بقلم محمد الفقي – إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية
أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، خلال كلمة له صباح الثاني من أغسطس 2022، استهداف زعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري، في العاصمة الأفغانية “كابول”. ولم يقدم بايدن خلال كلمته، تفاصيل دقيقة حول عملية الاستهداف، لكنه اكتفى بذكر الإطار العام للعملية، من خلال منح الإذن لقتل الظواهري قبل نحو أسبوع بعد تحديد مكان إقامته في وقت سابق خلال هذا العام. ولم يصدر أي موقف رسمي من تنظيم “القاعدة” حتى الآن من نفي أو تأكيد مقتل الظواهري، كما هو الحال بالنسبة إلى حركة “طالبان”، التي صدر عنها بيان لرفض عملية قصف أمريكية لمنزل في العاصمة الأفغانية، دون أن تقدم أي تفاصيل تشير إلى أن الظواهري كان من قاطني هذا المنزل المستهدف.
أبعاد العملية
في ضوء كلمة بايدن المقتضبة حيال عملية استهداف الظواهري، والمعلومات التي نقلتها بعض الصحف الأمريكية لكشف ملابسات العملية الأمريكية؛ يمكن الوقوف على أبعاد رئيسية، على النحو الآتي:
1- اللجوء إلى نمط استهداف غير تقليدي: استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية نمط القصف بطائرات من دون طيار، وهي المرة الأولى التي تنفذ فيها القوات الأمريكية عملية قصف منذ انسحاب القوات في أغسطس 2021. وعلى الرغم من أهمية الظواهري، كهدف عالي القيمة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، لم تلجأ إلى استخدام نمط الإنزال الجوي، كما حدث في عملية استهداف أهداف عالية القيمة سابقاً، مثل أسامة بن لادن الزعيم السابق لتنظيم القاعدة، وأبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم تنظيم “داعش” السابق، وسلفه أبو بكر البغدادي. وتتيح عملية الإنزال الجوي التأكد من اعتقال أو تصفية تلك القيادات البارزة في التنظيمات الإرهابية، بيد أن هذه المرة كان استخدام القصف الجوي بطائرة من دون طيار، ربما يرجع إلى صعوبة عملية الإنزال في أفغانستان، في ضوء تقييم مخاطر مرتفعة، باعتبارها بيئة غير مواتية لعملية إنزال جوي، قد تواجه مواجهة شديدة من عناصر حركة طالبان، إضافة إلى عدم الرغبة في تصعيد التوتر مع الحركة، عقب تنفيذ عملية داخل أفغانستان دون التنسيق الكامل معها.
2- توظيف صاروخ حديث عالي الدقة: في إطار مواجهة أي تداعيات محتملة لاستهداف الظواهري بفعل العملة العسكرية ذاتها، وليس التداعيات السياسية، فإن بعض التقديرات الغربية، أشارت إلى أن القوات الأمريكية التي نفذت الضربة الجوية على المنزل الذي كان يقطن فيه الظواهري، استخدمت ذخيرة ذكية تتيح تنفيذ العمليات وتقليل حجم الخسائر البشرية والأضرار الجانبية لعملية القصف، ويُرجَّح استخدام صاروخ من طراز “RX9” عالي الدقة قادر على ضرب الهدف بشكل مركز دون انفجار، وهو ما يَحُول دون وقوع ضحايا آخرين. وهذا يتضح من إشارة الرئيس الأمريكي في كلمته، إلى عدم مقتل أفراد أسرة الظواهري، إضافة إلى عدم وقوع خسائر بشرية كأثر جانبي لعملية القصف الجوي.
3- قدرة واشنطن على تنفيذ عمليات نوعية: يعكس توقيت الاستهداف دلالات مهمة، تتعلق باقتراب انتهاء العام الأول من الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية من الأراضي الأفغانية. وعلى الرغم من ذلك، وعلى الرغم من ترجيحات بحرمان الولايات المتحدة من مواصلة الجهد الميداني لمتابعة وملاحقة أنشطة الإرهاب، وتحديداً تنظيم “القاعدة”، الذي تشير تقارير أمريكية إلى أنه تلقى دفعة بعد انسحاب القوات الأمريكية، بما أتاح له حرية الحركة، فإن عملية الاستهداف وتوقيتها تشير إلى أن الولايات المتحدة، إنما تواصل جهودها في البيئات غير المواتية للعمل الميداني، إضافة إلى أن اتفاق السلام مع حركة طالبان، لن يشكل عائقاً أمام مواصلة استهداف المطلوبين على قائمة الإرهاب الأمريكية، بغض النظر عن طول الفترة الزمنية لملاحقة هؤلاء، وتحديداً الذين تورطوا في استهداف الولايات المتحدة والقوات والمصالح الأمريكية، وفقاً لتعبير جو بايدن.
4- غموض الجهد الاستخباراتي قُبيل العملية: لم يكشف الرئيس الأمريكي، في كلمته، تفاصيل محددة حول العملية التحضيرية لاستهداف الظواهري، في ضوء تراجع العمل الميداني للاستخبارات الأمريكية نظرياً بعد الانسحاب من أفغانستان؛ لذلك تنطوي عملية تحديد مكان إقامة زعيم “القاعدة”، على عدد من الاحتمالات؛ أولها متعلق باحتفاظ الولايات المتحدة بشبكتها من المتعاونين الأفغان في الداخل، الذين يعملون في سياق جمع المعلومات حول تحركات تنظيمَي “القاعدة وداعش”.
أما الاحتمال الثاني فمتعلق بإمكانية تلقي دعم من أطراف داخل حركة طالبان، خاصةً أن مكان إقامة الظواهري من غير المتوقع أن يكون محل معرفة من قبل كل العناصر والقيادات داخل حركة طالبان. والاحتمال الثالث مرتبط بتلقي الولايات المتحدة معلومات عرضية باحتمال وجود الظواهري في المنزل المستهدف، جرى التحقق منها، خاصةً مع تراجع الإجراءات الأمنية المشددة التي كانت تحيط بالظواهري، والتخلي عن الحظر الأمني؛ ما أتاح له تسجيل عدد من الإصدارات وبثها عبر القنوات التابعة للتنظيم خلال الأشهر القليلة الماضية، التي زادت بمعدل كبير منذ سيطرة حركة طالبان على الحكم، مقارنةً بسنوات سابقة.
مباغتة واشنطن
يمكن الوقوف على التأثيرات المحتملة لعملية استهداف أيمن الظواهري، وفقاً للتأكيدات الأمريكية؛ وذلك على النحو الآتي:
1- تعزيز الثقة بالرئيس “بايدن” داخلياً وخارجياً: تنقسم التأثيرات المحتملة على الولايات المتحدة من جراء استهداف الظواهري على مستويين: الأول على المستوى الخارجي، يتمثل في رسالة إلى حلفاء وشركاء الولايات المتحدة، بمواصلة جهود مكافحة الإرهاب، واستهداف القيادات البارزة للتنظيمات الإرهابية، خاصةً في ظل تخوفات من تداعيات الانسحاب الأمريكي المفاجئ من أفغانستان، بما أتاح لحركة طالبان السيطرة على الحكم في أيام قليلة، وخطوة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان دون ترتيبات محددة؛ لضمان عدم سيطرة “طالبان”، إضافة إلى عوامل أخرى أسفرت عن نظر بعض حلفاء وشركاء الولايات المتحدة إليها بأنها حليف غير موثوق به، وتحديداً في مواجهة التحديات الأمنية. وخلال قمة جدة للأمن والتنمية، تطرق الرئيس الأمريكي إلى تأكيد مواصلة جهود مكافحة الإرهاب.
المستوى الثاني داخلياً؛ إذ إن ثمة تأثيرات داخلية محتملة لاستهداف الظواهري؛ لاعتبارات تتعلق بتورطه في استهداف الولايات المتحدة ومصالحها، وتحديداً أحداث 11 سبتمبر 2001، حينما كان نائباً للزعيم السابق أسامة بن لادن، ومن ثم فإن لتصفية الظواهري دلالة رمزية في الداخل الأمريكي في إطار عملية “الثأر”، إضافة إلى محاولة الحد من التهديدات المحتملة على المصالح الأمريكية مستقبلاً، وربما يرغب بايدن في زيادة شعبية في الداخل الأمريكي بعدما أظهرت استطلاعات رأي تراجع شعبيته ووصولها إلى 39%، وفقاً لوكالة بلومبرج، في ظل عدد من التحديات الداخلية، ولكن هذا سيظل مرهوناً باستطلاعات الرأي حول شعبية بايدن خلال الأشهر القليلة المقبلة.
2- تأثيرات محدودة محتملة على تنظيم القاعدة: تُعد شخصية الظواهري جدلية في الأوساط الجهادية، في ظل مقارنة بين شعبيته وتأثيره، وبين سلفه أسامة بن لادن، وهي المقارنة التي كانت تميل لصالح بن دلان. هذه المقارنات تصاعدت، تحديداً عقب تأسيس تنظيم “داعش”، وحالة التنافسية الشديدة على مستوى التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود في إطار مشروع “الجهاد العالمي”، وما ترتب على ذلك من فقدان “القاعدة” بعض المجموعات الموالية له لصالح “داعش”، وانشقاق عناصر من التنظيم لتنضم إلى “داعش”.
ومع ذلك، حافظ الظواهري على قدر من التماسك لبعض مجموعاته، رغم صعود “داعش” وتصفية الولايات المتحدة عدداً كبيراً من قيادات “القاعدة” في بيئات ودول متعددة، ولكن من غير المتوقع أن يؤدي مقتل الظواهري إلى تأثيرات كبيرة وممتدة زمنياً داخل تنظيم “القاعدة” وأفرعه، في ضوء نمط لا مركزي بين قيادة التنظيم المركزية في أفغانستان وبين الأفرع، ومنح تلك الأفرع حرية الحركة وتوفير مصادر التمويل الخاصة، مع الالتزام بالإطار العام لتوجهات القيادة المركزية. ولكن محدودية التأثير ترتبط بمن سيخلف الظواهري في قيادة “القاعدة”، ومدى موافقة الأفرع الرئيسية على شخصية زعيم التنظيم الجديد، وقدرته على رسم مسارات تطور التنظيم خلال الفترة المقبلة، مع استمرار المنافسة مع تنظيم “داعش”.
3- ارتدادات سلبية متفاوتة على حركة طالبان: يمكن أن يؤثر مقتل الظواهري على حركة طالبان على مستويين: الأول؛ العلاقة مع الولايات المتحدة، إذ لم يُشِر الرئيس الأمريكي إلى التنسيق مع حركة طالبان، في عملية استهدافه، رغم ما ينص عليه اتفاق السلام المُوقَّع في قطر على التنسيق قبل أي عمليات أمريكية في أفغانستان، ولكن عدم الإبلاغ يعكس عدم ثقة الولايات المتحدة بالحركة، بصورة قد تتحمَّل تداعيات محتملة لعملية الاستهداف دون التنسيق في مقابل مقتل الظواهري. ورغم إصدار “طالبان” بياناً للتنديد بعملية القصف الأمريكية داخل الأراضي الأفغانية، فإنه لا يُتوقَّع أن يكون لذلك تأثيرات ممتدة على اتفاق السلام، في ظل رغبة الحركة في الحصول على الاعتراف الدولي، والإفراج عن الأموال المُجمَّدة في الخارج، وتحديداً في الولايات المتحدة، في ضوء التحديات الداخلية التي تواجه الحركة.
أما الثاني فعلى مستوى العلاقة مع “القاعدة”، فقد يؤدي استهداف الظواهري إلى توترات بين حركة طالبان وتنظيم القاعدة؛ ليس على مستوى المجموعات داخل أفغانستان فقط، بل على مستوى الأفرع والمجموعات المختلفة، حتى إن ظلت مكتومة وغير علنية، خاصةً مع إمكانية تحميل الحركة مسؤولية استهداف الظواهري، باعتبار أنها تتولى توفير الحماية والملاذ الآمن، وتصاعد اتهامات للحركة في أوساط جهادية، وتحديداً في تنظيم “داعش”، بتسليم الظواهري. وبغض النظر عن المسؤولية المباشرة لحركة طالبان، التي لا يتوافر لها مؤشرات واضحة، فإنه يمكن أن يكون تسريب مكان إقامة الظواهري، كان مصدره أحد عناصر الحركة، وهو أمر سيكون محل تحقيق وتقصٍّ داخل الحركة. ومع ذلك، يمكن الإشارة إلى أن مقتل الظواهري قد يمثل انفراجةً بالنسبة إلى “طالبان” بالتخلُّص من ضغوط أمريكية بتسليم الظواهري خاصةً؛ نظراً إلى أهميته الرمزية، إضافة إلى أنه يمكن التنصُّل من الالتزام بتوفير الحماية “المُتوارَثة” للتنظيم خلال الفترة المقبلة، في ضوء عدم القدرة على توفير تلك الحماية. ولكن هذا سيكون محل دراسة داخل الحركة، في ضوء خلاف بين بعض المجموعات، وتحديداً “شبكة حقاني” التي تشير تقديرات غربية إلى أنها الأقرب إلى مشروع الجهاد العالمي، وتوفير ملاذات لقيادات وعناصر القاعدة.
مستقبل ضبابي
وأخيراً، فإن استهداف أيمن الظواهري – رغم أهميته وما يحمله من رمزية كبيرة للولايات المتحدة الأمريكية – يفتح الباب أمام احتمالات تراجع تنظيم “القاعدة” أو زيادة النشاط مستقبلاً. وهذا يتوقف على من سيخلف الظواهري في قيادة التنظيم خلال الفترة المقبلة. وبالنظر إلى محدودية الخيارات، في ظل مقتل عدد من قيادات التنظيم المؤثرة التي كانت محل اتفاق في الأوساط الجهادية، وأبرزهم أبو بصير الوحيشي الزعيم السابق لفرع القاعدة في اليمن؛ يبرز ضمن الأسماء المحتملة لقيادة التنظيم “سيف العدل” الذي تشير تقديرات استخباراتية غربية إلى إقامته في إيران، وقد يواجه معوقات في ظل تصاعد الصراع بين تنظيم القاعدة والشيعة في أكثر من دولة. ولكن السؤال الأبرز حيال مستقبل تنظيم “القاعدة” هو: هل ستنتقل القيادة المركزية للتنظيم خارج أفغانستان أم لا؟ وهو ما سيتضح بدرجة كبيرة في المرحلة المقبلة.