دراسات سياسيةدراسات قانونية

منهج تحليل العدالة والمساواة والظلم: العدلوقراطية في مواجهة الظلموقراطية

JUSTICE AND INJUSTICE ANALYSISI APPROACH

الأستاذ الدكتور كمال محمد محمد الأسطل

مقدمة

لا ريب أن العدل هو الحق الذي قامت به السموات والأرض، وانضبط على هديه مسار الوجود، إلا أن تطبيق العدالة في حياة الأمم يخضع لموروث عاداتها وأعرافها وما تسنه من أنظمة وقوانين في واقع روابطها وعلاقاتها الدولية.

وعلى هذا اضطربت مواقف الفلاسفة والحكماء ورجال القانون قديمًا وحديثًا من مسالك تحقيق العدالة، فمنهم من جعل الظلم سبيلاً لتحقيق العدل كقول زهير بن أبي سلمى:

 ومن لم يذدْ عن حوضهِ بسلاحهِ                  يهدَّم ومَن لا يظلمِ الناسَ يُظلـم

ومنهم من جعل القوة أهم عناصر العدل، ومنهم من رأى أن العدالة مرهون توافرها بتوافر الحريات المجردة من القيود والضوابط ومنهم من يرى العدل أحكامًا ممزقة وترقيعات لأنظمة فاسدة.

لقد ساوى أفلاطون في كتابه الجمهورية بين القضاة والأطباء واعتبر كلا من الفريقين لا يحتاج إليه إلا المجتمع العليل. وفي الفكر السياسي تتنوع مفاهيم العدالة رغم أن العدل في جوهره شكل واحد في حين تتعدد أشكال الجور والظلم. وقد خاطر أفلاطون على حد تعبير «ول ديورانت» ووضع تعريفًا للعدالة يقول:‏ “العدالة هي أن يملك الإنسان ويفعل ما هو ملكه”. ويقصد بذلك  أن كل انسان يجب أن يتلقى ما يساوي إنتاجه، وأن يؤدي العمل الذي يتناسب مع طبيعته ومقدرته، والإنسان العادل هو الذي وضع في مكانه الحق باذلا جهده، مقدما تماما ما يساوي ما يتلقاه، فإذا فعل ذلك يصبح المجتمع عظيم الانسجام والفعالية، حيث يصبح كل فرد فيه موضوعا في مكانه، قائما بانجاز أعماله المناسبة له.[1]

الحديث عن العدالة يتطلب تسجيل الملاحظات الآتية بحسب ما أشار لها أستاذنا الدكتور حامد ربيع في تحليله للخصائص الجوهرية لمفهوم العدالة باعتبارها مبدأ وقيمة سياسية. ويمكن حصر هذه الخصائص فيما يلي:
(1) العدالة حقيقة حضارية: أي أنها ترتبط بسياق ثقافي وما له من تقاليد تاريخية، وقيم دينية.
(2)  العدالة في أبسط معانيها تعني إعطاء كل ذي حق حقه ومن هنا يعرف القانون بأنه صناعة العدل والإنصاف.

(3) العدالة بحكم طبيعتها تفترض الحياد، وهو جوهر الوظيفة القضائية.
(4)  العدالة من حيث التطبيق مجموعة من الإجراءات والقواعد تتكون من خلالها – كما يقول حامد ربيع – دلالة الخبرة للتعبير عن ذلك المبدأ الأخلاقي في شكل نماذج سلوكية ترتبط بجزاءات محددة من حيث المعالم والمقومات.

(5) وأضيف هنا أن العدالة هي وظيفية وقيمة وإجراءات حيث يجب أن نميز هنا بين العدالة كوظيفة والعدالة كمرفق ونظام.

(6)  العدالة جوهرها واحد  في كل مكان وزمان حيث أن القاضي هو ضمير الأمة أو ضمير الشعب وليس أداة في يد احد.

خوف الفقهاء من تحليل مفهوم العدالة والخلط مع مفهوم المساواة

من الملاحظ أن الكثير من الفقهاء وعلماء النظرية السياسية يرفض مناقشة مفهوم العدالة والبعض يرى في المفهوم مرادفا لمبدأ المساواة بل يصل البعض إلى حد القول بأن مبدأ العدالة لا يعدو أن يكون الناحية الفلسفية للبعد القانوني لمبدأ المساواة, على أن هذا في الواقع غير صحيح من الممكن تصور أجراء معين غير عادل – مثلا المساواة في الظلم عدل- وأن كان يخضع له الجميع بحيث أنه يجب أن يوصف بأنه  تعبير عن المساواة, المساواة في الواقع تعنى النتائج الواحدة للموقف الواحد , بهذا المعنى نستطيع أن نرى أن المساواة يمكن تتقابل مع العدالة لأن مقتضي مبدأ العدالة هو ذلك التطبيق الواحد للحكم الواحد ولكن العدالة أكثر من ذلك بعدا بمعنى أن صياغة  الحكم في ذاته يجب أن تعبر عن مفاهيم أخرى أكثر بعدا من مبدأ المساواة وإذا أردنا أن نلخص ذلك بلغة أكثر تبسيطا فلنتذكر أن مبدأ العدالة يعنى السياسة التشريعية أما مبدأ المساواة فيعني السياسة الجزائية, السياسة التشريعية تدور حول الأهداف الباطنة التي منها تنبع مفاهيم الصياغة للقواعد أما السياسة الجزائية فلا تعنى سوى الآثار المترتبة على الإخلال بالقواعد وهكذا فإن العدالة كقيمة سياسية لها بعدين أحدهما مكرو كوزموس  Macrocosm  (أي كلي) وثانيها ميكرو كوزمي Microcosm (أي جزئي) , وقد أن لنا تحليلها بشي من التفصيل .

(أ) أول ما لاحظناه ونكرره أن العدالة حقيقة حضارية تعبر عن تراث حضاري معين وتعكس تطور حضاري معين , أن أي محاولة لفهم العدالة دون ربط المفهوم بالتقاليد والقيم التي تنبع من وعى الجماعة وتخلق النماذج السلوكية لا يمكن أن تؤدي إلا إلى تشويه المفهوم الحقيقي للمبدأ والواقع أنه في تحليل الظاهرة علينا أن نميز بين مستويات ثلاث:

أولا : الشعور بالعدالة وهو مبدأ عالمي يعبر عن أحد الحقوق الطبيعية مطلق زمانا ومكانا يميز الإنسان عن الحيوان ويعلن عن أدمية الوجود الإنساني.

ثانيا : مبدأ العدالة وهو ينقل حالة الشعور أو حالة الإحساس الطبيعي ليعبر حقيقة عن واقعية من حيث الزمان والمكان أو هو تعبير خلقي وسياسي عن ذلك الشعور العام الذي مردة الإيحاء.

ثالثا: نظام العدالة كمجموعة من الإجراءات والقواعد تتكون من خلالها دلالة الخبرة لتعبر عن ذلك المبدأ الأخلاقي في شكل  نماذج سلوكية ترتبط بجزاءات محددة من حيث المعالم والمقومات.

(ب‌)– كذلك العدالة تفترض الموقف المحايد والحياد هنا كما سبق وذكرنا لا يعنى السلبية وإنما يعنى التقييم الوضعي البعيد عن الذاتية والمجرد عن التحيز. الحياد بهذا المعنى لا يقتصر فقط على موقف القاضي من الخصومة, بل يتعداه إلى النظام السياسي أجمعه , أن أي صورة من صور النشاط الحكومي يجب أن تفترض الحياد: القائد في مزاولته لسلطاته, الإدارة في مزاولتها لاختصاصاتها كالقاضي لأن الحياد هو ظاهرة ترتبط بكل ماله صلة بالممارسة المتعلقة بالسلطة وهكذا النظام السياسي ذاته عندما يؤدي أي وظيفة كائنه ما كانت يجب أن يتجرد ويبتعد عن المصالح الذاتية والحزبية والفئوية والدكاكينية  ،وعن التحيز لفريق دون أخر لأن وظيفته الأساسية هي تحقيق التجانس.

(ج) كذلك العدالة من حيث مضمونها كممارسة تعنى إعطاء كل ذي حق حقه العدالة بعبارة أخرى هي: أولا شعور بضرورة احترام الآخرين ثم ثانيا هي صفة عامة للممارسة, ثم هي ثالثاً نوع من الممارسة الفعلية والعدالة كممارسة تتضمن عنصرين احترام حق الآخرين من جانب وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين  من جانب آخر. هذين العنصرين يكمل الأخر , هذا المفهوم للعدالة وجد منذ أقدم العصور وعلى الأقل ابتداء من الحضارة الرومانية ، حيث كانت تعرف العدالة بأنها إعطاء كل ذي حق حقه.

(د) وبعبارة أخرى العدالة تتضمن مستويات ثلاث: (1) سياسة الدولة والنظام السياسي بمعنى أهداف تسعى لتحقيقها من خلال الأداة التشريعية بهذا المعنى على الدولة أن تمكن المواطن بأن يشعر بالثقة والطمأنينة عليها أن تسعى لتحقيق السلام بين القيم السياسية في المجتمع الواحد.  (2) هي سياسة أولا أي أهداف للحركة من خلال الوظيفة التشريعية ولكنها أيضاً مرفق مستقل بمثل  جزءاً أساسياً من أجزاء النظام الإداري للمجتمع السياسي, بهذا المعنى مرفق العدالة يعنى تمكين صاحب الحق من الحصول على حقه,(3)  ولكن العدالة أيضا سلوك فردي وبهذا المعنى يوصف الفرد بأنه عادل في مواجهة المشاكل بمعنى الاعتدال. وهكذا تصير العدالة في تعبيراتها المختلفة المتصاعدة تمثل قيما ثلاث كل منها تختلف عن الأخرى وكل منها تتحكم في مستوى معين من الحركة يستقل عن المستويات  الأخرى,1- هي تمكين الثقة والطمأنينة والسلام بالنسبة للمشرع ، 2-وهي تمكين كل صاحب حق بالنسبة للقاضي، 3- وهي الاعتدال بالنسبة للمواطن, بالمعنى الأول هي تعبير عن مبدأ الثقة المشروعة، بالمعنى الثاني هي امتداد لمفهوم الحياد ، بالمعنى الثالث هي تأكيد لفكرة التوازن.

العدالة

–         صعوبات التعريف بمبدأ العدالة : التميز بين العدالة النظامية والعدالة الوظيفية :

–         كلمة العدالة اصطلاح ساد الفقه السياسي في مختلف مراحله . أفلاطون يجعل مؤلفة الأساس الجمهورية حديثا يدور فقط حول هذا المفهوم . شيشرون يكرر التقاليد الأفلاطونية ، ثم  تأتي الحضارة الكاثوليكية في الغرب لتجعل من هذا المبدأ المبدأ المطلق والأصيل . كذلك الحضارة الإسلامية ترفع مبدأ العدالة فتجعل منه المحور الذي يسيطر على جميع أبعاد الحركة والذي يتحكم في جميع أبعاد التطور. وعقب ذلك بأكثر من عشرة قرون تأتي الثورة الفرنسية فتعلن عن أن العدالة هي الأصل وهي الجوهر في كل حركة سياسية. أن العدالة هي محور الحرية, والإخاء هو منطلق مفهوم العدالة والمساواة ليست إلا تأكيد لمفهوم العدالة, ومع ذلك فان المفهوم لا يزال غامضا, والتعريف به حتى هذه اللحظة يمثل أحدى المهام الصعبة التي لم يستطيع أن يواجهها الفقه السياسي بصراحة ووضوح . العالم الأشهر

“كمن” عندما ما أصدر مؤلفة الضخم بعنوان العدالة وعقب مناقشة فكرية عملية استغرقت منه معاناة عديدة الإبعاد انتهي بأن يعرف المفهوم بأن العدالة : العدالة هي عدالة السلام. عدالة الحرية, عدالة الديمقراطية, أو بعبارة أخرى جعل العدالة مرآة للمفاهيم الأخرى, تعكس المبدأ ولكنها لا تملك  أداته المستقلة, أليس هذا تعبيرا عن الإخفاق الفكري؟

–    مما لا شك فيه أن هناك صعوبات معينة في مواجهة التعريف بمبدأ العدالة التحديد بهذه الصعوبات يجعلنا على وعى حقيقي بأبعاد الدارسة. وليس أدل على صحة هذه الملاحظة من أن الموسوعة المشهورة بعنوان “السياسة ” التي أصدرتها مجموعة العلماء الفرنسيين منذ عدة عقود لم تتردد في تعريفاتها من أن تستبعد كلمة العدالة هل هذا لأنها لا تعرف المفهوم أم لأنها وجدت المفهوم أكثر غموضا من أن يخضع لتعريف واضح ومحدد؟

فلنبدأ بذكر تلك الصعوبات حتى نستطيع من خلال معالجتها أن تقديم تعريفنا لمفهوم العدالة.

(أولاً) – العدالة كوظيفة بمعنى أن العدالة تصير أحد الأهداف أو المهام التي تسعي الجماعة السياسية إلى تحقيقها وبحيث تمثل هدفا ثابتا للنظام السياسي.

(ثانياً) ثم العدالة كنظام (كمرفق) بمعنى أنها تتكون من مجموعة إجراءات وضمانات ومؤسسات تتفاعل فيما بنيهما لتشكل ذلك المرفق العام الذي عبر عنه مونتكيسو ” السلطة القضائية ” والتي تمثل أحدى الدعائم الثابتة لكل نظام قانوني. ولكن هل معنى ذلك أن العدالة الوظيفية تنفصل وتستقل استقلالا كاملا عن العدالة النظامية؟

مثل هذا التصور يعنى مغالطة. أن الوظيفة هي أحدى المهام التي يجب على الدولة أن تؤديها والنظام هو الأدوات التي تسمح بأن تحقق تلك الوظيفة. ومن ثم فإن الوظيفة تعبر عن المثالية والنظام يمثل الواقعية. ولكن كما وأن الوظيفة لا بد وأن تتحكم في النظام لأنه تصوير لها. فكذلك النظام لابد وأن يؤثر في الوظيفة لأنه تعبير عنها.

فلنتابع من هذا المنطلق تحليل مفهوم العدالة ابتداء مما أسميناه العدالة النظامية:

التميز بين تنظيم العدالة كمرفق عام وعملية التعامل مع فريق العدالة:

المقصود بالعدالة النظامية

يقصد بالعدالة النظامية تلك المجموعة من القواعد والنصوص التي تحكم النظام القضائي بحيث يكون أداة لتمكين موفق العدالة:

بهذا المعنى نستطيع أن نحدد نتائج معينة:

1)    العدالة ليست فقط مبدأ, بل هي أيضا مرفق عام.

2)    القضاء هو أداة الدولة في تسيير مرفق العدالة.

3)    العدالة كمرفق ورغم ارتباطها بالنظام القضائي إلا أنها أكثر اتساعا من مفهوم الوظيفة القضائية.

4)  العدالة النظامية مقيدة بتلك القواعد القانونية السائدة والنافذة التي تتحكم لا فقط في الأداة القضائية, بل وفي كل تنظيم قانوني يرتبط بوظيفة العدالة وهكذا نجد أن تلك القواعد المرتبطة بمبدأ العدالة النظامية تتوزع حول مجموعتين.

الأولى: تدور حول تنظيم العدالة كمرفق عام.

الثانية: تتبع من مفهوم تنظيم العلاقة بين المواطن والدولة بخصوص التعامل مع مرفق العدالة.

قبل أن نعالج هاتين المجموعتين من القواعد علينا أن نتذكر أن جميع هذه المفاهيم اجتازت مراحل متعددة خصصت لتطور المفهوم العام لفكرة القضاء. فكرة القضاء ظهرت أول مراحلها في القضاء الاختياري تحول ليصير تحكيما إجباريا قبل أن يصل  إلى صورته المعاصرة القائمة على أساس وجود سلطة عليا متخصصة عضويا ووظيفياً ومهنياَ.

–         قواعد تنظيم العدالة كمرفق عام:

العدالة كمرفق عام يجب أن يخضع في تنظيمه لقواعد أربع كل منها تعبر عن أحد المكتسبات الحقيقية التي استطاع الفرد في صراعه التاريخي أن يحققها:

أولاً: القاعدة الإجرائية.

ثانياً: قاعدة التعدد الدرجي.

ثالثاً: قاعدة الاستقلال النظامي.

رابعاً: قاعدة الوحدة الجزائية.

(1): القاعدة الأولىتعني أن القاضي لكي يستطيع أن يفصل في الدعوى يجب أن يسبق ذلك مجموعة معينة من الإجراءات تتابع بشكل معين وتخضع لقواعد معينة من حيث الزمان والمكان هذه القواعد يتغلب عليها الطابع الشكلي ولكن الغاية منها أبعد من أن تكون إجراءات صورية . أنها تسعى لتحقيق أهداف ثلاثة في آن واحد.

    أ‌-    خدمة الدعوى بمعنى رغبة المشرع في أن يتحقق من أن المواطن لم يتقدم إلى القضاء طالبا الفصل في خصومة إلا وقد سبق ذلك من جانب المواطن تفكير حقيقي بجدية دعواه أساسه تقييم الموقف والشعور بأنه في حاجة إلى تدخل لوضع حد لحالة الظلم التي يعاني منها, إن القضاء يعني أساسا رغبة الفرد في أن يقتنع بأنه على حق أو على باطل ولكن ذلك لا يمنع أنه يجب أن نحمي المواطن أيضا من نفسه بأن لا يندفع في طرح أي خصومة- ولو من خلال تصورات خاطئة أو مندفعة-  على القضاء لأن هذا السلاح يصير ذا  حدين , فكما يستطيع أن يستخدمه أي مواطن في أي لحظة من لحظات انفعال فكذلك أن لم تحط العملية بنوع من القيود من الممكن أن تعرض المواطن لتلك الاتهامات والادعاءات في أية لحظة ومن أي شخص, ومن ثم فان فكرة دفع رسوم معينة  ممكن أن يفقدها المدعي تفرض على المواطن نوعا من التأني وعدم الاندفاع قبل طرح الدعوى.

   ب‌-   كذلك يجب حماية غير حسن النية. الدعوى في حقيقتها علاقة فقط بين طرفين ومن ثم يجب أن لا تتخذ ذريعة ووسيلة صورية للاعتداء على الآخرين الذين لم يشتركوا في الدعوى طالما كانوا حسنى النية ويفترض في الفرد حسن النية حتى يثبت عكس ذلك. فلو تصورنا شخصا رفع دعوى ملكية على أخر واستصدر حكما بالملكية لعقار معين لا يملكه لعقار معين لا يملكه أي منهما فان هذا الحكم يعني نوعا من التواطؤ ضد المالك الحقيقي ومن ثم وجدت إجراءات التسجيل وما يتصل بها من قواعد تسمح بالحماية ضد الدعوى الصورية أو ما في حكمها. (رغم أن التسجيل كاشف وليس حجة للتملك، فقد يكون العقار أو قطعة الأرض –مثلا- مسجلة باسم شخص أو أشخاص لا يملكونها فعليا نتيجة وجود مراكز قانونية لا يمكن نفيها) فمثلا كثير من الأراضي في سجلات الطابو وسلطة الأراضي مسجلة باسم أشخاص والمالك الفعلي هو غير أولئك الأشخاص..التسجيل أو وثائق حصر الإرث ليست دليلا على الملكية أو الحق في الملكية الفعلية في كثير من الأحيان).

   ت‌-   كذلك يجب أن تتضمن تلك القواعد الإجرائية حماية المواطن من تعسف الدولة. أن الدولة, أي السلطة هي من حيث الواقع مجموعة  إفراد وممارسة السلطة تسمد الطبيعة البشرية ومن ثم علينا أن نتصور دائما قدرة السلطة على أن تتدخل بأسلوب أو بأخر لحماية من ينتمي إلى السلطة ضد من يناطح السلطة. القواعد الإجرائية بدورها تسمح بحماية المواطن ضد إساءة السلطة لاستخدام حقوقها وامتيازاتها. وهكذا على سبيل المثال لا تستطيع السلطة أن تطعن في حكم قضائي إلا خلال فترة معينة إذا انقضت فقدت حقها في المناقشة.

(2)- القاعدة الثانية: وهي القاعدة التعدد الدرجي (تعدد درجات التقاضي: محاكم صلح-بداية-عليا-استئناف-نقض…الخ)  , تقوم على أساس أن القاضي مهما بلغ من الحكمة والخبرة فهو إنسان ليس معصوما من الخطأ وأن النظام السياسي يجب أن يفتح الباب لإمكانية إصلاح الخط مقتضى هذه القاعدة أن الحكم القضائي لا يستطيع أن يكون نهائيا عقب مناقشة الخصومة وسماع مختلف وجهات النظر مرة واحدة. يجب أن توجد أساليب تسمح بإعادة مناقشة الخصومة عقب الفصل فيها لأول مرة .أن القاضي عقب أن يفصل في الخصومة يصير محاميا. ومن ثم يجب أن توجد درجة أخرى للتقاضي تسمح بتقييم وجهة نظر القاضي الذي فصل في الخصومة لأول مرة بطبيعة الحال لا يجوز أن نجعل هذا الباب وسيلة لإطالة التقاضي لأن العدالة المتأخرة هى في حكم الظلم وهكذا يقوم النظام القضائي على أساس خلق توازن بين الحق في مواجهة الخصومة من جديد وضرورة عدم اتخاذ هذه المناقشة ذريعة لإطالة مراحل التقاضي ومن ثم نجد:

أ‌)   نظام التقاضي على درجتين: سواء سميت الدرجة الأولى  بالقضاء العادي والثانية بالاستئناف. أو سميت بغير ذلك من مسميات فان المبدأ الأساسي هو إمكانية مناقشة الحكم من خلال إعادة طرح الخصومة ولو على مستوى معين . أن ما يسمى بالقضاء الثوري أو العسكري الذي يعني عدم إمكانية طرح الخصومة مرة ثانية هو قضاء استثنائي مخالف لمبادئ العدالة النظامية في معناها الحقيقي.

ب‌) كذلك الجهة التي يجب إن تطرح أمامها الخصومة للمرة الثانية يجب أن تكون جهة قضائية. أن المراجعة أمام الحاكم العسكري أو رئيس الدولة أو من يمثل السلطة الإدارية ليست نوعا من القضاء في معناها النظامي. قد توصف هذه الإجراءات بأنها أدوات لتحقيق العدالة الوظيفية ولكنها في حقيقة الأمر لا تعبر عم العدالة النظامية.

ت‌) وتأكيدا لهذا المبدأ فان القضاء بصفة خاصة في الدرجة الثانية يميل إلى أن يجعل القاضي متعدد الأشخاص. تعدد القضاء ثلاثة أو خمس وقد يكون العدد أكثر من ذلك تسمح بتقييد إمكانيات الخطأ.

ث‌) يعرف نظام التقاضي أيضا ما يعرف بالتماس إعادة النظر في الذي يعني أنه إذا لم يكن هناك نوع من أنواع المناقشة الحقيقية للحقوق فيصير من حق صاحب المصلحة أن يعيد طرح القضية أمام نفس القاضي الذي أصدر الحكم. وهكذا فالحكم ضد غائب يبرر إعادة طرح الخصومة وكذلك لو ظهرت أدلة جديدة في ظروف معينة. تبرر بدورها من التماس إعادة النظر الذي لا يعتبر في ذاته درجة جديدة من درجات التقاضي.

ج‌)  أضف إلى ذلك ما يسمى بقضاء المحكمة الذي في حقيقة لا يعدو أن يكون قضاء متميزا تفسير القانون بحيث يخلق نوعا من الرقابة العليا والأشراف العام دون أن ينظر آلية على أنه درجة ثانية من درجات التقاضي في المعنى السابق تحديده.

(3) القاعدة الثالثة والتي أسميناها بقاعدة الاستقلال النظامي:

تعني أن السلطة القضائية يجب أن تملك استقلالا كاملا من حيث الحركة بحيث أن القاضي يستطيع أن يكون رأيه وأن يعلن عن ذلك الرأي وهو مطمئن لا فقط على أن يكون رأيه موضع الاحترام, بل وعلى أنه لن يخضع لأي نوع من أنواع الإرهاب أو التهديد ولو بالتلميح من جانب أي سلطة أخرى من سلطات المجتمع السياسي . أن هذه القاعدة التي أضحت اليوم مستقرة في الفقه السياسي والنظامي والدستوري تثير أكثر من مشكلة واحدة , فكيف يمكن تحقيق هذا الاستقلال من حيث الواقع وكيف يكن تحقيق الاستقلال رغم أن السلطة القضائية ليست مجرد إصدار قراره بل أنها تعنى أيضا تنفيذ ذلك القرار. ما هي قيمة قرار قضائي لم يقدر له أن ينتقل إلى حيز التنفيذ ولو بالأسلوب الإكراهي, بل أن طبيعة التعامل القضائي تفترض التعاون مع الإدارة  (أو السلطة التنفيذية أو الشرطة القضائية) لأن هذه وحدها التي يجب أن تتولي تنفيذ الأمر القضائي.

الواقع أن مشكلة العلاقة بين السلطة القضائية والسلطات الأخرى تثير الكثير من المشاكل في التحليل السياسي التي لم تجد بعد إجابة واضحة هل القضاء سلطة؟ وهل القاضي في أدائه لوظيفة الفصل في الخصومة يؤدي وظيفة سياسية؟ وإذا رفضت السلطة الإدارية والتنفيذية في حقيقة الأمر المحور النهائي لاحترام حكم القاضي أن تنفذ ذلك القرار أو أن تتعاون مع السلطة القضائية بحسن نية فكيف يمكن الوصول إلى احترام الشرعية القانونية في المجتمع السياسي؟ دون إمكانية الإجابة على جميع هذه التساؤلات وقد ذكرنا أن الفقه لا يزال يقف منها موقف التردد وعدم الوضوح, فإن هناك بعض الملاحظات الثانية التي لا يمكن أن تكون موضع مناقشة:

(أولاً) السلطة القضائية يجب أن تملك استقلالا كاملا, وهذا الاستقلال ليس لحماية السلطة القضائية وأنما لحماية حقوق الأفراد: أن طبيعة الشرعية القانونية هو أن تفسير القانون يجب أن يصدر من سلطة مستقلة عن صنع القانون بحيث لا يكون التفسير خاضعا لعوامل التحكم المرتبطة الذي يرفع عنها صفة الحياد.

(ثانياً) – كذلك علينا أن نتذكر أن القاعدة القانونية تملك دينامكية من نوع معين عندما ينظر إليها على أنها تعبير عن السلطة التشريعية, فهي في حقيقتها أداة من أدوات تنفيذ سياسة الدولة, ولكن التشريع عندما ينظر آلية على أنه تنظيم للعلاقات الفردية فهو في حقيقته نوع من أنواع تحقيق التوازن النظامي في داخل المجتمع السياسي. فقد يبدو لأول وهلة أن هذين الهدفين وهاتين الوظيفتين غير متناقضتين ولكن الواقع أن الخبرة أثبتت أمكانية حدوث التناقض. وذلك عندما تصير الطبقة الحاكمة أو الطبقة التي تتولى التشريع ذات أهداف مستقلة ومتعارضة مع الأهداف القومية والجماعية. وقد رأينا ذلك في نموذج أضحى تطبيق تقليدي بهذا الخصوص وهو قانون “ليشابليه” لم يقتصر على أن يسعى لتحقيق التوازن بل كان هدفه تمكين التوازن للنظام من خلال منطق التفسير الشكلي للمبادئ القانونية القضاء والسلطة القضائية هي وحدها القادرة على التجرد وتحقيق عملية التوازن بين مختلف القوى الاجتماعية منطلق التفسير القانوني.

(ثالثاً) ولعل هذا يفسر لماذا راح البعض يتحدث عما أسماه حكومة القضاء بمعنى أن تمكين السلطة القضائية من أن تكون المحور النهائي لا فقط في الخصومات الفردية, بل وكذلك في فض الخلافات بين القوى والمنظمات السياسية يصير وحده الممثل الحقيقي للصورة المثالية للنظام السياسي. هذا التصور ينبع من مفاهيم مختلفة ولكنها لابد وأن تقود إلى نتائج واحدة ومتشابهة, 1– أول مصادر هذا التصور التقاليد الأمريكية حيث تكونت الدولة نتيجة اتفاق إداري أو ما في حكمه بين قوى إقليمية متعددة وحيث يكون محور السلطة نوع من الوزان بين تلك القوى الإقليمية, من الطبيعي أن تلك القوى ترفض على أيامنا السيادة بمعنى القدرة على أن تقول الكلمة النهائية في لحظات الخلاف, من ثم يصير من الطبيعي أن نلجأ لفكرة المحكمة الدستورية العليا كمحور لمنع ذلك الخلاف من أي يؤدي إلى التصدع العام لهيكل الدولة. 2-المصدر الثاني يقودنا إلى التقاليد الفرنسية وعلى وجه التحديد تقاليد الثورة الكبرى. وهنا يجب التذكير بمبدأ التمييز بين السلطات التأسيسية والسلطات المؤسسة الذي هو محور الشرعية القانونية ولكن الواقع يعنى أن السلطة التأسيسية تستنفذ وظيفتها عقب أن تضع النظام الأساس للسلطة. أما السلطات المؤسسة الدائمة  (بفتح السين) هي التي تحمى صفة الاستقرار والديمومة الجماعية. فكيف تمكن السلطات التأسيسية رغم اختفائها من أن تطمئن على تعاليمها وأوامرها ذات القدسية المطلقة؟ في جلسة 24 ، ترميندور من العام الثالث للثورة  الفرنسية يعلن مفاهيمه وأفكاره أن الدستور هو جسد من القوانين الإلزامية وإلا فلا معنى له وإذا كان الدستور هو جسد من القوانين فعلينا أن نتساءل أي الحارس لذلك الجسد أين السلطة التي تحمى ذلك الوضع في النظام السياسي ؟ أي قوانين مهما كانت طبيعتها يجب أن تفترض إمكانية الخروج عليها مما يعني ذلك من الحاجة الحقيقية لفرض احترامها بدقة وعناية أمر لا يجوز التغاضي عنه” وقد قاد هذا التصور إلى الحديث عن مبدأ دستورية القانون وما ارتبط به من حق القاضي في التقاليد الفرنسية من مناقشة خروج القاعدة التشريعية عن القاعدة الدستورية وحقه كما سوف نرى فيما بعد في استبعاد تلك القاعدة من التطبيق, على أن الواقع أن الحديث عن حكومة القضاة بهذا المعنى سواء كان مرد ذلك المفهوم الفكرة الفيدرالية السلطة أو السيادة القانونية السلطات التأسيسية يتضمن في حقيقة الأمر خلط بين الوظيفة السياسية والوظيفة القانونية للسلطة القضائية . أن الأولى تدور حول قدرة السلطة القضائية على أن تمسك بيدها زمام الأمان في تحقيق التوازن بين أدوات السلطة تقاليد الثورة الفرنسية, فهي دائما تدور حول تحقيق التوازن هل هو هيكلي أم وظيفي أم كلاهما في أن واحد؟ الوظيفة القانونية تدور فقط حول سلطة القاضي وواجبه في أن واحد في أن يعلن كلمة القانون،  أن الأصول التاريخية لمفهوم الوظيفة القضائية هي وحدها التي تسمح بفهم الأبعاد الحقيقية لهذه الوظيفة:

1)  القاضي في نطاق العلاقات الخاصة أي العلاقات المدينة وظيفة أساسا أن يقول كلمة القانون وهكذا فهمت الوظيفة القضائية في الحضارات القديمة حيث كان رجل القضاة تتحدد مهمته بأن يعلن النص القانوني الواجب التطبيق في الخصومة .

2)  وهذا يعني أن سلطة القاضي وواجبه لا يقف عنه حد اكتشاف القاعدة القانونية, بل عليه أن يبحث عن مصادر الفصل في الخصومة خارج التشريع أن لم يوجد, بل وأن يصير من واجبه أن يخلق القاعدة القانونية إذا لم توجد لا في التشريع أو العرف بها يسمح بتحديد الالتزامات والحقوق المتعلقة بالعلاقة الاجتماعية موضع المناقشة.

3)  وهنا تبرز أهمية جريمة نفي العدالة التي تدور حول عدم قدرة القاضي على أن يتهرب من تلك المسئولية برغم عدم وجود القاعدة القانونية, أن عليه أن يفصل في الخصومة أيا كان معناها سواء رفض الادعاء أو بتبرئه المتهم هذا التصور إنما ينبع من أن وظيفة القاضي هي وظيفة قانونية بمعنى أن يقول حكم القانون في مواجهة الأطراف المتنازعة بمعنى الصراعات الفردية المتعلقة بالحالات اليومية.

والخلاصة أن للوظيفة السياسية للقاضي ليست هي الوظيفة القانونية ويجب أن يفصل بينها فصلا واضحا وأن لا يكون من منطلق الجمع بين الوظيفتين أي مبرر للخلط بين المفهوم القانوني للسلطة القضائية المفهوم السياسي لحكومة القضاة.

(رابعاً)- التميز بين الوظيفة القانونية والوظيفة السياسية يسمح بفهم طبيعة العمل القانوني في علاقته بالسياسة التشريعية, أن العمل القانوني لا يعدو أن يكون نقل القاعدة من حيز الوجود المعنوي المجرد إلى التفاعل الحركي مع الحياة الاجتماعية. هذه العملية كما سوف نرى فيما بعد هي محور العمل القضائي ووظيفة مرفق العدالة. الأهداف التي تسعي إليها الأداة التشريعية من القاعدة القانونية ليست مما يدخل في نطاق وظيفة مرفق العدالة أن القاضي تتحدد وظيفته بأنه ليست مما يدخل في نطاق وظيفة مرفق العدالة أن القاضي تتحدد وظيفته بأنه إزاء مجموعة من القواعد الواضحة الصريحة عليه أن ينقلها من حيز التجرد إلى حيز الواقع والممارسة، تقييم تلك الأهداف التي تسعى إليها الدولة أو السلطة التشريعية ليست مما يدخل في اختصاص الوظيفة القضائية والخلاصة أن الوظيفة  القضائية كمرفق للعدالة تتحدد بمحورين: تمكين الأداة التشريعية يغض النظر عن النظام السياسي من احترام القواعد القانونية المنظمة لموقفه ولحاله في نطاق حياته الاجتماعية ونشاطه اليومي. مقتضى هذا التصور أن السلطة السياسية عندما تريد أن تحقق سياسة معينة من خلال الأداة التشريعية فعليها أن تعبر عن ذلك بقواعد قانونية محددة وواضحة,1- من حيث العناصر،2- من حيث حالات التطبيق، 3- من حيث الجزاءات المختلفة لا يستطيع المشرع أن يكتفي بصياغة مبادئ عامة مبهمة.

1-في العقيدة النازية كان يتوجب على القاضي أن يعتبر  أي فعل حتى ولو لم ينص علية القانون بما يهدد العقيدة النازية لأنه مخالف مفهوم ومقتضي الأمن السياسي للنظام النازي جريمة يعاقب عليها القانون وعلى القاضي أن يحدد معنى تلك الجريمة والعقوبة التي يراها يعتبر من القوانين غير الشرعية التي لا يجوز أن يقف أمامها القاضي موقف الاحترام.

2- من قبيل ذلك التصور أيضا القانون والسائد في النظام الشيوعي والذي أساسه أنه واجب على القاضي أن لا يستمع ولا يقبل أي أثبات مما يتعارض مع مفهوم الماركسية السياسية. أن جميع هذه التصورات تخلط بين الوظيفة القانونية والوظيفة السياسية ليست وظيفة القاضي في فصل الخصومة سوى تعبير عن طبيعة العمل القانوني وهي مستقلة استقلالا كاملا بكل ماله صلة بالأداة التشريعية في معناها السياسي والإيديولوجي.

(خامساً) – أن القاضي بهذا المعنى ليس فقط أداة تسمح بتحقيق التوازن القانوني دون التوازن السياسي وإنما هو أيضا أداة تسمح بخلق الارتباط والتعانق بين القيم الفردية والقيم الجماعية أنه ضمير الوعي الاجتماعي يعبر عن ذلك الضمير تارة بطريق مباشر وتارة أخرى بطريق غير مباشر وهو يظل دائما الحارس الأمين لتلك القيم الجماعية وعلى وجه التحديد لكيفية خلق الانصهار والتفاعل بين القيم الفردية كما سبق وحددناها والقيمة الجماعية العليا, أي التطور الديمقراطي كما سبق وأبرزناه في غير هذا الموضع.

كيف يمكن تحقيق الاستقلال النظامي:

الأدوات عديدة والمسالك بنائية والتقاليد متعددة رغم ذلك فعلينا أن نقف أمام بعض  الخبرات في دلالتها العامة ولو بالكثير من الإيجاز:

أ‌-   القاضي لا يتبع شكلا أو فعلا أي سلطة من الوجهة النظامية سوى السلطة القضائية لا يتبع السلطة التنفيذية بحيث لا يجوز لها أن تتدخل في عمله حتى ولو بالتلميح ولا يتبع السلطة التشريعية بحيث لا تتدخل في سلطاته حتى ولو بالإشراف أن الحادث المعروف من حديث نيكسون أثناء محاكمة بعض المتهمين في أحدى الجرائم العنيفة في صيف عام 1970 يكتشف بصراحة عن مدى إطلاق هذه القاعدة لقد خرجت الصحافة الأمريكية تنعي على رئيس الدولة أنه وصف أحد المتهمين الذين نسب إليهم قتل أسرة كاملة بأنه مجرم يتضمن مخالفة ومغالطة للقواعد الدستورية المتعلقة باحترام السلطة القضائية.

ب‌- كذلك فإن القاضي لا يخضع لأي توجيه حتى من داخل السلطة القضائية. أن التنظيم التصاعدي للسلطة القضائية لا يعني المحاسبة وإنما يعني الخلاف في الرأي والتقييم وتمكين المواطن من أن ينتفع من ذلك الخلاف لأنه أكثر مدعاة لتأكيد المفهوم الوظيفي لمرفق العدالة وهكذا من حيث الواقع نجد أكثر من حالة واحدة وقف فيها قاضي أول درجة مصراً على رأيه حتى ضد محكمة النقض دون أن يعني ذلك أي مسئولية. بل وأثبتت الخبرة التجريبية أنه في كثير من الأحيان يكون قاضي أول درجة أكثر حساسية وأكثر قدرة على التفاعل مع الواقع والتعبير عن ديناميكية الحياة القانونية والعدالة الاجتماعية من قضاة محكمة النقض والإبرام والاستئناف.

ت‌- على أن المحور الحقيقي لكل ذلك هو عملية تعيين رجل السلطة القضائية كيف يتم ذلك؟ أن الإجابة على هذا السؤال هي التي تحدد المحك العملي  من تمكين القاضي أو عدم تمكينه من الاستقلال وهنا نجد أمامنا مسالك ثلاث كل منها له خصائصه وميزاته:

1-  التعيين عن طريق السلطة التنفيذية: أسلوب يفترض علاقة التعاون بين السلطتين التنفيذية والقضائية, ولكنه يعني تداخلاً من جانب السلطة التنفيذية حيث من منطلق فكرة الاختيار تستطيع أن تفرض على السلطة القضائية نوعا معينا من الإشراف.

2-  التعيين عن طريق الانتخاب. هذا الأسلوب الذي لا تزال تعرفه بعض النظم الغريبة  وكانت تعرفه أيضا النظم الشيوعية رغم أنه قد يضمن الاستقلال من حيث الشكل, إلا أنه في الواقع يفتح الباب أمام الفوضى الديماجوجيه أن الاختيار القاضي ليست عملية اختيار لمن يمثل المجتمع السياسي أمام سلطة أو أهداف الرقابة الشعبية في مواجهة الأداة الحكومية يعني اختيار لرجل ينتهي إلى مهنة معينة وترتبط بصلاحيات وظيفية معينة.

3-  ويأتي أسلوب أخر يدور حول أن عملية الاختيار أنما يجب أن تتم من جانب السلطة القضائية ومعنى ذلك أن أولئك الذين يزاولون فعلاً العمل القضائي هم الذين يختارون الذي يلح لتلك المهنة أو من يصلح لأن يخلفهم طبقا لأسلوب ولمواصفات معينة يحددها النظام القانوني.

هذا النظام الذي هو تعبير في حقيقة الأمر عن مفهوم الاستقلال المهني يسمح بتمكين السلطة القضائية من الاستقلال والفاعلية، ويرتفع ذلك المفهوم إلى أقصاه عندما يخضع القاضي أيضا في ترقيته وتنقلاته إلى سلطة ممثلي السلطة القضائية دون تمكين أي سلطة أخرى من التدخل أيضا في تلك الإجراءات.

(4)- القاعدة الرابعة والأخيرة : تدور حول مفهوم الوحدة الجزائية, معنى ذلك أن مقتضي مبدأ العدالة أنه في داخل المجتمع القانوني الواحد أنه يجب ألا تتعدد الجزاءات وأن تختلف إزاء الموقف الواحد بمعنى آخر أنه إزاء علاقة واحد من حيث عناصرها وخصائصها فلا يجوز أن يختلف الجزاء من حيث الشرعية من عدمه ومستويات تلك الشرعية تبعا لعناصر لا صلة لها بالموقف فمثلا على سبيل المثال لا يجوز أن نجد في مجتمع سياسي واحد الزواج من أكثر زوجة واحدة أمر مشروع يصير غير مشروع نتيجة لاختلاف عامل الدين أو ما في حكمة.  أن العدالة تقتضي المساواة، والمساواة تعني أن المواقف المتجددة في عناصرها لابد وأن تؤدي إلى نتائج واحدة، وهكذا لا يجوز أن نجد في داخل مجتمع واحد من الممكن إنهاء العلاقة الزوجية بإرادة الفرد المطلقة أمراً مشروعاً بالنسبة لمواطن وغير مشروع بالنسبة لمواطن آخر ،وأن المجتمع السياسي الواحد يجب ألا يعرف سوى نظم قانونية واحدة ويجب إلا تتناقض الحلول داخل المجتمع السياسي الواحد لأن هذا لا يعني فقط عدم التناسق والانسجام, بل يخالف مبدأ العدالة القانونية. هذا المبدأ ليس بالجديد في التقاليد التشريعية, ابن المقفع دافع عنه في رسالة الصحابة عندما توجه إلى الخليفة يطالبه بوضع حد للفوضى الشرعية بسبب تعدد المذاهب الفقهية , ذلك التعدد الذي وصل إلى حد الحلول المتناقضة والمتعارضة حتى في أدق المشاكل المرتبطة بنظام الأسرة وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بظاهرة الطلاق ، وقبل ذلك بعدة قرون أثار تلك المشكلة “تاسيت” في خطابة أيضا لقيصر بخصوص ظاهرة متشابهة, هذا المبدأ هو الذي سيطر على فكرة تقنين القواعد القانونية في أواخر القرن الثامن عشر منعاً للفوضى النظامية من خلال التعدد في تفسير القواعد العرفية .

تحليل مفهوم الظلم أو نفي العدالة :

فهم العدالة لا يكفي بخصوصه أن نسلك منطلق التحليل الايجابي للمبدأ موضع المناقشة, أن غموض المبدأ يفرض علينا أن نصل إليه من خلال نفي المبدأ حيث النفي يؤكد المنطوق, لقد سبق أن رأينا أن العدالة مفهوم دياليكتيكي وهذا يفسر كيف أن أحد منطلقات المبدأ هو الظلم أو نفي العدالة.

ما معنى الظلم السياسي ؟ في أوسع معانيه هو عدم احترام الحقوق الأساسية والطبيعية التي تفرضها المساواة السياسية من حيث الواقع ظاهرة الظلم السياسي تثور لسببين: الأولى ما يسمى بالقوانين غير العادلة والثانية جريمة نفي العدالة.

(1)- القانون  غير العادل هو أحد الاصطلاحات التي قد استخدامها خلال القرن السابع عشر لتعبر عن ذلك النموذج من النشاط التشريعي الذي رغم صحته من الناحية الشكلية من حيث الموضوع يتضمن مخالفة لمبدأ العدالة وهنا يثور السؤال التالي: ما هو موقف القاضي أمام القانون غير العادل؟ أي القانون الذي تضمن إجراءا أو قاعدة تخالف مفهوم العدالة ؟ والتطبيق الصريح الواضح لذلك الموقف سبق أن أثارته في لحظات معينة تلك القوانين المخالفة للعدالة الكاثوليكية وللأخلاقيات الكاثوليكية . المواطن في تلك اللحظة وحيد لا يجد وسيلة لحمايته سوى فقط القضاء والقضاء بدوره مقيد لأنه من الناحية العملية تابع  للدولة وللسلطة. والخلاصة أن السلطة القضائية لا تملك أن تعطل السلطة التشريعية ومن ثم لا يجوز لها أن تتدخل فيما هو من غير صميم عملها, على أننا لو فسرنا العلاقة بين السلطتين بمعنى أن  كلا منهما تستمد وجودها من السلطة التأسيسية وأن المبادئ السياسية والقيم بما في ذلك مبدأ العدالة تكون محور الديناميات للنظام السياسي بحيث تقييد كلا السلطتين القضائية والتشريعية فإن أي مخالفة لذلك المبدأ تعنى مخالفة لذلك القسط من المبادئ التي تكون النظام الأساسي للمجتمع ومن ثم يصير من حق القاضي بل ومن واجبه أن يعلن عن تلك المخالفة ومن واجب المشرع أن يحترم ذلك الإعلان وسبيل القاضي إلى الإعلان عن تلك المخالفة هو عدم احترام القانون غير العادل؟ القاضي هو تعبير عن ضمير الأمة أو ضمير الشعب..القاضي لا يعمل مع الأحزاب وليس موظفا من موظفي السلطات التنفيذية..

على أن الواقع أن فكرة القانون  غير العادل أو القانون الظالم استطاعت أن تندمج في مفهوم أكثر اتساعا وهو مبدأ الشرعية, أن مقتضي الشرعية السياسية هو أن القواعد الصريحة القانونية وثم تكاملها شكلا إلا أنها لم تعد تعبر عن التميز والوعي الاجتماعي –الشرعية السياسية هي التبرير الحركي لمخالفة الشرعية القانونية. القانون الظالم هو تعبير عن الشرعية القانونية أنه قانون صحيح من الناحية الشكلية ولكنه مخالف لمبادئ العدالة السياسية وهكذا أضحى من الممكن مهاجمة القانون غير العادل من منطلقين: منطلق الدستورية من جانب ومنطلق الشرعية السياسية من جانب آخر.

(ب)- كلمة نفي العدالة تعنى التطبيق الثاني للظلم السياسي : نقصد بذلك أن القاضي لا يملك لأي سبب من الأسباب أن يرفض الحكم في أي خصومة تعرض عليه بمعنى أخر أن القاضي بحكم كونه يمارس اختصاصات في إدارة مرفق العدالة وقد تحدد تلك الاختصاصات من حيث الزمان والمكان ملزم بأن يقول حكم القانون في أي خصومة تطرح عليه ولا يملك أن يمتنع عن أداء تلك الوظيفة لأي سبب ولو بحجة عدم وجود نص أو قاعدة قانونية . المشكلة تثور بهذا المعنى بأسلوب من اثنين في القضاء الجزائي عدم وجود نص يقضي الحكم بالبراءة ولكن في القضاء المدني والإداري فان عدم وجود نص كما سبق ورأينا يفرض على القاضي أنه يقوم بعملية تقريب للموقف من خلال القياس لأقرب النماذج المتشابهة والتي ينص عليها القانون، وأن لم يستطيع  ذلك فعلية أن يخلق القاعدة القانونية وعند ذلك تصير السلطة القضائية من حيث الواقع سلطة تشريعية ويصير القضاء أحد مصادر القاعدة النظامية . أيضا في هذه الحالة لا يملك القاضي أن يرفض الحكم في الخصومة بدعوى عدم وجود القاعدة ، انه في  تلك اللحظة يكون مرتكبا لجريمة نفي العدالة التي تبرر محاكمة نفس القاضي.

العدالة السياسية:

كلمة العدالة السياسية تثير في الذهن مجموعة من الوقائع الخاضعة لحكم القانون بمعنى المعالجة الجزائية وأسلوب معين لتلك المعالجة, وهي بهذا المعنى تبدو لأول وهلة موضع التناقض فالعدالة تفرض الحياد وعدم التحيز ،  والسياسة تعني التحيز وعدم الحياد , فكيف نصف العدالة بأنها سياسية؟ وعندما تعود إلى التقاليد التاريخية والخبرات المختلفة نجد أن مفهوم العدالة السياسية يرتبط بكثير من النماذج التي أضحت علامة من علامات النظم السياسية والمخالفة لمبادئ الحياد القانوني ولنذكر على سبيل المثال محاكمة سقراط ..

العدالة السياسية لا تعدو أن تكون خروجا على القواعد التقليدية أي عن قواعد العدالة القانونية في معناها الضيق باسم ما أسمي بخصوص التطبيقات بالعدالة السياسية فما معنى ذلك؟

(أ)-  أول ما نلاحظه أن مفهوم العدالة السياسية يعلن منذ البداية أنه يعنى خروج على القواعد العامة بحيث أن تطبيق مبدأ العدالة في معناه التقليدي لابد وأن يقود إلى نتائج مخالفة للهدف من ذلك التطبيق, بعبارة أخرى العدالة السياسية هي نفي للعدالة القانونية من حيث الشكل ولكنها تحقيق لمفهوم العدالة القانونية من حيث الموضوع هي تتضمن من حيث طبيعتها إجراءات غير شرعية لو فسرنا العدالة السياسية من منطق القواعد التقليدية تبرر العدالة السياسية الضرورة تفرضها مقتضيات الوظيفة الحقيقية لمفهوم العدالة؟

(ب)- وهكذا يبدو واضحا أن مفهوم العدالة السياسية يحكم طبيعته هو استثناء من القواعد العامة حتى لو قبلنا دلالته فهو غير قابل للتوسع في تطبيقه .

(جـ) تبرز العدالة السياسية على وجه التحديد بخصوص مشكلة حدود شرعية الثورة . أن العدالة السياسية من حيث الواقع تثورا أساسا في أعقاب التغيرات الثورية،  أليس من حق الثورة أن تخرج عن المبادئ الشرعية المتداولة وأن تحطم تلك الأصنام الثابتة القانونية التي قامت الثورة للقضاء عليها دون أن تتقيد بالقواعد الشرعية ؟ من هذا المنطلق يجب أن نسلم ببعض القيود حتى لو قبلنا مفهوم العدالة السياسية.

1)  أن مشكلة العدالة السياسية لا موضع لها إزاء ظاهرة الانقلاب،  أن الانقلاب الذي يعنى تغيير شخص الحاكم ليس هو الثورة ولا مبرر للخروج على القواعد  الشرعية بخصوص حالات الانقلاب.

2)  كذلك بالنسبة للثورة فإن آثار هذه المشكلة تتقيد بالإيديولوجية التي قامت من أجل تحقيقها الثورة.  ليس من حق الثورة بدعوى العدالة السياسية أن تقضي على خصومها متسترة خلف ذلك المفهوم من خلال تلك المحاكمات التعسفية التي تصير بهذا المعنى إجراءاً لا يعبر حتى عن مفهوم العدالة السياسية.

3)  كذلك هذا المفهوم مؤقت زمنيا لا توجد ثورة دائمة أنه مقيد بتلك الحالة المؤقتة المرتبطة زمنيا بعملية التغيير التي فرضتها العملية الثورية والمقيد بتحقيق الاستقرار السياسي الذي يجب أن تسعى إليه الثورة.

4)  كذلك ليس منطلق فكرة العدالة السياسية أن تجعل من القاضي خصما وحكما في أن واحد أن الخروج على مقتضي قواعد العدالة التقليدية لا يمنع من أن القاضي يجب أن يظل محايدا من حيث خصائصه وسلطاته وطبيعة ممارسته لوظيفته.

5)   المفهوم السابق للعدالة السياسية يرتبط بالأوضاع الاستثنائية ولكن التجارب التي عاشها العالم عقب الفترة اللاحقة للحرب العالمية الأولى قادت إلى فرض التساؤل التالي: هل الجريمة السياسية يجب أن تخضع لقواعد مستقلة من حيث التصور المرتبط لمفهوم العدالة؟ بعبارة أخرى إذا كانت العدالة السياسية بمعنى الاستثناء المرتبط بالحالة الثورية تبرر الخروج على القواعد التقليدية أفلا يبرر أيضا طبيعة الجريمة السياسية حتى في غير لحظات الاستثناء الخروج على القواعد التقليدية أو بعبارة أخرى مفهوم العدالة السياسية كنتيجة لمفهوم  الشرعية الثورية قاد إلى إثارة مفهوم الجريمة السياسية بمعنى إخضاع الجريمة التي ترتكب كامتداد ونتيجة للأيمان بالعقيدة السياسية لقواعد متميزة عن قواعد العدالة التقليدية بعبارة أكثر دقة التساؤل يدور حول: هل المجرم السياسي يجب أن يخضع لنفس القواعد التقليدية أم لابد من أن تخضع لقواعد أخرى متميزة؟ في هذه الحالة استثنائية العدالة السياسية لا تصير مرتبطة بطبيعة الثورة وإنما تتعلق بخصائص النظام القانوني المستقر والدائم والذي يبرر عدم إخضاع الجريمة السياسية للقواعد القانونية المعتادة ، أو بعبارة أخرى في النموذج السابق تصير العدالة السياسية مبرر للخروج على النظام القائم دون أن يرتبط ذلك باحترام للحقوق المكتسبة , أما في الحالة الثانية فان هذا الخروج يتضمن التنظيم الدائم المستقر الذي لا يتعارض مع الحقوق المكتسبة , إزاء هذا التساؤل نجد نموذجين مختلفين ,1- احدهما يرى  في المجرم السياسي مجرم عقيدي يجب أن ينظر إليه بنوع من الاحترام ، ومن ثم يصير منطلق العدالة السياسية التخفيف في الجريمة والتخفيف في معاملة المجرم هذا المنطلق هو المنطلق الذي ساد النظم الليبرالية التقليدية , مدلول هذا التفسير أن حياد الدولة وعدم كفايتها يفرض علينا أن ننظر إلى المجرم السياسي على انه اقل خطورة من المجرم العادي. تخفيف في معاملة المجرم ، معاملة متميزة للمجرم كذلك فان السلطة التي تحكم آو تفصل في الجريمة السياسية يجب إلا تمثل السلطة السياسية وأن يصل دائما الاختصاص للسلطة القضائية بمعناها التقليدي, منطلق هذا المبدأ أن وظيفة العدالة واحدة لا تتجزأ ولكن نسبية التطبيق تفرض  نفسها على ذلك  تبعا لخصائص المتهم: أن المتهم بالقتل لأهداف سياسية لا يجوز أن تخضعه لنفس القواعد التي يخضع لها المجرم العادي كالقاتل لهتك عرض أو لسرقة عادية .

2- ثانيهما ، أن النظم الإيديولوجية على العكس من ذلك تقوم على أساس مخالف لهذا المبدأ ولهذا التصور أن منطلق العدالة السياسية في  هذه النظم الشمولية أن المجرم السياسي أكثر خطورة من المجرم العادي: أنه يتحدى الدولة ونتائج جريمته لا تقف عند حد المصلحة الخاصة قبل أن  تتعدى ذلك إلى الأمن القومي في كماله وإطلاقه, كل هذا يبرر التشديد والمعالجة القاسية بما في ذلك الخروج في الآدمية إزاء المجرم السياسي, بل وإخضاعه لسلطات قضائية تمثل أساس الوظيفة الإيديولوجية للدولة  تخفيف في النموذج الأول تشديد في النموذج الثاني كلاهما تعبير عن تصور مختلف لمفهوم العدالة السياسية أو بعبارة أكثر دقة لمفهوم الجريمة السياسية.

العدالة السياسية في التقاليد الإسلامية:

الحضارة الإسلامية عرفت تصورا أخر أساسه النظرة إلى مبدأ العدالة على أنه المبدأ الأصيل الذي يشكل ويتحكم في جميع المبادئ الأخرى , من هذا التصور نبعت جميع المبادئ السياسية في التقاليد الإسلامية بل أن مراجعة عملية البناء السياسي الإسلامي تفصح عن أن مبدأ العدالة ظل دائما هو المحور الأصيل في نظام القيم السياسية .

الوقائع عديدة ولنتذكر بعضها:

أ‌-   لوعدنا إلى الآيات القرآنية لوجدناها عامرة بالنص على مبدأ العدالة ويكفى للدلالة الآية الواردة في صورة القضاء : ” أن الله يأمركم بأن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل “. هذه الآية تفرق بين التطبيقيين الذين كانا موضع التحليل في هذه الدراسة: 1- الوظيفة وهي التي بدأنا بها، 2- ثم النظام أو المرفق والذي  جعلته الآية مرادف لكلمة الحكم أي العدالة الوظيفية ثم العدالة القانونية

ب‌-  كذلك نستطيع أن تذكر تلك الواقعة المعروفة المنسوبة غلي عمر بن الخطاب عندما جاء مصري يشكو من  ابن عمرو بن العاص الذي كان واليا على مصر موضع الشكوى أن إبن عمر ضرب مصري بالسوط عندما تنازعا على فرس كان يملكه المصري ويحضره والده فلما سمع بتلك الشكوى عمر بن الخطاب وتحقق منها دعي عمرو بن العاص وابنه إلى مجلسه ثم أعطى المصري سوطا وطلب منه أن يضرب أبن عمرو وقال بهذه المناسبة كلمته المشهورة : ” أيا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ” وواضح من هذا أن مفهوم الحرية إنما يتحقق من خلال مرفق العدالة بعبارة أخرى العدالة بمعنى عدم التحيز بمعنى الحياد وإعطاء كل ذي حق حقه تمكن المواطن من الحرية أن الحرية رهن بمبدأ العدالة وليس العكس.

هذا التصور الإسلامي قاد إلى نتائج عديدة:

أولا : مفهوم العدالة بمعنى الصلاحية للحياد وعدم التحيز وحسن التقييم هو شرط من شروط أي ممارسة للسلطة وهو ليس قاصر على ولاية القضاء بل هو يتعدى ذلك لكل أمامه أو ولاية الماوردي في الأحكام السلطانية :” أما أصل الإمامة فالشروط المعتبرة سبعة أحدهما العدالة “ .

ثانيا : العدالة ليست فقط شرط مرتبط بالصلاحية للممارسة القيادية وإنما هي عنصر من عناصر استخدام السلطة أيا كان قدرها بعبارة أخرى هي شرط يجب أن يتوفر فيمن يختار لمن يتولى السلطة وأن يظل قائما في ممارسته للسلطة في جميع مراحل تلك الممارسة .

ثالثا: بل أن مفهوم العدالة في التقاليد الفكرية الإسلامية يرتفع ليعبر عن أحد خصائص النظام السياسي المثاليكلمة السياسة العادلة هي الصفة المتداولة في الفقه السياسي للتعبير عن النموذج المثالي والتي يعرفها ابن خلدون أنها تلك التي تعني إسعاد الأمة والعمل على تحقيق مصالحها .

والخلاصة : أن الحضارة الإسلامية تنظر إلى مبدأ العدالة لا فقط كحقيقة ماكروكوزمية (كلية)  تمثل النظام بل وحقيقة ميكروكوزمية (جزئية ) تميز سلوك المواطن . لا تقتصر على أن تفرض هذا الالتزام في علاقة الدولة الإسلامية -ورغم أنها دولة عقيدية- لغير المسلم بل وبعلاقة السلطة الإسلامية بالعدو بل وألزمت المواطن أن يحترم هذا المبدأ حتى ضد نفسه. أن مراجعة كتاب سلوك المالك في تدبير المسالك لابن أبي الربيع خير نموذج للتعبير عن تلك الدلالة.

إن غياب العدالة في داخل المجتمع أو الجماعة أو الدولة وعلى جميع المستويات المحلية والإقليمية والدولية والعالمية قد يقود إلى العنف والتمرد والانقلابات العسكرية  وتشكيل الجماعات المسلحة وزيادة نفوذ الأجهزة الأمنية والحط من كرامة المواطن بما يدفع البعض إلى البحث عن تحقيق العالة بأي طريق متصور ممكن أو غير ممكن.

–         العدالة الوظيفية : تحليل مفهوم العدالة :

–    العرض السابق تناول العدالة كحقيقة نظامية أو بعبارة أدق كمرفق تتولاه الدولة ولكن الواقع أن مفهوم العدالة أكثر من هذا اتساعا , أن العدالة كوظيفة أو بمعنى أدق كهدف وقيمة يجب أن يسعى إلى تحقيقها النظام السياسي تلقي بنا في أعقد متاهات الفلسفة السياسية, العدالة الكيفية ليست هي العدالة في معناها الإجرائي

–         فلنبدأ بمحاولة تحليل مفهوم العدالة كقيمة سياسية :

–    أولا : أول ما يجب أن نلاحظه أن العدالة بمعنى القيمة السياسية تفترض تأكيد قيمة أخرى وهي قيمة الآخرين لو لم نتصور أن الأخر في العلاقات الاجتماعية له قيمه لما كان هناك موضع لمفهوم العدالة.

–    ثانيا : أن العدالة في حقيقتها علاقة بالآخرين وهي بهذا المعنى نوع من أنواع التعامل أو منطلق لمفهوم النبل في الحركة , أساسه الأول هو أن العلاقات علاقات إنسانية , هل نستطيع أن نتصور عدالة بالنسبة للحيوان أو الجماد ؟ العدالة تفترض الإطار والوسط الاجتماعي.

–    ثالثا : قيمة للأخذ وسط إطار اجتماعي أضف إلى ذلك مفهوم الحرية إلى العدالة تعنى تصورا معينا للحرية أو بعبارة أخرى فإن مفهوم العدالة يفترض أن يكون  مفهوم الحرية أساسه التوفيق بين المصالح وليس الإطلاق في المصالح , خلق التنسيق بين المصالح وليس ترك التحكم في المصالح يسيطر على العلاقات وكانت لا توجد حرية دون فردية ولا توجد فردية دون حرية فإن لا توجد عدالة دون النظرة الإنسانية ولا توجد إنسانية دون عدالة.

–    رابعا : العدالة توجد وتتطور من خلال منطق العلاقة الديالكتيكية بين المواطن والجماعة وإذا كان الفرد يستطيع أن يكون حرا دون التجمع السياسي وإذا كان التجمع السياسي يقف عقبه ضد الحرية فإن لا موضع للحديث عن العدالة دون  التجمع القانوني ولا قيمة للتجمع القانوني دون تأكيد لمفهوم العدالة.

–    رغم ذلك فإننا لم نعرف بعد العدالة ما هي المتغيرات الدقيقة التي منها تكون ذلك المفهوم, العدالة نوع من أنواع التبرير والمنطقية للحركة في العلاقة بين المواطن والمواطن, ولكن ما هو مدلولها كهدف للحركة؟ ما هي عناصرها كقيمة عليا تسيطر على الوجود السياسي؟ لماذا هذا المفهوم يضفى على الحركة صفة لنيل    سواء .

–    لو عدنا إلى أفلاطون لوجدناه يتحدث عن العدالة بمعنى السعادة ولكن هل السعادة يمكن أن توصف بأنها مرادف لكلمة العدالة.

–         كل هذا يقودنا إلى اكتشاف تلك الخصائص الجوهرية التي تمثل حقيقة مفهوم العدالة كمبدأ سياسي:

–    أولاً: العدالة هي حقيقة حضارية: أنها تعبير عن حضارة معينة , بل قد رأينا أنها قد تصير تعبيرا عن ذاتية فردية معينة, الحقيقة الحضارية تدنى النتائج العديد المرتبطة بالمستوى الثقافي والتقاليد التاريخية والقيم الذاتية.

–    ثانيا : العدالة بحكم طبيعتها تفترض الحياد, لقد سبق أن رأينا كيف أن منطلق هذا المفهوم ولو بتفسير خاطئ, هو الذي تحكم في طبيعة التصور العام لمفهوم الوظيفة القضائية, أن العدالة والحياد هما حقيقة واحدة , بقي أن نفسر معنى العدالة ومعنى الحياد.

–    ثالثا: العدالة في أبسط معانيها تعنى أعطاء كل فرد حق حقه, بهذا المعنى قد توصف العدالة بأنها عدالة مساواة أي أن كل صاحب حق لا يختلف عن أي صاحب حق أخر في الحصول على حقه, ولكنها قد توصف بأنها عدالة توزيعية بمعنى أن الثروات التي يملكها المجتمع يجب أن توزع على المواطنين بنوع من المساواة أساسها الظروف الموضوعية لكل مواطن ولكل فرد.

–    رابعا: وهذا يقودنا إلى الجوهر الحقيقي لمفهوم العدالة أن العدالة الوظيفية ليست في حقيقتها إلا مجموعتين من الإجراءات : أولا: المساواة حينما تربط بالعدالة تقودنا إلى مفهوم أخر ما هي المفاهيم الحقيقية أي المبادئ الفكرية التي يتكون منها مبدأ العدالة الوظيفية , نستطيع أن تحددها بغايات ثلاثة : الثقة أولا بمعنى الشعور بالاستقرار والمعرفة المسبقة بالحقوق والواجبات ثم الطمأنينة ثانيا بمعنى احترام الحقوق المكتسبة الطمأنينة هي الوجه الأخر للثقة التي من خلال عامل كل منهما بالأخر لابد وأن نصل إلى مفهوم السلام الاجتماعي العدالة بهذا المعنى رغم أنها قيمة فردية الإ أنها قيمة فردية الإ أنها في الواقع جوهر القيم الجماعية أو بعبارة أخرى هي البعد الاجتماعي للقيم الفردية .

–    خامسا: وهذا يقود إلى فهم حقيقة العدالة من حيث التطبيق, أنها مبدأ يجمع بين العمومية والنسبية فإذا كانت عامة كمبدأ عام فإنها نسبية كتطبيق أن العدالة بالنسبة لفرد معين لا يمكن أن تصير تطبيقها للمفهوم العدالة بالنسبة لفرد أخر, الاختلاف في الظروف يعنى الاختلاف في الدلالة وما يصلح في مجتمع معين لا يصلح في مجتمع أخر , الاختلاف في الظروف يعنى الاختلاف في الدلالة وما يصلح في مجتمع معين لا يصلح  في مجتمع أخر, وهكذا ظهرت فكره العدالة الاشتراكية التي تقوم على أساس أن توزيع الثورة يجب ألا ينبع من مفهوم رياضي كمي وإنما من مفهوم ذاتي كيفي, وهى في حقيقة الأمر تعبر عن مفهوم قديم يعود إلى  المناقشات الفكرية التي أثيرت بخصوص العدالة في الفكر اليوناني, أن العدالة بغض النظر عن كونها قيمة عليا ثابتة عالمية الإ أنها تفترض مبدأ الانتظام والتنسيق الذي يعني بدوره نوعا من التوافق بين الواقعية والقاعدة، بين الحركة الفردية والحركة الجماعية ،بين المواطن والدولة بهذا المعنى وصفت العدالة بأنها تفترض لا فقط المساواة, بل وكذلك التبادل ’لا فقط الكرامة الفردية بل وأيضا القدرات الفردية, وهكذا وصف أفلاطون المجتمع العادل بأنه ذلك الذي يستطيع أن يحقق لكل فرداً إمكانية اتباع مواهبه الذاتية وقدراته الشخصية على أن مفهوم العدالة أكثر من هذا تعقيدا لفهم هذا المفهوم كقيمة سياسية علينا أن نحلل لا فقط المفهوم من حيث جزيئات بل وكذلك عكس المفهوم أي الظلم من حيث مظاهره قبل أن نتناول التجريديات العامة التي تعكس ما تواضعت عليه النظم المعاصرة من التعبير عنها باصطلاح العدالة السياسية”.

[1]- سميا، صالح، العدالة عند افلاطون، مؤسسة الوحدة للصحاف والطباعة والنشر والتوزيع، اللاذقية، سوريا، 8 / 1 / 2007 http://wehda.alwehda.gov.sy/_archive.asp?FileName=40059674420070109030907

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى