دراسات أسيويةدراسات استراتيجيةدراسات جيوسياسية

مزاحمة موسكو: هل يؤدي نفوذ تركيا المتزايد بآسيا الوسطى إلى صدام محتمل مع روسيا؟

احتضن المجمع الرئاسي التركي في أنقرة، خلال نهاية الأسبوع الثاني من نوفمبر 2021، ندوة بمناسبة الذكرى السنوية الثلاثين لاستقلال جمهوريات آسيا الوسطى، التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي سابقاً؛ وذلك بالتزامن مع احتفال أذربيجان بمرور عام على انتصارها في حرب “كاراباخ الثانية” بفضل الدعم العسكري واللوجستي التركي الذي حظيت به وساهم في تحرير الإقليم من سيطرة أرمينيا، في ظل انعقاد القمة الرئاسية الثامنة لمنتدى الدول الناطقة بالتركية في اسطنبول؛ الأمر الذي يؤشر على كثافة الانخراط التركي في منطقة آسيا الوسطى، بما يثير تساؤلات حول محددات دور أنقرة المتزايد في تلك المنطقة الاستراتيجية التي باتت بؤرة تنافُس حادة بين القوى الدولية الكبرى: الولايات المتحدة والصين وروسيا، مع كون الأخيرة تعتبر آسيا الوسطى مجالاً محجوزاً لنفوذها الإقليمي، وتُعارض أي محاولات للنفوذ والتمدد من قبل القوى الأخرى المنافِسة.

محددات التغلغل

ثمة العديد من المحددات التي تنطلق من خلالها تركيا للنفاذ الإقليمي وإعادة التموضع في منطقة آسيا الوسطى، بالاستناد إلى الروابط التاريخية واللغوية والثقافية التي تربط بين أنقرة وشعوب تلك الدول التي ظلت لعقود جزءاً من الستار الحديدي للاتحاد السوفييتي السابق خلال حقبة الحرب الباردة في القرن الماضي. ويمكن إلقاء الضوء على أبرز تحركات أنقرة لتوثيق علاقاتها بمنطقة آسيا الوسطى؛ وذلك على النحو التالي:

1– توسيع منتدى التعاون للدول المتحدثة بالتركية: في 3 أكتوبر 2009 تأسس المنتدى ليعزز التعاون في شتى المجالات بين الدول المتحدثة باللغة التركية، وتقوده أنقرة، ويضم أذربيجان، وكازاخستان، وقرغيزستان، وأوزبكستان، وتجري مفاوضات لضم تركمانستان التي تُمَثل في المنتدى مع المجربصفة مراقب. وتلك الدول جميعها كانت خاضعة للاتحاد السوفييتي السابق ونالت استقلالها منذ 3 عقود تقريباً. وكانت تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بها، وعززت تعاونها معها على مدى الحكومات المتعاقبة.

وقد أعلن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، في القمة الافتراضية لأعضاء المنتدى، في أبريل 2021، عن عزمه تحويل المنتدى إلى “منظمة دولية”، وتوسيع عضويته بضم دول جديدة، وهو ما أعلن رؤساء كازاخستان وقرغيزستان وتركمانستان الموافقة عليه، كما سيتم إنشاء بنك للتنمية، وصندوق استثماري مقره العاصمة الكازاخية “نور سلطان” عام 2022؛ وذلك لتعزيز التبادل التجاري بين دول المنتدى الذي تجاوز 7 مليارات دولار سنوياً في 2021.

2– التوظيف الجيوستراتيجي لممرات الطاقة الإقليمية: تسعىتركيا للتحول إلى مركز استراتيجي لنقل التجارة والطاقة من دول آسيا الوسطى الحبيسة نحو أوروبا؛ حيث يبلغ حجم الغاز الطبيعي فيها 34% من الاحتياطي العالمي، بجانب نحو 27% من احتياطيات النفط العالمي، بالإضافة إلى ثروات ضخمة من المياه العذبة والباطنية، واحتياطات هائلة من المعادن والفحم؛ ما يجعلها من أغنى مناطق الطاقة في العالم. وهذا سيوفر لأنقرة مصادر الطاقة التي تفتقر إليها وتمثل تهديداً رئيسياً لاقتصادها المتنامي، كما سيمنحها فرصة للتحكم في ممرات الطاقة من أوروبا وإليها؛ ما يعزز مكانتها الاستراتيجية لدى الاتحاد الأوروبي.

وقد قامت تركيا بإنشاء عدد من الممرات ذات الأهمية الاستراتيجية التي تحقق هذا الهدف، ومنها خط الغاز “ترك ستريم” الذي ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا، وخط غاز “تاناب” الذي ينقل غاز أذربيجان عبر جورجيا والأناضول إلى أوروبا. وفي عام 2017، تم إطلاق أول قطار على خط سكة حديد “باكو – تبليسي – قارص” للربط بين (أذربيجان – جورجيا – تركيا)، ويمتد من بحر قزوين ميناء آلات البحري إلى مدينة كارس شرق تركيا. وهذه الممرات ستستخدم في مبادرة الحزام والطريق الصينية، وفي أواخر عام 2020، تم إرسال القطارات من تركيا إلى الصين والعودة باستخدام طريق باكو – تبليسي – قارص لأول مرة.

كما تم الاتفاق على تطوير حقل الغاز دوستلوك (الصداقة) بين تركيا وأذربيجان وتركمانستان. ويهدف هذا الخط إلى نقل غاز عبر قزوين، بواسطة خط أنابيب من جنوب القوقاز إلى أوروبا مرورًا بتركيا. وتتحفظ روسيا وإيران على إنشاء هذا الخط؛ لأن تركمانستان ستصبح منافساً لهما في سوق الغاز الأوروبية، كما تعمل على افتتاح ممر “ناختشفان” وفقًا لاتفاقية وقف إطلاق النار الموقعة في 10 نوفمبر 2020، بين أرمينيا وأذربيجان، ليربط منطقة ناخجوان الأذربيجانية عبر أرمينيا بأذربيجان. وهذا من شأنه أن يوفر لتركيا ممراً مباشراً إلى حوض بحر قزوين. وفي 1 أكتوبر 2021 انطلقت أول رحلة من إسطنبول إلى مطار “أوش الدولي” بقرغيزستان منذ 8 سنوات؛ ما يربط الأخيرة بـ19 دولة في العالم عبر تركيا.

3– تكثيف التعاون الدفاعي الأمني بآسيا الوسطى: تكثف أنقرة تواصلها الاستراتيجي مع دول آسيا الوسطى من خلال الاتفاقيات الثنائية، لا سيما في مجال التعاون الدفاعي والأمني والعسكري. وقد مثَّل انتصار أذربيجان في حربها التاريخية الممتدة مع أرمينيا، عام 2020، بمعدات عسكرية تركية أبرزها المسيرات (بيرقدار)؛ أكبر ترويج للصناعات الدفاعية التركية التي تستعد أنقرة لتصديرها إلى دول آسيا الوسطى؛ حيث أعلنت أوزبكستان اهتمامها بمنتجات تركيا الدفاعية، وتعمل مع شركات تركية مختلفة، كما تعمل مع أوزبكستان على توقيع اتفاقية تجارة حرة؛ حيث تولي أنقرة أهمية لأوزبكستان؛ لأنها أكبر دول المنطقة، وثاني دولة ناطقة باللغة التركية بعد تركيا.

وفي 1 أكتوبر 2021، أعلنت أنقرة عن تقديم المساعدة لقرغيزستان بالمعدات العسكرية وتدريب أفراد الأمن. وفي منتصف أكتوبر 2021 أعلنت طاجيكستان وتركيا عزمهما رفع حجم التجارة الثنائية إلى مليار دولار في السنوات المقبلة، ومنها معدات عسكرية تركية، وتم إنشاء نحو 60 مؤسسة صناعية مشتركة بينهما، وتشغيل الرحلات المباشرة عبر الخطوط الجوية التركية لربط طاجيكستان بأوروبا؛ وذلك رغم أنها ليست عضواً في منتدى “الدول التركية”، وتتحدث الفارسية وتعد حليفة لإيران في المنطقة.

4– اهتمام تركي متصاعد بالملف الأفغاني: أبدت تركيا اهتماماً كبيراً بالملف الأفغاني حتى قبل الانسحاب الأمريكي، في أغسطس 2021؛ حيث أعلنت عن رغبتها في إدارة مطار كابول بعد الانسحاب بغية تعزيز نفوذها في آسيا الوسطى. ورغم أن ذلك الهدف لم يتحقق وتم سحب القوات التركية من أفغانستان، فإنها تنسج حالياً علاقات متميزة مع حركة “طالبان” الحاكمة في كابول، واستقبلت وفداً موسعاً من الحركة لبحث سبل تقديم كافة أشكال الدعم الاقتصادي واللوجستي والسياسي لأفغانستان خلال الفترة المقبلة، والترويج لدمج حركة طالبان على الصعيدين الإقليمي والدولي؛ ما سيحقق هدفها بأدوات أخرى.

5– استغلال القواسم الثقافية واللغوية والتاريخية المشتركة: استخدمت تركيا خطاباً سياسياً قومياً منذ اعترافها بدول آسيا الوسطى، وروجت لانتماء هذه الشعوب إلى القومية التركية الواحدة، ومثلت نموذجاً ثقافياً اقتصادياً تنموياً يتطلعون إليه؛ وذلك بفعل القواسم الثقافية الاجتماعية الدينية المشتركة بينها، ومنها الديانة الإسلامية التي تعتنقها غالبية شعوب تلك الدول، واللغة تركية المنتشرة، وتبني ذات القيم الاجتماعية.

وتُرحِّب غالبية تلك الدول بالانخراط التركي بمختلف أدواته الصلبة والناعمة؛ حيث اعتمدت أنقرة على عدة أدوات ثقافية لتحقيق تغلغلها في دول آسيا الوسطى، ومنها تقديم المساعدات والمشاريع الخيرية؛ حيث أنشأت مؤسسة “تيكا” (وكالة التعاون والتنسيق التركية)، عام 1992، بهدف مساعدة الجمهوريات في آسيا الوسطى بعد استقلالها؛ حيث كانت تعاني من أزمات اقتصادية، واستمرت في تقديم ذلك الدعم حتى اليوم.

وفي عام 2018 أعلنت “تيكا” عن تنفيذ 761 مشروعاً خيرياً في قرغيزستان، و725 في أوزبكستان منذ 1992. وقدمت تركيا مِنحاً لطلاب دول آسيا الوسطى تحت عنوان “مشروع الطلاب الكبير”، إضافة إلى تأسيس مئات المدارس والجامعات التركية بتلك الدول. كما تقوم تركيا ببناء وتطوير المساجد العثمانية في تلك الدول، وبنت أكبر مسجد في آسيا الوسطى بتكلفة 35 مليون دولار، تم بناؤه من قبل مؤسسة الوقف التركي “ديانت” في العاصمة القرغيزية بيشكيك عام 2019، كما تستعد شركة “تورك أوزغوفن” التركية لبناء أعلى ناطحة سحاب في آسيا الوسطى، بالعاصمة الأوزبكية طشقند.

رفض روسي

تعتبِر موسكو دول آسيا الوسطى منطقة نفوذ لها وفناءً خلفياً لمصالحها الاستراتيجية، وجزءاً لا يتجزأ من مجالها الحيوي الذي يجب أن تستمر هيمنتها عليه مهما كانت الاعتبارات. ومن ثم، فإن الانخراط التركي الكثيف في المنطقة سيؤدي إلى تهديد آني ومستقبلي للمصالح الروسية في آسيا الوسطى، وهو ما ترفضه موسكو بوجه عام. وقد بدا ذلك من خلال السلوك الروسي تجاه تركيا مؤخراً، الذي تضمن عدداً من المؤشرات أبرزها ما يلي:

1– استبعاد أنقرة من المشاركة بمؤتمر موسكو حول أفغانستان: تسعى موسكو إلى ملء الفراغ الذي خلَّفه الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وتعزيز نفوذها في دول آسيا الوسطى. وفي هذا السياق، قامت روسيا باستبعاد تركيا من أي ترتيبات سياسية أو عسكرية إزاء الحالة الأفغانية تمت خلال الأشهر الماضية، فلم تَدْعُ موسكو أنقرة للمشاركة في أي اجتماع حول أفغانستان أو في أي مناورة عسكرية استضافتها دول آسيا الوسطى لمجابهة التداعيات الأمنية الناجمة عن الانسحاب الأمريكي من كابول، بالنظر إلى أن موسكو تعتبر أنقرة ممثلة لحلف “الناتو” الذي ترفض روسيا بشدة وجوده العسكري في المنطقة.

2– الاعتراض على تعاون دول المنطقة دفاعياً مع تركيا: اعترضت موسكو على صفقة بيع معدات عسكرية تركية لأوكرانيا عام 2020 تشمل المسيرات التركية “بيرقدار”؛ وذلك بعد رفض أنقرة الاعتراف بشرعية انضمام جزيرة القرم إلى روسيا وتقاربها مع أوكرانيا وتبادُل الرئيسين الزيارات خلال الفترة الماضية، كما شاركت أنقرة في “منصة القرم” بكييف، عام 2021، وهو ما اعترضت عليه موسكو.

كما أعلنت أنقرة، في ديسمبر 2019، منح نحو 12 مليون دولار لوزارة الدفاع بجورجيا لإصلاح اللوجستيات العسكرية في البلاد بعد الحرب الأخيرة ضد روسيا، وهو ما اعتبرته موسكو تعدياً على الأمن القومي الروسي، كما تمتعض موسكو من استمرار عقد صفقات السلاح وتصدير المعدات العسكرية التركية لدول آسيا الوسطى؛ ما يهدد مكانة روسيا كمورد أول للسلاح إلى تلك المنطقة.

3– العمل على عرقلة ممرات الطاقة التركية: تسعى موسكو إلى عرقلة خطوط وممرات الطاقة التي تعتزم تركيا إنشاءها؛ لأن نجاح تركيا في التحول إلى نقطة توزيع وممر استراتيجي لإمدادات الطاقة، من شأنه أن يعزز مكانة أنقرة كمعبر لنقل الطاقة إلى أوروبا، وسيؤدي إلى تراجع الأهمية الاستراتيجية للغاز الروسي لدى أوروبا، لا سيما في ظل ارتفاع أسعاره عالمياً، والخلافات السياسية المتزايدة بين أوروبا وموسكو.

وخلال السنوات الأربع الأخيرة، تداخلت وتشابكت المصالح التركية والروسية في عدد من الأقاليم الاستراتيجية، ومنها الملفان السوري والليبي وشرق المتوسط، وزيادة النفوذ التركي بمنطقة البلقان والقوقاز؛ لذا تسعى موسكو إلى إثارة النزاعات بتلك الملفات للضغط على أنقرة وإبعادها عن آسيا الوسطى (منطقة النفوذ الروسي التقليدية التي لا ترضى مزاحمة أي قوة دولية أو إقليمية أخرى فيها).

5– مساعٍ روسية متزايدة لإضعاف حلف الناتو: لا يمكن لروسيا إغفال أن تركيا عضو بحلف “الناتو” المناوئ لها، وترى أن السماح لأنقرة بأي دور في آسيا الوسطى وتعزيز علاقات الشراكة التركية بدول المنطقة، هو إضافة إلى رصيد الناتو، وخصمٌ من نفوذها التقليدي بالمنطقة؛ ما سيؤثر سلباً على علاقات موسكو المتوترة بالحلف. كما أن تعزيز النفوذ التركي في آسيا الوسطى سيساهم –من وجهة نظر روسيا– في إعادة انخراطها في علاقات متميزة بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية؛ لأن أهميتها الجيوستراتيجية ستتضاعف، كما أنها ستعمل كوكيل سياسي وعسكري للناتو وواشنطن في دول آسيا الوسطى؛ ما يهدد النفوذ الروسي بالمنطقة.

صدام محتمل

وختاماً؛ فإنه رغم الرفض الضمني والتحفظ الرسمي الروسي على تصاعد الدور التركي في آسيا الوسطى، فإن هناك العديد من الملفات المشتركة بين الجانبين تسعى أنقرة وموسكو للحفاظ عليها، ومنها الملفان السوري والليبي، ومستقبل الصراع بين أذربيجان وأرمينيا، فضلاً عن صفقة الصواريخ الروسية “إس 400″، والتعاون الاقتصادي والعسكري بينهما. وقد نجحت القيادتان السياسيتان بالدولتين، ممثلتين في الرئيسين “فلاديمير بوتين” و”رجب طيب أردوغان”، في إدارة الخلافات بين البلدين لتحقيق مصالحهما المتعارضة، عبر التفاوض والتنسيق المستمر، ومع ذلك فإن حدوث صدام بين أنقرة وموسكو في ملفات آسيا الوسطى أمر محتمل، حال تغير مدركات القيادة السياسية. وربما يحدث مثل هذا الصدام دون أي مواجهات عسكرية، من خلال تعزيز التنافس السياسي، وخوض “حروب بالوكالة”، وإشعال فتيل الأزمات بتلك الدول. وهذا سينعكس على أقاليم أخرى تتداخل فيها المصالح التركية الروسية، مثل الشرق الأوسط، والبحر الأسود، والبلقان.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى