التحضير لشهادة البكالورياقضايا فلسفية

مقالة فلسفية حول الادراك: هل الإدراك عملية حسية أم بناء عقلي ؟

بقلم الاستاذ : احمد معمري

هل إدراكنا للعالم يتم بناء على الحواس أم على التصورات الذهنية؟

طرح المشكلة :اختلفت أراء الفلاسفة والمفكرينحول اتصال الإنسان بالعالم الخارجي ،فمنهم من ارجع هذاالاتصال إلى الحواس .ذلك لان الإحساس عملية فيزيولوجية بسيطة ،ومنهم من أرجعه إلى العقل باعتباره يعتمد مبدأ التفكيك والتركيب ،أي آلية الإدراك ذهنية تعتمد على مجموعة من الوظائف العقلية مثل :الذكاء التخيل التذكر .وهذا ما جعل الجدل يحتدم بين التجريبيين والعقلانيين. حول ما إذا كان الإدراك يتم وفق تأويلات عقلية “ذهنية “أم انه لا يعدو أن يكون مجرد انطباعات حسية .فكان إشكالنا كالتالي:هل الإدراك عملية حسية أم عمل عقلي ؟.

محاولة حل المشكلة :”

الموقف الاول : موقف الحسيون ” المعرفة اساسها التجارب الحسية ” يرى أنصار النظرية الحسية أن جل معارفنا صادرة عن التجربة الحسية.باعتبار الإنسان كائن طبيعي يعتمد على الاستعدادات الحسية لمعرفة هذا العالم ،ولذا فقد ارجع علم النفس التجريبي الإحساس إلى انه عملية أولية ،فالإحساس هو الرابط بين الإنسان والعالم ،وهو من يمكننا من المعرفة ويجعلنا نتكيف مع البيئة .وما الإدراك إلا صدى للانطباعات الحسية أي ما هو الا رابط بين جملة من الإحساسات ومن رواد هذه المدرسة “جون لوك ،ودافيد هيوم”.وذلك بحسب اعتقادهم أن الطبيعة زودت كل الكائنات الحية بوسائل فطرية .بغرض المساعدة على البقاء والاستجابة لتأثيرات المحيط .ولا يكون هذا إلا بواسطة الإحساس ،فهو الوسيلة الوحيدة للتفاعل مع هذا الوسط يقول هيوم:”إن حقيقة الإدراك هي انطباع للمحسوسات نتيجة تأثير الحواس .يجب أن نسلم بأولوية هذه الانطباعات مادام مصدرها التجربة الحسية ،فما أفكارنا سوى نسخة من انطباعاتنا ” فمثلا لا يمكن للأعمى أن يدرك الألوان نتيجة فقدانه لحاسة البصر ومن هذا المنطلق، فان الأشياء تُحس ولا تُعقل لذا قالجون لوك:”لو سالت إنسانا متى بدا يعرف لأجابك متى بدا يحس “.

المناقشة “النقد” : لكن التسليم بهذا الطرح غير سليم فلو كان الناس يلدون وفي عقولهم أفكارا فطرية لكانوا متساوون في المعرفة . وهذا غير ممكن من الناحية المنطقية.ولعل المتأمل في هذا الموقف يلمس الطابع المادي ،واستبعاد كل فاعلية ذهنية،وكان الإحساس خال من كل دلالة رمزية كما اعتقد أرسطو من قبل.

الموقف الثاني :أنصار النظرية الذهنية :العقل هو اساس المعرفةوعلى العكس من الموقف السابق يؤكد أنصار النظرية الذهنية على فاعلية الإدراك وأسبقيته ،لان الإدراك عملية عقلية تتجاوز الإحساس .وبهذا يصبح الإحساس عملية محدودة ،ثم إن الإنسان مخلوق عاقل يتجاوز الحدود البيولوجية كونه كائن القيم والدليل على ذلك تكريم الإنسان في القران الكريم قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني ادم ) .ولعل شرف هذا التكريم يتمثل في حقيقة العقل ،فالعقل هو الأصل في الإنسان لأنه فطرة،وهو اعدل قسمة بين الناس، وهو الخاصة التي يعرف بها الإنسان ولذا قالديكارت “إني أدرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت احسب إني أراه بعيني” فمثلا المعارف التي يكونها الإنسان عن الله والحقيقة والنفس والوجود المطلق لا يمكن لها أن تبنى على الحواس ،ففكرة الله تحتاج إلى التصديق لا إلى الحس ،فالله هو ما يجب أن يسلم به .لان العقل نور فطري من الله،وهذا ما يفسر قوله تعالى:( نور على نور) وقد فسر أبو حامد الغزالي قوله نور على نور بنور الوحي ونور العقل .ثم إن العقل يحتوي أفكار قبلية تمتاز باليقين ،بينما الحواس كثيرا ما تخدع العقل .فما تراه العين المجردة لا يكون الحقيقة “رؤية الشمس وهي تبدو كغرس صغير ” وقد أصاب ويليام جيمس حين قال :لا يحس الإنسان الراشد بالأشياء بل يدركها “.كما أكد الفيلسوف بركليهذا الموقف بقوله:إن مختلف الإحساسات والأفكار المطبوعة في الإدراك الحسي مهما كانت مختلفة أو مركبة لا يمكن أن توجد بأي شكل آخر إلا في عقل يدركها ” فالشيء يعقل ولا يحس كما أكد على ذلكالفيلسوفألان.

النقد :المناقشة :لكن هل يمكن أن نعتبر الإدراك شيء فطري ثابت ؟. فإذا سلمنا بموقف الذهنيين فإننا نُهمل دورالخبرة الحسية وما تقتضيه .ثم لو كان العقل وحده هو من يحدث الإدراك .فلماذا لا تتساوى ادركاتنا جميعا ونحن نملك نفس العقول ؟.فقد اعترض الظواهريين من أمثال ادموند هوسرل على هذا التفسير جملة وتفصيلا ،ذلك لان موقف الظواهرية موقف معاد للنزعة العقلية .حيث فقال :”الثابت هو الأشياء نفسها والمتغير هو الإدراك ” كما دعم مير لبونتي هذا الموقف هو الآخر بقوله :”هكذا ندرك وهكذا نعيش بشعورنا في الأشياء “.لكن هؤلاء هم ابيضا تجاهلوا الأحوال النفسية اللاشعورية

التركيب :وعموما يمكننا أن نتجاوز هذا الجدل القائم بين النزعتين التجربة والعقلية ،ونتبنى موقف النزعة النقدية معالفيلسوف اميل كانط .منتقدين بذلك دور العقل والحواس مشيرين إلى حدود كل منهما ولذا قال :” المقولات العقلية دون معطيات حسية جوفاء ،والمعطيات الحسية دون مقولات عقلية عمياء”.ومعنى هذا أن الحواس تقدم لنا مادة المعرفة بينما العقل يعطي لنا الصورة الحقيقية لهذه المعرفة ،ومنه نستنتج أن الإدراك هو نتاج تفاعل بين الجانب الحسي المرتبط بالمادة وبين الشرط الصوري الذي يتمثل في مفهوم العقل

الخاتمة: وفي ختامنا لهذا المقال الفلسفي يمكننا أن نطل على الحقيقة التالية :إن جميع التصورات الكلاسيكية “العقلية والحسية “لم تقدم جوابا شافيا عن حقيقة  ما إذا كان الفصل ممكنا بين الإحساس والإدراك وهو ما بينته البحوث العلمية الأخيرة ومن هذا نختم مقالنا باستحالة الفصل بينهما لان الفعاليات العقلية لدى الإنسان معقدة ومتشابكة .

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى