية أمريكية معروفة بقربها من دوائر صنع القرار عن أن موعد الغزو الروسي هو يوم 16 فبراير الجاري. وتسبب الحديث الأمريكي عن اقتراب الغزو في حالة من الاستنفار الدولي؛ حيث شرعت العديد من الدول في سحب رعاياها من أوكرانيا، كما يدلل على ذلك تصريحات سوليفان، يوم 13 فبراير الجاري، التي أكد خلالها أن بلاده لن تمنح روسيا فرصة لشن هجوم مفاجئ على أوكرانيا. وفي المقابل، يحرص الجانب الروسي على تكذيب هذه المعلومات، ويرى باستمرار أنها تندرج ضمن المسعى الغربي إلى خلق هستيريا بشأن أوكرانيا.

4– وصول العلاقات الأمريكية الروسية إلى أدنى مستوياتها: على الرغم من أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تتبنى توجهات غير إيجابية تُجَاه الجانب الروسي منذ قدومها إلى السلطة في مطلع عام 2021؛ فإن الأزمة الأوكرانية على وجه التحديد قلَّصت مستوى العلاقات بين البلدين إلى أدنى مستوياتها، وهو سند رئيسي لمن يتحدث عن معاصرة العالم حرباً باردةً ثانيةً، على اعتبار أن الولايات المتحدة كانت هي والاتحاد السوفييتي، طرفَي الحرب الباردة الرئيسيين في القرن الماضي. ويدلل على وصول علاقات واشنطن وموسكو إلى أدنى مستوياتها، التصريحاتُ الروسية في هذا الصدد.

فعلى سبيل المثال، قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديميتري بيسكوف، يوم 14 فبراير الجاري، في تصريحات له، في معرض تعليقه على علاقات بلاده بواشنطن: “للأسف لا يمكن الحديث إلا عن سلبيات فقط في العلاقات الثنائية. وصلنا إلى مستوى متدنٍّ للغاية. إنها في الواقع في الحضيض”، كما أشار وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، في تصريحات له في 21 يناير الماضي، إلى أن “العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة وصلت إلى نقطة حرجة وخطرة؛ بسبب السياسة التي تنتهجها واشنطن”.

5– انقسام شريحة واسعة من المجتمع الدولي إلى محورين: ترى تقييمات غربية عديدة للحشد الروسي على حدود أوكرانيا أنه يندرج ضمن المسعى الروسي إلى إعادة بناء دائرة نفوذ روسية في أوروبا الشرقية؛ بحيث تضم بنسبة أساسية الجمهوريات السوفييتية السابقة، أو بمعنى آخر محاولة روسيا استعادة نفوذها القديم في النظام الدولي. وتشير هذا التحليلات كذلك إلى أن الدافع الرئيسي لموسكو وراء ذلك، يتمثل في وجود قلق روسي من اندماج أوكرانيا المتزايد مع الغرب، وتقاربها مع دول حلف الناتو.

وعلى اعتبار أن الأزمة الأوكرانية عززت التعاون بين موسكو وبكين وطهران، فإن الكثيرين يرون أن هذا الأمر يمثل بادرة لتحالف روسي صيني إيراني ضمن محور دولي مضاد للمحور الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة. ويُشار في هذا الصدد إلى أن التعاون القائم بين موسكو وبكين وطهران، الذي تصاعدت وتيرته في خضم الأزمة الأوكرانية، هو تعاون براجماتي لا تعاون أيديولوجي؛ حيث يستهدف هذا التعاون مواجهة الجانب الغربي فقط.

6– تطلع قوى إقليمية عديدة إلى الاستفادة من الغزو المحتمل: على الرغم من الأضرار التي ستقع على العالم بأسره من جراء الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا، فإن من المتوقع أن تحاول قوى إقليمية عديدة الاستفادة من هذا الوضع المحتمل لتعزيز نفوذها. وعلى سبيل المثال، يعد الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا فرصة للجانب الإيراني للاستمرار في دعمه الحروب بالوكالة، وتعزيز الدعم المقدم للجماعات والميليشيات الموالية له في الإقليم، على اعتبار أن طهران ستضمن في هذا الحالة الإفلات من الانتقادات أو العقاب نتيجة ضعف النظام الدولي.

وعلى الرغم من أن من المتوقع أن يتضرر الاقتصاد التركي بشدة في حال حدوث الغزو الروسي لأوكرانيا، فإن بعض التحليلات أشارت إلى أن أنقرة قد تجد في الأزمة فرصة لتعزيز نفوذها على المستويين الإقليمي والدولي؛ وذلك عبر محاولة التدخل للعب دور في جهود حل الأزمة بما يشكل لها مدخلاً لتعزيز علاقاتها بدول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، كما ستحاول بعض الدول تعزيز مكانتها على الصعيد العالمي من خلال سعيها إلى تعويض العجز المتوقع من صادرات الطاقة الروسية إذا غزت موسكو أوكرانيا.

7– وجود تأثيرات سلبية كبيرة للأزمة على الاقتصاد العالمي: تحمل الأزمة الأوكرانية تداعيات سلبية كبيرة على مختلف اقتصادات العالم؛ حيث يُتوقع أن يتسبب الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا في اضطرابات بسوق النفط والغاز العالمي، فضلاً عن تضرر إمدادات النفط والغاز لأوروبا. وعلى سبيل المثال، تزود روسيا القارة الأوروبية بنحو 40% من احتياجاتها من الغاز، وهو الأمر الذي دفع إدارة بايدن إلى البحث عن بدائل للغاز الروسي لأوروبا، وعلى رأسها الغاز القطري. ومن المتوقع كذلك تضرر الواردات الغذائية لبعض دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، خاصةً أن صادرات القمح الأوكرانية تمثل نحو نصف الصادرات الغذائية لهذه الدول.

وسيُفاقم الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا الأعباء على نظام التمويل العالمي للمساعدات، الذي يعاني بالفعل من ضغوط نقص التمويل، وستزيد الحرب المحتملة المعاناة الإنسانية في العديد من الدول التي تحتاج إلى مساعدات. ويُشار في هذا الصدد إلى أن الاقتصاد العالمي بدأ يتأثر بالفعل بأنباء اقتراب الغزو الروسي لأوكرانيا. وعلى سبيل المثال، تراجعت معظم أسواق الأسهم في الخليج يوم 13 فبراير الجاري، كما تراجعت بورصة وول ستريت يوم 11 فبراير الجاري بسبب المخاوف من اقتراب الغزو، كما ارتفعت أسعار النفط 3% يوم 11 فبراير الجاري عند أعلى مستوياتها منذ 7 سنوات بسبب مخاوف الغزو الروسي.

مواقف متصلبة

وختاماً، من الواضح وجود جملة من العوامل والمعطيات التي تؤكد مرور النظام الدولي بمرحلة دقيقة تكاد تكون مفصلية، خاصةً أن الأزمة باتت معقدة للغاية، ويغذي هذا التعقيد حالةُ التصلب الموجودة في مواقف الأطراف المختلفة؛ فعلى الرغم من استمرار النفي الروسي لوجود نية لغزو أوكرانيا، فإن موسكو لا تقدم في المقابل أي تفسير منطقي للحشود العسكرية الضخمة التي تقوم بها على حدودها مع أوكرانيا، وهو أمر يُجبر الجانب الغربي على الاستعداد للغزو المحتمل في أي وقت.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى