دراسات تاريخيةدراسات مغاربية

مذكرات الشاذلي بن جديد “ملامح حياة”

مذكرات الشاذلي بن جديد. هو كتاب من تأليف الشاذلي بن جديد، تحرير؛ عبد العزيز بوباكير، طبع الجزء الأول منه ملامح حياة 1929 – 1979 عدد صفحاته 279 صفحة. هذه المذكرات اقرب إلى الترجمة من السيرة لأن صاحبها تفادى سرد كل الجوانب الحياتية ويعلل ذلك لسببين الأول ضياع بعض الوثائق أو أتلافها لأسباب مختلفة، والسبب الثاني تمثل في تذبذب الذاكرة. كما اسقط عامدًا بعض الأمور التي يمكن أن تؤول كإساءة إلى بعض الأشخاص كتصفية حسابات شخصية. فكانت هذه المذكرات ترجمة عن صاحبها والتي سماها “ملامح حياة”.

   كانت خطواتي الأولى في عالم السياسة تحت تأثير الوالد الذي كان مرشدي الحصيف في هذا الميدان، كنت، بالطبع، أسمع بأسماء مصالي الحاج وفرحات عباس والشيخ الإبراهيمي، لكنني لم أكن أدرك، في مثل سني، مغزى الصراعات التي كانت تجري آنذاك بينهم وبين الإدارة الاستعمارية، كان مستوى النقاش السياسي يتجاوز حدود مداركي. لذا كان علي أن أتعلم بنفسي.

     وجدتني وأنا بعد شاب يافع أدخل عالم السياسة من باب الانتخابات. فقد شجعني والدي على المشاركة كمراقب في انتخابات 1947 التي جرت بعد مصادقة البرلمان الفرنسي على القانون الأساسي للجزائر الذي رفضته كل الأحزاب الوطنية. واختارني لأداء تلك المهمة معلم فرنسي كان يرأس مركز الانتخابات في أولاد دياب لحثهم على التصويت على لوائح الحزب، وإفشال التزوير الذي كنا نخشى منه، كانت أول تجربة لي اكتشفت خلالها المبادئ الأولى للعمل الحزبي، وأهمها الدعاية السياسية وتنظيم التجمعات والخطب وتوزيع الملصقات.

   في المركز الذي عملت به حاول القايد مختاري أن يؤثر في سير الانتخابات، فجلس بطريقة استعراضية على كرسي بالقرب من الصندوق، ولم يتوقف عن التحديق باستفزاز في وجوه الناخبين لترهيبهم ودفعهم إلى التصويت على قوائم الإدارة. طلب مني والدي أن أسأل المسؤول عن المركز عن أحقية هذا القايد التواجد معنا هنا. وحين سألته قال لي ليس من حقه، ثم طلب منه أن يغادر المكان. قبل خروجه شتمني هذا القايد وهدد بالانتقام مني. وبالفعل، شكاني إلى الدرك الذي ظل يترصد تحركاتي عدة أيام لاعتقالي في أطراف البلدة، فاضطررت إلى الهروب إلى عنابة في سيارة “طراكسيون” للنائب في المجلس الجزائري باي العڤون. كان هذا القائد صديقًا للعائلة، ثم أصبح عدوها اللدود وسببًا في العديد من المشاكل التي لاحقت والدي فترة طويلة.

    عاد والدي إلى عمل الأرض بعد انقطاعه عنها أثناء فترة نفيه وسنوات الحرب العالمية الثانية. كانت أراضيه تقع في سهل عنابة بمحاذاة الواد الكبير الذي ينبع من الحدود التونسية وتصب مياهه في البحيرة الكبيرة المسماة المخاضة والممتدة من موريس إلى مكاني عرف بـ 45. وكانت المياه تغمر المنطقة كلها في فصل الشتاء، فيضطر السكان إلى استعمال البطاح للانتقال بين ضفتي البحيرة.

    كان الوالد يسعى إلى تقليد المعمرين في طريقة تنظيم العمل والسقي وجني المحاصيل، واقتنى الآلات الزراعية الحديثة لاستعمالها في فلاحة أراضيه، ومازالت بقايا الجرار التي اشتراه في الخمسينيات موجودة إلى اليوم، أمام ما تبقى من بيتنا الذي هدم خلال الثورة. وكان التنافس بينه وبين معمري المنطقة شديدًا، لكنه لم يكن متكافئًا. ذات يوم قال أحد المعمرين، باستخفاف، لوالدي وكنت أترجم بينهما: “يا سي بن جديد السماء واسعة ومليانة غبار، وإذا بقيت تنظر إليهما يتعمروا عينيك بالغبار”. ومن الواضح أنه كان يقصد من وراء كلامه لا تحاول أن تقلدنا لأنك لن تصل إلى مستوانا مهما بذلت من جهد.

   كانت الإدارة، من جهتها، تثقل كاهل والدي بالضرائب. وكانت ترسل إلى أراضيه مفتشين لجرد أملاكه ومحاصيله. وذات مرة سجل المفتشون في الجرد أن الهادي بن جديد يربي الخنازير. ولما ذهب الوالد يشتكي في مدينة القالة محتجًا بأن المسلمين يعتبرون الخنزير حرامًا ولا يربونه، كان ردهم الوحيد “ادفع الضرائب وسنرى فيما بعد”. كانوا يعرفون أنه لا يربى الخنزير، لكنهم أرادوا الضغط عليه وتركيعه.

    إلا أن والدي لم يستسلم للأمر الواقع. فكان يتعاون أحيانا مع بعض المزارعين الأوروبيين، منهم صديقه المعمر الفرنسي برنار. كانا يشتريان الماشية الراهمة من الفلاحين في سوق موريس  -بن مهيدي حاليًا- ويقومان بتربيتها وعلفها جيدًا في “السبعة” الغنية بالأعلاف، ثم يبيعانها في أسواق المنطقة بأسعار مضاعفة. وكانت أسواق المنطقة فرصة أسبوعية للفلاحين لبيع وشراء البقول والماشية وعقد الصفقات وتبادل المنافع. وكنت من حين إلى آخر أرافق والدي في عربة خيل إلى سوق موريس Morris أيام الأربعاء وبلاندان Blandan أيام الإثنين.

    في تلك الفترة اشترى والدي فرسا بعدما أصبحت غير صالحة للسباقات التي تقام في عنابة. كان فخورًا بها ويعتني بها شخصيًا. ذات ليلة تسلل مجهولون إلى الإسطبل واخرجوا الفرس، واقتادوها إلى مكان غير بعيد، وقتلوها رميًا بالرصاص. والمؤكد أن ذلك كان تحذيرًا واضحًا للوالد من أن الرصاصة القادمة ستكون من نصيبه، إن هو واصل تعنته ومشاكساته.

    كنت في الغالب مساعد الوالد في تنظيم العمل فوق أراضيه، أقوم عادة بعمل المحاسب. كنا ندفع للفلاحين تسبيقات ونقتطعها من أجورهم بعد ذلك، أتذكر أنني كنت أساعدهم بمواد غذائية دون علم والدي. وأعتقد أن العطف الذي لازمني طيلة حياتي على الفلاحين مصدره احتكاكي بهم حين كانوا يعملون في أراضي الوالد. كان عمل الأرض، في ذلك الوقت، شاقًا وصعبًا بالفعل. وكان الفلاحون يشتغلون من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وكان أغلبهم عمالًا موسميين قدموا من مناطق الشاوية والمناطق الحدودية الفقيرة بعد أن دفعتهم المجاعة والبطالة والحاجة إلى سهل عنابة الخصب بحثًا عن الرزق. وكانوا يقيمون بعائلاتهم طيلة موسم الحرث وجني المحاصيل في أراضينا كان يعمل خماسون -أي الفلاحون الذين يأخذون، كما هو معهود، خمس المحصول- وخضارون، وهم الفلاحون الذي كان والدي يوظفهم في موسم جني محاصيل الكاكاو والتبغ والقمح والشعير والحبوب الجافة إلى غير ذلك مما كنا ننتجه من خضر. هؤلاء كانوا يأخذون نصف الغلال بعد خصم البذور والتكاليف الأخرى.

   أما المعمرون فقد كانوا يستغلون هؤلاء الفلاحين أبشع استغلال، واخترعوا في ذلك الوقت عبارة تدل على مدى احتقارهم لهم، وهي le burnous de 1 Arabe suer، التي يمكن ترجمة معناها “اجعل الفلاح يعمل حتى تنهك قواه الجسدية وينضج برنوسه عرقًا”. ولا شك أن هذه العبارة تدل، في الوقت نفسه على نوع من الكفاية الذاتية والإدعاء والمعجرفة أقامها معمرون من أمثال Beugin, Magran, Cardenti, Albertini, latril, Zamit ومن جاء من بعدهم، على عرق ودماء الجزائريين. فبعد أن بسط هؤلاء يدهم على الإدارة المحلية، خالقين بذلك “لوبي”، قويًا في المجالس المنتخبة، شرعوا في الإستيلاء على أراضي العروض عن طريق الإبتزاز والمصادرة والتهديد وتفكيك الروابط الأسرية لدفع بعض أفرادها إلى بيع أراضيهم، وتمكن بعضهم من تملك آلاف نظرا لشساعتها، بواسطة طائرة. وبالإضافة إلى الاستغلال كان بعض المعمرين يبتز الفلاحين في حقوقهم، فبرتانيا، مثلًا، كان يدفع للفلاحين قسيمات تشبه العملة ليشتروا بها المواد الغذائية من مخازنه، أي أنه كان يدفع لهم رواتب بيد ليستردها باليد الأخرى.

    لم يكن العمل الفلاحي في أراضي والدي يستهويني حقًا. فقد قضيت طفولتي وجزءًا كبيرًا من مراهقتي في مدن عنابة ودارال وموندوفي، وفقدت مع مرور الوقت ارتباطي بالريف، ولذلك استأذنت الوالد للمشاركة في مسابقة بمركز التكوين المهني في عنابة، يسمى اليوم واد القبة. وشارك معي في المسابقة، أيضًا، ابن خالي مبروك، لكن النجاح لم يحالفه. كان ذلك في نهاية 1947، كنا نتلقى دروسًا نظرية وتطبيقية في ميدان البناء والكهرباء ومختلف المهارات اليدوية. وكنا نخضع في هذا المركز، الذي كنت مسؤولًا فيه عن المرقد، إلى نظام داخلي صارم. كان هذا النوع من التكوين ذا مستوى عال، ولم يكن متاحًا إلا لقلة من الجزائريين.

    في ذلك المركز بدأت اكتسب الوعي، بفعل الاختلاط بتلاميذ من مدن أخرى، مثل قالمة وعنابة، كانوا يدرسون معي، وشرعنا في المركز نجمع بانتظام الإشتراكات لحركة انتصار الحريات الديمقراطية، رغم ضعف المنحة التي كنا نتقاضاها. في نهاية كل شهر كان أحد مناضلي الحركة، لا نعرف حتى اسمه، يتصل بنا لاستلامها، لم تكن الشعارات السياسية التي كانت ترفعها الأحزاب الوطنية آنذاك مفهومة بالنسبة إلينا. وكان مفهوم الاستقلال الوطني حلمًا غامضًا، لكن اقتناعنا به كان راسخًا. وعزز هذا الإيمان ما كنا نلاحظه من ظلم وتعسف. كنا نشاهد أجانب من المالطيين والإيطاليين واليهود يستقرون في سهل عنابة ويجدون العمل بسهولة وتوفر لهم الإدارة كل الإمكانات للنجاح، أما الجزائريون فكانوا يطردون من مناصب عملهم لأبسط الأسباب. وقد طردت، شخصيًا، من إحدى الورشات لسبب تافه.

   تخرجت من مركز التكوين المهني بدبلوم لم يفدني كثيرًا في حياتي العملية، وحين غادرت المركز طلب مني أحد المعلمين أن أقترح عليه من يخلفني في الإشراف على المرقد، فوقع اختيار على مصطفى سرايدي الذي تحمل مدينة سرايدي اسم عائلته اليوم، بعدما كانت تسمى في العهد الإستعماري بيجو Bugeaud. كان مصطفى نشيطًا وذكيًا وأكثرنا وعيًا وتبصرًا. لقد فقدت عائلته في حوادث 8 ماي 1945 وخلال حرب التحرير العديد من الشهداء. أما هو فقد إلتحق بصفوف الثورة سنة 1956، وكان يقود فوجًا من الفدائيين في مدينة قالمة واستشهد في السنة نفسها. وكان لي صديق حميم آخر هو محمود، وكنا نسميه ولد الرومية لأن مربيته فرنسية الأصل. كنا كل مساء بعد الدروس نخرج للتنزه في شوارع عنابة، ونغامر أحيانًا بالذهاب إلى ساحة Bertagna -ساحة الثورة اليوم- التي كانت آنذاك فضاء خاصا بالأوروبيين، وكان أكثر ما يستهوينا آنذاك الأفلام السينمائية وكرة القدم، فكنا نتردد على دور السينما وملاعب كرة القدم في نهاية الأسبوع. وكانت أكثر المقابلات إثارة هي التي تجمع بين فريقي عنابة وقالمة. ورغم التنافس الشديد بين الفريقين، إلا أن كرة القدم كانت آنذاك تعبيرا عن الإنتماء إلى وطن وعقيدة.

اللقاء بعميروش

   حين كنت أتماثل للشفاء من الجرح الذي أصيبت به في رجلي اليمنى التقيت عميروش في دكان أحمد القبائلي بسوق الأربعاء، كان قد دخل تونس في نوفمبر 1956 بعد إخفاقه في مهمة إصلاح الأوضاع المتردية في الأوراس. وقد رسخ في ذاكرتي كما هو في صوره المعروفة: طويل القامة، ذا بنية قوية، ونظرة ثاقبة بقشابيته المزرقشة وشاشه. كان عميروش شديد الحرص على وحدة صفوف المجاهدين، وقد قام بعدة وساطات سواء في الولاية الأولى أو تونس. وفي 1959 وفي طريقه إلى تونس لتوضيح الأوضاع مع الحكومة المؤقتة استشهد هو والعقيد الحواس في جبل ثامر في ظروف غامضة. وشاء المولى تعالى أن أكون الإنسان -بعد أن أصبحت رئيسًا- الذي اكتشف أن جثتي عميروش والحواس موجودتان في قبو بالقيادة العامة للدرك الوطني. فأمرت دون تردد، باستخراجهما من هناك وإعادة دفنهما في مربع الشهداء بالعالية.

دفن صاحب البشرة السوداء

   في سيدي طراد، دُفن المفكر والمناضل فرانز فانون، هذه حقيقة أراد البعض إخفاءها، وحتى في الملتقيات التي تنظم سنويًا حول شخصيته وفكره لا يشيرون إلى أن الشاذلي هو من واراه التراب. توفي فانون في مستشفى بميريلاند في الولايات المتحدة بعد إقامة فيها للعلاج من مرض اللوكيميا. وكنا آنذاك نسمع باسمه، ونعرف أنه مثقف من جزر المارتينيك التحق بالثورة الجزائرية، على غرار العديد من الثوار والمثقفين الأجانب، وأنه عمل في تونس مع عبان رمضان في قسم الإعلام، وشارك مشاركة فعالة في التعريف بالثورة الجزائرية من خلال كتبه ومداخلاته في الملتقيات الدولية وعمله الدبلوماسي خاصة في إفريقيا. ولا أدري مدى صحة ما أشيع آنذاك عن وجود تواطؤ بين الفرنسيين والأمريكيين حتى لا يعالج فرانز فانون من مرضه.

    قبل موته ترك رسالة إلى أصدقائه يطلب فيها منهم أن يدفن في الجزائر في مقبرة للشهداء. لما توفي نقلوا جثمانه إلى تونس، واتصلت الحكومة المؤقتة بقيادة الأركان بحثا عن مقبرة للشهداء، لكنهم لم يجدوا أية مقبرة للشهداء. لما توفي نقلوا جثمانه إلى تونس، واتصلت الحكومة المؤقتة بقيادة الأركان بحثا عن مقبرة للشهداء، لكنهم لم يجدوا أية مقبرة في تلك المنطقة. في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر 1961 اتصل بي من تونس الملازم الأول آيت سي محمد، السكرتير العام لهيئة أركان الشرق سابقا، مستفسرا عن وجود مقبرة الشهداء في المنطقة الشمالية للعاليات. أخبرته أننا ندفن شهداءنا في مقبرة سيفانة الواقعة في الجهة الجنوبية من سيدي طراد. وفعلا كنا قد دفنا 12 شهيدًا احترقوا بأسلحتهم بعد أن قنبلتهم طائرة أغارت عليهم فجأة في مرتفعات سيدي طراد.

    لكن بدل إرسال جثمانه ودفنه سرًا، قامت الحكومة المؤقتة بإعلان وفاة فرانز فانون، وأكثر من ذلك أعلنت أنه سيدفن في مقبرة للشهداء بالتراب الجزائري. ربما كانت للحكومة المؤقتة حسابات سياسية كنا نجهلها، لكن الإعلان عن دفن فرانز فانون بالتراب الجزائري سبب لنا مشاكل كثيرة، وكدنا ندفع الثمن غاليًا. فبعد أن علمت فرنسا بالخبر أرسلت طائرتين من نوع بـ 26 ظلت تحلق باستمرار على طول الحدود في المنطقة المعروفة no man’s land وتبحث عن أي شيء يتحرك لقنبلته.

   قمنا بحفر القبر ليلًا، وهيأنا كل شيء لدفن فانون. في اليوم الموالي جاء وفد يمثل الحكومة المؤقتة وقيادة الأركان وأحضر معه الجثمان إلى واد بغلة. كان ضمن الوفد محمد الصغير نقاش، مسؤول الصحة في جيش التحرير الوطني، والطبيبان يعقوبي وبونفة، وممثلة عن الصليب الأحمر الدولي، والصحافيان اليوغسلافيان بيتشار ولابيدوفيتش. وقد استغربت تصرفات بعض أعضاء الوفد الذين جاؤوا لالتقاط صور أمام نعش الفقيد. ولما وصلنا إلى الحدود قلت لهم إنني لا أستطيع أن أغامر بهم لأنهم يجهلون مخاطر المنطقة، وأن الطائرات مستمرة في التحليق والتصوير، وإنها ستكشفنا وتسقبلنا. عاد الفود من حيث جاء، ودفننا فانون بمقبرة سيفانة بعد أن أدينا له التحية العسكرية، ودفنا معه، كما أوصى بذلك، كتبه “سحنة سوداء وأقنعة بيضاء”، العام الخامس للثورة الجزائرية، ومعذبو الأرض. وبعد الاستقلال أعاد المجاهدون في شهر جوان 1965 دفن رفاته بمقبرة الشهداء بعين الكرمة.

في جيجل

    في الوقت الذي كانت فيه الفيالق الموالية للقيادة العامة في بوسعادة تنتظر السير نحو العاصمة، كلفني هواري بومدين بتهجيز الفيالق المتبقية من الجمهرة وفيلقين من الولاية الثانية والتوجه إلى مدينة جيجل. دخلنا جيجل أنا والعربي برجم، وقمنا بتنصيب ستة فيالق بأعالي المدينة في ثكنة le camp chevalier التي أخلاها الجيش الفرنسي والفيلق السابع عشر في جبال تاكسنة. وكان سكان جيجل مندهشين وهم يشاهدون مدينتهم تتحول بين عشية وضحاها إلى ما يشبه ثكنة في الهواء الطلق. كنا في حالة استنفار دائم نتابع تطورات الوضع. وكان مجال تحركنا يمتد حتى سوق الاثنين. أي الحدود مع الولاية الثالثة. وقد حدد لي هواري بومدين مهمة واضحة ودقيقة وهي تحييد الولاية الثالثة. فقد كان يخشى أن تتحالف لجنة الاتصال والدفاع عن الجمهورية التي أسسها في تيزي وزو كريم بلقاسم ومحمد بوضياف مع الولاية الرابعة لاحتلال العاصمة. وكانت مهمتي تتمثل في احتلال القواعد الخلفية في بجاية وتيزي وزو والدخول من هناك إلى العاصمة في حال تحرك جنود الولاية الثالثة باتجاهها.

   في الأسبوع الأول من شهر أوت تم التوصل إلى اتفاق بين كريم بلقاسم بوضياف ومحند أولحاج من جهة، وممثل التحالف بن بلة وقيادة الأركان، أي ما عرف بجماعة تلمسان، من جهة أخرى. وقد لعب محند أولحاج دورًا كبيرًا في إقناع الأطراف المتصارعة بالإصغاء إلى لغة العقل ونبذ الأطماع وأفضى ذلك إلى الاعتراف بالمكتب السياسي كأعلى هيئة سياسية. وإثر ذلك اتصل بي هواري بومدين وأطلعني على فحوى الاتفاق وآخر تطورات انسحاب جنود الولاية الرابعة من العاصمة.

    بلغ تأزم الوضع درجة لا تطاق فاضطرت قيادة الأركان بالتنسيق مع المكتب السياسي إلى إعطاء أمر يوم 30 أوت بالسير نحو العاصمة وشاركت في القوات الزاحفة نحو العاصمة قوات الولاية الثانية والأولى والسادسة والخامسة.

     وبعد خمسة أيام انتهت محنة اقتتال الإخوة الأشقاء بدخول جنود القيادة العامة وعلى رأسها بومدين منتصرة إلى العاصمة. وبدأت مرحلة جديدة ستكون هي الأخرى زاخرة بالأزمات والمحن. انفرجت أزمة صائفة 1962 بدخول جيش قيادة الأركان إلى العاصمة يوم 9 سبتمبر، وتلاشت أحلام أولئك الذين كانوا يغذون اقتتال الإخوة الأشقاء، واستعاد الشعب الأمل بعد التمزقات والصراعات التي أعقبت وقف إطلاق النار وكادت أن تزج بالبلاد في دوامة حرب أهلية لا تحمد عواقبها. كانت صرخة “سبع سنين بركات” أقوى من طلقات الرصاص.

    لقد تأسفنا كلّنا لسقوط ضحايا أبرياء في المواجهات بين قيادة الأركان وقوات الولاية الرابعة، ولم يكن من السهل رؤية أولئك الذين كانوا بالأمس في خندق واحد يوجهون السلاح إلى صدور بعضهم البعض. لكن كان لابد من حلّ، حتى لو تم عن طريق القوة، لتجاوز تلك المحنة العصيبة التي احتكم فيها الخصوم إلى أهوائهم ورغباتهم وطموحاتهم الجنونية أكثر من احتكامهم إلى العقل والرزانة وضبط النفس إزاء خطورة الموقف.

    أصبحت قيادة الأركان، في وقاع الأمر، هي القوة الوحيدة في الساحة القادرة على حسم أي موقف بفضل تماسك وانضباط جنودها والتفاهم حول قيادتهم. وحتى أولئك الذين كانوا ينازعون قيادة الأركان السلطة باسم الشرعية حينا، وأولوية السياسي على العسكري حينا آخر، أو يتهمونها بمحاولة فرض حل عن طريق القوة كانوا في قرارة أنفسهم يخطبون ودها.

   لقد خرجت، بالفعل، قيادة الأركان العامة منتصرة من هذه الأزمة – المحنة، وكان أعضاؤها يشعرون أنهم جنبوا الشعب امتحانًا عسيرًا ومزيدًا من إراقة الدماء ووضعوا حدا للسباق الجنوني نحو الحكم واقتسام غنائم الحرب. وفضلًا عن هذا الشعور كانت قوتها الضاربة، 24 ألف جندي وتأييد الولاية الأولى والخامسة والسادسة لها، تؤهلها إلى طرح نفسها بكل ثقة في النفس كطرف فاعل أو على الأقل كحكم في أية تسوية سياسية.

    في نهاية سبتمبر جرى الإعلان عن تشكيل أول حكومة للجزائر المستقلة برئاسة أحمد بن بلة. كانت، بلا شك، حكومة تسوية، تنازلات متبادلة، ونجح هواري بومدين في افتكاك خمس حقائب وزارية، واحتفظ لنفسه بوزارة الدفاع الوطني. كان بن بلة في البداية مترددًا في قبول منصب رئاسة المجلس.

وهكذا هي الحال دائما معه…

    وما من شك أن سبب تردده يعود إلى خوفه من أن يظهر في أعين معارضيه والرأي العام على أنه أصبح سجين قيادة الأركان، خصوصًا وأن خصميه، آيت أحمد وبوضياف، كانا لا يترددان في التصريح بذلك متهمين إياه بالنزوع إلى الزعامة. لكن بومدين نجح في إقناعه في النهاية بعد العديد من اللقاءات التي جمعته به في فيلا ريفو بتلمسان، رفقة ضباط مجاهدين، وبعد أن قدم له ضمانات بدعم الجيش له وتعهد هذا الأخير بحفظ الأمن والاستقرار. أصبح جيش التحرير بعد دخوله العاصمة جيشًا وطنيًا شعبيًا أنيطت به مهام جديدة. وكانت المهمة العاجلة التي أولاها هواري بومدين عنايته الخاصة هي تحويله من جيش مكوّن من قدماء مجاهدين إلى جيش نظامي عصري، من جيش تحرير إلى جيش بناء. أنشئت على المستوى المركزي مديريات جديدة للتخطيط والمالية والتسليح والمستخدمين أسندت في غالبها إلى الضبط الفارين من الجيش الفرنسي، أما الضباط المجاهدون فقد كلفوا بالنواحي والوحدات. وقد تسببت هذه التعيينات في إحداث شرخ في قيادة المؤسسة العسكرية ستظهر نتائجه بعد سنوات قليلة. كان الضباط المجاهدون لا يثقون في الفارين من الجيش الفرنسي بسبب التحاقهم المتأخر بصفوف الثورة ويتهمونهم بالسعي إلى إقصائهم وتهميشهم باسم الخبرة والتقنية. حنكة بومدين نجحت في تجاوز ذلك الخلاف الموروث منذ سنوات حرب التحرير. ورغم ذلك كله انصرف اهتمام قادة النواحي إلى إعادة تنظيم الوحدات وإدماج الجنود المسرحين في الحياة المدنية والتكفل بمشاكلهم الاجتماعية.

«إنكم شعب عظيم وبلدكم بلد جميل»

   أسعفتني الظروف بزيارة بعض البلدان تحضرني اليوم ذكرياتها. وكان لي خلالها حظ اكتشاف تجارب شعوب أخرى، استفدت منها كثيرًا في مسيرتي كقائد عسكري وسياسي. ويتعلق الأمر بالصين ومصر والمغرب وكوبا والاتحاد السوفييتي وتشيكوسلوفاكيا وأوغندا. وقد زرت هذه البلدان إما ممثلًا شخصيًا للرئيس هواري بومدين، أو ممثلًا لمجلس الثورة. وكان أكثر ما رسخ في ذاكرتي لقائي بالزعيم الصيني ماوتسي تونغ والرئيس المصري جمال عبد الناصر.

   كانت أول رحلة قمت بها إلى خارج الوطن بعد الاستقلال إلى الصين البعيدة، وكان ذلك في أكتوبر 1963. واليوم لا أتمالك نفسي في استرجاع ذكريات تلك الزيارة. استدعاني هواري بومدين إلى وزارة الدفاع الوطني، وكلفني بترأس وفد عسكري هام يضم قادة أركان النواحي العسكرية لمشاركة الشعب الصيني احتفاله بالذكرى التاسعة والعشرين للمسيرة الكبرى، وكان هناك وفد مدني آخر قاده إلى بكين وزير الدولة عمار أوزقان. أعترف أني كنت مسرورًا ومرتبكًا في آن واحد. مسرورًا لأن الفرصة أتيحت لي لزيارة بلد صديق دم للجزائر خلال الكفاح المسلح دعما لا يقدر بثمن على الصعيدين السياسي والعسكري، ومرتبكًا لأننا، أنا والوفد المرافق لي، مجاهدون لم يسبق لنا السفر إلى الخارج، نجهل أصول البروتوكول، ولم نشارك من قبل في مفاوضات. كان الصينيون يريدون مساعدتنا في المجال العسكري، وفي الوقت نفسه فك العزلة المضروبة عليهم، ومد نفوذهم إلى البلدان حديثة العهد بالاستقلال.

   سألت هواري بومدين: “لماذا لا تذهب أنت شخصيًا، خصوصًا وأن الدعوة وجهت إليك بصفتك وزير للدفاع؟”. فأجابني بنبرة الشخص المتأكد من شكوكه: “اللعب راه بعشانا”. فهمت أنه يقصد بن بلة. ثم أضاف: “الأمور ما تعجبش”. في تلك اللحظة أدركت أن بومدين كان يخشى أن يسافر إلى الصين. وحين يعود يجد بن بلة قد أقاله من منصب نائب رئيس مجلس الحكومة ووزارة الدفاع.

    سافرنا إلى الصين، وظلت عبارات بومدين تراود ذهني طيلة الرحلة. وبسبب انعدام خط جوي مباشر مع بكين آنذاك، اضطررنا إلى السفر إلى هونغ كونغ عبر باريس. وبعد أن حطت بنا الطائرة في مطار أورلي – الجنوبي، وقعت مشكلة كادت تؤدي إلى حادث دبلوماسي بين الجزائر وفرنسا. فبمجرد وصولنا أخذوا منا جوازات السفر، ولم يعيدوها إلينا. وظلت الطائرة رابضة في المطار مدة طويلة.

    قمنا أيضًا، بزيارة أورومكي، عاصمة مقاطعة كسينجيانغ، ذات الأغلبية المسلمة، وأعجبنا بالمعمار المتميز لمساجد جماعة الويغور الناطقة باللغة التركية. وقد اكتشفنا، مندهشين، أنهم يعرفون الجزائر، وكانوا يتابعون باهتمام أحداث ثورتنا.

   كان وزير الدفاع الصيني الماريشال لين بياو، أونابوليون الصين كما كانوا يسمونه، غاضبًا بسبب عدم تلبية بومدين لدعوته. حاولنا أن نقنع الصينيين بالظروف التي حالت دون تلبيته الدعوة، من دون أن نشرح لهم التفاصيل، لكن بلا جدوى، لم يستقبلنا لين بياو، وعين جنرالًا هو مدير ديوانه، لمرافقتنا، ومع ذلك لم تخل الرحلة من مواقف طريفة، منها أن بعض المرافقين لي، من العسكريين الجزائريين، كانوا طول الوقت مندهشين من طريقة التحية الصينية والابتسامة الدائمة على شفاههم، قبل عودتنا إلى أرض الوطن. عبر بيرمانيا ثم القاهرة، أقام الزعيم الصيني ماوتسي تونغ، وكان مرفوقًا بشونلاي وأعضاء المكتب السياسي حفلا بهيجا على شرفنا واستقبلنا بحفاوة بالغة. وأذكر مما قاله لي عبارة ظلت راسخة في ذهني إلى اليوم: “إنكم شعب عظيم، وبلدكم بلد جميل”.

تمرد شعباني

    وقد كانت بعض الصراعات مما فرضته الظروف علينا، كما كان بعضها الآخر مما فرضناه على أنفسنا. ومن ذلك ما عرف بتمرد شعباني الذي كان. في حقيقة الأمر، مكيدة خسيسة ذهب ضحيتها أحد ضباط الجزائر المخلصين. ولابد لي هنا أن أوضح ملابسات وظروف ذلك التمرد لأني كنت طرفًا أساسيًا وفاعلًا في مجرياته وفي مآله. فأنا من أجهض ذلك التمرد قبل أن يتخذ أبعادا خطيرة.

    كان شعباني قائدًا للناحية العسكرية الرابعة. وكان الخلاف بينه وبين بومدين هو إسناد بومدين للمراكز الحساسة في وزارة الدفاع الوطني إلى الضباط الفارين من الجيش الفرنسي، الذين كان شعباني يعتبرهم قوة ثالثة وخطرًا حقيقيًا على الثورة. وأشيع آنذاك أن بن بلة يريد استخلافه على رأس الناحية بعمار ملاح. رفض شعباني مغادرة مقر الناحية بعد أن استدعاه بن بلة إلى العاصمة للالتحاق بالمكتب السياسي. ووصلت الأزمة بينهما إلى طريق مسدود رغم الوساطات العديدة التي قام بها بعض الوجوه السياسية والعسكرية. وتطوّرت الأزمة، بحيث أصبحت تهدد بتصدع المؤسسة العسكرية الفتية.

   كثيرون من الناس، ومنهم أصدقاء شعباني، يعتقدون أن بومدين كان يحمل حقدًا دفينًا لشعباني، ويعتبره منافسًا له في قيادة الجيش، وأنه هو من دفعه إلى التمرد، وهو من حاصره في بسكرة، وهو من شكّل المحكمة، وهو من أمر بإعدامه. والحقيقة غير ذلك. لقد سبق لهواري بومدين أن أوضح موقفه من هذه القضية في حوار مع الصحفي المصري لطفي الخولي بقوله: “بن بلة هو الذي دفع الأخ شعباني لهذه الغاية المأساوية، إلى الموت. فخلال سنة كاملة بذل بن بلة كل ما في وسعه من أجل تأزيم العلاقات بين قيادة الأركان وشعباني. قائد الناحية الرابعة. ثم عيّن بعد ذلك العقيدين شعباني والزبيري وأنا شخصيًا في المكتب السياسي، وهم كلّهم مسؤولون عن قيادة الجيش.. وبموجب هذا القرار كان بن بلة يريد وضع حد لوجود شعباني كقائد ناحية على الصحراء وتعيين شخص آخر بدله. لكن شعباني كشف خديعة بن بلة ورفض الالتحاق بالمكتب السياسي”. هذه رواية بومدين. ومن واجبي، شخصيًا، أن أدلي بشهادتي على الأقل في الأحداث التي كنت طرفا فيها في هذه المأساة المؤلمة.

    الواقع أن أحمد بن بلة هو الذي ألّب العقيد شعباني ضد هواري بومدين. كان يناور دائمًا ويحب الدسائس منذ أن أوصلناه إلى الحكم. كان ذلك هو طبعه ولم يتغيّر قيد أنملة. كان يريد دائمًا أن يشعل نار الفتنة بيننا. كان شعباني عضوًا في قيادة الأركان. نائبًا للطاهر الزبيري إلى جانب بن سالم والعقيد عباس، لكنه كان، بلا شك، يطمح إلى أكثر من ذلك بالنظر إلى صغر سنه.

    أعلن شعباني تمرده في ظروف غامضة وعصيبة على أكثر من صعيد. ففي ذلك الوقت كانت الجزائر لا تزال تضمد جراحها. وكنا ما نزال نعاني من صعوبات في تنظيم مؤسسات الدولة والمجتمع ونتخبط في مشاكل عديدة ورثناها عن الاستعمار.

     بعد أن أصبح التمرد أمرًا واقعًا اتصل بي بومدين هاتفيًا، وكان إلى جانبه الرئيس بن بلة، وأخبرني أن هذا الأخير يطلب مني احتلال مركز قيادة الناحية الرابعة. وكانت قيادة الأركان قد اتخذت قرارها بالإجماع على ضرورة إجهاض هذا التمرد في أسرع وقت. وأعدت خطة لإطفاء نار هذه الفتنة التي كانت تهدد بتمزيق أوصال البلاد. أطلعتني قيادة الأركان على هذه الخطة، وأخبروني أنهم سيرسلون عمار ملاح من أريس. أما أنا شخصيًا فكلفت بالإشراف على العملية والتنسيق بين القوات المشاركة فيها، ورافقني في هذه المهمة نائبي في الناحية الخامسة محمد عطايلية. هذه التعليمات وصلتني عن طريق برقية، ولم أكن أدري أن شعباني كان على علم بها. ذلك أن أحد المسؤولين في الإشارة، أصله من بسكرة، كان متواطئًا معه وأطلعه على الخطة بالدقة والتفصيل. اتخذ شعباني تدابير مضادة لخطتنا. ولحسن الحظ، أنني لم أطبق حرفيًا الخطة كما وردت من قيادة الأركان، وتصرفت وفق حقائق الميدان. استقدمت عبر بريكة الفيلق السابع عشر، وهو من أفضل الفيالق تجهيزًا وتدريبًا، وأعطيت لقائده تعليمات بأن لا يدخل بسكرة حتى نصل نحن. وطلبت أيضًا منه أن يبقى عند مشارف المدينة فوق التلال حتى نستطيع أن نراه. وهذا ما لم يكن يتوقعه شعباني، ولما وصلنا إلى خنقة سيدي ناجي شاهدنا مواقعهم. كانت معي بعض الدبابات، وأمرت الجنود أن لا يطلقوا النار حتى تأتيهم التعليمات. وفي أثناء ذلك تلقيت أمرا من بومدين لإقامة قيادة أركان العملية في باتنة، لأنه كان يعتقد أن الأمر سيطول.

   أرسلت الفصيلتين في جهتين مختلفتين وحاصرنا المتمردين. وعندما شاهد جنود شعباني أن الجيش طوّقهم هربوا ودخلوا إلى معسكراتهم. وحتى شعباني لم يكن يتصوّر السرعة التي تمت بها العملية، كما لم يكن ليخطر بباله أن جنوده الذين كانوا أوفياء له تخلوا عنه، دون أن يطلقوا رصاصة واحدة. وحين أخبروه أنه محاصر، هو وجيشه، لم يصدق. هرب مع أركان قيادته، ونسي في مكتبه سترته التي وجدنا فيها بطاقة تعريفه. أما جنوده فقد دخلوا الثكنة، وأوصدوا الأبواب خلفهم. وحين وصلنا إليهم سلّموا أنفسهم دون أدنى مقاومة. أما شعباني فقد التجأ إلى صديقه سعيد عبيد، وطلب منه الحماية في بوسعادة يوم 08 جويلية 1964.

بومدين كما عرفته

   عرفت هواري بومدين في الربع الأول من عام 1960، وبالضبط في شهر فيفري. آنذاك بدأ نجمه يسطع بعد التحاقه بغار الدماء، قادما إليها من هيئة أركان الغرب. بعد قرارات الدورة الثانية للمجلس الوطني للثورة الجزائرية المنعقدة في طرابلس. بعد تنصبيه على رأس الأركان العامة، سافرنا نحن قادة المناطق الثلاث، أنا وعبد الرحمن بن سالم والزين النوبلي، للقائه بعد التغييرات التنظيمية الجديدة التي أدخلت على هيكل الجيش والمهام التي أنيطت به في الظروف الجديدة. وكنا، والحق يقال حذرين بالنظر إلى التجارب التي عشناها مع قادة سابقين.

   مضى على ذلك الوقت خمسة عقود كاملة، ومازالت أذكره كما رأيته لأول مرة. كان نحيفًا، طويل القامة، أشقر الشعر، غائر الوجنتين، أسوّدت أسنانه من التدخين. فقد كان يشعل السيجارة من أختها كان مثل الناسك، متقشفًا في أكله، متواضعًا في ملبسه، تخاله حين تنظر إليه وسط الجنود أنه واحد منهم. ورغم ما يبدو على ملامح وجهه من صرامة وجدية، إلا أنه خجول إلى درجة الحياء.

   كان بومدين شخصية منطوية على نفسها، كتومة وخجولة، كان قليل الحديث يستمع أكثر مما يتكلم، لا يتسرع في اتخاذ القرارات ويشاور المقربين منه، ولم يكن مستفردًا بالرأي كما يشاع عنه. لكنه في الوقت نفسه كان فعالًا وصارمًا حين يتعلق الأمر بمصلحة البلاد. أما في حياته الشخصية، فقد كان متواضعًا يرفض حياة البذخ والمظاهر الخادعة. هذه هي الصورة التي احتفظت بها عنه أثناء عملي معه في المنطقة الشمالية للعمليات، وحين أصبح وزيرًا للدفاع، وعندما تولى منصب الرئاسة لم يتغير في الجوهر إلى أن رحل عن هذه الدنيا. كان في الغالب يتخذ القرارات بعد فحص كل الاحتمالات وردود الفعل يترك الأمور حتى تنضج، لكنه بعد أن يتخذها كان نادرًا ما يتراجع عنها. ربما كان ذلك هو أسلوبه في الحكم.

   في اجتماعنا به في غار الدماء سألنا عن كل صغيرة وكبيرة عن الأوضاع دون أن يبدي رأيه فيها. كان يريد أن يعرف على الخصوص قدراتنا العسكرية ومعنويات المقاتلين، ويستفسر عن خطي موريس وشال. بعد افتراقنا توسمنا فيه خيرًا. لعله الرجل الذي أهلته الأقدار لإنقاذ الثورة. اتفقنا أنا وبن سالم بعد عودتنا على إعطاء الرجل فرصته. فهو جديد وغير معروف في وسط الضباط إلا سماعًا، كما أنه غير متورّط في الأحداث العاصفة التي عرفتها القاعدة الشرقية. ومن حسن الحظ، أننا كنا نجهل أنه هو الذي ترأس المحكمة التي حكمت بالإعدام على العموري وعواشرية ونواورة والرائد لكحل والضباط الآخرين. فربما كان موقفنا منه سيختلف. وفي حقيقة الأمر، كنا نسعى إلى تجاوز الانسداد ولو بتقديم تنازلات. فقد أصبحنا مقتنعين أكثر أن أهم شيء هو إنقاذ الثورة وتصحيح مسارها. كان الفرق بينه وبين محمدي السعيد كبيرًا سواء في طبعهما أو ثقافتهما أو قدراتهما على قيادة الرجال.

   أما في إدارته لشؤون الدولة فقد كان بومدين سواء في الجيش أو في مجلس الثورة أو الحكومة يستشير مساعديه في أهم القرارات التي يتخذها. كان محاورًا ذكيًا. ومجادلًا مقنعًا. وكان نهجه في إدارة شؤون البلاد يستند إلى رؤية بعيدة المدى تنبذ الارتجال والتسرع. بعد موته حاول البعض التنصل من مسؤولياتهم المباشرة في بعض القرارات التي اتخذت جماعيًا ونسبت نتائجها السلبية أو فشلها إلى بومدين. وأريد أن أؤكد أننا كلنا نتحمل القرارات الكبرى في عهد بومدين بسلبياتها أو إيجابياتها. والواقع أنه لم يكن يحكم وحده. وعلى العموم يمكن القول أنه استند على ما عرف بجماعة “وجدة” والمجاهدين قادة النواحي العسكرية والضباط الفارين من الجيش الفرنسي والمستشارين الخاصين. وأعتقد أنه أراد من خلال ذلك تحقيق نوع من التوازن في تسيير دواليب الحكم.

مؤامرة العقداء 1958 – 1959

     أسالت حادة الكاف، أو كما يسميها البعض خطأ “مؤامرة العقداء” أحيانًا، وأحيانًا أخرى مؤامرة العموري، الكثير من الحبر. وأدلى برأيه في أسبابها وملابساتها حتى من لا علاقة له بها، لا من قريب ولا من بعيد. ويجدر بي أن أوضح من البداية، أننا في القاعدة الشرقية لم نكن نستسغ كلمة “مؤامرة”. ذلك أن هذه الكلمة بإيحاءاتها السلبية وتوظيفاتها السياسية يمكن أن تقدم فكرة خاطئة عن فصل مأساوي من فصول كفاحنا المسلح، أو أن ترسم صورة مشوهة عن ثورتنا عن طريق تقديمها، وكأنها سلسلة من الدسائس والمؤامرات والمقالب والانقلابات. وهذا غير صحيح تمامًا. ولأني عشت بعض فصول حادثة الكاف، والتقيت بعض أعضاء الحكومة المؤقتة للتفاوض معهم حول مصير محمد العموري وزملائه قبل إعدامهم، أرى من واجبي الإدلاء بشهادتي في الموضوع.

    لم تكن القضية، في الحقيقة، تنازعًا على سلطة أو صراع عصبة ضد عصبة أخرى، وإنما الأمر كان متعلقًا بخلافات عميقة حول أساليب قيادة الكفاح المسلح وطرق تسيير الثورة سياسيًا واختيار القادة، أي مصير الثورة بصفة عامة. وكان محمد العموري ومحمد عواشرية وأحمد نواورة والرائد مصطفى لكحل وأغلب ضباط الولاية الأولى والقاعدة الشرقية مقتنعين أن الثورة انحرفت عن مسارها الأصلي، وأنه يجب التحرك لإصلاح الأوضاع قبل انفلاتها. هكذا تبلورت، شيئًا فشيئًا، فكرة استعمال العنف ضد القيادة الثلاثية لحملها على مراجعة القرارات التي اتخذتها في حق عمارة بوقلاز ومحمد العموري بعد حل لجنة العمليات العسكرية COM. وينبغي لنا أن نرجع قليلًا إلى الوراء لوضع حادثة الكاف في سياقها التاريخي الحقيقي بالحديث عن مصير القاعدة الشرقية وما كان يخطط لها في الخفاء.

هيئة أركان الشرق

    لم تعمّر القاعدة الشرقية، التي ولدت في الآلام والدموع، طويلا، فبعد عامين من نشأتها العسيرة وئدت بطريقة عسيرة. أيضًا، مع نهاية سنة 1958. وأسدل الستار عل مآثر وتضحيات قادتها وجنودها. وكان مصير بعض قادتها مأساويًا وترك آثارًا لا تمحى في نفوس مجاهدي المنطقة وفي مسيرة الثورة ككل. لكن الرهانات التي أحاطت بها منذ تأسيسها حولتها إلى مصدر لأطماع السياسيين وبعض المغامرين ودسائس الطامحين إلى الزعامة.

    كانت السنة التي تفككت فيها القاعدة الشرقية مضطربة وخطيرة على أكثر من صعيد فعلى مستوى قيادة لجنة التنسيق والتنفيذ تفاقمت الخلافات بين أعضائها، وانعكست سلبًا في الميدان على القدرات القتالية للجيش. وطفت تلك الصراعات إلى السطح، ولم تعد سرًا يخفى بعد مقتل عبان رمضان في نهاية 1957. في البداية صدقنا ما أعلنته جريدة “المجاهد” حول استشهاده في ميدان الشرف، لكننا بعد فترة قصيرة فوجئنا بالحقيقة المفجعة، وهي أن رفقاء في السلاح استدرجوه إلى المغرب ليقتلوه، كانت الصدمة عنيفة في صفوف المجاهدين، وندد بوقلاز، رغم خلافه مع عبان رمضان، في رسالة شديدة اللهجة إلى لجنة التنسيق والتنفيذ، بهذا الاغتيال الجبان لأحد رموز الثورة، ونظم يوم حداد واحتجاج في القاعدة الشرقية.

    في تلك الفترة كانت قيادة الجيش الفرنسي ماضية في تنفيذ مخططاتها الرامية إلى عزل جيش التحرير، وقطع الدعم عنه من الخارج وشرعت في تطبيق خطتي وزير الدفاع أندري موريس والجنرال شال. أما على الصعيد السياسي، فقد اتسمت سياسة الجمهورية الخامسة التي وصلت إلى الحكم بفضل المتطرفين وقسم هام من ضباط الجيش الفرنسي بالمزاوجة بين العمليات العسكرية والتنازلات الجزئية لصالح الجزائريين.

    كان اعتلاء ديغول سدة الحكم أخطر مرحلة مرت بها الثورة الجزائرية. وقد انخدع بها بعض القادة السياسيين الذين صدقوا مبادرات ديغول، خاصة بعد زيارته إلى الجزائر في جوان 1958، ثم إعلانه لمشروع قسنطينة، كان مشروع قسنطينة يمثل الجزرة، أما خطة شال الهادفة إلى القضاء على جيش التحرير من خلال تكثيف عمليات مراقبة المناطق الحدودية وتمشيطها فقد كانت بمثابة العصا. وتوج ديغول سياسته باقتراحه الشهير “سلم الشجعان” الذي كان يمثل. بالنسبة إلينا، رفع راية الاستسلام البيضاء، واستبعاد الحوار حول المستقبل السياسي للجزائر.

خطة شال

     يهمنا هنا الحديث عن الهجوم العسكري الضخم الذي شرع الجنرال موريس شال في الإعداد له بعد أن عينه ديغول في 1958 قائدا لأركان الجيش. وكان استراتيجية هذا الجنرال تسعى هذا إلى تحقيق أهداف محددة، هي عزل الولايات الداخلية عن قواعد التموين والتسليح، أي بعبارة أدق فصلها عن القاعدة الشرقية، وعزل السكان عن المجاهدين عن طريق إنشاء محتشدات ومناطق عازلة، مثلما حدث بين شال وموريس، والتخطيط لعمليات واسعة النطاق، مثل عمليات الشرارة Etincelle في الهضاب العليا وجيمال Jumelles في القبائل وعملية الأحجار الكريمة Pierres précieuses في الشمال القسنطيني. ثم بعد ذلك الشروع في تشييد خط مكهرب يحمل اسمه، أصبحنا نسميه فيما بعد “خط الموت” وسخرت فرنسا إمكانات ضخمة لإنجاز هذا السد بوتائر سريعة. وكان الهدف من تشييده تدعيم خط موريس والتضييق على المجاهدين ومنعهم من دخول التراب الوطني وتزويد الداخل بالسلاح والذخيرة وفي الوقت نفسه إنشاء منطقة عازلة أصبحت تدعى No man’s land.

    في مثل هذه الأوضاع الصعبة بدأ التخطيط لتفكيك القاعدة الشرقية، وتمت الخطوة الأولى في النصف الأول من عام 1958 عين اتخذ كريم بلقاسم قرارًا متسرعًا يقضي بإنشاء لجنة العمليات العسكرية في الحدود الشرقية والغربية، كان الهدف المعلن هو تكليف هذه الهيئة بقيادة العمل المسلح في الداخل، لكنها في الحقيقة بداية لتفكيك القاعدة الشرقية وتصفية مسؤوليها.

    برزت الخلافات بين الباءات الثلاثة حتى في تشكيل الكوم COM. واضطر بوصوف وكريم بلقاسم وبن طوبال إلى الوصول إلى تسوية فيما بينهم من خلال مراعاة مبدأ التمثيل الجهوي ومبدأ تمثيل كل الولايات. وأصبح واضحًا أن مبدأ القيادة الجماعية الذي استندت إليه الثورة منذ اندلاعها صار يتلون بحقائق الميدان ولعبة التوازنات.

    في الحدود الغربية أنشئت لجنة العمليات العسكرية بقيادة هواري بومدين الذي فرضه بوصوف وعين العقيد الصادق نائبًا له، وكانا يشرفان على الكفاح المسلح في الولايات الرابعة والخامسة، أما كوم الشرق، فقد كان بؤرة حقيقية للخلافات والتناقضات المنذرة بانفجار في أقرب الآجال. فلا شيء كان يوحي بضمان أبسط شروط التنسيق والعمل الجماعي بين رئيسه محمدي السعيد – الولاية الثالثة – ومحمد العموري – الولاية الأولى – وعمار بن عودة – الولاية الثانية – وعمارة بوقلاز – القاعدة الشرقية. وكان الخلاف بين بوقلاز وبن عودة على أشده. وكان هذا الأخير ينسق مع بن طوبال لتحييد بوقلاز.

    بعد ذهاب بوقلاز إلى الكوم أعيد النظر في قيادة القاعدة الشرقية، وعين الرائد محمد الطاهر عواشرية مسؤولًا عنها، والرائد شويشي العيساني نائبًا له، وتولى مسؤولية المنطقة صهر بوقلاز رصاع مازوز، يساعده ثلاثة نواب برتبة ملازم أول؛ هم الشاذلي بن جديد ويوسف بوبير وبلقاسم عمورة المعورف ببلصويوي. وأجريت تغييرات مماثلة في المنطقتين الثانية والثالثة اللتين بقيتا تحت مسؤولية عبد الرحمن بن سالم والطاهر الزبيري.

إلغاء الكوم

      في نهاية سبتمبر من السنة نفسها اتخذت لجنة التنسيق والتنفيذ في اجتماع في القاهرة آخر قرار لها، قبل تعويضها بالحكومة المؤقتة، يقضي بإلغاء الكوم واتهام أعضائه بالتقصير والعجز عن تطبيق قرارات القيادة واللا كفاءة. واتخذت أيضا قرارات تعسفية مجحفة في حقهم، وشعرنا نحن الضباط في القاعدة الشرقية بأن الأمر يتعلق بمكيدة تهدف إلى تصفية مسؤولينا والانتقام منهم. خاصة وأننا لاحظنا نوعًا من التمييز في طبيعة العقوبات ودرجاتها. فقط سلطت أقسى العقوبات على قادة الولاية الأولى والقاعدة الشرقية واكتفت اللجنة بعقوبات بسيطة ضد الأعضاء الآخرين، هكذا نزلت رتبة بوقلاز إلى نقيب، ومنعه من ممارسة أي نشاط، وأبعد إلى بغداد، وليس إلى السودان كما جاء في بعض الكتب، كنا نزلت رتبة العموري وأبعد هو الآخر إلى جدة، لكنه لم يلتحق بها، وبقي لاجئًا في ليبيا، بينما اكتفت اللجنة بإبعاد بن عودة لمدة ثلاثة أشهر إلى بيروت، أما المسؤول الأول عن الكوم، محمدي السعيد، المتهم الأول بضعف التسيير، فقد ألحق بالحكومة المؤقتة بالقاهرة، ليكلف بعد شهر بقيادة التنظيم الجديد –هيئة أركان الشرق–.

    لاشك أن عمارة بوقلاز هو من دفع العموري إلى رفض قرارات الحكومة المؤقتة، أو بالأحرى قرارات القيادة الثلاثية، لكنه كان يسعى إلى حل هذه المشكلة بالطرق السلمية وفي الأطر النظامية. غير أن العموري فضل اتباع أسلوب آخر باستعمال القوة. وشرع في تنسيق جهوده للإطاحة بالعسكريين في الحكومة المؤقتة مع أحمد نواورة الذي خلفه على رأس الولاية الأولى ومحمد الطاهر عواشرية، قائد القاعدة الشرقية بعد بوقلاز. وكانت نقطة الخلاف الأساسية هي الإسراع بدخول الجيش إلى التراب الوطني في تلك الظروف الصعبة. لكن نواورة وعواشرية رفضًا هذا الأمر واشترطا الإشراف على قواعد الحدود. وأثناء ذلك بدأ العموري يخطط بالتنسيق مع مصطفى لكحل المدعو باليسترو، للعودة إلي تونس، وكان الخطأ الذي ارتكبه العموري هو عقد الاجتماع في تونس بدل عقده داخل القاعدة الشرقية. فقد كان في إمكاننا أن نوفر له الحماية الكافية. خاصة وأن أغلب قادة المناطق الثلاث كانوا يساندون أطروحاته.

   وشرع عواشرية في عقد سلسلة من الاجتماعات معنا في المنطقة الأولى والثانية والثالثة في انتظار وصول عميروش والحواس. وكانت الاتهامات التي وجها في تدخلاته تتلخص في أن الحكومة المؤقتة تعيش في تونس حياة بذخ في الوقت الذي يعاني فيه المجاهدون نقصا في السلاح والذخيرة، وطالب بتقديم توضيحات حول اغتيال عبان رمضان، كما طرحات فكرة استبدال فرحات عباس بلمين دباغين، على رأس الحكومة المؤقتة.

    علم كريم بلقاسم ومحمود الشريف بوصول العموري إلى الكاف عن طريق طائق تكفل بنقله من طرابلس. ومن المرجح أيضا أن القيادة الثلاثية علمت بما يدبر ضدها عن طريق العيون المندسة في أوساطنا والنواب الذين طردهم الجنود والتحقوا بجيش الولاية الثانية.

    جرى الاجتماع بحضور ضباط الولاية الأولى والقاعدة الشرقية، منهم الرائد شويشي العيساني، العقيد أحمد نواورة، مصطفى باليسترو، أحمد دراية، محمد الشريف مساعدية، والرائد بلهوشات. كانت القيادة الثلاثية قد نجحت في إقناع بورقيبة أن المجتمعين في الكاف لا يتآمرون ضد الحكومة المؤقتة فحسب. وإنما يخططون أيضا للإطاحة به واستبداله بصالح بن يوسف، والدليل أن أغلبهم ساند اليوسفيين منذ انطلاق الثورة. فداهم الحرس الوطني التونسي العمارة التي عقد بها الاجتماع واعتقل المجتمعين.

   كانت الضربة قاسية بالنسبة إلينا فبعد أيام شرع الحرس الوطني التونسي في نقل الجنود الجزائريين على الحدود لمحاصرتنا وقطع التموين عنا. ووجدنا أنفسنا بين مطرقة جيش الحدود بقيادة علي منجلي وسندان الجيش الفرنسي. إما أن ندخل في حرب الإخوة الأشقاء وإما أن نسلم أنفسنا للعدو. وكلا الخياران مُران وفضلنا الحل السلمي في الأطر النظامية.

لقاؤنا مع كريم بلقاسم ولخضر بن طوبال

  في أثناء ذلك قرر كريم بلقاسم إزاحة رصاع مازوز من قيادة المنطقة الأولى بسبب علاقته العائلية بعمارة بوقلاز، وأوفد عبد القادر شابو محمد علاق وضابطًا شابًا اسمه صحراوي إلى المنطقة. واستشار شابو قادة النواحي، حداد عبد النور، قارة عبد القادر، والفاضل، حول من يخلف مازوز، فأشاروا عليه بالشاذلي بن جديد. وهكذا عينت قائدًا للمنطقة الأولى. وتفاديًا لاستفحال الأزمة كلفنا نحن قادة المنطقتين الأولى والثالثة بن سالم بالاتصال بمحمدي السعيد من أجل تنظيم لقاء بممثل عن الحكومة المؤقتة لتوضيح الأمور تجنبا لوقوع مواجهة بين الإخوة الأشقاء. وكان مازوز قد رفض الذهاب رلى تونس وطلب مني الذهاب بدله، وقبل ذلك حاول بوبير بولضويوي الانقلاب على قيادة المنطقة الأولى، لكن الجنود تصدوا لهما بإطلاق النار في السماء ففرا إلى معسكر الزيتون، أو “جيش الجمهورية” كما كانوا يسمونه وربما كانا من الذين بلغنا الحكومة المؤقتة عن الانقلاب الوشيك.

    سافرنا أنا وعبد الرحمن بن سالم والزين نوبلي، رفقة محمدي السعيد الذي كان يتوقف للصلاة عند كل آذان، إلى تونس حيث كانت الجماعة مسجونة، وقابلنا هناك كريم بلقاسم وبن طوبال، وكان بوصوف غائبا. كان كريم وبن طوبال قد أقنعا العموري أن يطلب منا العودة للشرعية، ومازلت أذكر الكلمات التي قالها لنا مترجيًا: “باسم الإخوة، باسم المجاهدين، باسم مبادئ الثورة ارجعوا إلى النظام وخلونا أحنا بين يدي الحكومة المؤقتة”.

    طرحنا المشكلة على أعضاء الحكومة المؤقتة وأكدنا لهم أن الاجتماع كان مجرد اجتماع استشاري لإصلاح الأوضاع، لكن كريم بن طوبال أصرا على أن العموري وجماعته كانوا يخططون لانقلاب ضد قيادة الثورة خدمة لمصالح أجنبية. طلبنا منهم الإبقاء عليهم في السجن وعدم إعدامهم فوافقوا شرط أن نسلمهم أحمد دراية، الذي نجح في الإفلات من قبضة الحرس التونسي ودخل التراب الوطني. خلال اللقاء كان محمد الشريف مساعديه يقف بعيدًا، يشير إليَّ وكأنه يريد أن يقول لا تصدقوهم.

     لاحظنا آثار التعذيب الذي مارسته مخابرات الثلاثي على وجه العموري. أما عواشرية فقد التفت إلى بن سالم، “أوصيك بالأولاد يا سي بن سالم” لا شك أنه كان يعرف المصير الذي ينتظره، وقيل أن بورقيبة عرض حمايته على العموري، لكن هذا الأخير رفض وفضل أن يسلم أمره لرفقاء السلاح.

      عدنا إلى التراب الوطني وسلمنا لهم كما اتفقنا دراية وبعد انتهاء التحقيق أسست محكمة برئاسة هواري بومدين، وكان علي منجلي مدعيًا عامًا بعضوية قائد أحمد والعقيد الصادق وأعدم العقيد العموري والعقيد نواورة والرائد عواشرية والنقيب مصطفى لكحل، وحكم على الآخرين بأحكام تتراوح بين أربعة أشهر وعامين سجنًا، وستكون لهذه الإعدامات انعكاسات خطيرة على معنويات الضباط والجنود الذين لم يعودوا يثقون في الحكومة المؤقتة، وخاصة في الثلاثي، وستتكرر محاولات التمرد والانشقاق والعصيان. وحين استلم بومدين قيادة الأركان أطلق سراح بلهوشات ودراية ومساعدية ولخضر بلحاج وكلفهم مع عبد العزيز بوتفليقة بفتح جبهة في مالي.

خطة الرائد إيدير

    في نهاية 1958 بدأت تصلنا أصداء عن خطة عرفت باسم واضعها الرائد إيدير ولم نكن، والحق يقال، نملك تصورًا واضحًا عن تفاصيل هذا البرنامج الجديد الذي أعد في ديوان كريم بلقاسم تونس، كما لم ندرك خطورة هذه الخطة إلا بعد تبني كريم لها، واعتمادها للتطبيق دون استشارتنا والأخذ برأينا في الموضوع. فقد كنا أنا وعبد الرحمن بن سالم منشغلين آنذاك بإعادة الانضباط إلى صفوف الوحدات التي كنا مسؤلين عنها في المنطقتين الأولى والثانية بعد حالة التذمر والاستياء التي خلفتها حادثة اعتقال قادة القاعدة الشرقية ومحاكمتهم، ثم بعد ذلك إعدامهم في شهر مارس 1959.

     كانت الخطة في خطوطها العريضة تهدف إلى تكوين جيش عصري جيد التدريب والتجهيز. يعتمد نمط الجيوش الكلاسيكية في المعارك ضد خصم متفوق علينا في العدة والعدد، أي أسلوب المواجهة المباشرة وحرب المواقع والتراتبية الصارمة في مسائل الانضباط، ومن الواضح أن الذي وضع الخطة ومن حاول تطبيقها لم يدرس تجارب الشعوب التي خاضت ثورات تحررية قبلنا.

     وكانت نقيض ما كنا نعتمده كأسلوب للقتال، أي حرب العصابات القائمة على إنهاك قدرات الخصم وعنصر المفاجئة والكمائن وعدم مواجهة العدو في حال عدم تكافؤ القوة. وفضلا عن ذلك تجاهلت الخطة أهم شيء ساعدنا على النجاح والصمود. وهو اعتمادنا على الشعب الذي كان مصدر دعمنا. وأكثر ما يثير الاستغراب هو أن هذه الخطة جاءت بعد خطة شال التي ألحقت أضرارا كبيرة بالوحدات القتالية في الداخلي وعلى الشريط الحدودي من خلال اعتمادها التطويق وقطع الدعم عن جيش التحرير. كان اعتراضنا أساسًا على جوهر الخطة وعلى أدوات وطرق تطبيقها. لقد أحاط كريم نفسه في وزارة القوات المسلحة بضباط لم يمض على فرارهم من الجيش الفرنسي إلا أشهر، ووضع ثقته المطلقة فيهم وفي قدراتهم التقنية على إعادة هيكلة الجيش، أي سلم لهم الوحدات الجامدة على الحدود، في الوقت الذي كنا نحن نطالب بها لمنع تشييد خط شال. ومن الناحية الاستراتيجية كانت خطة إيدير تهدف رغم عدم إعلانها عن ذلك إلى القضاء، أو على الأقل، تحييد المشوشين، كما أصبحوا يسموننا، وبسط اليد على وحدات القاعدة الشرقية تحسبا لدخول التراب الوطني بعد الشروع في مفاوضات محتملة مع الجانب الفرنسي.

   لكن هذه الخطة اصطدمت برفض تام ليس منا القادة، لكن من الجنود أيضا. لقد كان عنوان الخطة هو طبق ولا تناقش، متجاهلة حقائق الميدان ونفسية المجاهدين والتركيبة الاجتماعية للوحدات القتالية. وكان أكثر ما يثير الشكوك حول الخطة هو أن واضعها فار من الجيش الفرنسي، والمكلفين بتطبيقها فارون أيضًا من الجيش نفسه، تحلقوا في تونس حول كريم ومدير ديوانه. بعد المحاولات الأولى للشروع في تطبيقها، اتضح أمامنا أن المستهدف الأول هم المجاهدون. فالخطة كانت ترمي إلى إعادة تدريب مجاهدين حملوا السلاح منذ الساعات الأولى لانطلاق الثورة. وتطبيقًا لخطة إيدير رفض محمدي السعيدة مدنا بالجيش الجامد وراء الحدود. ولعله كان يخشى، إن هو زودنا بالسلاح والوحدات، أن نعيد الكرة. فحادثة الكاف كانت لا تزال حية في الأذهان.

   فضلت قيادة أركان الشرق بعد فترة تسليم بعد تلك الوحدات إلى الضباط الفارين من الجيش الفرنسي. وهكذا اقتطعت قيادة أركان الشرق جزءا من المنطقة الأولى في ناحية القالة ونصبت هناك فيلقا بقيادة محمد بوتلة، ووضعت بيني وبين عبد الرحمان بن سالم فيلقًا آخر على رأسه سليمان هوفمان، وبين بن سالم والزين نوبلي فيلقًا ثالثًا يقوده سليم سعدي، وبهذه الصورة ضيقت علينا الخناق. وأصبحنا نحن، قادة المناطق الثلاث، محاصرين بهذه الفيالق الجديدة وبالحرس التونسي من جهة الحدود، وبالفيالق الفرنسية المرابطة وراء السدين والتي كان يقودها الجنرال فاكسان والمكونة من خمس فرق من مظليي بيجار وجان بيير وترانكييه وغريهم من قدماء الهند الصينية.

    لقد أفرزت خطة إيدير نتائج وخيمة، وأثرت سلبًا في قدرات المجاهدين ومعنوياتهم، وأدت إلى وقوع العديد من حالات التمرد والعصيان، مثل تمرد وحدات الولاية الأولى في جبل الشعامبي، وعصيان حمى لولو، والإستسلام المخزي لعلي حمبلي. وكانت في الواقع تعبيرًا عن نزوة طائشة للرائد إيدير الذي استغل إخلاص محمدي السعيد، وثقة كريم بلقاسم. لكن هذا الأخير اضطر إلى التراجع عنها نظرًا إلى نتائجها الكارثية تحت ضغط بوصوف وبن طوبال. ومن المؤسف أن يستغل الرائد إيدير طبع محمدي السعيد إخلاصه وماضيه النضالي في سعيه إلى تطبيق مخططه حول إعادة تنظيم الجيش على الحدود التونسية، كما استغل أيضا صداقته مع كريم بلقاسم. كان كريم ملهم مدير ديوانه الرائد إيدير، ومحمدي السعيد والضباط الفارين من الجيش الفرنسي أدوات تطبيقه.

العقيد سي ناصر

    أتوقف هنا عن الاسترسال لأتحدث عن قائد هيئة أركان الشرق محمدي السعيد. لا أحد، بالطبع يساوره أدنى شك، في وطنيته وإخلاصه لقضية شعبه. فقد كان من المجاهدين الأوائل الذين لبوا من دون تردد نداء الوطن. وكان كفاحه النزيه مقرونًا بورع ديني مثير للدهشة، وطبعًا جبليًا قبائليًا صعب المراص. كل هذه الخصال جعلت منه شخصية متميزة وغريبة الأطوار في آن واحد. وكان شجاعًا، بل متهورًا أحيانًا، لا يتردد أمام أية صعاب أو مخاطر. وكان يصلي في كل الوضعيات، وفي أي مكان، كما كان متقشفًا في مأكله ومشربه. وكان مثله الأعلى هو هتلر والحاج الحسيني مفتي القدس، الذي ربما التقاه خلال الحرب العالمية الثانية. وكان لا يتوقف عن الحديث عنه.

   ما من شك أن إخلاص محمدي السعيد ووفاءه لا غبار عليهما من الناحية المثالية، غير أنه كان يحتكم إلى أسلوب التخويف والترعيب، بدل احتكامه للإقناع والحجة. كان حقًا من طينة المناضلين الذين عانوا ويلات الاستعمار وأهواله. فأصبحت غاية تحرير بلده تبرر وسيلة بلوغ ذلك. كما كانت نظرته إلى الانضباط أقرب إلى الامتثال والطاعة منها إلى الحجة والإقناع. ولعل خدمته في الجيش الألماني جعلته يميل إلى تبني أساليب الجيوش الكلاسيكية، بدل أساليب حرب الأنصار والعصابات، كان شعاره هو “أمر طبق نقاش أو سؤال”. ولم يكن يدرك بأن المجاهدين هم في الحقيقة إخوة يؤمنون بقضية مشتركة، وليسوا جنودا في جيش نظامي. كان الهم الوحيد لمحمدي السعيد هو إجهاض أية محاولة للخروج عن الطاعة. وكان لا يفرق بين الانضباط والخضوع. وكان تصوره لمسائل الانضباط يصلح لجيش كلاسيكي، وليس لمجاهدين يؤمنون بقضية عادلة ومقدسة. ولم يدرك أن المجاهد قبل أن يطبق أمرا يجب أن يفهم وبعد أن يفهم يجب أن يقتنع وبعد أن يقتنع يجب أن يكون الأمر يخدم القضية التي يؤمن بها.

   لقد أثبت محمدي السعيد محدودية نظرته وعدم كفاءته واستخفافه بحياة الرجال. ذات يوم زارنا في المنطقة الأولى وجمعنا له الجنود ليخطب فيهم. صعد فوق طاولة، مسكنا بها أنا وعبد الرحمان بن سالم حتى لا يسقط منها بسبب ثقل وزنه، ثم شرع كعادته في إلقاء خطاب حماسي بصوته الراعد. لم يكن خطيبًا مفوها، لكن حماسته كانت تلهب مشاعر الجنود. وكان هذا بالنسبة إليه جزءًا هامًا من تصوره للتجنيد ورفع المعنويات والانضباط في تلك الفترة العصبية التي اشتد فيها الإحباط. وختم خطابه بالقول: “…تحيا الجزائر…تحيا الثورة…يحيا المجاهدون…” وحين لم يجد ما يقوله صرخ بأعلى صوته: “…يحيا ربي”. ثم أضاف: “لقد اتفقت مع مفتي فلسطين، صديقي الحاج الحسيني، أننا بعد تحرير الجزائر سنحرر فلسطين”.

    بعد ذهابه أخذ أحد الضابط يقلده مضيفا: “الجزائر لم نحررها وهو يريد أن يحرر فلسطين”. وبلغ كلام الضابط محمدي السعيد الذي من المؤكد أن له عيونًا في صفوفنا تبلغه كل شيء. فاغتنم فرصة زيارة ثانية إلى المنطقة الأولى ليسألني “هل عندك ضابط اسمه عبد المجيد”، أجبته نعم قال “أحضره الآن”. ففهمت أنه يريد أن يعاقبه، فقلت له “إنه اليوم غائب لأنني كلفته بمهمة في الداخل”. وبهذه الصورة نجا ذلك الضابط النحيف من عقوبة مؤكدة.

    في إحدى المرات كلفت نائبي السياسي عبد القادر عبد اللاوي أن يتصل بمحمدي السعيد في غار ديما ويخبره أننا نعاني مضايقات الحرس التونسي، وبعض سكان الحدود خلال عبورنا الحدود وأنهم يساوموننا في السلاح والذخيرة والمؤونة، وطلبت منه التدخل رسميًا لحل الإشكال مع السلطات التونسية. لكن كم كانت دهشتي حين علمت أن محمدي أمر عبد اللاوي أن يبلغني بقتلهم كلهم. وحين شرح له عبد اللاوي خطورة هذا، خاصة وأننا نتعامل مع سكان عزل على شريط حدودي يمتد على طول 100 كلم، قال له “اقتلوا النصف وخلوا النصف”.

    وفي الحقيقة لم يتغير محمدي السعيد كثيرًا بعد الإستقلال، فقد قاده إيمانه إلى تبين شعارات الجبهة الإسلامية للإنقاذ وأصبح من أكبر المتحمسين إلى بناء الدولة الإسلامية. وأذكر أنني استقبلت بعد أحداث أكتوبر جماعة من المجاهدين في الرئاسة. وأخذ يحدثني بنفس اللهجة والنبرة التي عرفتها به خلال الكفاح المسلح.

استسلام حمبلي

    من الفصول المؤملة التي عاشتها الثورة في أواخر 1958 تمرد علي حمبلي، الضاب في المنطقة الخامسة للولاية الأولى. وقد قيل الكثير عن أسباب استلامه لفرقة الثالثة للخيالة. ومن المرجح أنه انتفض ضد الحكومة المؤقتة وضد كريم، ومحمدي السعيد، تحديدًا احتجاجًا على أساليب قيادة الحرب. احتل حمبلي مع جنوده قمة جبل سيدي أحمد المشرف على منطقة واسعة حتى الحدود التونسية، وبالنظر إلى مناعة المنطقة كان من الصعب إخراجه منها. واستقدم محمدي السعيد قوات دعم من عدة مناطق ومراكز التدريب. وحاصره من الجهة التونسية لأن الفرنسيين، وقد كانوا على علم بالتمرد، حاصروا المنطقة من جهة التراب الجزائري، وقطعوا عنه التموين، وقد بعث حمبلي إنذارا إلى محمدي السعيد يطلب فيه رفع الحصار عن جنوده وإلا سلم نفسه للفرنسيين، لكن محمدي السعيد رفض الإنذار ورفض التحاور معه. وكان يأخذ بنفسه رشاشا من نوع 7 / 12، ويطلق النار بطريقة عشوائية باتجاه الجبل. استسلم حمبلي إلى الجيش الفرنسي. وقد استغل هذا الأخير هذه الحادثة المؤسفة ووظفها للضغط نفسيًا ومعنويًا على المجاهدين. فكانت الطائرات تحوم فوق المنطقتين الأولى والثانية. وترمي مناشير مقدمة استسلام حمبلي على أنه إنجاز من إنجازات شعار ديغول “سلم الشجعان”، ومناشير أخرى تحذرنا من الباءات الثلاثة ومناشير أخرى تصور لمين دباغين في شكل نسر كاسر.

    كما استغل استسلام حمبلي في وسائل الإعلام أبشع استغلال. وقيل أيضًا إنه كان وراء بعض الهجومات على مراكز المجاهدين وعلى مركز قيادة الأركان في غار ديماو. كما استغله الجيش الفرنسي في عمله الدعائي، فكان يطوف به في الأسواق والتجمعات السكانية لإقناع السكان بعدم جدوى محاربة فرنسا. مات قبل الاستقلال في ظروف غامضة، ويرجع أن الفرنسيين صفوه بعدما لم يعودوا في حاجة إليه.

تمرد حمى لولو

    حاولت قيادة الحدود في تونس، تطبيقا لخطة الرائد إيدير، جمع جنود مدارس التكوين تمهيدا لدخولهم إلى الجزائر، وكان حمى لولو أول من استجاب إلى هذا النداء على رأس فيلق كامل من المنطقة الثالثة. لكنه حين أراد عبور الحدود وضعوا جنوده في شاحنات وأرسلوهم إلى مراكز التدريب. فأحس المجاهدون بالإهانة. وانتشرت في صفوفهم مشاعر التمرد والعصيان، ورفضوا تطبيق الأوامر. ولم يفهم المجاهدون الذين أثبتوا شجاعتهم في المعارك وتحدوا خط موريس وشهدوا أجساد رفاقهم تصعق بالكهرباء وأشلاءهم تتناثر في حقول الألغام كيف يطلب منهم الآن أن يعاد تدريبهم على يدي ضباط فارين من الجيش الفرنسي. على إثر هذه الإهانة أعلن حمى لولو خروجه عن النظام، ورفض أي أمر يصدر عن قيادة أركان الشرق أو الحكومة الموقتة. وكانت قيادة أركان الشرق قد استخلصت الدرس من استسلام أحمد حمبلي فلم تقطع التموين عن جنوده. واستمرت هذه الوضعية إلى غاية سنة 1960. ولما استلم بومدين قيادة الأركان العامة تصرف بحكمة، وحاول وضع حد لتمرد حمى لولو عن طريق الحوار والاقتناع. فطلب من عبد الرحمن بن سالم أن يتصل به، لكن حمى لولو رفض استقباله، وأطلق النار عليه من بعيد. لأن حمى لولو كان يلوم بن سالم على عدم اتخاذ موقف من إعدام عواشرية وتسليمه لأحمد دراية للحكومة الموقتة. وباءت المحاولة الثانية التي قام بها الطاهر الزبيري بالفشل أيضًا. ثم لجأ هواري بومدين إلي وطلب مني التوسط بينه وبين الفيلق المتمرد، عرفت حمى لولو في سنة 1956 أثناء الإجتماع الذي عقدناه مع أوعمران ولم ألتق به بعد ذلك. وهو من المجاهدين الأوائل الذين سجلوا مآثر كبرى في القاعدة الشرقية. قصدت المكان الذي تحصن به بالمنطقة الثالثة، وحين أخبروه أن الشاذلي بن جديد قدم للتحاور معه استقبلني بحفاوة كبيرة، وأحسن ضيافتي، وقضيت الليلة في معسكره أشرح له الوضعية الجديدة، ونجحت، بحمد الله، في إقناعه بالعودة إلى النظام كما كنا نقول آنذاك. وما زلت أذكر جملته الأخيرة “أقنعتني، وأثق في كلامك. على جالك أنت نرجع”.

   بعد ذلك كلفني بومدين بالاتصال بالفيلق 56، الفيلق الخامس سابقًا، الذي رفض جنوده، وأغلبهم من بني صالح، الامتثال لأوامر قيادة الأركان بالتحرك من المنطقة الموجودة بين طبرقة وعين الدراهم والانتشار في منقار البط، وكان قبل ذلك قد انضم إلى جيش الولاية الثانية، أو “جيش الجمهورية”، كما كان يقول عنه قائده. كنت أعرف أن مشاعر العصيان مستشرية في صفوف جنوده وقادة كتائبه، ومع ذلك غامرت بنفسي. حاولت في البداية إقناع قائده عمار شمام بتنفيذ خطة القيادة، لكنه حاول التملص من مسؤوليته بالقول إن قادة الكتائب هم من يرفض تنفيذ الأمر. فتوجهت مباشرة نحو قائد كتيبة، كانت بالقرب منا، محاولًا إقناعه بالتخلي عن موقفه. وحين رفض صفعته أمام جنوده. كان من الممكن أن يطلق الجنود النار علي، وهم يشاهدون قائدهم يهان بهذه الطريقة. وعاد في الأخير عمار شمام إلى رشده، وانتشر الفيلق في المكان الذي حددته قيادة الأركان.

النهاية المأساوية لكومندوس حيدوش

      قبل استلام هواري بومدين مهامه على رأس قيادة الأركان زارنا كريم بلقاسم ومحمدي السعيد بعد لقاء طرابلس،. وعقدا معنا اجتماعًا في المنطقة الثانية طرحت خلاله مسألة عبور مسؤولي الولايات والتشكيلات المتواجدة على الحدود التونسية. ثم طلب كريم بلقاسم مني ومن بن سالم أن نقوم بتأمين عبور كتيبة من جنود الولاية الثالثة. وحين شرحنا له صعوبة اختراق خط موريس، وأن هؤلاء الجنود غير مدربين على رشاشات “طومسون” الثقيلة التي يعبرون بها، والتي كانت لا تزال في شحمها داخل الصناديق، وطلبنا منه إمهالنا فترة من الزمن لتدريب الكتيبة وتحضير عبورها في المكان والزمان المناسبين، تدخل محمدي السعيد مخاطبًا بن سالم: “يا سي عبد الرحمن تعرف العيش… دير كما العيش خلط وجوز…” ذهلنا أنا وبن سالم من كلامه اللامسؤول وتهوره واستاخفافه بحياة الجنود. ورفضنا رغم إصرارهما عبور الكتيبة لأنها مغامرة غير محمودة العواقب. كنا نرفض أن نلقي بهؤلاء الجنود الشباب إلى المهلكة. لأننا كنا نعرف أن كريم كان يريد أن يحقق نصرًا إعلاميًا عندما يسمع زملاؤه أن كتيبة عبرت خط موريس بعد زيارته للحدود.

    في شهر جوان 1959 اتخذت قيادة أركان الشرق قرارا يقضي بدخول بعض وحدات الولاية الثانية والثالثة بعد تلقيها تدريبًا مكثفًا في مدارس واد ملاق، وجاء هذا تطبيقًا لقرار القيادة لعدم ولايات الداخل بالسلاح والمؤونة والتجهيزات. وهكذا غادر كومندوس حيدوش مركز الزيتون، وكلف بنقل تجهيزات إرسال من نوع Anrgc9 لإعادة ربط الإتصال بين غار دماو والولاية الثالثة، وكذلك كمية هامة من الأسلحة والأدوية والمال. بينما كلف جنود لزهر دعاس، من الولاية الثانية، بمرافقة الكومندوس ودعمه إلى الولاية الأصلية. بعد وصول الوحدتين إلى مركز قيادة المنطقة الأولى، كلفت أحمد ترخوش بالإشراف على العملية وعينت حداد عبد النور، قائد الناحية العسكرية الأولى، والفاضل بوترفة قائد الناحية العسكرية الثانية، بمرافقة الوحدتين كل في الناحية التي يشرف عليها. وطلبت من الوحدتين أن يقطعا وادي سيبوس باتجاه جبل إيدوغ في نفس الليلة التي يعبرون فيها خط موريس بسبب خطورة المنطقة ووعورتها وتواجد حواجز ومراكز مراقبة عديدة للجيش. ورافقهم في هذه المهمة فوج مختص في نسف الألغام واختراق الأسلاك الشائكة، وزودناهم بزورقين مطاطيين لاجتياز مجاري وادي بوناموسة وسيبوس والممستنقعات العديدة بالمنطقة. في اليوم الموالي التحقت الوحدتان بالناحية التي كان يشرف عليها الفاضل بوترفة الذي قادهم إلى جبل بوعباد. أما المرحلة الثانية فأشرف عليها قائد الناحية حداد عبد النور الذي يعرف المنطقة جيدا بحكم أنه ولد بها. كانت المرحلتان صعبتين بفعل تضاريس المنطقة وكثرة المجاري المائية والمستنقعات وانتشار مراكز المراقبة العسكرية.

     كل المؤشرات كانت تدل على نجاح العملية: وحدتان عسكريتان قوامهما 130 جندي جيدة التدريب، وقادة عسكريون لهم تجربة طويلة في محاربة العدو ويعرفون المنطقة جيدا، ومرشدون من الولاية الثانية يعرفون مخاضات وادي سيبوس. نجح أحمد ترخوش وحداد عبد النور والفاضل بوترفة، مع الفوج المختص في الإختراق، في مرافقة الكتيبتين وعبور الخط. لكن كومندوس حيدوش فشل في اجتياز الواد، بالرغم من أوامري بعدم قضاء الليلة في البساتين المحاذية للوادي. حوصر الكومندوس واستقدم العدو تعزيزات من عنابة والملاح ودام الاشتباك يوما كاملا. واستعمل المجاهدون رشاشات MG الألمانية التي كانت بحوزتهم. وبسبب المقاومة الشرسة التي أبداها المجاهدون اضطر العدو إلى استعمال النابالم والدبابات، وشاهد سكان ضواحي عنابة طائرات T6 تقصف من علو منخفض موقع المجاهدين، وشهد المعركة أيضا فوج من الصحافيين الانجليز، صادف وجوده المعركة في ذلك اليوم، ورغم فشل العبور إلا أنه كان له صدى كبير في الرأي العام العالمي، لأن الصحافيين الإنجليز نقلوا إلى العالم أن فرنسا فشلت في استعادة السلم.

    تختلف الروايات حول فشل هذه العملية. البعض يقول إن المرشدين تخلوا عن الكومندوس، والبعض الآخر يقول إنهم ضلوا الطريق واتجهوا نحو عنابة واضطروا عند بداية المعركة إلى الاختفاء بين وادي سيبوس وسيدي سالم. وآخرون يقولون إن حاجزا عسكريا فرنسيا أوقف مواطنا جزائريا دلهم بالخطأ على المجاهدين ظنًا منه أنهم فرنسيون. استشهد أغلب جنود الكومندوس، ولم ينج منهم إلا ثلاثة أو أربعة أفراد. واليوم ينتصب نصب تذكاري فوق القبر الجماعي تخليدًا لأرواح هؤلاء المجاهدين البواسل.

   كان بن جديد وزيرًا للدفاع من نوفمبر/ تشرين الثاني 1978، وحتى فبراير/ شباط 1979. وأصبح بعد وفاة هواري بومدين رئيسًا للجزائر خلافًا لما كان يعتقد أن يخلف بومدين في الرئاسة مرشحون مثل عبد العزيز بوتفليقة أو محمد صالح يحياوي. حيث كان بن جديد يحسب على أنه تحرري موالي للغرب. أثناء فترة رئاسته، خفف من تدخله في الاقتصاد وخفف المراقبة الأمنية للمواطنين. في أواخر الثمانيات، ومع انهيار الاقتصاد بسبب انخفاض أسعار النفط بسرعة، اشتدت حدة التوتر بين أجنحة النظام الداعمين لسياسة بن جديد الاقتصادية من جهة. ومن المعارضين لسياسة بن جديد والمطالبين بالعودة إلى النهج المؤسس. في أكتوبر/ تشرين الأول 1988، اندلعت احتجاجات شبابية ضد بن جديد احتجاجًا على سياسات التقشف مما أدى إلى انتشار اضطرابات هائلة في مدن وهران، وعنابة، وأخرى أدت إلى أن يقوم الجيش بقمعها بشكل وحشي وأدى هذا إلى مقتل المئات. وفي سعيه للبقاء سياسيًا، دعا بن جديد إلى الانتقال للديمقراطية والسماح بالتعددية الحزبية. على أية حال، تدخل الجيش الجزائري لإيقاف الانتخابات الديمقراطية من جلب حركة الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS) إلى السلطة. مما أدى إلى استقالة بن جديد ودخول البلاد في حرب أهلية دموية وطويلة.

شخصيته

   وُصف بأب الديمقراطية، صاحب طابع لين وسمح وأليف بدون عدوانية ولا تسلط. وهذا مكنه توفير بيئة اقتصادية واجتماعية ملائمة، ترتبط ارتباطا وثيقا بالظروف الدولية المحيطة، التي تميزت حينها بالانفتاح على جميع الأصعدة، وكانت السبيل الوحيد لمجاراة بقية الدول الناشئة التي تبحث عن تعزيز مكانتها والاستفادة من التطورات الحاصلة في شتى الميادين. لقد كان الشاذلي بن جديد مخلصًا في خدمة الجزائر كرئيس وكمجاهد ضمن صفوف جيش التحرير، وسعى إلى رسم إستراتيجية حكم مواكبة للتحولات الدولية التي حملتها رياح الانفتاح الاقتصادي والسياسي آنذاك، وهو ما جعل سنوات حكمه بمثابة الحلقة المفصلية في الحياة السياسية للجزائر التي ألقت بظلالها على جل القطاعات الأخرى، بإجراء تحول جذري نحو الديمقراطية والتعددية، بعدما استجاب دون تردد لرغبة الشعب وكانت بذلك الجزائر سباقة إليها قبل كثير من الدول. وهو ما جعله يلقب بأبي الديمقراطية في الجزائر.

حياة ما بعد الرئاسة

    بعد يناير/كانون الثاني 1992 ابتعد بن جديد عن الحياة السياسة. في أواخر 2008، ظهر بن جديد عندما ألقى خطابًا مثيرًا للجدل في مدينته الأصلية الطارف.

وفاته

   توفي يوم السبت 6 أكتوبر 2012، الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد عن عمر ناهز 83 عامًا، في مستشفى عين النعجة العسكري بالعاصمة الجزائرية حيث كان يرقد في قسم العناية المركزة إثر تعرضه قبل أيام لأزمة قلبية حادة.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى