معضلة إيفرجراند: هل يشهد العالم أزمة مالية عالمية جديدة؟

ارتفعت المخاوف في الآونة الأخيرة من حدوث أزمة ائتمان جديدة على غرار ما تعرضت له الاقتصادات العالمية في عام 2008، وسط تباين الآراء حول انهيارات الأسواق العالمية، إثر تفاقم أزمة إيفرجراند الصينية (إحدى أكبر شركات العقارات العالمية)، إذ لم تتمكن شركة إيفرجراند من سداد استحقاق فوائد سندات مارس 2022 الدولارية البالغة 83 مليون دولار، ولم تشهد البنوك المرتبطة بها تدفق أي دفعات فائدة إلى حسابات عملاء الشركة الدائنين، التي تخص سندات العملاق العقاري، كما انتهت فترة سماح الثلاثين يوماً على مدفوعات سندات بقيمة 150 مليون دولار؛ ما دفع الشركة إلى إعلان تخلفها عن السداد رسمياً.

ملامح الأزمة

أعلنت إيفرجراند في منتصف سبتمبر 2021، أنها تواجه مخاطر التخلف عن سداد ديونها في موعدها، وسط تراجع مبيعات العقارات، كما أوضحت أن شركتين تابعتين لها فشلتا في تسديد التزامات بقيمة 150 مليون دولار في الموعد المحدد، لينهار سعر سهمها على الفور إلى مستويات غير مسبوقة، وتسود حالة من الخوف وسط المستهلكين المتعاقدين على أكثر من 1.6 مليون وحدة سكنية من المفترض أن تعمل الشركة على تطويرها، وتتمثل ملامح الأزمة فيما يلي:

1- تزايد الديون على “إيفرجراند”: تصنف مجموعة إيفرجراند باعتبارها ثاني أكبر المطورين العقاريين في الصين، كما تعتبر ثاني أكبر مجموعة في العالم من حيث الإيرادات. وتطرح الشركة 14.5% من أسهمها في سوق هونج كونج، واتسمت أعمالها بالنشاط والنمو المتسارع في الإيرادات والمشروعات، حتى عام 2018 بمعدل تضاعُف بلغ 6.5 مرة مقارنةً بسعر سهمها في بداية الطرح نوفمبر 2009،  

وقدبدأت وتيرة المبيعات والإيرادات التشغيلية للشركة تتراجع منذ عام 2018، بالتزامن مع ارتفاع مصروفات الديون الناجمة عن قروض تم التوقيع عليها في فترة نمو النشاط، بإغراء من التوسعات الكبيرة وأحجام الأعمال والإقبال على منتجات الشركة، حتى بلغت قيمة مديونيتها نحو 572 مليار دولار كقروض من البنوك والمؤسسات المالية الأخرى؛ منها 240 مليار دولار مستحقة في أقل من عام واحد، ووصل حجم أعباء الدين إلى 300 مليار دولار (بما يُعادل نحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي للصين)، على الرغم من أن قيمة أصول إيفرجراند تبلغ 352 مليار دولار.

وتخلفت الشركة في 2018 عن سداد ديون بأكثر من 4 مليارات دولار، ثم جاءت تداعيات جائحة كورونا وفاقمت الأزمة، حتى منحت الشركة تخفيضات على وحداتها وعقاراتها بنحو 30% خلال 2020، في محاولة لجذب العملاء؛ ما أدى إلى تراجع أسهم الشركة بنسبة 11% في منتصف سبتمبر 2021، ليبلغ إجمالي انخفاضها نحو 80% منذ بداية العام.

2– تراجع مبيعات وأرباح الشركة: شهدت مبيعات الشركة الصينية تباطؤاً ملموساً خلال عامي 2019 و2020، بنسبتَي 2% و6% على التوالي، مقارنةً بنحو 59% عام 2016، ثم تراجعت أرباح الشركة بنسبة 29% لتصل إلى 10.5 مليار دولار خلال النصف الأول من العام الجاري، مقارنةً بالفترة المناظرة من عام 2020.

3– تخفيض التصنيف الائتماني للشركة: خفضت وكالات التصنيف الائتماني الثلاث الكبرى؛ “ستاندرد آند بورز”، و”فيتش”، و”موديز” من تصنيفها للشركة خلال شهر سبتمبر 2021، في ظل ضعف السيولة، ومخاطر التخلف عن سداد الديون؛ ما أسهم في ارتفاع معدلات الفائدة على مديونية الشركة. ونظراً إلى كون القروض بفائدة متغيرة بالتزامن مع احتياج الشركة إلى سيولة بنكية، فقد ارتفعت الفائدة ومصروفات الدين على نحو مُركَّب؛ ما شكَّل عامل ضغط على الإيرادات.

4– بيع أسهم حصص كبيرة في الشركة: أقرت إدارة إيفرجراند، في سبتمبر 2021، بالمصاعب المالية التي تواجهها، وعلى رأسها شحُّ السيولة، واتجاهها إلى تعيين مستشارين لبحث عملية إعادة الهيكلة. وفي ضوء ضعف السيولة المتاحة، اضطرت الشركة إلى التفاوض مع الدائنين لإعادة جدولة الديون وتسويتها بأقل تكلفة ممكنة. وفي 22 سبتمبر الماضي، قامت وحدة العقارات التابعة للشركة بتسوية دفعة الفائدة المستحقة في 23 سبتمبر 2021 على سنداتها المُقوَّمة باليوان، بعد التفاوض مع الدائنين خارج غرفة المقاصة، لكنها لم تستطع الدفع، وأعلنت التخلف رسمياً عن سداد 7.4 مليار دولار من السندات المستحقة عام 2022 المقبل؛ الأمر الذي فجَّر أزمة مالية في الصين.

وقد دفع ذلك عدداً من المستثمرين الكبار في الشركة إلى التخارج من استثماراتهم، وبيع أسهم وحصص كبيرة في الشركة، بعدما تحمَّلوا خسائر فادحة؛ منهم شركة “تشاينيز إيستيتس هولدينجز” التي باعت 108.9 مليون سهم مقابل 246.5 مليون دولار هونج كونج (31.7 مليون دولار) في أقل من شهر، وسط توقعات بأن تتخلى عن باقي حصتها، رغم تحقيق خسارة مالية بنحو 9.5 مليار دولار هونج كونج حال التخارج بالكامل. ولقدحاولت حكومة بكين السيطرة على الأزمة من خلال ضخ 14 مليار دولار في النظام البنكي لتوفير السيولة، كما رهنت شركة إيفرجراند بعض ممتلكاتها ومعداتها لتأمين سداد جزء من القروض التي بلغ متوسط سعر فائدتها 9.02%، لكن لا تزال الأزمة قائمة.

تداعيات متباينة

تتمثل أبرز تداعيات أزمة إيفرجراند على الاقتصاد الصيني والعالمي في التالي:

1- التأثير على قطاع العقارات الصيني: تضم سوق العقارات الصيني حالياً عدداً كبيراً من الشركات الصغيرة التي تعاني أزمات مالية؛ ما يسفر عن وجود العديد من مشروعات البناء غير المكتملة التي يتم هدمها أو تفجيرها؛ فقد قامت الحكومة الصينية بتفجير نحو 15 مبنى سكنياً غير مكتمل في مدينة كونمينج، في أغسطس 2021، كما تم هدم مبانٍ أخرى ظلت غير مكتملة طوال 20 عاماً في مدينة شنجهاي؛ وذلك في أبريل 2021.

ومن المرجح اتساع نطاق الأزمة لتشمل مزيداً من الشركات العقارية الصينية، بما في ذلك شركات التطوير العقاري الرئيسية، فضلاً عن صغار المطورين العقاريين؛ ففي ضوء تقييد وصول الشركات إلى التمويل المصرفي، من المحتمل أن يتعرض مزيد من شركات التطوير العقاري –لا سيما ذات المركز المالي الضعيف– لمصاعب مالية هي الأخرى، ولعل في مقدمتها شركة “تشاينا فورتشن لاند ديفيلوبمنت” (China Fortune Land Development). ومن المتوقع أن تؤدي أزمة الشركات العقارية –إن لم يتم التعامل معها– إلى زيادة مخاطر الاستثمار في القطاع العقاري على المديين القصير والمتوسط، ومن ثم تراجع معدلات نمو هذا القطاع، وما لذلك من تداعيات سلبية على الاقتصاد الصيني.

2- أزمة ائتمان في البنوك الصينية والأجنبية: في حالة إفلاس شركة إيفرجراند، سيتم انكشاف العديد من البنوك والمؤسسات المالية على ديون الشركة، وسيتضرر نحو 170 بنكاً صينياً و120 بنكاً أجنبياً؛ مما يشكل صدمة في القطاع البنكي، فضلاً عن 160 مليار دولار ديوناً لصالح الشركات التي تورد مواد البناء إلى شركة إيفرجراند، والتي بدورها تمتلك أكثر من 1300 مشروع سكني بـ280 مدينة صينية، وأكثر من 1.4 مليون وحدة سكنية بها لم تكتمل؛ ما يعني أنها لن تستطيع بيعها؛ ما يفاقم أزمة البنوك؛ حيث إن نحو 41% من أصول النظام المصرفي الصيني ذات ارتباط بشكل مباشر، أو غير مباشر بقطاع العقارات بنهاية عام 2020.

3- تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني: من المُرجَّح أن تسهم الأزمة في تباطؤ أداء الاقتصاد الصيني في الأجل القصير، خاصةً أن قطاع العقارات يُسهم بنحو ثلث الناتج المحلي الإجمالي للصين. ومؤخراً، خفَّضت وكالة فيتش توقعاتها لنمو الاقتصاد الصيني لعامي 2021 و2022، ليبلغ 8.1% و5.2% على التوالي، مقارنةً بنحو 8.4% و5.5%، في ضوء ضعف سوق العقارات الصينية.

4- تأثير الأزمة على الاقتصاد الأسترالي: تعتبر الأزمة الحالية للعملاق الصيني بمنزلة ناقوس خطر للاقتصاد الأسترالي؛ حيث تعد الصين الشريك التجاري الأكبر لأستراليا بحجم تبادل تجاري بلغ نحو 233 مليار دولار خلال عام 2020 الماضي. ومن أكثر القطاعات الاقتصادية تضرراً بالأزمة سوق الأوراق المالية، وسوق المعادن العالمية، ومن ثم تضررت الصادرات الأسترالية؛ حيث بلغت صادرات أستراليا من خام الحديد إلى الصين نحو 85 مليار دولار خلال العام الماضي، ومن ثم يسهم تراجع سوق العقارات الصينية في انخفاض الطلب على الحديد والأسمنت؛ ما يؤدي إلى انخفاض الأسعار عالمياً، كما أن التراجع الحر لأسواق الأوراق المالية لديه القدرة على دفع الاقتصادات إلى التراجع أيضاً؛ حيث تتراجع الشركات عن مشاريع الاستثمار وتؤخر توظيف العمال.

5- التأثير سلباً على سوق العمل الصينية: يؤدي إفلاس أو تعثر الشركة مالياً إلى تسريح العمالة لديها، وهي توظف 200 ألف شخص وتوجد في أكثر من 280 مدينة وتستحدث 3,8 مليون وظيفة صينية بشكل غير مباشر؛ ما يزيد معدل البطالة الصينية، وينعكس سلباً على مستويات دخول الأفراد، فينخفض مستوى المعيشة وينخفض الطلب بوجه عام؛ ما يعرض الاقتصاد الصيني لحالة ركود.

6- الإضرار ببعض الشركات الدولية: تمتلك “إيفرجراند” أكثر من 1300 مشروع في أكثر من 280 مدينة في الصين، واستعانت على تنفيذها بالتعاون الاستراتيجي مع أكثر من 860 شركة حول العالم. وعليه، فمن المحتمل أن يؤثر تعثر الشركة الصينية على نشاط تلك الشركات وعلى موقفها المالي.

وتشير التقديرات إلى احتمالية تعرض نحو 10% من مبيعات الشركات الأمريكية العاملة في مجال الصناعة التحويلية لمخاطر تلك الأزمة، بالإضافة إلى شركات المواد الخام الأساسية في أوروبا، مثل شركتي “أنجلو أميركان” و”جلينكور”، وشركات صناعة الأسمنت الأوروبية. وعلى الرغم مما تخلفه أزمة إيفرجراند من تكاليف مالية مباشرة على الاستثمارات والشركات الأجنبية، فإن الحد الأعلى للتعرض الأجنبي لديون إيفرجراند هو 18 مليار دولار من سندات العملات الأجنبية، ولكن مثل سندات الصين الخارجية بوجه عام، ستحتفظ بجزء كبير من قبل كيانات خارجية تابعة لشركات صينية. ومن ثم، فإن التكاليف غير المباشرة للمستثمرين الأجانب ستكون محدودة، نظراً إلى ضعف حجم الاستثمارات عبر الحدود مع الصين. وفي حين ارتفعت المخاوف لدى المستثمرين من جراء حدوث هبوط حاد في الأسواق العالمية، قد يؤدي إلى اضطرابات في الأسواق المالية؛ فإن هذا من المحتمل أن يؤجل خطط سحب التحفيز النقدي في الاقتصادات المتقدمة، وإن كان يؤثر بدرجة أشد على العديد من الأسواق الناشئة.

وختاماً، من المستبعد أن تؤدي ديون عملاق العقارات الصينية “إيفرجراند” إلى أزمة مالية عالمية مثل أزمة 2008؛ حيث إن القطاع المصرفي العالمي الراهن أشد قوةً وصلابةً، ويمتلك سيولة مالية ضخمة وملاءة ائتمانية كبيرة تسهم في رفع قدرته على الاستمرار بقوة مقارنة بوضعه خلال عام 2008. ومن ثم، تختلف الأزمة الحالية اختلافاً جوهرياً عن أزمة عام 2008 من حيث هيكل وحجم تأثيرها على القطاعات المختلفة، سواء القطاعات العقارية عالمياً أو القطاع المصرفي. كما أن حجم ديون الشركة لا يتخطى 300 مليار دولار، في حين أن حجم الاقتصاد الصيني يتخطى 16 تريليون دولار مع ناتج محلي إجمالي يتخطى 14 تريليون دولار؛ ما يجعل الحكومة قادرة على احتواء تلك الأزمة بسهولة.

وبالتالي يمكن القول إن أزمة “إيفرجراند” اختبار مالي صعب للحكومة الصينية، لكنها بدورها لن تسمح بزعزعة النظام المالي لديها، خاصةً أنه لا يزال لديها حساب رأسمالي مغلق يترك مجالاً واسعاً لإعادة هيكلة الديون محلياً؛ ما يجنب السيناريو الأسوأ المتمثل في تصفية الشركة، أو تعرضها للإفلاس، وسيحد في الوقت ذاته من انتقال تداعيات أزمة الشركة إلى الأسواق الدولية، ومن ثم الحد من فرضية تشابه أزمة “إيفرجراند” مع انهيار بنك “ليمان براذرز” الأمريكي، وحدوث أزمة 2008.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button