دراسات تاريخية

مع عبد الناصر والسادات سنوات الانتصار وأيام المحن.. مذكرات مراد غالب

محمد عبدالرحمن عريف

    هو الدكتور مراد غالب (1922 – 18 ديسمبر 2007 / 8 ذو الحجة 1428هـ) من مواليد الشرقية بمصر وعاش وتربى بحي مصر الجديدة بالقاهرة. تخرج في كلية الطب وأصبح طبيباً ثم حصل على شهادة الدكتوراة وعمل أستاذاً للأنف والأذن والحنجرة بكلية طب الإسكندرية. كان على علاقة صداقة قوية جداً بثلاثة من ضباط الجيش المصري هم صلاح الدسوقي وحسن التهامي وكمال رفعت، وكان له أنشطة وطنية معهم قبل حركة يوليو 1952. وقد ساعدت صداقته المذكورة على توطيد علاقته لاحقاً بجمال عبد الناصر.

     بعد حركة يوليو أقنعه جمال عبد الناصر بترك الطب والدخول في العمل السياسي، وفي عام 1953 عيّنه سكرتيراً ثالثاً للسفارة المصرية بموسكو مرافقاً للفريق عزيز المصري، سفير مصر في موسكو في حينه، وبقي بها حتى عام 1958. خلال هذه الفترة أتقن اللغة الروسية وأقام علاقات وصداقات وثيقة جداً بالقيادات الروسية. انتقل بعد ذلك للعمل كمستشارٍ للرئيس جمال عبد الناصر ثم وكيلاً لوزارة الخارجية ثم سفيراً لمصر بالكونغو.   محمد عبدالرحمن عريف
هو الدكتور مراد غالب (1922 – 18 ديسمبر 2007 / 8 ذو الحجة 1428هـ) من مواليد الشرقية بمصر وعاش وتربى بحي مصر الجديدة بالقاهرة. تخرج في كلية الطب وأصبح طبيباً ثم حصل على شهادة الدكتوراة وعمل أستاذاً للأنف والأذن والحنجرة بكلية طب الإسكندرية. كان على علاقة صداقة قوية جداً بثلاثة من ضباط الجيش المصري هم صلاح الدسوقي وحسن التهامي وكمال رفعت، وكان له أنشطة وطنية معهم قبل حركة يوليو 1952. وقد ساعدت صداقته المذكورة على توطيد علاقته لاحقاً بجمال عبد الناصر.
بعد حركة يوليو أقنعه جمال عبد الناصر بترك الطب والدخول في العمل السياسي، وفي عام 1953 عيّنه سكرتيراً ثالثاً للسفارة المصرية بموسكو مرافقاً للفريق عزيز المصري، سفير مصر في موسكو في حينه، وبقي بها حتى عام 1958. خلال هذه الفترة أتقن اللغة الروسية وأقام علاقات وصداقات وثيقة جداً بالقيادات الروسية. انتقل بعد ذلك للعمل كمستشارٍ للرئيس جمال عبد الناصر ثم وكيلاً لوزارة الخارجية ثم سفيراً لمصر بالكونغو.
البدايات تأتي مع 24 ديسمبر من عام 1977، عندما تم تعيين محمد إبراهيم كامل وزيراً لخارجية مصر. لقد ظل هذا المنصب شاغراً مدة خمسة أسابيع بعد أن استقال إسماعيل فهمي، ثم وزير الدولة لشؤون الخارجية محمد رياض، وتبعهما معظم سفراء مصر في الخارج باستقالات جماعية، احتجاجاً على إعلان الرئيس السادات نيته زيارة إسرائيل. وقد نفذ السادات في 19 نوفمبر 1977 زيارته تلك يرافقه وزير الدولة للشؤون الخارجية المعين تواً بطرس غالي، دون أن يكون لمصر وزير خارجية. لقد تأخر تعيين الوزير نظراً لاعتذار الدكتور محمد مراد غالب، سفير مصر في يوغسلافيا آنذاك، عن قبول هذا المنصب.
مراد غالب شاهد على العصر
نحن نستمع إلى شهادة المصري العتيق الدكتور مراد غالب على العصر على شاشة الجزيرة، كنّا نعرف أنه لم يقيّض له أن يُنصت معنا إلى الحلقات الثماني التي صُوّرت معه، ففاتنا نفعٌ كثيرٌ من عدم إكماله روايته محطات رحلته المديدة في العمل السياسي والدبلوماسي والوطني والقومي، وقد وافته المنيّة رحمه الله بعد تصويره حلقة شديدة الإفادة عن الذي سبق وأعقب ما سماها كارثة ،1967 وقد وقفَ على تفاصيلَ مثيرة وبالغة الحساسية في تلك المرحلة، ليس فقط من موقعه سفيراً مهمّاً لمصر في الاتحاد السوفييتي، بل أيضًا لما كان له من صلات واتصالات، ومن علاقات مباشرة بجمال عبد الناصر الذي عمل غالب مديراً لمكتبه ومستشاراً سياسياً له.
هي الأهمية لما أضاءه في الحلقات التلفزيونية أنه كان فيها أميناً في تمييز الذاتي عن الموضوعي في اجتهاداته ومعلوماته ومشاهداته، وكان نقدياً في تعيين الأخطاء في غير محطة في عهد عبد الناصر. وفي الوقت نفسه، كان صريحًا في انحيازه المبدئي لخيارات ناصر ونهجه الوحدوي والقومي.
يَحسن هنا أن نُذكّر أن مراد غالب في السنوات التي أعقبت يوليو 1952 وعمل فيها في سفارة مصر في موسكو، ثم تالياً في أثناء عمله سفيراً في موسكو نفسها من 1961 إلى 1972 ساهم كثيراً في تسليح القوات المصريّة وفي بناء السد العالي وتأمين خطوط الكهرباء وإقامة مصنع الحديد والصلب، وأشرف على تدريب آلاف العمال المصريين. وإذ ينشط الحديث حاليّا عن جهود لإنتاج الطاقة النوويّة السلميّة، يكون طيّباً أن نعرف أنه أدار أول مباحثات مصريّة في هذا الخصوص وكان مسؤولا عن أول برنامج لذلك.
تؤكد تجربته العمليّة في تلك السنوات حذاقته وهمّته العالية في عمله الذي أثبت فيه أن التباين في القناعات الأيديولوجية والخيارات السياسية بين الدول لا يعوق ازدهار العلاقات فيما بينها. ومن هذا الباب ربما تبدو طبيعيةً استقالتُه من منصبه وزيرا للخارجية عند طرد أنور السادات الخبراء السوفييت في 1974 وتالياً انسحابه من العمل السياسي الرسمي احتجاجا على زيارة الرئيس الراحل إلى القدس المحتلة.
كانت شهادةً ثريّة بحقائق التاريخ العربي المعاصر، أمتعنا بها مراد غالب، وإن شاء القدير ألا تكتمل على شاشة التلفزيون، وهي مكتملة ربما في الذي يَحسن أن نعرفه عن عطاءات الرجل ومواقفه الوطنيّة والقوميّة بعد 1967 وهو الذي تأسف مرّة لأن الشعب العربي لا يتّعظ من التاريخ، وبحسرةٍ وصف الذي يحدث حالياً بين الفلسطينيين بأنه نكبة، ورأى أنّ لا مكان للعرب في العالم من دون العلم والديمقراطية. وتمنح الشباب العربي سيرة هذا الرجل دروسًا أخرى، وهو الطبيب الذي انخرط في يفاعته بالعمل الوطني، وكان عصامياً في تعلمه اللغة الروسية، وملتزماً في عمله سفيراً في الكونجو وفي يوغسلافيا، ووزيراً في دولة الوحدة مع ليبيا، وعُرف عنه أنه كان شغوفاً بالمعرفة… يصعب هنا حصر مناقب وعطاءات المصري النظيف مراد غالب، دلّت على بعضها شهادة تلفزيونية لم تكتمل.
غالب في موسكو
كان رجل المهمات الصعبة. فحين ذهب الى موسكو، كانت الغيوم ملبدة في سماء العلاقات، بسبب حبس الشيوعيين المصريين والسوريين لوقوفهم ضد الوحدة وتأييدهم خالد بكداش، زعيم الحزب الشيوعي السوري، في عدائه لقيام الجمهورية العربية المتحدة، ومساندتهم لعبد الكريم قاسم في موقفه الانفصالي، الذي حال دون التحاق العراق بدولة الوحدة. تغلب على كل هذا، وحال دون تحول التوتر الى قطيعة، وكان لهذا ظلال، منها ما ظهر أثناء زيارة خروشوف لأسوان وحضور تحويل مجري النيل، سنة 1964، وكانت المرحلة الأولي في بناء السد العالي، وفيها احتك الزعيم السوفييتي بالرئيس العراقي الراحل عبد السلام عارف، لموقفه من الشيوعيين العراقيين، وعلى الفور تدخل عبد الناصر، مدافعا بقوة عن ضيفه العراقي الكبير.
كان وعي الراحل مراد غالب بخطر المخططات الغربية والصهيونية وحصار الجمهورية العربية المتحدة، وتضييق الخناق عليها، وعقابها على قيادتها لحركة القومية العربية وحركة التحرر العالمية، كان وعيه هذا هو الذي أدي به الى تكريس دوره للارتقاء بالعلاقات العربية ـ السوفييتية، في ظروف حرب باردة شديدة الوطأة، وحركة عدم الانحياز تشق طريقا صعبا وسط الأنواء والأعاصير، وهي ظروف أثرت عليه وصاغت دوره وعلاقاته فيما بعد رحيل عبد الناصر، وانتقال مصر من الاستقلال والتعاون مع الاتحاد السوفييتي وقيادة حركة عدم الانحياز، الى التبعية والانحياز والعمل لحساب السياسة الأميركية والغربية والصهيونية. وحين شعر الفقيد بمغازلة أنور السادات للولايات المتحدة، حذر من عواقب طرد الخبراء السوفييت، وعندما تقرر إبعاده عن مسؤوليته كوزير للخارجية، اختار أن يكون وزيرا مقيما في ليبيا، وكانت ليبيا عضوا في اتحاد الجمهوريات العربية، ضم مصر وسورية وليبيا، وقصة هذا الاتحاد تستحق التسجيل، حيث استغل السادات الحماس الليبي للوحدة، في ذلك الوقت، لتصفية حساباته الداخلية، وعن طريقه صفي الوحدويين والناصريين وأخرجهم من الحكم واعتقلهم، وحكم على عدد منهم بالإعدام، وعدد آخر بالسجن لمدد مختلفة، وباركت القيادة الليبية هذه الأحكام، بعد أن انطلت عليها مسرحية ادعى السادات، من خلالها، أن الوحدويين والناصريين يعملون على تعطيل قيام الدولة الاتحادية الجديدة، وهناك تفاصيل كثيرة في هذا الشأن لا يتسع المجال لذكرها.
مراد غالب مهندس العلاقات المصرية السوفييتية
ليس فقط وزير الخارجية المصري الأسبق في إحدى جلساته للتحضير لتسجيل شهادته في برنامجي التلفزيوني «شاهد على العصر»، عن رؤيته لما آل إليه الوضع في مصر الآن وقراءته للمستقبل؟ نظر نظرة طويلة صامتة، ثم اغرورقت عيناه بالدموع ثم أجهش بالبكاء، جلس المحاور في مكانه صامتًا لا يتحرك ولا يتكلم ويشعر بحرج بالغ مما سببه للرجل الذي جفف دموعه واستعاد رباطة جأشه بعد قليل ثم قال لي: «أعتذر إليك لم أتمالك نفسي»، فقال له: «آمل ألا يكون في سؤالي ما يؤلم، ولكنه السؤال الذي يسأله الجميع في مصر الآن؟ ماذا حل بمصر؟ وما هو مستقبلها في ظل ما هو قائم؟ ولعلك من أقدر السياسيين ذوي الخبرة الذين يمكن أن أجد عندهم الإجابة؟ ورغم أني سأسجل معك حلقات عن التاريخ لكني أعتقد أن الحاضر الذي تعيشه مصر الآن، والمستقبل الذي لا يعلمه إلا الله ليس سوى إفراز ونتيجة لذلك التاريخ الذي شاركت أنت مع آخرين في صناعته». قال الدكتور غالب: «ذلك ما أبكاني… الذي أبكاني هو ما آل إليه وضع مصر الآن، مصر تستحق أفضل من ذلك بكثير، أفضل مما حدث ويحدث لها، فحينما قبلت المشاركة مع رجال الثورة وكنت من المدنيين القلائل القريبين منهم، حيث كنت أعمل أستاذًا للأنف والأذن في كلية الطب وكنت صديقًا منذ الطفولة لصلاح الدسوقي وكمال رفعت وحسن التهامي الذين قدموني بعد الثورة لجمال عبد الناصر، وبعد ذلك طلب عبد الناصر مني أن أترك التدريس في كلية الطب وأتفرغ للعمل السياسي معهم، كنت مليئا بالأمل أننا سنحول مصر إلى واحدة من أفضل دول العالم، فلدينا كل شيء يؤهلنا لذلك، الموقع الجغرافي والتاريخ والإنسان وكافة العوامل الأخرى التي يمكن لنا من خلالها أن نجعل مصر، التي تقع جغرافيا في قلب العالم، أن تكون بالفعل قلب العالم، لكننا للأسف أخطأنا جميعًا ووصلت مصر بأعمالنا إلى ما وصلت إليه الآن، مصر بلد عظيمة، وكانت ولازالت بحاجة إلى أناس عظماء ليضعوها في المرتبة التي تليق بها، هل تعلم لماذا قررت أن أبني هذه الفيلا هنا في الصحراء، حيث أقضي نصف أيام الأسبوع هنا ونصفها تقريبًا في القاهرة إلا إذا كانت لدي اجتماعات هامة في منظمة تضامن الشعوب الأفروآسيوية التي أرأسها؟»، قلت له: «لماذا؟»، قال: «شعرت بأني بحاجة إلى أن أفكر في ما قمت به وما قدمته لبلدي وما كان ينبغي علي أن أقدمه، هنا أجد صفاء ونقاء وصلة بيني وبين الله افتقدتها طوال حياتي، هل تعرف كم أن النهار هنا صاف وهادئ؟ وكم أن الهواء نقي ومنعش؟ وكم أن الليل هنا في الصحراء ساحر؟ لاسيما حينما أنظر إلى السماء وأتأمل النجوم وأتفكر في خلق الله.
كثيرًا ما أبكي على ما آل إليه وضع مصر، لكني عادة ما أكون وحدي لكن سؤالك جعلني لا أستطيع أن أحبس دموعي بعدما قلبت المواجع في نفسي بهذا السؤال الذي صادف هما يلازمني، وهو هم يصاحبه عجز وألم على ما آلت الأوضاع في مصر وما يمكن أن يؤول إليه مستقبلها، ولا أدري هل ما يبكيني هو العجز عن فعل ما كنت أود أن أفعله وأن أرى عليه مصر حينما تركت الطب واشتغلت بالسياسة؟ أم الندم على مشاركتي للآخرين في ما قاموا به وأوصلوا مصر بتصرفاتهم إلى ما وصلت إليه رغم أني لا أشك في وطنيتهم؟ أم أن الإنسان في هذا السن تزداد عاطفته وتغلب عليه الجوانب الإنسانية، فيصبح رقيق القلب والنفس فيتعامل مع الأمور بصورة أخرى فتتغلب عليه عاطفته، وتكون دموعه هي الأقرب في بعض الأحيان؟ كثيرًا ما أفكر في الإنسان المصري وكيف أنه لم يأخذ حظه ليكون له دور في تنمية بلده، فلم يجد مفرا من أن يهاجر ليبدع أو يعيش يائسا محبطا في بلده، لقد فكرت كثيرا في فرص التنمية التي أهدرت وفي النتائج التي وصلنا إليها بعد هذه السنوات ولدي نقاش مطول معك في هذا الموضوع». حدثني عن أشياء كثيرة منها أمور شخصية وحياتية وعلاقات إنسانية ورؤى سياسية، وكان مما حدثني عنه ابنتاه المهاجرتان إلى كندا منى وهدى وأحفاده منهما، وكم يشعر بالأسى لأنهم أصبحوا مثل الكنديين أو كنديين كما قال بالنص، وكم كان يتمنى أن يعودوا إلى مصر جميعا للإقامة فيها، وأنه يحاول إغراءهم بالأماكن الجميلة في مصر لعلهم يفكرون في العودة والإقامة، لأنه يتمنى أن تكون أيامه الأخيرة إلى جوارهم، ثم حدثني بألم عن أسباب الهجرة لكثير من المصريين في بلد لم يكن أهلها يفكرون في الهجرة منها قبل خمسين عاما، بل كانت على مدار التاريخ بلدا يشكل جذبا لكل من يعرفه حتى يهاجر إليه ويقيم فيه، وكانت فيه جاليات مقيمة من كل أصقاع الدنيا مازال هناك بقايا من أهلها يونانيون وأرمن وفرنسيون وإيطاليون بخلاف كثير من العرب والعجم الآخرين، وقبل أن ينقضي اليوم أخذني في جولة داخل الفيلا وخارجها، وقال لي إنه بصدد شراء جهاز جديد لطرد الناموس والحشرات ليلا خارج الفيلا، لأنه يحب صفاء الليل ويحب أن يقضيه خارج الفيلا ليتأمل في السماء، ثم قال لي بجدية: «لابد أن تفكر من الآن في أن يكون لك بيت مثل هذا هنا في عمق الصحراء ستشعر أنك ستعرف الطعم الحقيقي للحياة حينما تخلو فيه مع الكون وخالقه بعيدا عن الناس وعن صخب الدنيا»، ثم انتقل من مجرد الطلب إلى أن قال لي بجدية: «يوجد هنا قطع معروضة للبيع يمكن أن تشتري واحدة منها إن فكرت في الأمر، لا تتردد ولا تأخذ قطعة كبيرة، وإنما صغيرة مثل قطعتي، يكفي فدانان، تبني عليهما فيلا صغيرة وحديقة جميلة مثل هذه تكون ملاذك من صخب الحياة.. لن تندم، وستشعر أن للحياة مذاق آخر».
يبقى أن غالب أعيد إلى موسكو عام 1961 كسفير، وظل بهذا المنصب حتى عام 1972، ولعب دوراً كبيراً بعلاقاته وصداقاته في توطيد العلاقة وإنشائها وتقويتها حتى لُقب بمهندس العلاقات السوفيتية. أعاده الرئيس السادات إلى مصر بعد طرد الخبراء الروس وعينه وزيراً للدولة للشئون الخارجية ثم وزيراً للخارجية ثم وزيراً للإعلام لفترة قصيرة. في عام 1973 عيّنه السادات وزيراً للوحدة مع ليبيا ثم سفير مصر بيوغسلافيا حتى أعلن في نوفمبر 1977 استقالته احتجاجاً على زيارة السادات للقدس وتوقيعه لمعاهدة السلام مع إسرائيل، وفعل نفس الشيء مع كل من وزير الخارجية آنذاك إسماعيل فهمي وسفير مصر بالبرتغال الفريق سعد الدين الشاذلي. في عام 1988 انتخب كرئيسٍ لمنظمة الشعوب الأفروآسيوية وظل في منصبه حتى وفاته يوم الثلاثاء 18 ديسمبر عام 2007. كذلك عالج الدكتور غالب كثيراً من قضايا حركة التحرر الوطني العربية والعالمية. وفي عصر العولمة ركز على أهمية أن تحتل بلداننا مكانها الصحيح، بحيث تستفيد من مزايا العولمة وتتفادى سلبياتها الكثيرة بإعادة تصحيحها بنظام اقتصادي عالمي عادل.

     البدايات تأتي مع 24 ديسمبر من عام 1977، عندما تم تعيين محمد إبراهيم كامل وزيراً لخارجية مصر. لقد ظل هذا المنصب شاغراً مدة خمسة أسابيع بعد أن استقال إسماعيل فهمي، ثم وزير الدولة لشؤون الخارجية محمد رياض، وتبعهما معظم سفراء مصر في الخارج باستقالات جماعية، احتجاجاً على إعلان الرئيس السادات نيته زيارة إسرائيل. وقد نفذ السادات في 19 نوفمبر 1977 زيارته تلك يرافقه وزير الدولة للشؤون الخارجية المعين تواً بطرس غالي، دون أن يكون لمصر وزير خارجية. لقد تأخر تعيين الوزير نظراً لاعتذار الدكتور محمد مراد غالب، سفير مصر في يوغسلافيا آنذاك، عن قبول هذا المنصب.

مراد غالب شاهد على العصر

    نحن نستمع إلى شهادة المصري العتيق الدكتور مراد غالب على العصر على شاشة الجزيرة، كنّا نعرف أنه لم يقيّض له أن يُنصت معنا إلى الحلقات الثماني التي صُوّرت معه، ففاتنا نفعٌ كثيرٌ من عدم إكماله روايته محطات رحلته المديدة في العمل السياسي والدبلوماسي والوطني والقومي، وقد وافته المنيّة رحمه الله بعد تصويره حلقة شديدة الإفادة عن الذي سبق وأعقب ما سماها كارثة ،1967 وقد وقفَ على تفاصيلَ مثيرة وبالغة الحساسية في تلك المرحلة، ليس فقط من موقعه سفيراً مهمّاً لمصر في الاتحاد السوفييتي، بل أيضًا لما كان له من صلات واتصالات، ومن علاقات مباشرة بجمال عبد الناصر الذي عمل غالب مديراً لمكتبه ومستشاراً سياسياً له.

     هي الأهمية لما أضاءه في الحلقات التلفزيونية أنه كان فيها أميناً في تمييز الذاتي عن الموضوعي في اجتهاداته ومعلوماته ومشاهداته، وكان نقدياً في تعيين الأخطاء في غير محطة في عهد عبد الناصر. وفي الوقت نفسه، كان صريحًا في انحيازه المبدئي لخيارات ناصر ونهجه الوحدوي والقومي.

    يَحسن هنا أن نُذكّر أن مراد غالب في السنوات التي أعقبت يوليو 1952 وعمل فيها في سفارة مصر في موسكو، ثم تالياً في أثناء عمله سفيراً في موسكو نفسها من 1961 إلى 1972 ساهم كثيراً في تسليح القوات المصريّة وفي بناء السد العالي وتأمين خطوط الكهرباء وإقامة مصنع الحديد والصلب، وأشرف على تدريب آلاف العمال المصريين. وإذ ينشط الحديث حاليّا عن جهود لإنتاج الطاقة النوويّة السلميّة، يكون طيّباً أن نعرف أنه أدار أول مباحثات مصريّة في هذا الخصوص وكان مسؤولا عن أول برنامج لذلك.

    تؤكد تجربته العمليّة في تلك السنوات حذاقته وهمّته العالية في عمله الذي أثبت فيه أن التباين في القناعات الأيديولوجية والخيارات السياسية بين الدول لا يعوق ازدهار العلاقات فيما بينها. ومن هذا الباب ربما تبدو طبيعيةً استقالتُه من منصبه وزيرا للخارجية عند طرد أنور السادات الخبراء السوفييت في 1974 وتالياً انسحابه من العمل السياسي الرسمي احتجاجا على زيارة الرئيس الراحل إلى القدس المحتلة.

    كانت شهادةً ثريّة بحقائق التاريخ العربي المعاصر، أمتعنا بها مراد غالب، وإن شاء القدير ألا تكتمل على شاشة التلفزيون، وهي مكتملة ربما في الذي يَحسن أن نعرفه عن عطاءات الرجل ومواقفه الوطنيّة والقوميّة بعد 1967 وهو الذي تأسف مرّة لأن الشعب العربي لا يتّعظ من التاريخ، وبحسرةٍ وصف الذي يحدث حالياً بين الفلسطينيين بأنه نكبة، ورأى أنّ لا مكان للعرب في العالم من دون العلم والديمقراطية. وتمنح الشباب العربي سيرة هذا الرجل دروسًا أخرى، وهو الطبيب الذي انخرط في يفاعته بالعمل الوطني، وكان عصامياً في تعلمه اللغة الروسية، وملتزماً في عمله سفيراً في الكونجو وفي يوغسلافيا، ووزيراً في دولة الوحدة مع ليبيا، وعُرف عنه أنه كان شغوفاً بالمعرفة… يصعب هنا حصر مناقب وعطاءات المصري النظيف مراد غالب، دلّت على بعضها شهادة تلفزيونية لم تكتمل.

غالب في موسكو

   كان رجل المهمات الصعبة. فحين ذهب الى موسكو، كانت الغيوم ملبدة في سماء العلاقات، بسبب حبس الشيوعيين المصريين والسوريين لوقوفهم ضد الوحدة وتأييدهم خالد بكداش، زعيم الحزب الشيوعي السوري، في عدائه لقيام الجمهورية العربية المتحدة، ومساندتهم لعبد الكريم قاسم في موقفه الانفصالي، الذي حال دون التحاق العراق بدولة الوحدة. تغلب على كل هذا، وحال دون تحول التوتر الى قطيعة، وكان لهذا ظلال، منها ما ظهر أثناء زيارة خروشوف لأسوان وحضور تحويل مجري النيل، سنة 1964، وكانت المرحلة الأولي في بناء السد العالي، وفيها احتك الزعيم السوفييتي بالرئيس العراقي الراحل عبد السلام عارف، لموقفه من الشيوعيين العراقيين، وعلى الفور تدخل عبد الناصر، مدافعا بقوة عن ضيفه العراقي الكبير.

    كان وعي الراحل مراد غالب بخطر المخططات الغربية والصهيونية وحصار الجمهورية العربية المتحدة، وتضييق الخناق عليها، وعقابها على قيادتها لحركة القومية العربية وحركة التحرر العالمية، كان وعيه هذا هو الذي أدي به الى تكريس دوره للارتقاء بالعلاقات العربية ـ السوفييتية، في ظروف حرب باردة شديدة الوطأة، وحركة عدم الانحياز تشق طريقا صعبا وسط الأنواء والأعاصير، وهي ظروف أثرت عليه وصاغت دوره وعلاقاته فيما بعد رحيل عبد الناصر، وانتقال مصر من الاستقلال والتعاون مع الاتحاد السوفييتي وقيادة حركة عدم الانحياز، الى التبعية والانحياز والعمل لحساب السياسة الأميركية والغربية والصهيونية. وحين شعر الفقيد بمغازلة أنور السادات للولايات المتحدة، حذر من عواقب طرد الخبراء السوفييت، وعندما تقرر إبعاده عن مسؤوليته كوزير للخارجية، اختار أن يكون وزيرا مقيما في ليبيا، وكانت ليبيا عضوا في اتحاد الجمهوريات العربية، ضم مصر وسورية وليبيا، وقصة هذا الاتحاد تستحق التسجيل، حيث استغل السادات الحماس الليبي للوحدة، في ذلك الوقت، لتصفية حساباته الداخلية، وعن طريقه صفي الوحدويين والناصريين وأخرجهم من الحكم واعتقلهم، وحكم على عدد منهم بالإعدام، وعدد آخر بالسجن لمدد مختلفة، وباركت القيادة الليبية هذه الأحكام، بعد أن انطلت عليها مسرحية ادعى السادات، من خلالها، أن الوحدويين والناصريين يعملون على تعطيل قيام الدولة الاتحادية الجديدة، وهناك تفاصيل كثيرة في هذا الشأن لا يتسع المجال لذكرها.

مراد غالب مهندس العلاقات المصرية السوفييتية

    ليس فقط وزير الخارجية المصري الأسبق في إحدى جلساته للتحضير لتسجيل شهادته في برنامجي التلفزيوني «شاهد على العصر»، عن رؤيته لما آل إليه الوضع في مصر الآن وقراءته للمستقبل؟ نظر نظرة طويلة صامتة، ثم اغرورقت عيناه بالدموع ثم أجهش بالبكاء، جلس المحاور في مكانه صامتًا لا يتحرك ولا يتكلم ويشعر بحرج بالغ مما سببه للرجل الذي جفف دموعه واستعاد رباطة جأشه بعد قليل ثم قال لي: «أعتذر إليك لم أتمالك نفسي»، فقال له: «آمل ألا يكون في سؤالي ما يؤلم، ولكنه السؤال الذي يسأله الجميع في مصر الآن؟ ماذا حل بمصر؟ وما هو مستقبلها في ظل ما هو قائم؟ ولعلك من أقدر السياسيين ذوي الخبرة الذين يمكن أن أجد عندهم الإجابة؟ ورغم أني سأسجل معك حلقات عن التاريخ لكني أعتقد أن الحاضر الذي تعيشه مصر الآن، والمستقبل الذي لا يعلمه إلا الله ليس سوى إفراز ونتيجة لذلك التاريخ الذي شاركت أنت مع آخرين في صناعته». قال الدكتور غالب: «ذلك ما أبكاني… الذي أبكاني هو ما آل إليه وضع مصر الآن، مصر تستحق أفضل من ذلك بكثير، أفضل مما حدث ويحدث لها، فحينما قبلت المشاركة مع رجال الثورة وكنت من المدنيين القلائل القريبين منهم، حيث كنت أعمل أستاذًا للأنف والأذن في كلية الطب وكنت صديقًا منذ الطفولة لصلاح الدسوقي وكمال رفعت وحسن التهامي الذين قدموني بعد الثورة لجمال عبد الناصر، وبعد ذلك طلب عبد الناصر مني أن أترك التدريس في كلية الطب وأتفرغ للعمل السياسي معهم، كنت مليئا بالأمل أننا سنحول مصر إلى واحدة من أفضل دول العالم، فلدينا كل شيء يؤهلنا لذلك، الموقع الجغرافي والتاريخ والإنسان وكافة العوامل الأخرى التي يمكن لنا من خلالها أن نجعل مصر، التي تقع جغرافيا في قلب العالم، أن تكون بالفعل قلب العالم، لكننا للأسف أخطأنا جميعًا ووصلت مصر بأعمالنا إلى ما وصلت إليه الآن، مصر بلد عظيمة، وكانت ولازالت بحاجة إلى أناس عظماء ليضعوها في المرتبة التي تليق بها، هل تعلم لماذا قررت أن أبني هذه الفيلا هنا في الصحراء، حيث أقضي نصف أيام الأسبوع هنا ونصفها تقريبًا في القاهرة إلا إذا كانت لدي اجتماعات هامة في منظمة تضامن الشعوب الأفروآسيوية التي أرأسها؟»، قلت له: «لماذا؟»، قال: «شعرت بأني بحاجة إلى أن أفكر في ما قمت به وما قدمته لبلدي وما كان ينبغي علي أن أقدمه، هنا أجد صفاء ونقاء وصلة بيني وبين الله افتقدتها طوال حياتي، هل تعرف كم أن النهار هنا صاف وهادئ؟ وكم أن الهواء نقي ومنعش؟ وكم أن الليل هنا في الصحراء ساحر؟ لاسيما حينما أنظر إلى السماء وأتأمل النجوم وأتفكر في خلق الله.

    كثيرًا ما أبكي على ما آل إليه وضع مصر، لكني عادة ما أكون وحدي لكن سؤالك جعلني لا أستطيع أن أحبس دموعي بعدما قلبت المواجع في نفسي بهذا السؤال الذي صادف هما يلازمني، وهو هم يصاحبه عجز وألم على ما آلت الأوضاع في مصر وما يمكن أن يؤول إليه مستقبلها، ولا أدري هل ما يبكيني هو العجز عن فعل ما كنت أود أن أفعله وأن أرى عليه مصر حينما تركت الطب واشتغلت بالسياسة؟ أم الندم على مشاركتي للآخرين في ما قاموا به وأوصلوا مصر بتصرفاتهم إلى ما وصلت إليه رغم أني لا أشك في وطنيتهم؟ أم أن الإنسان في هذا السن تزداد عاطفته وتغلب عليه الجوانب الإنسانية، فيصبح رقيق القلب والنفس فيتعامل مع الأمور بصورة أخرى فتتغلب عليه عاطفته، وتكون دموعه هي الأقرب في بعض الأحيان؟ كثيرًا ما أفكر في الإنسان المصري وكيف أنه لم يأخذ حظه ليكون له دور في تنمية بلده، فلم يجد مفرا من أن يهاجر ليبدع أو يعيش يائسا محبطا في بلده، لقد فكرت كثيرا في فرص التنمية التي أهدرت وفي النتائج التي وصلنا إليها بعد هذه السنوات ولدي نقاش مطول معك في هذا الموضوع». حدثني عن أشياء كثيرة منها أمور شخصية وحياتية وعلاقات إنسانية ورؤى سياسية، وكان مما حدثني عنه ابنتاه المهاجرتان إلى كندا منى وهدى وأحفاده منهما، وكم يشعر بالأسى لأنهم أصبحوا مثل الكنديين أو كنديين كما قال بالنص، وكم كان يتمنى أن يعودوا إلى مصر جميعا للإقامة فيها، وأنه يحاول إغراءهم بالأماكن الجميلة في مصر لعلهم يفكرون في العودة والإقامة، لأنه يتمنى أن تكون أيامه الأخيرة إلى جوارهم، ثم حدثني بألم عن أسباب الهجرة لكثير من المصريين في بلد لم يكن أهلها يفكرون في الهجرة منها قبل خمسين عاما، بل كانت على مدار التاريخ بلدا يشكل جذبا لكل من يعرفه حتى يهاجر إليه ويقيم فيه، وكانت فيه جاليات مقيمة من كل أصقاع الدنيا مازال هناك بقايا من أهلها يونانيون وأرمن وفرنسيون وإيطاليون بخلاف كثير من العرب والعجم الآخرين، وقبل أن ينقضي اليوم أخذني في جولة داخل الفيلا وخارجها، وقال لي إنه بصدد شراء جهاز جديد لطرد الناموس والحشرات ليلا خارج الفيلا، لأنه يحب صفاء الليل ويحب أن يقضيه خارج الفيلا ليتأمل في السماء، ثم قال لي بجدية: «لابد أن تفكر من الآن في أن يكون لك بيت مثل هذا هنا في عمق الصحراء ستشعر أنك ستعرف الطعم الحقيقي للحياة حينما تخلو فيه مع الكون وخالقه بعيدا عن الناس وعن صخب الدنيا»، ثم انتقل من مجرد الطلب إلى أن قال لي بجدية: «يوجد هنا قطع معروضة للبيع يمكن أن تشتري واحدة منها إن فكرت في الأمر، لا تتردد ولا تأخذ قطعة كبيرة، وإنما صغيرة مثل قطعتي، يكفي فدانان، تبني عليهما فيلا صغيرة وحديقة جميلة مثل هذه تكون ملاذك من صخب الحياة.. لن تندم، وستشعر أن للحياة مذاق آخر».

   يبقى أن غالب أعيد إلى موسكو عام 1961 كسفير، وظل بهذا المنصب حتى عام 1972، ولعب دوراً كبيراً بعلاقاته وصداقاته في توطيد العلاقة وإنشائها وتقويتها حتى لُقب بمهندس العلاقات السوفيتية. أعاده الرئيس السادات إلى مصر بعد طرد الخبراء الروس وعينه وزيراً للدولة للشئون الخارجية ثم وزيراً للخارجية ثم وزيراً للإعلام لفترة قصيرة. في عام 1973 عيّنه السادات وزيراً للوحدة مع ليبيا ثم سفير مصر بيوغسلافيا حتى أعلن في نوفمبر 1977 استقالته احتجاجاً على زيارة السادات للقدس وتوقيعه لمعاهدة السلام مع إسرائيل، وفعل نفس الشيء مع كل من وزير الخارجية آنذاك إسماعيل فهمي وسفير مصر بالبرتغال الفريق سعد الدين الشاذلي. في عام 1988 انتخب كرئيسٍ لمنظمة الشعوب الأفروآسيوية وظل في منصبه حتى وفاته يوم الثلاثاء 18 ديسمبر عام 2007. كذلك عالج الدكتور غالب كثيراً من قضايا حركة التحرر الوطني العربية والعالمية. وفي عصر العولمة ركز على أهمية أن تحتل بلداننا مكانها الصحيح، بحيث تستفيد من مزايا العولمة وتتفادى سلبياتها الكثيرة بإعادة تصحيحها بنظام اقتصادي عالمي عادل.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى