من أجل مفهوم جديد لنظرية الدفاع و الأمن: حالة منطقة البحر الأبيض المتوسط

إن الدول التي لا تملك القدرات الكافية التي تسمح لها بالاندماج بكل سيادة في التكتلات الإقليمية و الجهوية، لن تستمر في الانعزال عن المؤثرات الدولية والبقاء بمنأى عن الضغوطات التي تفرضها القوى الخارجية التي تريد ضمان إستراتجية المحافظة على مكانتها واكتساب حصانة سياسية واقتصادية ، مما يجعلها تفرض ما تريده ضمن هذه الإستراتجية شروطا ظاهرها تحقيق المصالح المشتركة و باطنها تهيئة الظروف الملائمة لبسط هيمنتها .

إن الجزائر بحكم موقعها الجيوستراتيجي في منطقة البحر الأبيض المتوسط و باعتبارها ـ تاريخيا ـ دولة محورية في صنع الأحداث في المنطقة ـ جغرافيا ـ ذات امتداد و تنوع طبيعي و بوابة لإفريقيا أما اقتصاديا فهي رقعة تضم مقومات مادية و بشرية هائلة ذات امتدادات مستقبلية ، و احتياطات لا يستهان بها ، أما سياسيا فقد اكتسبت الجزائر منذ الثورة التحريرية مصداقية القرارات و السياسات الوطنية خاصة على المستوى الخارجي ، مما مكنها من بناء مواقف على المستوى الدولي تميزت بالثبات و الصلابة ما جعلها محط اهتمام دول العالم

ونظرا لما تعرفه منطقة البحر الأبيض المتوسط من تفاعلات و صراعات خفية بين القوى المؤثرة في المجال الدولي ، ما أدى إلى بروز محاولات للهيمنة على المنطقة ، إضافة إلى ما تعرفه من مشكلات أمنية زادت من حدة الاهتمام بها كمنطقة جيواستراتجية ساخنة تتمركز فيها الكثير من المصالح و الإستراتجيات ، و عليه أضحى الاهتمام بالجانب الأمني من لدن جميع الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط أكثر من أي وقت مضى ، لكن أقترن ذلك بضرورة بناء منطقة دفاعية خاصة بكل دولة في إطار تسابق نحو التسلح ، أو في إطار مشترك بين الدول المعنية

و هكذا أصبح مفهوما الدفاع و الأمن أكثر المصطلحات استعمالا في الأدبيات السياسية أو من قبل الدارسين و الباحثين ، و عليه حاولت في هذا المقال تسليط الضوء على تحديد معنى المصطلحين و هل يمكن إيجاد تكامل بينهما ؟ أم هما مفهومان منفصلان و ما أهميتهما بالنسبة لضمان استقرار و صيانة سيادة الدولة ؟ ، و ما هو الاستخدام الإستراتيجي لمفهومي الدفاع و الأمن من قبل تلك الدول ؟ ، هذا ما سأحاول الإجابة عليه ضمن محاور هذا المقال .

1 ـ تعريف مصطلحي الدفاع و الأمن

2 ـ مدى تكامل مفهومي الدفاع و الأمن

3 ـ إمكانية الفصل بين مفهومي الدفاع و الأمن

4 ـ تطور مفهوم الأمن الوطني

5 ـ إستراتجية الدفاع من أجل تحقيق الأمن

1 ـ تعريف مصطلحي الدفاع و الأمن:

يعتبر الأمن الوطني من أهم سياسات الدولة و أكثرها متابعة ، إذ تسخر له الإمكانيات المادية و البشرية و توضع له الخطط و الإستراتجيات و يحظى بالأولوية عند اتخاذ القرارات و إنجاز المفاوضات(1) ، لذا ففي الكثير من الأحيان يصبح الأمن مهددا من الداخل أو الخارج ، و ما يتطلبه ذلك من إعداد الجيوش و تجهيزها و تدريبها كل ذلك من أجل ضمان حماية أمن الدولة .

فالأمن قد يقترن بالدفاع عند ما يتعلق بحماية المصالح الإستراتجية للدولة من التهديدات الخارجية ، و المحافظة على سيادتها و عليه فإن الكثير من التعاريف التي وضعت لمفهوم الأمن منها ما جاء مقترنا بالدفاع على المصالح الإستراتجية للدولة ، و منها ما خص توفير الاستقرار الداخلي ، فاوالتار ليبمان lippman Walterيعرفه على أنه” يهدف أساسا إلى إبعاد الخطر و الاستعداد للتضحية بالقيم الأساسية إذا ما أرادت الدولة أن تتجنب الحرب ، و إذا ما فرضت عليها لابد أن تكون قادرة على الانتصار في الحرب”(2) ، و هذا يعني حسبه أن على الدولة أن تتخذ جميع الاحتياطات اللازمة لحماية أمنها سواء تعلق ذلك بالمحافظة على الهدوء و الاستقرار داخل حدود سيادتها دون اللجوء إلى الحرب ، و ذلك يكون عن طريق السياسات الداخلية و الخارجية كالعلاقات الدبلوماسية الناجحة ، أما إذا فرضت عليها الحرب لابد أن يكون لها من الاستعداد المادي و البشري ما يمكنها من الانتصار في الحرب ، وهنا يقترن مفهوم الأمن بالدفاع ، أي أن من أجل توفير الأمن للدولة لابد لها أن تكون في أتم الاستعداد للحرب ، مهما كان نوعها و وسائلها خاصة ما تعلق بالجانب الدفاعي ، فلا يمكن الحصول على الأمن إلا بسياسة دفاعية قوية تكون متكئة على الجيش و القيادة السياسية المتحكمة في زمام الأمور .

إن هذا المفهوم تتخذه الكثير من الدول خاصة القوية منها و التي تسيطر على مسرح الأحداث العالمية ، أو تلك التي دخلت في حروب إقليمية ، مثل الولايات المتحدة و إسرائيل التي تحاول إقامة أمنها الداخلي و الخارجي من خلال بناء جيش ردعي و مدرب و مسلح هو في أتم الاستعداد للتدخل سواء داخليا لردع المقاومة الفلسطينية أو خارجيا،ليتخذ منطقا القوة و التهديد باستخدامها عاملا مهما في توفير الأمن الخارجي(3)

و مفهوم الأمن يعبر أيضا عن الوضعية التي لا يكون فيها أي شخص أو أي شيء معرضا لأي خطر ولأي اعتداء بدني ، أو حادث أو سرقة ، أو تلف وشيك .فالأمن يشعر فرد بأنه في مأمن من الخطر و بأنه مطمئن ، في هذه الحالة الأمن شعور يحس به الفرد داخل المحيط الذي يقيم فيه و قد يتعلق الأمر بأكثر من دلالة لهذا الجانب(4) ، إذ يمكن أن لا يخص فقط الشعور بأن حياته مصانة و في مأمن جسديا ، فالشعور بالأمن حالة شاملة تخص الأمن المعنوي و المادي الذي يتعلق بالسلامة الجسدية التخلص تماما من الخوف و القلق و الشك حول المستقبل و العمل والرزق و المسكن والطريق و المستقبل ، كل هذه الجوانب تشكل الأمن الفردي الذي ينشده الإنسان في أي مكان من هذه المعمورة.

أما موسوعة العلوم الاجتماعية ، فتعرف الأمن الوطني على أنه” قدرة الدولة على حماية قيمها الداخلية من التهديدات الخارجية” (5) و يعني ذلك تمكن الدولة من صيانة مكوناتها و قدراتها الداخلية وسيادتها ، صيانة ذاتية انطلاقا من قدراتها الدفاعية التي كونتها لتكون في أتم الاستعداد لمواجهة الأخطار الخارجية ، فالأمن لا يتم الوصول إليه في هذه الحالة إلا من خلال الدفاع الوطني الذي تشكله الدولة ليكون سدا منيعا ضد الأخطار الخارجية ، فقد ذهب آدم سميث إلي اعتبار الأمن الوطني هو أهم السياسات التي تتخذها الدولة قبل اهتمامها بالجانب الاقتصادي ، لأن توفير الأمن هو السند الحقيقي لبناء الاقتصاد الوطني و في هذا الصدد يقول ” إن الاختيار بين الدفاع و الثروة يستدعي الانحياز إلى الدفاع” .

إن قوام الأمن هو الدفاع و ما يرتبط به من بني عسكرية ، تنطلق من الحصول على الأسلحة المناسبة خاصة المتطورة منها و رأينا عبر المحطات التاريخية المختلفة كيف لعب التسلح الإستراتيجي دورا هاما في توازن القوى و تحقيق الأمن و السلم العالميين ، فالحرب الباردة بين المعسكر الشرقي و الغربي أكثر المراحل تحقيقا للأمن العالمـي بفعل ما تفرضه أسلـحة الدمار الشامل من موانع و حواجز أمام الانخراط في أي عمل مسلح تكون عواقبه وخيمة على العالم أجمع(6).

و من جانب آخر فإن السياسة الدفاعية التي تنتهجها الدول خاصة التي تعرف توترا على حدودها أو تعرف مشكلات تهدد الأمن تأتي من جيرانها ، غالبا ما تلجأ إلى تدعيم سياستها الدفاعية و ابتكار الوسائل الملائمة أو الحصول عليها من أجل مجابهة هذه التهديدات ، و هنا نسجل أن واجب توفير الأمن للمواطنين داخليا أدى إلى تبني سياسة دفاعية خارجية إستباقية قد تكون سياسة تقوم على عقد اتفاقيات أمنية دفاعية مشتركة مع دول الجوار، أو عبر توسيع دائرة المراقبة بالوسائل التكنولوجية الحديثة خارج الحدود الإقليمية و هذا كله من أجل الوصول إلى تحقيق الأمن الداخلي .

قد يؤدي الإصرار على توفير الأمن إلى حدوث صدامات و صراعات بين الدول تنتهي باستخدام القوة و الإفراط في ذلك بداعي المحافظة على الأمن و المصالح الوطنية ، فهناك الكثير من الحروب الإستباقية التي عرفها العالم كانت دوافعها أمنية و مجالاتها أقاليم أخرى بعيدة و ثمنها ضحايا من تلك الأقاليم ، و هذا ما تتذرع بيه الولايات المتحدة في تعليلها للتدخل في أفغانستان و العراق.

الأمن يستدعي الدفاع ، و الدفاع يقوم على القوة ، و امتلاك القوة يؤدي إلى زيادة الأمن و استتبابه ، فمفهوم الأمن لم يعد يقتصر على توفير القوة العسكرية و تحسين متطلبات الدفاع الوطني(7) ، بل تعدى ذلك حديثا إلى صيانة و المحافظة على النظام السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي مثلما ذهب إليه ماكنامرا MC NAMARA، حيث أن توفير العيش الكريم للمواطنين و حماية ممتلكاتهم و استقرارهم كلها تشكل مكونات الأمن الوطني ، إضافة إلى محاربة الآفات الاجتماعية المختلفة و الانحراف و الإجرام ، إضافة إلى وضع الأجهزة الإدارية الملائمة في خدمة الحماية البيئية و صيانة الطبيعة و مواجهة الكوارث الطبيعية .

فالأمن الوطني يمكن أن يتجلى أيضا في الأمن الداخلي ، لكن لا يتعلق بالأبعاد الدفاعية ، بل يتضمن الجوانب المتعلقة بتأمين الغذاء و العمل و الصحة و التجارة ، على العموم يخص توفير الاحتياجات الإنسانية الأساسية (8)، و في هذا الشأن يرى ” بارى بوزان” أن مفهوم الأمن الوطني يشمل الأبعاد البيئية والاقتصادية وتليه الحاجات الأساسية للمواطنين .

و عليه فإن الأمن يتعلق بالحماية و الدفاع عن كيان الدولة و وحدة أراضيها من التهديدات الداخلية و الخارجية ، و تحصيل أهداف المواطنين عامة و اهتماماتهم المتعلقة بالاستقرار و الطمأنينة و التماسك الاجتماعي و التنمية الاقتصادية .

ويضيف ب. بوزان أن الأمن ” مفهوم مثير للجدل أساسا(9) ، و بأنه لا يمكن تعريفه بسبب طابعه السياسي المتصل به ” ، و هكذا فإن هذا المفهوم يتميز بوجود العديد من المقاربات النظرية التي أحيطت به فمنها ما تعلق بالواقعية و منها ما تمحور حول البنيوية و الحداثة ، و معنى ذلك هو محاولة توسيع المفهوم و تجديده ، و عليه يرى الكثير من الدارسين أن الأمن أصبح لا يتعلق فقط بالدولة و إنما تعدى ذلك إلى المجتمع فنضج على إثر ذلك ما يسمى بالأمن الاجتماعي الذي يخص هوية المجتمع(10) ، أما البعض الآخر فيرى أن الأمن هو عمل خطابي دعائي يظهر من خلال استعمال مصطلحات لغوية من قبل المسئولين السياسيين لوصف مشكلة من المشكلات بأنها ذات بعد أمني ، فهناك الكثير من القضايا التي أصبحت تتخذ كذرائع أمنية من أجل تبرير نشاط المتدخلين السياسيين و نقد السياسات الوطنية ، كظاهرة الهجرة السرية و الإرهاب الدولي و تبييض الأموال و المخدرات ، التي أصبحت من أهم المحاور الأمنية التي تعمل السياسة في الدول الأوروبية الواقعة شمال البحر الأبيض المتوسط على استعمالها داخليا و خارجيا ، خاصة اتجاه الدول الواقعة جنوب البحر الأبيض المتوسط باعتبارها مصدرا لتلك الآفات حسب ما تذهب إليه مختلف القنوات الرسمية و غير الرسمية في تلك الدول .

و بالرغم من وجود عدة تعريف للأمن إلا أنها تتقارب كلها و تتحد في الجوهر، و عليه نخلص إلي وضع تعريف شامل يجمع مختلف الآراء و هو أن ” الأمن القومي يعني مجموعة التدابير و الاحتياجات النظرية والعلمية الخاصة بحماية المجال الإقليمي لدولة ما، على أن المجال الإقليمي لا يعني الرقعة الجيو بوليتكية للدولة(11)، بل يشمل الثروات الاقتصادية الإيديولوجية السياسية الخاصة بنظام الحكم في تلك الدول ة، والأهداف الوطنية المختلفة لخصوصياتها القومية و الحضارية ”

و في هذا السياق يمكن أيضا التطرق إلى نظرية الأمن القومي و مفهومها العام ، و هي تتعلق بالاحتياطات الواجب اتخاذها لفرض تكريس السيادة الوطنية للدولة على أراضيها الإقليمية و مصالحها الداخلية و الخارجية المرتبطة ببنائها القومي و الثقافي الخاص(12) .

كما يمكن أن تتعدى نظرية الأمن القومي تعزيز القوة العسكرية و مجالات الدفاع الوطني ، بل تشمل أيضا السياسة الخارجية و التقدير الإستراتيجي للموقع الجغرافي و السياسي الذي يحيط بالدولة و مدى تقاربها أو تنافرها إيديولوجيا مع الدول المحيطة بها ، و دراسة إمكانات الدول ذات المصالح المتعارضة و إمكانات الدول المعادية لها و قدراتها الدفاعية العسكرية و البشرية و الاقتصادية و الجيوبوليتكية وحصر مدى قصور أو تفوق هذه البلدان لاتخاذ كافة الاحتياطات من أجل مواجهتها عندما يتحتم الأمر(13)، أو وضع خطة أمنية حمائية إزاء الأخطار المحتملة الظهور من قبل الأعداء المباشرين أو ربط صلات التعاون و التقارب مع الدول الصديقة و الحليفة، من أجل الحصول على دعم و مساندة في حالة بروز صراع بينها و بين الدول المعادية .

2 ـ مدى تكامل مفهومي الدفاع و الأمن

من خلال ما سبق ، نلاحظ أن مصطلح الدفاع لا يحمل الكثير من الغموض و التناقض مقارنة مع مصطلح الأمن بالرغم من بروزهما في آن واحد في القاموس اللغوي السياسي و الإستراتيجي الحديث ، عندما أصبحت الحرب لا تؤدي حتما إلى حل مشكلات الصراع بين الدول (14).

لقد حل مفهوم الدفاع و الأمن محل مفهوم الحرب في الخطابات السياسية، باعتبار أن الحرب تحمل في ثناياها الكثير من المآسي و الصدمات و الأحزان إضافة إلى الخسائر البشرية و المادية الهائلة التي تؤدي إلى تحطب البني التحتية للدول ، و من ثم أصبح الدفاع و الأمن يحتل مكانة مرموقة في مختلف المحافل السياسية و النظريات المختلفة ، لأن توفر الأمن من خلال المنظومة الدفاعية يسمح بالتطور العادي و المنسجم للمجتمع إضافة إلى السماح بالتطور الاقتصادي و الصناعي لمختلف الدول .

فالحرب كثيرا ما تستهلك عند تصنيع معدات السلاح ، الإمكانات البشرية و الاقتصادية و تجنيد القدرات الاجتماعية مما تصل أثاره السلبية إلى أزمة مستقبلية ممتدة و عميقة .

و هكذا فإن مدلول الدفاع الوطني قد يتعدى الجوانب العسكرية إلى تكوين و بناء المجتمع المنسجم الآمن خاصة بعد الحرب العالمية الثانية ، و موقف منظمة الأمم المتحدة الذي وضع ظاهرة الحرب خارج القانون و منه فإن السياسة الدفاعية و الأمن الوطني ملتصقان عندما تنتهج الدولة السياسة السلمية ، و الإستراتجيات غير العدوانية(15) ، فأصبح المصطلح الأكثر استعمالا في المنابر السياسية هو مصطلح الدفاع ، فأعتى الجيوش التي تقوم على التدخلات العدوانية تطلق على نفسها جيوش الدفاع ، فالجيش الإسرائيلي الذي يستخدم قوته للتعدي على حياة و ممتلكات الشعب الفلسطيني و دول الجوار يطلق على قواته بقوات الدفاع الإسرائيلي.

الدفاع أصبح من اهتمام القانون الدولي بعد إلغاء حق الدول المشروع في الحرب و حل محله حق الدفاع المشروع من أجل حماية الأمن الوطني للدولة ، فتحقيق الأمن صار منذ مدة طويلة يقوم على الإمكانات العسكرية ، و أسلحة الردع التي صارت من صميم الدفاع ، الذي أعطى السلاح مكانة هامة في مجال توفير الأمن (16). لذا فإن فكرة الأمن و مصطلح الدفاع يؤديان إلى تكوين فكرة الاستمرار في الوجود بالنسبة للدولة ، كما أن وحدة الدولة و قوتها تقوم على أساس قاعدة الدفاع ، و يعتبر الدفاع هو أساس لتوفير و استتباب الأمن .

3 ـ إمكانية الفصل بين مفهومي الدفاع و الأمن :

بالرغم مما يؤكد في الكثير من المواضع بأن الدفاع و الأمن مفهومين متلازمين ، إلا أن مفهوم الدفاع لا يمكن أن يتداخل مع الأمن ، و الأمن لا يذوب في الدفاع ، ذلك أن مهما توفر عنصر الدفاع إلا أنه لا يحقق منتهى الأمن ، حيث أن الدفاع يبنى من وسائل تحقيق الأمن ، لكن ليس وحده كافيا لذلك(17) ، لأن تضافر جهود الأمة و تجنيد كافة طاقاتها المادية و البشرية ضروري لتشكيل قوة الردع التي تعتمد عليها الدول من أجل صد أي عدوان خارجي .

الأمن و الدفاع أصبحا يختصان في مجال محدد و في جانب مختلف من الجوانب المكونة لبنية الدولة فالدفاع أصبح من اختصاص شرائح مختلفة من المجتمع و بوسائل غير عسكرية ، كما أن الجيوش أصبحت تساهم في توفير الأمن الداخلي في الكثير من الأحيان و في بعض الظروف.

و في السنوات الأخيرة تميز الدفاع بإجراءات إستباقية بعيدة قانونا عن مفهوم الأمن ، ذلك أن تطور مفهوم الأمن و خروجه من الإطار الكلاسيكي التقليدي الذي لا يخرج عن الحدود المشكلة للسيادة الوطنية للدولة (18)، ظهر أن المفهوم الحديث للأمن تعلق أساسا بالأمن الإستراتيجي أو استمرار الهيمنة و كسب القدرة على الحفاظ على المصالح الخارجية مهما كانت بعيدة جغرافيا ، في هذه الحالات يصبح الدفاع غير ضروري لحماية الحدود الإقليمية و المحافظة على السيادة ، يرجح أن الدفاع أخذ منحنى جديد يختلف عن إطاره التقليدي فلم يعد الدفاع يقوم على السلاح النووي بالنسبة للدول العظمى خاصة الولايات المتحدة ، فاستخدام الأسلحة التقليدية و الأجهزة الإلكترونية الحديثة و الدعاية الصحفية كلها خدمت الدفاع خارج حدود الدول مجددا ، الدفاع بالنسبة للولايات المتحدة اتخذ لباسا جديدا ضمن منظومة القيم والأفكار و البني التي صاحبت الطابع الجديد للعلاقات الدولية و بروز ظاهرة العولمة لتغير مختلف الأفكار و تحطم المفاهيم الثابتة في السابق .

حتى و إن كان هناك تكامل بين مفهومي الدفاع و الأمن لأن الدولة الوطنية ذات السيادة هي محور الدراسة و هي أساس بروز و تطور هذه المفاهيم و هي غاية وجودهما في حد ذاتها.إلا أن مجالات الدفاع و الأمن مختلفة و متباينة و لا يمكن جمعها في سلة واحدة ، فإن كان الأمن هو الباعث الإستراتيجي لمختلف إجراءات الدفاع و خططه ، فإنه يبقى ذا معنى مثالي غير محدد يجمع بين الإحساس و الرغبة و الهدف الإنساني و السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي وحتى الفردي ، أما الدفاع فهو الوسيلة المادية للوصول لهذه القيمة الرفيعة التي تعد أساس استمرار الدولة الوطنية الحديثة .

4 ـ تطور مفهوم الأمن الوطني :

ظهر هذا المفهوم حسب بعض الدارسين في القرن التاسع عشر ، و هذا بعد تطور مفهوم الدولة الوطنية و بروز دول كبرى استعمارية تعتمد على التوسع و استعمال القوة لضم أراضي الدول الضعيفة،حيث أدى ذلك إلى نشوء مفهوم الأمن الاستعماري و تسخير قدرات المستعمرات البشرية و المادية لتوفير الأمن للدول الاستعمارية و للمستعمرات على حد سواء(19) .

ثم تطور هذا المفهوم بعد الحرب العالمية الثانية ، عندما استخدمته الولايات المتحدة لما حصلت على التطورات التكنولوجية في مجال التسلح أو ما عرف بالأسلحة النووية،وهكذا تم الربط بين مسائل الأمن و الاعتبارات السياسية و الاقتصادية لأول مرة على المستوى الرسمي، فقد أصدر الكونغرس الأمريكي سنة 1947 نصا تشريعيا يتعلق بالأمن من أجل إرساء السياسات و الإجراءات اللازمة على مستوى الإدارات و الوظائف الحكومية التي لها علاقة بالأمن القومي ، ثم قام الرئيس الأمريكي بإنشاء مكتب للأمن القومي الذي تحول إلى مجلس الأمن القومي ، الذي يضطلع بمهام الأمن على مستوى الإدارة و البيت الأبيض الأمريكي ، و قد أستخدم الأمن القومي كمرادف للقوة العسكرية ليتوسع فيما بعد إلى نطاق المسائل السياسية و الاقتصادية(20) و ما يرتبط بها من إستراتجيات وطنية و أسلحة و قوة ، لكن بعد تطور وسائل الاتصال و التطورات التكنولوجية في مجال الاتصال و المعلومات توسع هذا المفهوم أكثر فأكثر مما جعله يتميز بالحساسية و التعقيد

إن التطورات الحاصلة في مجال المعلومات و تكنولوجيا الاتصال و سياسة الانفتاح في ظل المنظمة العالمية للتجارة و العولمة ، أثرت بشكل مباشر على الأمن الوطني الذي توسع مفهومه ليطال مواجهة التحديات الداخلية و الخارجية، كالجريمة المنظمة الإرهاب الدولي و تجارة المخدرات و غيرها من المشاكل الدولية التي أصبحت تشكل مصدر قلق لمختلف الدول في الوقت الراهن ، كل هذه التغيرات أدت إلى إعادة النظر في المحددات التي يقوم عليها الأمن الوطني و توسيعه ليشمل القضايا البعيدة عن المسائل العسكرية(21) ، كالمواضيع الاقتصادية و الاجتماعية و البيئية ، و بدأ ينتشر المعنى الشامل للأمن على الصعيد الدولي ليتحول إلى مفهوم الأمن المشترك و الأمن الشامل و الأمن العالمي .

و عليه فإن التهديدات الأمنية المعاصرة أصبحت تثقل كاهل الدول منفردة و تتجاوز طاقات و قدرات الدول الواحدة ، مما أدى إلى محاولة تشكيل أحلاف و تجمعات إقليمية من أجل مواجهة تلك المخاطر ، ذلك أنها أصبحت تتميز بالشمولية و القوة ، تعتمدها جماعات منظمة تستعمل تكنولوجيات حديثة عابرة للحدود و من ثم لم يعد بالمقدور التحكم فيها ، فلم يعد بالوسع إلا اللجوء إلى انتهاج سلوك مشترك في سبيل تطويق مثل تلك الظواهر المهددة للأمن القومي للدول ، هذه التهديدات الجديدة التي تعرف بغير العسكرية ، فهي عابرة للأوطان و لا تستثني أي دولة مهما كانت قوتها أو موقعها ، و منطقة البحر الأبيض المتوسط تعتبر من أهم مناطق العالم تهديدا بهذه الظواهر و التي تتمثل خاصة فيما يلي :

أ ـ الإرهاب :

تعتبر ظاهرة الإرهاب أهم التهديدات الجديدة للأمن القومي للدول ، خاصة ما يعرف بالإرهاب الدولي الذي انتشر بصفة خاصة و مثيرة للتساؤل بعد الهجمات التي تعرضت لها الولايات المتحدة الأمريكية في 11 سبتمبر 2001 ، حيث كانت إشارة انطلاق لتغيير مفهوم الأمن الدولي من المفهوم التقليدي إلى مفهوم جديد لم تتحدد معالمه بدقة إلى يومنا هذا ، كما لم يحصل هذا المفهوم على إنفاق نهائي بين كل دول العالم بعد ، ذلك أنه صحيح بتأرجح بين الإيديولوجيات و المصالح و أيضا خضوعه لتكييفات مصلحيه غير ثابتة ، لذا فإن مفهوم الإرهاب خضع لنفس التذبذب في تحديد المعنى الدقيق له(22) ، فالمقاومة المشروعة للشعوب المضطهدة في العديد من مناطق العالم كفلسطين و العراق لا يمكن اعتبارها إرهابا بالرغم من تصنيفها كذلك من طرف الولايات المتحدة و إسرائيل و حلفائها .

إلا أن ظاهرة الإرهاب اتفقت بشأنها مختلف المحافل العالمية و المنظمات الدولية و المجموعات الإقليمية كالأمم المتحدة و الإتحاد الأوروبي و الجامعة العربية على أنها تشكل تهديدا و تحديا كبيرا للمجتمع الدولي يجب محاربته ، بينما يمكن أن نصنف الإرهاب بالاعتماد علي الخصائص التي تميزه عن باقي الظواهر و تجعله بعيدا عن مفهوم المقاومة المشروعة للشعوب من أجل الاستقلال و الحرية ، فالإرهاب يعتمد على العنف واستعمال القوة و تقويض سلطة الدولة وتهديد الأشخاص و الممتلكات و ترويع الأمنيين ، و في هذا الشأن يذهب الباحث جيرارد شالياند إلى اعتبار الإرهاب هو عنف مبيت يستجيب لدوافع سياسية تمارسه على غير المقاتلين مجموعات سرية ، ويأتي من داخل الدولة أو من خارجها ، إضافة إلى هذا التعريف يمكن أن يكون الإرهاب ظاهرة فوضوية لا تستند إلى أهداف سياسية ، و إنما يكون غير ذا أهداف واضحة باستثناء الإستلاء على الأموال و المنافع الاقتصادية .

إن هذه الظاهرة الغريبة عن المجتمعات التي تعيش فيها و التي تسعى الدول الأوروبية في الضفة الشمالية للمتوسط لتطويقها بمساعدة دول جنوب المتوسط حماية لأمنها و دفاعا عن أوطانها ، قد ساهمت في تأجيجها عن قصد أو دون قصد في الوقت الذي كانت الجزائر تعاني فيه من ويلاته لوحدها(23) .

لعل من أهم المنابع التي يتغذى منها الإرهاب ،مظاهر الفقر و الحياة الاجتماعية التعيسة التي تتخبط فيها الكثير من الأسر إضافة إلى مظاهر التطرف و التشدد الديني و الإيديولوجي و المصلحي مما يصعب من تطويق هذه الظاهرة و اجتثاثها من الجذور ، إلا بتعاون حقيقي و عميق بين مكونات المجتمع الدولي خاصة و أن العولمة بكل أبعادها و على رأسها وسائل الإعلام و المعلوماتية و الاتصال سهل من انتشار الظاهرة و دعم قواعدها الخلفية ، و مكانها من إعادة إنتاج نفسها بسرعة فائقة و تغيير تكتيكها و أدواتها دون أن تلفت الانتباه إليها (24)، لذا فإن انتشار الأفكار المناوئة للحكومات و التي تتميز بالتطرف استغلت الواقع الهش لبعض الفئات الاجتماعية للزج بها في شباكها .

ب ـ الهجرة السرية:

تشكل الهجرة السرية المهدد الأكبر لاستقرار الدول الأوروبية اجتماعيا و اقتصاديا و حتى سياسيا ، هذه الهجرة التي أخذت منحنى تصاعدي مع بداية الألفية الثالثة فالواضح للعيان أن دول الشمال تتخوف من تدفق الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين الذين ينفذون إليها بشتى الطرق ، و أهم هذه الطرق و الوسائل هي وسيلة القوارب الصغيرة التي أصبحت في متناول الشباب للعبور إلى الضفة الأخرى بالرغم من المخاطر التي يجابهونها و على رأسها مفاجآت البحر و ظروفه و كذا إمكانيات الاعتقال و الحبس و العذاب النفسي و الجسدي .

إن هذه الظاهرة تقع بين طرفي المعادلة الصعبة التي مافتئت تتعمق و تتسع ، حيث أن الواقع الاقتصادي و الاجتماعي في جنوب المتوسط يدفع إلى التفكير في مختلف السلوكيات السلبية و على رأسها الهجرة السرية ، فالبطالة و الفقر و البؤس تشكل الثالوث القاتل لنفوس الشباب الذين يقبعون دون عناء أمام أجهزة التلفاز و هم يشاهدون الجنة على الضفة الأخرى ، و الراحة و السعادة التي يتمتع بها أقرانهم ممن هاجر سريا أو شرعيا و كذا سبل العيش السهلة التي تنتظرهم في حالة نجاحهم في العبور ، كل هذه المغريات تدفعهم إلى انتهاج سبل المخاطر للمرور إلى الجنة الموعودة .

هذه الوضعية تترجم مدى الفارق الهائل في مستوى النمو الاقتصادي و التطور الذي تعيشه الدول الأوروبية بالمقارنة مع دول جنوب المتوسط ، بالرغم من تقاربها جغرافيا ، فالتنمية بمختلف أنواعها لم تحقق إلا معدلات ضعيفة من الرفاهية و لفائدة فئات ضيقة من المجتمع كما أن غياب الاستثمارات المنتجة قللت من مستوى النمو الاقتصادي وعمقت من الفقر و التهميش(25)، و بشكل أوضح فإن مصادر الثراء و وسائله تتمركز شبه كليا بدول الشمال ، مما أدى إلى عدم انسجام في العلاقات بين ضفتي المتوسط.

لقد تأكد أن الهجرة السرية تشكل خطر ـ لكن دون مبالغة ـ على استقرار و نمو الدول الأوروبية نظرا لما تحمله من مخاطر عبور فئات غير سوية ، إضافة إلى انخراطها في الحياة السرية ضمن هذه المجتمعات مما يجعلها فريسة سهلة في يد الشبكات التي تتعاط مختلف الأساليب غير الشرعية في كسب قوتها و استمرارها ، و من هنا يمكن فعلا أن تشكل هذه الظاهرة تهديدا مباشر لأمن تلك الدول ، و من حقها انتهاج السبل المتاحة قانونا لمحاربتها لكن في إطار التفاهم و البحث المعمق في أسبابها و مساعدة دول المصدر على تهيئة الجو الملائم للقضاء على دوافعها ، خاصة إذا علمنا أن الهوة السحيقة بين دول الشمال و دول الجنوب مازالت مستمرة في التجدر و التعمق ، ذلك أن 20 % من سكان المعمورة يستحوذون على 80 % الناتج العالمي ، كما انخفضت حصة باقي الدول التي تشكل 80% من السكان إلى أدنى المستويات ، إضافة إلى ذلك فإن 1/5 من سكان العالم يتحصلون على أربعة أخماس العائدات العالمية ، و نسجل أيضا أن مليارين من البشر يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم ناهيك عن تدهور الخدمات الصحية في دول الجنوب .

كل هذه المؤشرات تنم عن الأسباب العميقة التي أدت إلى بروز هذه الظاهرة و استمرارها لتشكل خطرا حقيقيا علي الأمن ، ليس علي دول الشمال فحسب لكن حتى على الدول التي تنطلق منها هذه الظاهرة .

جـ ـ الجريمة المنظمة:

إن المجتمع الدولي يعتبر الجريمة المنظمة أكثر الجرائم فتكا بالدول و اقتصادياتها ، لأنه يمس بالاقتصاد مباشرة و بالقدرات المادية و المالية للأمم(26) ، فقد تجذرت هذه الجريمة مع الانفتاح الاقتصادي في ظل العولمة ، حيث ظهرت جماعات منظمة تستخدم وسائل غير مشروعة و تقيم تحالفات مع قوى فتاكة من أجل تسهيل نشاطها و انتشارها، فهي في ذلك لا تتوانى في استخدام مختلف الوسائل ، كالتخويف و الاختطاف و الترهيب و الابتزاز بالتعاون مع مجموعات أخرى توفر لها وسائل النقل و التسليح و الاتصال .

و قد عرفت الشرطة الدولية ) الأنتر بول( الجريمة المنظمة على أنها كل جمعية أو تجمع لأشخاص يتعاطون عمل غير مشروع و متواصل و هدفها الأول تحقيق أرباح و فوائد دون أي التفات إلى الحدود الوطنية.

و من هنا يتضح أن الجريمة المنظمة هي أيضا عابرة للحدود و لا تستثني في تعاملاتها أي فضاء أو إقليم ، إلا أنها لا تستطيع النفاذ بالسهولة اللازمة نظرا لطابعها غير السياسي و من ثم فهي تحتاج إلى مناخ ملائم للعمل حتى لا ينكشف أمرها و يسهل تطويقها ، و أحيانا تكون مرتبطة بجماعات مصالح اقتصادية و متعاملين دوليين مما يعطيها القوة اللازمة للتغلغل في الأوساط الاقتصادية دون أن تثير الانتباه(27) .

و من أنشطتها المعتادة نجد جريمة غسيل الأموال و تهريب المخدرات و الأسلحة و المعادن الثمينة و التحف الأثرية و الفنية و حتى الحيوانات النادرة والسيارات و بطاقات القرض و تهريب البشر و تجارة الرقيق و السياحة الجنسية و الهجرة السرية ، و الأخطر من هذا تهريب المواد النووية ، هذه الأنشطة تشكل خطرا داهما على كل الدول دون استثناء ، لكن الملاحظ أن المحيط الذي يسهل لهذه الجماعات النشاط فيه هو المحيط الذي يتميز بالنشاط و الاستهلاك الدائم و التطور و التنوع في النسيج الاجتماعي و الاقتصادي (28)، و هذا ما ينطبق على الدول الأكثر تقدما .

ما يسجل بكل اندهاش هو أن النشاط غير المشروع قد شكل سنة 1998 2 % من الناتج الإجمالي العالمي حسب تقديرات صندوق النقد الدولي ، كما أن العائدات المالية الناتجة عن المتاجرة في المخدرات تقدر مابين 300 و 500 مليار دولار سنويا ، و هذا ما يفسر لجوء الجماعات التي تنشط في الخفاء بمختلف توجهاتها و أهدافها إلى الاستفادة من هذه الظاهرة .

إن الجريمة العابرة للحدود تشكل خطرا أمنيا متصاعدا ، حيث تشابكت خيوطها على المستوى الدولي و لم يعد من السهل التحكم فيها إلا بالتعاون و تبادل المعلومات و خلق ميكانزمات تسهل عمل الفرق الأمنية المكلفة بملف هذه الجريمة و تبادل الخبرات و التشاور حول مناهج المكافحة و سبل ردعها على المدى القريب و المتوسط ، فالمصلحة المشتركة بين دول ضفتي المتوسط تتطلب تكاتف الجهود دون أي خلفيات أو تبادل للتهم و المسؤوليات لأن ذلك ما يعرقل الجهود و يحبط كل المحاولات الرامية لحماية المجتمعات من مخلفات هذه الظاهرة .

تشكل إضافة إلى ما سبق ذ كره من ظواهر مهددة للأمن الوطني على الصعيد الدولي خاصة في ضفتي البحر المتوسط ، ظواهر أخرى لكنها لا ترقى إلى نفس الأهمية و بالتالي لا يتسع المقام لذكرها و تحليلها لأنها تبقى معزولة و تأخذ طابعا شموليا كما لا يمكن أن تتوسع مستقبلا أو تنمو بشكل مقلق و من ذلك ظاهرة التمييز و سوء معاملة المهاجرين و القيود الاقتصادية و المالية و الاستثمارات بسبب التميز العرقي و الجنسي إضافة إلى ظاهرة الرشوة و تهريب الأموال و العمولات غير المشروعة و غيرها من التصرفات غير الأخلاقية .

5 ـ إستراتجية الدفاع من أجل تحقيق الأمن:

تحتاج الإستراتجية الجديدة التي يجب اتخاذها من أجل توفير الأمن الوطني بالنسبة للحدود خاصة دول الضفة الجنوبية للبحر المتوسط كالجزائر، إلى تفعيل القوى الاقتصادية و الاجتماعية و العسكرية المشكلة من المؤسسات الرسمية و المجتمع المدني ، من أجل توحيد الرؤى و تذليل الصعوبات و وضع البرامج اللازمة لتشكيل فكر موحد هدفه التوعية و التكوين و التحسيس بمخاطر الانحدار و الانجراف وراء مثل تلك الظواهر السالفة الذكر ، بالاعتماد على البرامج التعليمية و الإعلامية انطلاقا من مؤسسة الأسرة للوصول إلى كل المجتمع بمختلف فئاته خاصة الشباب الذي في كل ذلك هو وقود جميع الآفات .

تحتاج الدولة في هذا الشأن إلى إعداد برامج جادة يشارك فيها الجميع تنطلق من تسخير القدرات المادية و البشرية للمجتمع لخدمة أبنائه جميعا ، و لفك خيوط المعضلة لابد من تمكين أعماق المجتمع من الاستفادة من خيرات البلاد و تحسسيهم بالمكانة اللائقة التي يتمتعون بها داخل دولتهم سواء عن طريق فتح المشاركة السياسية و دمقرطة الممارسة الإدارية و الحصول على الوظائف و المساكن و فرص العمل للجميع ، و هذا لن يتأتى إلا بخطة اقتصادية و اجتماعية قوية و راشدة و مؤهلة لامتصاص الإحساس بالغبن و الاحتقار(29) .

أما على صعيد الدفاع الوطني فلا بد أن تكون الإستراتجية الواجب انتهاجها قائمة على إعداد مؤسسة عسكرية احترافية تضطلع بمهام محددة دستوريا ، لا تخرج عن نطاق توفير الظروف الملائمة لتكثيف الأمن و استمرار أداء مؤسسات الدولة لمهامها في جو من الاستقرار و الأمن (30)، مع تطوير قدراتها البشرية بضم الكفاءات الجامعية إليها من أجل فتح المجال للبحث العلمي التطوري في مجال قدرات الدفاع العسكرية ، لأن التكنولوجيات العسكرية تتميز بالحساسية و الدقة الأمر الذي لا يساعد على استيراد المتطور منها من الخارج.

و لمواجهة التهديدات الأمنية الخارجية ، فقبل الاقتناع بمشاريع الدفاع المقترحة من المجموعة الدولية خاصة الدول الأوروبية ، لابد من بقاء القوة التفاوضية للدولة حتى لا تكون عرضة لإملاءات خارجية تضر بالمصالح العليا للبلاد، هذه القوة ترتكز أساسا على مقومات سياسية،اقتصادية و عسكرية ، فالسياسية تعتمد على توفير الجو الديمقراطي و حرية التعبير و الرأي هذا ما يجعل المجال السياسي متسعا لكل الحساسيات و الآراء و المعارضة و يمنع لجوئها إلي الخارج من أجل كسب التأييد فتكون ورقة ضغط على الدولة المفاوضة (31) ،أما في المجال الاقتصادي لا بد من الأخذ بالنموذج الاقتصادي القائم على الرشادة الاقتصادية و الانفتاح و الحرية التجارية و الاستثمار و حرية تنقل رؤوس الأموال ، بينما في المجال العسكري فإن بناء جيش محترف يبقي الضامن الأوحد لتماسك و قوة الدولة إضافة إلي التفتح على الأساليب العلمية والتقرب من منابعه المجتمعية .

الخلاصـة:

مهما يكن فإن الدفاع و الأمن عنصران يشكلان المهام الرئيسية للدولة ، فهي المسئولة علي أمن مواطنيها داخليا و خارجيا ، عن طريق بناء العلاقات الاجتماعية و ضبطها داخليا، و عن طريق الدفاع و الدبلوماسية خارجيا ، و لا يمكن استبعاد التفاعل بين الدفاع و الأمن باعتبارهما يشكلان جوانب داخلية و خارجية و مدنية و عسكرية ، تختلف هذه التفاعلات من دولة إلى أخرى بحسب تقديرها لشروط أمنها الخاص ، فالأمن و الدفاع يتميزان بالمرونة و التغيير لكن بالثبات و الدوام أيضا .

أما وسائل الدفاع فقد تكون تقليدية تعتمد على الوسائل العسكرية المعروفة أو وسائل الردع غير التقليدية،أو تكون وسائل حديثة تقوم على الإمكانات الاقتصادية والتطور المادي والحروب الإستباقية والإعلامية و المعلوماتية التي أصبحت تشكل أهم مصادر القوة المهيمنة على الصعيد الدولي ، هذه الوسائل غالبا ما تستعمل ضد الدول الضعيفة قصد إخضاعها و استغلال خيراتها .

بالرغم من تطابق الدفاع و الأمن في الكثير من الأحيان إلا أن الدفاع ليس معناه الأمن ، ذلك أن الدفاع يعتمد على الوسائل المادية و الخطط الإستراتجية المعقدة و يتطور بمرور الزمن و التجارب و التفاعلات الدولية ، أما الأمن فهو ذلك الإحساس بالابتعاد عن الخطر و هو شعور يعيشه الفرد و هو مطمئن على سلامته و ممتلكاته و يمارس نشاطه و هو مطمئن ، لذا فإن الدفاع على الصعيد الخارجي يوفر الأمن داخليا ، لأن قوة الدولة في تعاملها مع الدول الأخرى يقوم على احترام الآخرين لقوتها و قدراتها على الدفاع عن سيادتها ، و من هنا يستطيع شعبها أن يشعر بأنه بعيدا عن التهديدات الخارجية

لكن هناك العديد من الظواهر التي تهدد الأمن لكنها لا تصدر عن تصرفات الدول ، كالإرهاب و الجريمة المنظمة و الهجرة السرية التي تهدد الأمن الداخلي للدول لكنها ليست تصرفات تقوم بها الدولة بل جماعات منظمة تخترق التحصينات الناتجة عن السيادة القانونية و تنتهك القدرات الاجتماعية و الاقتصادية للدول ، مما يستلزم مواجهتها و محاربتها بشتى الوسائل الممكنة ، لكن التجارب المتاحة أثبتت محدودية قدرات الدولة منفردة في مواجهتها لهذه الآفات ، لأنها تتميز بالطابع الدولي و السري و القدرة الخارقة على النشاط و التغلغل دون عوائق مما يستدعي ضرورة التكاتف و التعاون بين الدول و المشاركة الفعلية لاجتثاثها و نزع أسباب نموها و انتشارها .

لذا لا بد من التفاعل الإيجابي بين الدفاع و الأمن لما لهذين العنصرين من أهمية بالنسبة للدولة الحديثة ، و لم يعد الدفاع مقتصرا على القدرات العسكرية ولم يعدا لأمن متعلق فقط بالحماية الجسدية و النفسية و المادية للأفراد و الجماعات ، بل لابد من تغيير هذا المفهوم ليشمل الجوانب المعقدة من المعاملات المستجدة في ظل العولمة التي تخطت كل الجوانب دون استثناء.

الهوامـش :

)1 ( ـ جمال علي زهران ” تأثير التحولات السياسية الدولية في ظل الثورة المعلوماتية على سيادة الدولة الوطنية و القرارات السياسية في الجنوب ” من أعمال الملتقى الدولي حول الدولة الوطنية و التحولات الدولية الراهنة ، جامعة الجزائر ، كلية العلوم السياسية و الإعلام ، 2004 ، ص 62 .

)2( ـ المرجع نفسه ، ص 68 .

)3( ـ علاء طاهر ، الخوصصة الإستراتجية للعالم العربي ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 992 ، ص 71 .

)4( ـ محمد شلبي ، ” الأمن الوطني في ظل التحولات الدولية الراهنة ” من أعمال الملتقى الدولي حول الدولة الوطنية و التحولات الدولية الراهنة ، جامعة الجزائر ، كلية العلوم السياسية و الإعلام ، 2004 ، ص 157 .

)5( ـ المرجع نفسه ، ص 158 .

)6( ـ عمر بغزوز ، فكرة الأمن الوطني الشامل في مواجهة قلة المناعة و المخاطروالتهديدات في لإطار العولمة،من عمال الأيام الدراسيةالبرلمانية الثانية حول الدفاع الوطني ، أيام 11 – 12 و 13 / 10 /2003 ، ص 48 .

)7( ـ المرجع نفسه ، ص 49 .

)8( ـ جمال الدين بوزغابة ، مفهوما الدفاع و الأمن الوطنيين ، من أعمال الأيام الدراسية البرلمانية الثانية حول الدفاع الوطني ، أيام 11 – 12 و 13 / 10 /2003 ، ص 99 .

)9( ـ المرجع نفسه ، ص 99 .

)10 ( ـ دومنيك دافيد ، الأمن : ما بعد نيويورك ، منشورات العلوم السياسية ، فبراير 2002 ، ص 119 .

)11( ـ عمر بغزوز ، المرجع السابق الذكر ، ص 61 .

)12( ـ عمر بغزوز ، المرجع السابق الذكر ، ص 69 .

)13( ـ عبد المنعم المشاط ، ” الإطار النظري للأمن القومي العربي ” ، في الأمن القومي العربي ، أبعاده و متطلباته ، القاهرة، معهد البحوث و الدراسات العربية ، 1993 ، ص 15 .

)14( ـ جمال الدين بوزغابة ، المرجع السابق الذكر ، ص 96 .

)15( ـ باري بوزان ، الناس و الدول و الرعب ، مطبوعات جامعة كانتكاي ليكسنجطن ، 87

)16( ـ دانيال كولارد،”من السلام المفروض بقوة إلى السلام عن طريق الأمن و التعاون والديمقراطية”مجلة ARES،العدد 45،المجلد18 ، ماي 2000 ، ص 24 .

)17( ـ جمال الدين بوزغابة ، المرجع السابق الذكر ، ص 103 .

)18( ـ دانيال كولارد ، المرجع السابق الذكر ، ص 26 .

)19( ـ جميل جورجي ، الأمن القومي المصري في إدراكات القيادة السياسية ، دراسة مقارنة بين عبد الناصر و السادات و مبارك ،أطروحة دكتوراه غير منشورة ، كلية التجارة ببور سعيد ، جامعة قناة السويس ،1997،ص 20 .

)20( ـ علي الدين هلال ، ” الأمن القومي العربي ، دراسة في الأصول ” شؤون عربية ، دد 35 يناير 984 ، ص 10 .

)21( ـ محمد شلبي ، المرجع السابق الذكر ، ص 152 .

)22( ـ طلعت عتريس ، فلسطين و الإسرائليين : من يرهب من ؟ ، مجلة ما وراء البحر ، المطبوعات الجامعية ، مارى لافالي ، باريس ، ماي 2002 ، ص 261 .

)23( ـ فيرى ، صومبي ، الإرهاب ، باريس ، منشورات دومنيوا فلاماريون 2000 ، ص 73 .

)24( ـ عمر بغزوز ، المرجع السابق الذكر ، ص 69 .

)25( ـ عزوز قردون ، رهانات البيئةوالتحديات الأمنيةفي البحر المتوسط ، مداخلة في الندوة الدولية حول “ العولمةو الأمن ” مجلس الأمة الجزائر ، 4 – 7 ماي 2002 ، ص 6 .

)26( ـ لياولو مورو ، الرشوة : أسبابها و نتائجها ، و السبل الواجبة لإستكشافها ، مجلة ماليات التنمية ، مارس 1998 ، ص 11 .

)27( ـ عمر بغزوز ، المرجع السابق الذكر ، ص 72 .

)28( ـ المرجع نفسه ، ص 74 .

)29( ـ ميشال تشوسودر فيسكي،عولمة الفقر ، ترجمة:محمد مستجير مصطفى، القاهرة ، دار سطور، 2000 ، ص 30 .

)30( ـ ميريللي غرندل ، مستعد أم لا : العالم النامي و العولمة ، في ناي و دوناهير،الحكم في عالم يتجه نحو العولمة، ترجمة: محمد شريف الطرح ، مكتبة الجيكان ، 2002 ، ص ص 252 – 275 .

)31( ـ محمد شلبي ، المرجع السابق الذكر ، ص 178 .

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button