دراسات اقتصادية

منظومة القيم ودورها في إرساء دعائم التنمية المستدامة في الاقتصاد الإسلامي

الكاتب : د. عتيقة حرايرية .

الملخص

الملخص: مما لا شك فيه أن أهم مقومات تحقيق مشروع التنمية المستدامة في أي مجتمع وفي الوطن العربي والإسلامي بالذات هو التسلح بالقيم الأخلاقية الصحيحة والايجابية النابعة من التعاليم الدينية السمحة لبناء اقتصاد إسلامي أساسه الواقع العقائدي والإيماني لهذه الأمة، والذي يجب أن يترجم إلى سلوكيات فردية وجماعية تخدم بفعالية حاجاتها وتستجيب لطموحات الأفراد والمجتمع على حد سواء. في هذا السياق، نتسأل من خلال هذا المقال عن المحددات الفعلية لمنظومة القيم الأخلاقية التي يمكن أن تسود في المجتمعات العربية والإسلامية اليوم، والتي يمكن أن نواجه بها أثار العولمة والغزو الثقافي المفرط-لاسيما عند الناشئة-بطريقة موضوعية وفعالة، من هذا المنطلق سنتطرق في هذه الورقة لطرح ومناقشة الأفكار التالية: ماهية القيم وأبعاد المصطلح؟ مصادر ووظائف القيم بين الفرد والجماعة؟ التنمية المستدامة ودلالاتها في المنهج الإسلامي؟ القيم الأخلاقية في الإسلام ودورها في إرساء دعائم ومقومات التنمية المستدامة.

الكلمات المفتاحية

القيم، القيم الأخلاقية، القيم الأخلاقية في الإسلام، التنمية المستدامة، الاقتصاد الإسلامي.

تحميل الدراسة

مقدمة:

تتوفر غالبية الدول العربية والإسلامية على المقومات المادية للتنمية والتنمية المستدامة، كما أنها لا تفتقر لوجود المقومات البشرية (لا من حيث التعداد ولا من حيث الكفاءة) التي يمكنها تحقيق مشروع التنمية والنهوض باقتصادها. لكن الإشكال المطروح يمكن في وجود إنسان مسلم (طفل، شاب، شيخ، ذكر أو أنثى) فعال ومستعد فعلا لتحمل أعباء وأداء متطلبات التنمية، كأفراد يتفانون في طلب العلم لأن العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ويحترمون العمل لأن اليد عليا خير من اليد السفلى، أفراد ينعمون بالعدالة الاجتماعية لأن الدين يحث على إعطاء الأجير حقه قبل أن يجف عرقه، مجتمع ينعم بروح التسامح لأن المسلمَ أخو المسلمِ لا يظلمه ولا يسلمه، مجتمع متكافل لأن الله في عون العبدِ مادام العبدُ في عون أخيه..وهكذا ولأن التشبع بهذه القيم وغيرها من شأنه أن يُنتج فردا إيجابيا وفعال يعرف جيدا حقوقه واجباته نحو ربه ونفسه وغيره (الناس والطبيعة)، من هنا يمكننا التأكيد على أن مشروع التنمية والتنمية المستدامة بالنسبة للأمة الإسلامية لن يبنى إلا إذا عملنا على بعث الفهم الصحيح لديننا الحنيف على أنه دين شريعة وحياة، والاعتقاد الحق بذواتنا (كأفراد وجماعات) على أننا خير أمة أخرجت للناس، ومن المهم جدا أن نتعلم أنه في اختلافنا رحمة.

مما لا شك فيه أن أهم مقومات تحقيق مشروع التنمية المستدامة في أي مجتمع وفي الوطن العربي والإسلامي بالذات هو التسلح بالقيم الأخلاقية الصحيحة والايجابية النابعة من التعاليم الدينية السمحة لبناء اقتصاد إسلامي أساسه الواقع العقائدي والإيماني لهذه الأمة، والذي يجب أن يترجم إلى سلوكيات فردية وجماعية تخدم بفعالية حاجاتها وتستجيب لطموحات الأفراد والمجتمع على حد سواء. لكن واقع الحال في مجتمعاتنا تحكمه العديد من المؤثرات والمتناقضات، من هنا نتساءل عن المحددات الفعلية لمنظومة القيم الأخلاقية التي يمكن أن تسود في المجتمعات العربية والإسلامية اليوم، والتي يمكن أن نواجه بها أثار العولمة والغزو الثقافي المفرط-لاسيما عند الناشئة- بطريقة موضوعية وفعالة، من هذا المنطلق سنتطرق في هذه المداخلة لطرح  ومناقشة الأفكار التالية:

  • ماهية القيم وأبعاد المصطلح؟
  • مصادر ووظائف القيم بين الفرد والجماعة؟
  • التنمية المستدامة ودلالاتها في المنهج الإسلامي؟
  • القيم الأخلاقية في الإسلام ودورها في إرساء دعائم ومقومات التنمية المستدامة.
  1. في ماهية القيم وأبعاد المصطلح

قِيَمٌ جمع مفردها قيمة، وتُشتق كلمة قيمة في اللغة العربية من القيام (قام، يقوم، قوما، وقياما) وهو نقيض الجلوس. ومن معاني القيام العزم، كما جاء في قوله تعالى ﴿ وأنه لما قام عبد الله يدعوه ﴾ [سورة الجن، الآية 19]، من معاني القيام أيضا المحافظة والإصلاح ومنه قوله تعالى﴿ الرجال قوامون على النساء ﴾ [سورة النساء، الآية 34].

ويلخص ابن منظور معاني “القيمة” فيما يلي [[1]]:

  • ثمن الشيء، فقيمة الشيء سعره أو ثمنه، حيث تدل مجازيا على اتفق عليه أهل السوق وقدروه ورجوه في معاملاتهم بكونه عوضا للبيع.
  • الثبات على الشيء، فكل من ثبت على الشيء وتمسك به فهو قائم عليه. قال الله تعالى ﴿ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله [ سورة آل عمران، الآية 113].
  • الاستواء والاستقامة، فهي مشتقة من الفعل قام بمعنى وقف واعتدل وانتصب وبلغ واستوى، وقد جاء وصف الإنسان أو الشيء أو العمل أو الدين بكونه قيما أي مستقيما، كقوله عز وجل ﴿ ذلك الدين القيم  [ سورة التوبة، الآية 67].
  • العدل، حيث يقال القَوام( بفتح القاف) مثال ذلك ﴿ وكان بين قواما [ سورة الفرقان، الآية 67].

كما اتسع استعمال كلمة قيمة مع مرور الزمن ” فأصبحت تدل على معنى أخرى متعددة، فيرى مثلا علماء اللغة أن للكلمات قيمة نحوية تحدد معناها ودورها في الجملة، وأن قيمة الألفاظ في الاستعمال الصحيح لها. كما يستعمل علماء الرياضيات كلمة القيمة للدلالة على العدد الذي يقيس كمية معينة. ويستخدمها أهل الفن على أنها تجمع بين الكم والكيف وهي بهذا تعبر عن كيفية الألوان والأصوات والأشكال والعلاقة الكمية القائمة بينها. كما يستخدمها علماء الاقتصاد للدلالة على الصفة التي تجعل شيئا ممكن الاستبدال بشيء أخر أي قيمة المبادلة”[[2]].

اصطلاحا تعني القيم “مجموعة من مبادئ وضوابط سلوكية وأخلاقية تحدد تصرفات الأفراد والجماعات ضمن مسارات معينة، إذ تصب في قالب منسجم مع عادات وتقاليد وأعراف المجتمع، لذا فالقيم الاجتماعية إنما هي نوع من المعايير السلوكية والأخلاقية التي بمعايير أخرى يحددها الإطار العام للمجتمع، والرحلة الحضارية والتاريخية التي يمر بها والظروف الموضوعية والذاتية المحيطة به والمؤثرة في ظواهره وعملياته الاجتماعية”[[3]]. وتعني القيم “مجموعة من المعتقدات التي تمثل المقومات الأساسية، أو المحور الذي تبنى عليه مجموعة من الاتجاهات التي توجه الأشخاص نحو غايات أو وسائل لتحقيقها، أو أنماط سلوكية يختارها ويفضلها هؤلاء الأشخاص لأنهم يؤمنون بصحتها”[[4]]. وهي أيضا تلك “المعتقدات حول الأمور والغايات وأشكال السلوك المفضلة لدى الناس، توجه مشاعرهم وتفكير ومواقفهم وتصرفاتهم واختيارهم، وتنظم علاقتهم بالواقع والمؤسسات والآخرين وأنفسهم والمكان، وتسوغ مواقعهم، وتحدد هويتهم ومعنى وجودهم “[[5]]. فيما يُجمع الأخصائيون في العلوم الاجتماعية على أن القيم “ما هي إلا موجهات سلوكية لسائر الأنشطة التي تتصل بأي شكـــل من أشكال العمل”[[6]] أو الفعل أو السلوك.

من كل ما سبق وحسب ما جاءت به الدراسات، فإن مصطلح “القيم” يحمل ثلاثة معاني أساسية، هي:

  1. 1. القيم باعتبارها مؤشرات الاهتمامات والاتجاهات، حيث تحدد اتجاهات الفرد وتضبط إدراكه لما يجب أن يكون انطلاقا من المبادئ والمعتقدات التي أمن بها واعتَقَدها.
  2. 2. القيم باعتبارها مؤشرات الفعل والأنشطة السلوكية، حيث يتم التركيز على الجانب العملي للقيم من خلال ربطها بسلوك وتصرفات الفرد في المواقف المختلفة.
  3. 3. القيم باعتبارها مؤشرات الاتجاهات والسلوك، حيث تحدد ما يؤمن له الفرد نظريا وما يمارســــــــــــــــــــــــه في حياته اليومية عمليا.

فالقيم مهم كان وصفها معتقدا أو اتجاها أو سلوكا أو مؤشرا على كل ذلك فهي تحدد سلوك الفرد وتصرفاته وأرائه، كما تعكس نمط علاقاته بغيره ومحيطه وتشكل اتجاهاته العملية والعلمية والفكرية.. ” وتنكشف دلالات هذه القيم فيما تعكسه على متبنيها من أنشطة سلوكية ومعرفية ووجدانية ونزوعية وتوجهات قيمية ايجابية وسلبية حيال الأشخاص أو الأشياء أو المواقف التي يتعامل معها الفرد”[[7]]. فما هي إذا مصادر هذه القيم ووظائف التي يمكن أن تؤديها على المستوى الفردي أو على مستوى الجماعة؟

  1. وظائف ومصادر القيم بين الفرد والجماعة

تؤدي القيم عدة وظائف في المجتمع كالتوجيه وإشباع الحاجات المادية والروحية، الاختبار بين البدائل، وكذلك وظيفة التواصل والتفاعل الاجتماعي التي تضمن لها الرسوخ والاستمرار مدى وجود المجتمع، وتستمد قوتها وسلطتها من مجموعة “المعتقدات التي تتسم بقدر من الاستمرار النسبي والتي تمثل موجهات الأشخاص نحو غايات أو وسائل لتحقيقها أو أنماط سلوكية يختارها ويفضل هؤلاء الأشخاص بديلا لغيرها. وتنشأ الموجهات والاتجاهات والسلوك اللفظي والسلوك الفعلي والعواطف التي يكونها الأفراد نحو موضوعات معينة”[[8]].

ولطالما كانت القيم أساسا يساعد على تجانس الأفراد سواء من ناحية  السلوك، الأفكار، المعتقدات وغيرها وبالتالي إرساء معايير أخلاقية معينة تعكس نظام (أو سلم) القيم لمجتمع ما، وفي هــــــــــــــــــــــــــــذا الإطار يقــول سارتر (J. P Sartre)  نظام القيم إنما يتشكل من خلال التجربة الاجتماعية للجماعات والأمم فـنظـــــــــــــــــــــــــــــــام القيم لمجتمع ما يعكس بنيته، فيما يرى اندريه بريدو (A. Bridouxأن القيم مصدرها الأحكام الشخصية أولا، الأحكام القيمية التي يصدرها الشخص على الأشياء بناء على حاجاته إليها أو منفعتها أو ما تلبيه لديه من ميولات ورغبات إلى أخره، وشيئا فشيئا تتموضع القيم مع الحياة الاجتماعية لتتعمم وتصبح ذات طابع اجتماعي، تنتقل من المجال السيكولوجي إلى المجال الاجتماعي، وفي نفس السياق يعتبر كل من بارسونز(Parsons)   وميرتون(Mirton)  وغيرهما القيم ظاهرة “مصدرها اجتماعي ثقافي، فالبناء الثقافي يحدد الأهداف المقبولة والبناء الاجتماعي يحدد وسائل تحقيق الأهداف من أجل التكامل والتوازن”[[9]]، من هنا نؤكد على الدور المهم الذي يمكن أن يقوم به المجتمع في تحديد القيم المنشودة وترتيبها ووسيلته في ذلك التنشئة الاجتماعية التي تمكن من تشكيل الفرد على صورة مجتمعه وصياغته في القالب وعلى الشكل الذي ترتضيه، وبذلك تعمل على صيانة التركيب الاجتماعي ومنظومة القيم السائدة وتأييدها.

في كل الأحوال تشكل القيمة مقياسا يوجه السلوك والتسويغ والاختيار بين البدائل في المناهج والوسائل والغايات…توجه القيم سلوك الإنسان ونظم علاقاته بالآخرين والواقع والزمن ونفسه، وفي علاقته بالواقع قد تحثه القيم على السعي والجهاد في سبيل السيطرة على الواقع وتغييره أو بالعكس تحثه على القبول به كما هو والتلاؤم معه، وفي علاقته بالآخرين قد تشكل القيم عند الإنسان مبادئ عامة كلية يطبقها على الجميع دون تميز على أساس العنصرية أو الدين أو غيره، أو تشكل مبادئ تخصصية تخضع لأهوائه ومصالحة وعصيانه، وقد ينزع الإنسان نزوعا عقلانيا أو عاطفيا مفردا أو جماعيا، رسميا أو عفويا ملتزما التزاما جزئيا أو التزاما وجوديا كليا، وقد يكون الإنسان تابعا أو مبدعا، متفتحا أو منغلقا على نفسه، إمتثاليا أو متمردا، منهجيا أو ارتجاليا، مبدئيا أو انتهازيا، فوقيا يتمسك بالقيم العمودية (الوجاهة، الاستعلاء والتسلط) أو القيم الأفقية (الأخوة، الصداقة، الزمالة، المساواة) [[10]].

ويمكن أن نلخص أهم وظائف القيم على المستويين الفردي والجماعي في الجدول المدرج أسفله:

جدول يبين وظائف القيم على المستويين الفردي والجماعي [[11]]

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وظائف القيم

على مستوى الفردي
– أنها تهيئ للأفراد اختيارات معينة تحدد السلوك الصادر عنهم فهي تلعب دورا هاما في تشكيل الشخصية الفردية وتحديد أهدافها في إطار معياري صحيح.

– أنها تعطي للفرد إمكانية أداء ما هو مطلوب ليكون قادرا على التكيف والتوافق بصورة ايجابية.

– تحقق للفرد الإحساس بالأمان فهو يستعين بها على مواجهة ضعف فيه والتحديات التي تواجهه في حياته.

– تعطي للفرد فرصة للتعبير عن نفسه وتأكيد ذاته.

– تدفع الفرد لتحسين إدراكه ومعتقداته لتتضح الرؤيا أمامه وبالتالي تساعد على فهم العالم من حوله ولوسع إطاره المرجعي في فهم حياته وعلاقاته.

– تعمل على ضبط الفرد لشهواته كي لا تتغلب على عقله ووجدانه.

على المستوى الجماعي
– تحافظ على تماسك المجتمع فتحدد له أهداف حياته ومثله العليا ومبادئه الثابتة.

– تساعد المجتمع على مواجهة التغيرات التي تحدث فيه، تحديدها الاختبارات الصحيحة، وذلك يسهل على الناس حياتهم ويحفظ للمجتمع استقراره وكيانه في إطار موحد.

– تربط أجزاء ثقافة المجتمع ببعضها حتى تبدو متناسقة، كما أنها تعمل على إعطاء النظم الاجتماعية أساسا عقليا يصبح عقيدة في ذهن أعضاء المجتمع المنتمين إلى هذه الثقافة.

– تقي المجتمع من الأنانية المفرطة والنزاعات والشهوات الطائشة والقيم والمبادئ في أي جماعة هو الهدف الذي يسعى جميع أعضائها للوصول إليها.

– تزويد المجتمع بالصيغة التي يتعامل بها مع العلم، وتعدد له أهداف ومبررات وجوده وبالتالي بسلك في ضوئها وتحديد للأفراد سلوكياتهم.

ونشير هنا إلى أنه “وإذا كان لكل مجتمع إطاره القيمي السائد فإن هذا لا يعني بالضرورة أن أبناء المجتمع الواحد أو الثقافة الواحدة صورة متكررة في أنساقهم القيمية، ولكن معنى هذا أن هناك تقارب في القيم المشتركة بين أبناء المجتمع الواحد”.

  1. التنمية المستدامة ودلالاتها في المنهج الإسلامي

استخدم مصطلح التنمية المستدامة (المستديمة أو المتواصلة أو المستمرة) ليعبر عن “التنمية التي تفي باحتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها”، وهو (مصطلح التنمية المستدامة) يعكس مستوى القلق المتزايد إزاء التدهور السريع للبيئة والموارد الطبيعية كما جاء في أعمال اللجنة العالمية للبيئة والتنمية (الأمم المتحدة). فالتنمية المستدامة هي بالأساس “عملية توظيف وإدارة وصيانة قاعدة الموارد الطبيعية المتاحة وتوجيه التغيير التقني والمؤسسي على نحو يضمن استمرار إشباع الاحتياجات البشرية للأجيال الحالية والمستقبلية” [[12]]، كما يهدف هذا النوع من التنمية إلى الاهتمام بالعلاقة المتبادلة بين الإنسان والبيئة والمجتمع، مع التركيز على الحفاظ على الكم والنوع، كما تهدف إلى الاهتمام بشكل رئيسي بتقويم الأثر البيئي والاجتماعي والاقتصادي للمشاريع التنموية.

بهذا فإن مفهوم الاستدامة يرتكز على نقطتين أساسيتين هما:

  • العنصر البشري (الإنسان) وهو محور الاهتمام الذي تدور حوله التنمية،
  • غاية التنمية هو الوصول إلى تنمية شاملة ونوعية، من خلال[[13]]:
  1. 1. تحقيق نوعية حياة أفضل للسكان،
  2. 2. تحقيق استغــــــــــــــــــــــلال واستخدام عقلاني للموارد،
  3. 3. احترام البيئة الطبيعية،
  4. 4. تعزيز وعي السكان بالمشكلات البيئية القائمة،
  5. 5. ربط التكنولوجيا الحديثة بأهــــــــــــــــــــــــــداف المجتمع،
  6. 6. إحداث تغيير مستمر ومناسب في حاجات وأولويات المجتمع.

ولتحقيق ذلك يتطلب الأمر العمل على وجوب الاهتمام بثلاثة جوانب أساسية تعتمد عليها التنمية المستدامة، كما تؤكد عليه الكثير من الدراسات والبحوث، وتتمثل فيما يلي:

  • تنمية المهارات والقدرات البشرية، على اعتبار أن العنصر البشري هو القادرة على استمرار عمليات التنمية، لذلك فإن الإنفاق على تنمية القوى البشرية (من تعليم ورعاية صحية ومنح الفرص الاقتصادية كالعمل والاستثمار وغيرها) من أهم عناصر التنمية.
  • عدالة توزيع الثروة وفوائد النمو، ويتطلب ذلك ضرورة تدخل الدولة لإيجاد آليات تؤدي إلى إعادة توزيع الثروة والدخل بما يساهم في التخفيف من حدة الفقر.
  • الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية، ما يضمن مصلحة الأجيال القادمة ومنع تراكم الديون عليها.
  • وذلك وفق الآليات وحسب الخطة التي يوضحها المخطط المدرج أسفله:

مخطط يوضح آليات ومجلات التنمية المستدامة [[14]]

 1 1 9

بتصرف عنإيمان المطيري، مؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة (جوهانسبورغ).

فالتنمية المقصودة هي تلك التي تهتم بجميع متطلبات الإنسان الاقتصادية ولاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية والعمل على إشباع الحاجات الأساسية والثانوية وتوقير المتطلبات المادية والروحية، والتي يمكن تعريفها فيما يلي:

  • التنمية الاجتماعية، هي الجهود التي تبذل لإحداث سلسلة من المتغيرات الوظيفية والهيكلية اللازمة لنمو المجتمع، وذلك بزيادة قدرة أفراده على استغلال الطاقات المتاحة إلى أقصى حد ممكن لتحقيق أكبر قدر من الحرية والرفاهية لهؤلاء الأفراد بأسرع من معدل النمو الطبيعي[[15]]، وهي التي تضمن تكافل وتماسك أفراد المجتمع كأنهم جسد واحد.
  • التنمية الثقافية، وتعبر عن التغير الذي يحدث في الجوانب المادية وغير المادية للثقافة بما في ذلك العلوم والفنون والفلسفة والتكنولوجيا والأذواق الخاصة بالمأكل والمشرب واللغة، بالإضافة إلى التغيرات التي تحدث في بنيان المجتمع ووظائفه[[16]]، أي هي التي تمكن الفرد من تحقيق مستوى من الوعي والإطلاع لما يجري في مجتمعه وفي العالم من حوله من أحداث وفكر وعلوم ومعارف وفنون ..وغيرها.
  • التنمية الاقتصادية، هي عملية بموجها تستخدم الدولة مواردها المتاحة لتحقيق معدل سريع للتوسع الاقتصادي، يؤدي إلى زيادة مطردة في دخلها القومي، وفي نصيب الفرد من السلع والخدمات. وتتطلب هذه التنمية التغلب تدريجيا على المعوقات الاقتصادية وتوافر رؤوس الأموال، والخيرة الفنية والتكنولوجيا [[17]]، فهي التنمية التي تنمي في الفرد حب العمل والإنتاج لمنفعته الخاصة ولفائدة المجتمع.
  • التنمية السياسية، وتتضمن دراسة التنظيم الرسمي للحكومة والإدارة المركزية والمحلية، ودراسة المشكلات التطبيقية في التنظيم والإجراءات بغية تحقيق التكامل بين القضايا الوصفية والتقويمية[[18]]، حيت تمكن هذه التنمية الأفراد من معرفة وتقويم نشاطات وسياسة الحكومات والإدارات المسيرة للبلاد.
  • التنمية الطبيعية، أو التنمية المستدامة وتكون في شكل تفاعل مستمر مع ما يحيط بالإنسان من طبيعة ومجتمعات بشرية ونظم اجتماعية وعلاقات شخصية، ومواجهة الأضرار الناتجة عن تقدم الصناعة الحديثة وحماية المصادر الطبيعية والهواء من التلوث، والتنسيق بين زيادة سكان العالم وزيادة مارد الثروات الطبيعية ولزراعية والصناعية لمواجهة متطلبات حياتهم[[19]].

أما التنمية الإنسانية والروحية فهي التي تغذي القيم والأخلاق لتوجه السلوك الإنساني نحو الغايات العليا لتنمية والتنمية المستدامة من أجل تحقيق الزيادة النوعية التي تشمل كل مجالات الحياة الحضارية والمادية والإنسانية.

  1. 1- دلالات التنمية في المنهج الإسلامي

” أول ما يلاحظ في القرآن الكريم عدم وجود لفظ (التنمية)، ولا أحد مشتقاته، كنمو والنماء، كما لم يرد أيضا لفظ (التطوير). لكن القرآن الكريم في المقابل استعمل الكثير من المفردات والمصطلحات الدائرة في فلك التنمية، والمشكلة لمظاهرها المختلفة، كما استعمل أيضا الكثير من المفاهيم المؤسسة لدور الإنسان في هذه التنمية”[[20]]، ومنها على الخصوص: الاستخلاف وعَمارة الأرض، التمكين وتكريم الإنسان دونا عن سائر الكائنات الحية الأخرى.

تبدأ دلالات التنمية في المنهج الإسلامي باختيار المولى عز وجل الإنسان دون عن المخلوقات وتكليفه بالرســــــــــــــــــــــــــــالة، يقول تعالى ﴿ وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ [سورة البقرة، الآية 30] ويقول جـلَ وعلى ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ [سورة الذاريات، الآية 56] تشير هذه الآيات إلى ارتباط الوظيفة أو الرسالة الإنسانية بمهمتين أساسيتين هما الاستخلاف والعبادة وقد ارتضى الله عز وجل للإنسان أن يمارس أعمال الخلافة وإقامة العمران على سطح الأرض على الوضع الذي نظمه له الإسلام وفق المنهج الإلهي الرشيد، ” إذ أن خلافة الإنسان لله على هذا النمط وعبادة الإنسان لله يمثلان وجهين لحقيقة واحدة، حيث أن الخلافة إن هي إلا تنفيذ لأحكام الله تعالى في شتى المجالات”[[21]].

ومن دلالات التنمية في المنهج الإسلامي الأمر بـعِمارة الأرض، ويقول عز من قال ﴿ وإلى ثمودَ أخاهم صالحا قال ياَ قوْم اعبدوا الله ما لكم من إلهِ غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ﴾ [سورة هود، الآية 61] حيث توجب هذه الآية على الإنسان طلب العِمارة والسعي في عمارة الأرض، ويقول الإمام الجصاص في هذه الآية “إن في ذلك دلالة على وجوب عمارة الأرض بالزراعة والغرس والأبنية..”[[22]]،كما أن معنى” لفظ العمارة أو التعمير يحمل مضمون التنمية الاقتصادية، وقد يزيد عنها، فهو نهوض في مختلف مجالات الحياة الإنسانية”[[23]]. وصيغة “استعمركم” هنا، كصيغة “استخلفكم” تدل على الإنابة والتفويض، وهو تفويض مؤقت مرتبط بالزمن الدنيوي، والنجاح في تكاليفه مربوط بالعبادة وإقامة الدين. فالعمارة إصلاح وتخليق شامل للحياة. وهذا شرط لازم للتنمية الإنسانية الفاعلة [[24]].

من دلائل التنمية في النظام الإسلامي أيضا “التمكين“، فمصطلح العمارة لم يكن هو الوحيد الذي عبر عن التنمية الاقتصادية في الفكر الإسلامي إذ نجد مصطلح التمكين في قوله عز وجـــــــــــــل﴿ ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون ﴾ [سورة الأعراف، الآية 10] ومعنى التمكين هنا هو السيطرة والقدرة على التحكم، بمعنى أن الله عز وجل هيأ لنا وضع السيطرة من تسخير ما على الأرض حتى يقوم الإنسان بتكاليف الاستخلاف. ويقول سبحانه وتعالى ﴿ وعد الله الذين أمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمُكنَنَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ﴾ [سورة النور، الآية 55] هذا المستوى من التمكين – الذي يتم على تمكين الدين والأمن للإنسان- يختلف عن المستوى المذكور سابقا، وهو تمكين معنوي يحوز بموجبه الإنسان على أهم الأسس الداعمة للحياة الكريمة، وهي الدين بكل القيم الروحية والخلقية والاجتماعية التي ينطوي عليها، والأمن الذي يضمن له ممارسة سائر حقوقه الطبيعية. “وبوجود هذين المستويين من التمكين، يرتبط المادي بالروحي في تنمية الإنسان، ولا يصبح عمار الأرض مقتصرا على ضمان الرفاه المادي وتحصيل مستوى العيش الرغيد، بل أيضا، ضمان الأمن النفسي والروحي” [[25]]، وهذه الميزة ينفرد بها المنهج الإسلامي لتجعل مفهوم التنمية المستدامة أعمق دلالة من تلك التي تطرحها المناهج الوضعية، إذ يقتصر مفهوم التنمية المستدامة فيها على ضمان الرفاهية المادية لكن النظام الإسلامي يتعداها إلى الإلمام بشروط نمو المجتمعات ورقيها وأمنها المادي والروحي.

من المفاهيم المرتبطة بتنمية الإنسان في المنهج الإسلامي مفهوم التكريم، وجاء في القرآن الكريم على مستويين: تكريم دنيوي وتكريم أخروي، الأول مرتبط بالوجود الدنيوي للإنسان في الأرض، واستخلافه فيها، وتمكينه من عمارتها، هو بذاك يعني تشريف الإنسان وتخصيصه بالمقومات الذاتية التي تمكنه من القيام بتكاليفه ومسؤولياته [[26]]، يقول تعالى ﴿ ولقد كرمنا بني أدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ﴾ [سورة الإسراء، الآية 70]  والثاني مرتبط بالوجود الأخروي، حيث يكون الأكرم عند الله عز وجــــــــــــــــــــــــــــل أي الأفضل منزلة هو الأتقى، في قوله ﴿ إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ [سورة الحجرات، الآية 13]، ومن صور تكريم الله للإنسان ما جاءت به الشريعة الإلهية لتُذكر الإنسان بقدرته على تخطى الصعوبات من أجل بناء مجتمع أفضل، وتحضه على تجاوز العقبات في سبيل إقامة عالم المثل، وتؤكد له أن الله سبحانه وتعالى لم يخلقه عبثا ولم يتركه هملا ﴿ أَيحسب الإنسان أن يُترك سُدًى ﴾ [سورة القيامة، الآية 36].

  1. 2- دلالات الاستدامة في المنهج الإسلامي

خلق الله سبحانه وتعالى الأرض بما فيها من نعم وخيرات وفق آليات ونظم دقيقة لا طاقة لمخلوق عليها، يقول الله تعالى ﴿ كل شيء خلقناه بقدر ﴾ [سورة القمر، الآية 49]. وقد سخر الله تعالى بما فيها من مخلوقات لخدمة الإنسان لكي يستعين بها على مصاعب الحياة وفي عمارة الأرض، وذلك مصداقا لقوله تعالى ﴿ ألم تروا أن الله سهر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمة ظاهرةً وباطنةً ﴾ [سورة لقمان، الآية 20]. وحتى يتمكن الإنسان من الانتفاع من هذه النعم فإنه لابد أن يحافظ عليها ويحول دون هدرها أو تدميرها، مع ضرورة العمل على ترسخ القيم والأخلاق المشجعة على ذلك كجزء مهم من البناء الثقافي في شخصية وسلوك الفرد والجماعة في المجتمع العربي المسلم، ومن أهم  دلالات الاستدامة في المنهج الإسلامي نذكر [[27]]:

  • ضرورة المحافظة على الموارد والحيلولة دون فسادها واستنزافها، وهذا واجب ديني تفرضه التعاليم الإسلامية مصداقا لقوله تعالى ﴿ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها﴾ [سورة الأعراف، الآية 56]، وقوله تعالى ﴿ ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ﴾ [سورة القصص، الآية 77]، وفي حديث للرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) “أن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها” [الألباني- حديث صحيح]
  • محدودية الموارد في الأرض، حقيقة يؤكــــدها قوله عز وجل ﴿ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ﴾ [سورة الحجر، الآية 02].
  • إدارة الموارد واستغلالها برشد وعقلانية، مصداقا لقوله تعالى ﴿ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ﴾ [سورة الفرقان، الآية 67]، وكذلك قوله عز وجل ﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ﴾ [سورة الإسراء، الآية 29].
  • إشباع الحاجات دون هدر أو إسراف، وفي ذلك يقول تعالى ﴿ وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره واتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين ﴾ [سورة الأنعام، الآية 141]، وقوله تعالى ﴿ يا بني أدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ﴾ [سورة الأعراف، الآية 31].
  • البيئة والموارد ملك ومسؤولية الجميع، والجميع مطالب بحمايتها والمحافظة عليها مصداقا لقوله تعالى ﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾ [سورة المائدة، الآية 02]. وفي حديث شريف ” المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار وثمنه حرام ” [سنن ابن ماجة].
  • استغلال الموارد وفق أسس العدل والمساواة، وفي ذلك يقول المولى عز وجل ﴿ كلوا من ثمره إذا أثمر وأتوا حقه يوم حصاده ﴾ [سورة الأنعام، الآية 141]، وفي قوله ﴿ وآتِ ذا القربى حقه وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا ﴾ [سورة الإسراء، الآية 26]، وقوله عز وجــــــــــــــــــــــــــل ﴿ كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾ [سورة البقرة، الآية 60]، وقوله تعالى ﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم وتطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ﴾ [سورة طه، الآية 81].
  1. القيم الأخلاقية في الإسلام ودورها في إرساء دعائم ومقومات التنمية المستدامة

في الواقع لم يتفق الباحثون حول إعطاء تصنيف شامل للقيم يحيط بكل أنواعها، فهناك من صنفها على أساس العمومية (قيم عامة/خاصة) أو الوضوح (قيم صريحة/ضمنية) أو درجة الاستمرارية (قيم دائمة/عابرة)، ومن حيث المحتوى (قيم سياسية/اقتصادية/اجتماعية/دينية/جمالية/فكرية..) وغيرها، كما أن للقيم مستويات مختلفة حيث يتميز كل مستوى عن الأخر من حيث المحتوى، والشمولية، والتأثير.

وقد قسم ماكس شلر (Max Scheler[[28]] القيم إلى أربع مستويات هي:

  • المستوى الأدنى، ويمثل مستوى قيم الملائم والمنافي.
  • مستوى القيم الحيوية، ومنها قيم المتميز والمبتذل، النبيل والعام، الصحيح وغير الصحيح..
  • مستوى القيم الروحية، وتضم القيم الإبداعية الحقوقية والعقلية وتنتظم في الثقافة.
  • مستوى القيم الدينية وقوامها المقدس، وهي تتصل بموضوع الله والأشخاص وتهيمن على سائر القيم لأنها هي أساسها كلها.

لذلك نجد ضمن المفاهيم المتداولة مثلا القيم الأخلاقية وقيم الروحية وقيم الإيمانية وقيم الدينية واستعمالها كمترادفات، كما يمكن الفصل وتمييز بينها كمصطلحات دقيقة لكل واحدة منها معناها المضبوط فالقيم الدينية أشمل من القيم الإيمانية، والقيم الروحية تتعلق بكل ما هو إبداع روحي وعقلي وفني .. وبدون الخوض في كل هذه التفاصيل، سنسلط الضوء هنا على القيم الأخلاقية والقيم الاجتماعية ودورها في بناء قواعد سليمة للتنمية والتنمية المستدامة حسب ما جاء به دستور النظام الإسلامي:

تُعرب القيم الأخلاقية كغيرها من القيم عن صلات الأشخاص ببعضهم ببعض، لكنها تنفرد عنها من حيث أنها تُعرب عن هذه الصلات من حيث أن قوامها إرادة الأشخاص الواعية نفسها لا على اعتبار استناد هذه الصلات قسر المجتمع، ذلك أن “القيم الأخلاقية لا تخلط نظام الواقع بنظام ما يجب أن يكون. والتشريع الأخلاقي يصدر عن سلطة باطنية ويعرب عن فكر تسلسل القيم الأخلاقية، وهذه الفكرة تنم عن أن القانون الأخلاقي لا يستمد سلطانه إلا من قيمة عليا تهيمن على قيمة دُنيا”[[29]] ، كما تتعدد القيم الأخلاقية وتتنوع وتختلف أيضا “ما بين أمة وأمة، بين عصر وعصر، وبين زمن وزمن، وبين مكان ومكان أخر لاختلاف طبائع الناس، لكن الأخلاق الكريمة الفاضلة واحدة لا تتجزأ، وهي الأخلاق التي جاء بها الأنبياء والمرسلون”[[30]]، ومن مكارم الأخلاق العمل الصالح، الإيثار، طلب العلم، عمل الخير، الفضيلة، الشجاعة، التقوى وغيرها، أما القيم الإيمانية فتتضمن الشعائر والعبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج، ومن ابرز خصائص الأخلاق فإنها ظاهرة اجتماعية، إذ أنها ” تُنظم العلاقات الاجتماعية حسب معايير وقيم ليست نابعة دوما من الفرد، شعوره وضميره، بل هي في معظمها ذات أصول اجتماعية..الأخلاق ظاهرة اجتماعية تجد أصولها وفصولها في المجتمع وما يعتريه من تطور ” [[31]]، وفي ذات السياق يوضح دوركايم (E.Durkheim) في كتابه علم الاجتماع والفلسفة أن ” القاعدة الأخلاقية لا يمكن أن تنبثق عن الفرد، فليس كل فعل يمكن أن يسمى فعلاً أخلاقياً، بل إن الفعل يصبح أخلاقيا عندما يقوم على أمر صادر عن المجتمع، ومن ثم تكون القاعدة الأخلاقية نتاجا لعوامل اجتماعية خالصة، بل أن القيم أيضا هي نتاج اجتماعي، فهي لا تعبر عن تصورات أو تفضيلات شخصية، وإنما تعبر عن تدرج التفضيلات كما يضعها المجتمع الذي يفرضها ويحدد لها موضوعاتها”.

فالقيم الأخلاقية تسمد معناها وقوتها من الجماعة وتسود الجماعة قيم اجتماعية هي بالأساس معايير وأهداف لابد أن توجد في كل المجتمعات المنظمة سواء كانت متأخرة أو متقدمة، فهي تتغلغل في الأفراد في شكل اتجاهات ودوافع وتطلعات. وتظهر في السلوك الظاهري الشعوري أو اللاشعوري، وفي المواقف التي تتطلب ارتباط هؤلاء الأفراد بعضهم ببعض، فالقيم تعبر عن نفسها في قوانين ولوائح وبرامج التنظيم الاجتماعي والنظم الاجتماعية. تتضح أهمية القيم وتجديد مفهومها من جوهر تفاعل الفرد مع بيئته. وتعرف القيم الاجتماعية على أنها ” مجموعة من القيم التي تمس النواحي الاجتماعية في حياة الإنسان ومعيشته، أي أنها القيم التي تتعامل مع الواقع الاجتماعي للفرد بصفته أحد أفراد مجموعة من البشر، تعيش معا، وتتعاون معا، ولها تقاليدها وعاداتها وقيمها وسلوكياتها “[[32]]، من أهم معانيها العدالة(العدل/القسط)، الحكم بالحق، العدالة الاجتماعية، العدالة الإنسانية، التحرير الوجداني البشري المطلق، الأمن والطمأنينة، النظافة والتجميل وغيرها.

لكن ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه القيم الأخلاقية في إرساء دعائم التنمية المستدامة؟

من أهم القيم الأخلاقية التي ارتبطت بمفهوم التطوير والتنمية أو عمارة الأرض في المنهج الإســــــــــلامي قيمة “العمل” ويقول تعالى ﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون﴾ [سورة الجمعة، الآية 10] وتجمع هذه الآية بين العبادة والعمل لتكمل صورة الخلافة حيث تأمر بالانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله ومضمون ذلك ممارسة كل ما يُمكن من وجوه العمل والإنتاج للحصول على الخيرات التي فضل الله بها على الإنسان، وقـــوله صلى الله عليه وسلم “طلب الكسب فريضة على كل مسلم”، والأدل على قيمة العمل ورود الفعل عمل” وتصريفاته في القرآن الكريم 359 مرة في إشارة لأهمية وعظمة العمل. كما جاء في محكم تنزيله عز وجل ﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسله والمؤمنون ﴾ [سورة التوبة، الآية 10]، لذلك سيتفانى الفرد المسلم العامل المشبع بالقيم الدينية والأخلاقية السليمة في تقديم أفضل ما عنده لمجتمعه حتى تعم الفائدة وينتفع الجميع.

من القيم الأخلاقية أيضا تحقيق حد الكفاية وقد عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه بأنه “توفير القوام من العيش، أي ما به تستقيم حياة الفرد ويصلح أمره، ويكون ذلك بإشباع احتياجات الفرد التي تجعله يعيش في مستوى المعيشة السائد، دون وجود فجوة واسعة تفصل بينه وبين غيره” [[33]]، حيث تحمل هذه القيمة الكثير من معاني التكافل والتكامل الاجتماعي وقيم التسامح والتآخي بين أفراد المجتمع.

من كل ما سبق يمكننا القول أنه ” ولدت تحولات وتغيرات في النسيج الاجتماعي مما يعمل على عدم خضوعه للضوابط المعيارية والقيمية التي أحبكته عبر الزمن، إلا أن هذا النسيج لا يبقى على ما هو عليه، بل يتطور بالتدريج من خلال الأجيال المتعاقبة، ومن خلال ما يتأثر به من مؤثرات خارجية أو داخلية “[[34]]،  لذا فإن إعادة بعث القيم عملية مهمة تتطلبها كل عملية تنمية وتطوير من أجل ترشيد و توجيه اهتمامات وسلوك الأفراد والجماعات نحو غايات وأهداف البناء، وقد أثبتت التجارب الوضعية عبر تاريخها قُصورها عن حمل المعاني السامية للتنمية والتنمية المستدامة، وحصرها في الرفاهية المادية فقط، بينما قدم الإسلام نظام اجتماعي متكامل يجمع بين شؤون الدين وأمور الدنيا، بين العلم والعقيدة، ويوازن بين الفرد والجماعة، بما يحمله من القيم الشاملة الجامعة والمتكاملة التي تمنح للفرد والجماعة حقه، وتعرفه بحدود واجباته تجاه الأخر مهما كان(إنسان، حيوان، طبيعة). والتمسك بالقيم الدينية والأخلاقية تسمح وتمكن الفرد من الفهم الصحيح لمعاني رسالته في الحياة وأن الله خلقة لعمارة الأرض ومكنه وكرمه وسخر له ما في الأرض جميعا حتى يؤدى وظيفته في هذه الدنيا على أكمل وجه. وفي ذات السياق يؤكد الكاتب الفرنسي جاك أوستروي في كتابه نظرات إسلامية في الاشتراكية الثورية “إن الإسلام هو نظام الحياة التطبيقية والأخلاق المثالية الرفيعة معا وهاتان الوجهتان مترابطتان لا تنفصلان أبدا، ومن هنا يمكن القول أن المسلمين لا يقبلون اقتصادا علمانيا، والاقتصاد الذي يستمد قوته من وحي القرآن يصبح بالضرورة اقتصادا أخلاقيا، وهذه الأخلاق قادرة على أن تعطي معنى جديدا لمفهوم القيمة، أو تملأ الفراغ الفكري الذي يوشك أن يظهر نتيجة آلية تصنيع.. [[35]].

المراجع:

  1. أحمد مصطفى خاطر، تنمية المجتمعات المحلية، المكتبة الجامعية، الإسكندرية، 1999.
  2. إحسان محسن الحسن، التراث القيمي في المجتمع العربي بين الماضي والحاضر، مجلة الدراسات العربية، عدد 9، 1990.
  3. أحمد أبو اليزيد الرسول، التنمية المتواصلة: الأبعاد والمنهج، مكتبة بستان المعرفة، الإسكندرية، مصر، 2006.
  4. أحمد بدوي زكي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان، بيروت، لبنان، 1992.
  5. إسماعيل عبد الفتاح، موسوعة القيم والأخلاق الإسلامية، مركز الإسكندرية للكتاب، الإسكندرية، مصر، 2005.
  6. امطانيوس مخائيل، ” الخصائص القياسية للصورة العربية لقائمة أدوار الحياة- مقياس القيم ، مجلة اتحاد الجامعات العربية للتربية وعلم النفس، عدد1، دمشق، 2002.
  7. حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر: بحث استطلاعي اجتماعي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 1985.
  8. عادل العوا، القيم الأخلاقية، الشركة العربية للصحافة الطباعة والنشر، دمشق، سوريا، 1965.
  9. عبد الحليم أحمد، تعليم القيم في نظم التعليم العربية، ورقة مقدمة في مؤتمر القيم والتربية في عالم متغير، جامعة اليرموك، الأردن، 1999.
  10. عبد الباسط عبد المعطي، ” عرض تحليلي لمفهوم القيمة “، المجلة الاجتماعية، العدد 1، مجموعة 7، 1970.
  11. عثمان محمد غنيم وماجدة أحمد أبو ونط، التنمية المستديمة: فلسفتها وأساليب تخطيطها وأدوات قياسها، دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1، 2007.
  12. على خليل أبو العينين، القيم الإسلامية والتربية، مكتبة إبراهيم الحلبي، المدينة المنورة، السعودية، ط1، 1985.
  13. سمير محمد فريد، ” القيم وتأثيرها على فعالية التنظيم الجيد “، ورقة مقدمة في الملتقى الدولي حول القيم وتسيير المؤسسات، من تنظيم معهد الاقتصاد جامعة فرحات عباس سطيف(الجزائر)، 25/26 مارس1986.
  14. شوقي أحمد دنيا، الإسلام والتنمية الاقتصادية، دار الفكر العربي، مصر، ط1، 1979، ص 47، عن: محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مطبعة دار الكتب المصرية، ط2، ج1، 1935.
  15. فريدة زمرد، “التصور القرآني للتنمية ودور المرأة”، ملتقى دور المرأة في التنمية المستدامة(الرباط_12/16 نوفمبر2007)، المنظمة العربية للتنمية الإدارية(أعمال المؤتمرات)، القاهرة، مصر، 2008.
  16. رسلان بسيوني صلاح الدين، القيم في الإسلام، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 1990.
  17. محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط1، 1997.
  18. محمد محمود البايلي، الاقتصاد في ضوء الشريعة الإسلامية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، ط2، 1980.
  19. معن العمر، قضايا اجتماعية معاصرة، دار الكتاب الجامعي، الإمارات العربية المتحدة، ط1.

[1] رسلان بسيوني صلاح الدين، القيم في الإسلام، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 1990، ص8.

[2] نفس المرجع، نفس الصفحة.

[3] إحسان محسن الحسن، “التراث القيمي في المجتمع العربي بين الماضي والحاضر، مجلة الدراسات العربية، عدد 9، 1990، ص89.

[4] سمير محمد فريد، ” القيم وتأثيرها على فعالية التنظيم الجيد “، ورقة مقدمة في الملتقى الدولي حول القيم وتسيير المؤسسات، من تنظيم معهد الاقتصاد جامعة فرحات عباس سطيف(الجزائر)، 25/26 مارس1986.

[5] حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر: بحث استطلاعي اجتماعي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 1985، ص324.

[6] امطانيوس مخائيل، ” الخصائص القياسية للصورة العربية لقائمة أدوار الحياة- مقياس القيم ، مجلة اتحاد الجامعات العربية للتربية وعلم النفس، عدد1، دمشق، 2002، ص64.

[7] عبد الحليم أحمد، تعليم القيم في نظم التعليم العربية، ورقة مقدمة في مؤتمر القيم والتربية في عالم متغير، جامعة اليرموك، الأردن، 1999، ص13.

[8] أحمد مصطفى خاطر، تنمية المجتمعات المحلية، المكتبة الجامعية، الإسكندرية، 1999، ص36.

[9] عبد الباسط عبد المعطي، ” عرض تحليلي لمفهوم القيمة “، المجلة الاجتماعية، العدد 1، مجموعة 7، 1970، ص103.

[10] حليم بركات، مرجع سابق، ص325.

[11] بتصرف عن: على خليل أبو العينين، القيم الإسلامية والتربية، مكتبة إبراهيم الحلبي، المدينة المنورة، السعودية، ط1، 1985.

[12] أحمد أبو اليزيد الرسول، التنمية المتواصلة: الأبعاد والمنهج، مكتبة بستان المعرفة، الإسكندرية، مصر، 2006، ص87.

[13] عثمان محمد غنيم وماجدة أحمد أبو ونط، التنمية المستديمة: فلسفتها وأساليب تخطيطها وأدوات قياسها، دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1، 2007، ص ص 28/30.

[14] عن الموقع الالكتروني: www.greenline.com

[15] أحمد بدوي زكي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان، بيروت، لبنان، 1992، ص 384.

[16] المرجع السابق، ص92.

[17] نفس المرجع، ص123

[18] أحمد بدوي زكي، المرجع السابق، ص319.

[19] نفس المرجع، ص 136.

[20] فريدة زمرد، “التصور القرآني للتنمية ودور المرأة”، ملتقى دور المرأة في التنمية المستدامة(الرباط_12/16 نوفمبر2007)، المنظمة العربية للتنمية الإدارية (أعمال المؤتمرات)، القاهرة، مصر، 2008، ص 81.

[21] شوقي أحمد دنيا، الإسلام والتنمية الاقتصادية، دار الفكر العربي، مصر، ط1، 1979، ص 47، عن: محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مطبعة دار الكتب المصرية، ط2، ج1، 1935، ص 263.

[22] شوقي أحمد دنيا، المرجع السابق، ص 85.

[23] نفس المرجع، نفس الصفحة.

[24] فريدة زمرد، مرجع سابق، ص84.

[25] نفس المرجع، ص 85.

[26] نفس المرجع السابق، ص 85.

[27] بتصرف عن: عثمان محمد غنيم وآخرون، مرجع سابق، ص ص 91/93.

[28] ماكس شلر (Max Scheler)  1874/1928 من أشهر الفلاسفة الذين أسهموا في تقديم الأخلاق بعد كانت، ذاع صيته في كل من فرنسا وألمانيا على الخصوص بعد الحرب العالمية الأولى، من أثاره “الأبحاث المنطقية 1900″، “الخالد في الإنسان 1921″، ” علم الاجتماع وعلم مفاهيم العالم 1923″، تضاف إليها طائفة من المقالات والدراسات التي تبين موقف شلر.

[29] عادل العوا، القيم الأخلاقية، الشركة العربية للصحافة الطباعة والنشر، دمشق، سوريا، 1965، ص ص 229/230.

[30] إسماعيل عبد الفتاح، موسوعة القيم والأخلاق الإسلامية، مركز الإسكندرية للكتاب، الإسكندرية، مصر، 2005، ص94.

[31] محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط1، 1997، ص43.

[32] إسماعيل عبد الفتاح، مرجع سابق، ص172.

[33] شوقي أحمد دنيا، مرجع سابق، ص99.

[34] معن العمر، قضايا اجتماعية معاصرة، دار الكتاب الجامعي، الإمارات العربية المتحدة، ط1،

[35] محمد محمود البايلي، الاقتصاد في ضوء الشريعة الإسلامية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، ط2، 1980، ص47.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى