موجة انقلابات في إفريقيا جنوب الصحراء: العوامل المشتركة والسيناريوهات

نشرت هذه الدراسة بمجلة لباب الصادرة عن مركز الجزيرة للدراسات، العدد الثالث عشر، فبراير/شباط 2022، عبر الرابط التالي https://studies.aljazeera.net/ar/magazines/book-1450

تمثِّل المقاربة المناسبة للتعامل مع الانقلابات معضلة حقيقية لا يبدو التغلب عليها سهلًا، على أن فرض إجراءات عقابية قد أثبت عدم جدواه في النموذج المالي؛ حيث استثمر المجلس العسكري سردية التدخل الاستعماري الجديد لتعزيز الدعم الشعبي وتعزيز صورة القادة الحاليين كمدافعين عن الماليين في مواجهة فرنسا والمجتمع الدولي، لاعبين بذلك دور الأبطال الوطنيين وعازفين على وتر شعبوي قد يعطيهم شرعية.

لطالما كانت الانقلابات ملمحًا أساسيًّا في الحياة السياسية الإفريقية منذ ستينات القرن الماضي التي شهدت نشوء الدول المستقلة في القارة السمراء، فبين عامي 1970 و1989 كانت هناك 99 محاولة انقلاب ناجحة أو فاشلة في جميع أنحاء القارة، في حين وصل عدد الانقلابات الناجحة بين عامي 1956 و2001 إلى 80 انقلابًا(1).

الموجة الثالثة من الديمقراطية، بتعبير صامويل هنتنغتون، وجدت طريقها إلى القارة الإفريقية؛ فخلال العقدين الماضيين دفع “تنظيم الانتخابات التنافسية اسميًّا على الأقل في غرب إفريقيا، وتوحيد المؤسسات الإقليمية والقارية التي تحمل معايير ديمقراطية، و”عدم التسامح” تجاه التغييرات غير الدستورية للحكومات التي تدافع عنها هذه المؤسسات”(2) إلى تناقص المحاولات الانقلابية بشكل كبير.

غير أنه وخلال العامين الماضيين شهدت القارة الإفريقية ما يزيد على عشر محاولات انقلابية بين ناجحة وفاشلة؛ ما يهدد بتقويض التقدم الهش الذي تحقق.

تحاول هذه الورقة تقصي العوامل المشتركة بين البلدان التي وقعت فيها الانقلابات لا بحسبانها إحدى أدوات فهم العوامل الكامنة في خلفية المشهد الانقلابي فقط، ولكن أيضًا باعتبارها أداة للتنبؤ بانقلابات محتملة عند تشابه الظروف، كما تعمل على محاولة تحديد السيناريوهات المستقبلية المتوقعة في ظل التعقيدات التي تخلقها العمليات الانقلابية في الواقع السياسي الإفريقي.

أ- العوامل المشتركة في دول الانقلابات

يتصف الواقع السياسي للبلدان التي شهدت الانقلابات بسمات مشتركة لافتة، من أهمها:

1- الهشاشة الكبيرة

يعد المؤشر الذي يصدره سنويًّا صندوق السلام ومجلة فورين بوليسي الأميركيان من أهم المراجع حول تصنيف الدول الهشة، بالاعتماد على مؤشرات سياسية منها حقوق الإنسان وسيادة الدولة، واقتصادية كالتدهور الاقتصادي والفقر، واجتماعية كالضغوط الديمغرافية.

ومراجعة هذا التصنيف خلال السنوات الخمس الماضية تكشف أن الدول الإفريقية التي شهدت انقلابات مؤخرًا تندرج جميعها تحت خطر الهشاشة بتدرجاته المختلفة. وبينما تستقر كل من السودان وتشاد ضمن الدول الأكثر عرضة للهشاشة، يُلاحَظ ميل المؤشر في البقية نحو التراجع التدريجي في المجمل وإن شهدت تقدمًا ضئيلًا في بعض السنوات.

الدولة

2021

2020

2019

2018

2017

مالي

(19)

(16)

(21)

27

(31)

تشاد

7

7

7

8

8

غينيا كوناكري

(14)

(15)

(11)

13

12

السودان

8

8

8

7

6

بوركينا فاسو

36

37

47

45

44

الرقم بالخط العريض: إنذار عال جدا.

الرقم الذي تحت خط: إنذار عالي.

(الرقم بين قوسين): إنذار

الرقم بدون أي تمييز:  تحذير عال.

الجدول من جمع وإعداد الباحث من مؤشر الهشاشة.

2- أزمات ناتجة عن فشل سياسي

عودة الجيوش لتصدُّر المشهد في إفريقيا جنوب الصحراء تؤشر إلى “فشل مؤكد للحكومات المنتخبة ديمقراطيًّا”(3) أدى إلى مجموعة من الأزمات السياسية التي كشفت صعوبة الانتقال السياسي وهشاشة التقدم الديمقراطي الذي أُحرِز في التسعينات وما بعدها.

على سبيل المثال، سبق الانقلاب الأول في مالي، 18 أغسطس/آب 2020، احتجاجات شعبية متصاعدة لأكثر من شهرين على حكم الرئيس أبو بكر كيتا(4)، وبعد أن قضى الرئيس عمر ألفا كوندي فترتين رئاسيتين في غينيا ضَغَطَ لتعديل الدستور لتمرير التمديد لفترة ثالثة عبر استفتاء قام خلاله “بقمع خصومه بقسوة؛ تم اعتقال وسجن أكثر من 400 شخص في أعقاب الانتخابات الرئاسية، وتوفي العديد منهم في الحجز”(5).

كما عانى السودان من مرحلة انتقالية متعثرة تميزت بصراع مستمر بين أطراف السلطة المختلفة بين العسكريين والمدنيين وداخل معسكر الأخيرين أيضًا. في حين مثَّلت تشاد أزمة انتقال السلطة المفاجئ بعد الفراغ الذي تركه مقتل إدريس ديبي حيث لجأ المجلس العسكري إلى تولية ابنه الأصغر، الجنرال محمد ديبي، على خلاف الدستور الذي ينص على أن يصبح رئيس الجمعية الوطنية رئيسًا مؤقتًا للدولة(6).

3- توتر العلاقات المدنية-العسكرية

أحد العوامل التي شكَّلت أزمة ما قبل الانقلابات في هذه الدول مرتبط بعودة حالة التوتر والعداء في العلاقات العسكرية-المدنية، بعد أن ظهرت مقاربات جديدة على الساحة الإفريقية منذ تسعينات القرن الماضي تنحو باتجاه تحجيم دور الجيوش وسيطرة الحكام المدنيين المنتخبين عليها.

تمثِّل غينيا حالة بارزة في هذا السياق؛ حيث أثار اكتساب القوات الخاصة، بقيادة مامادي دومبويا، السريع للكثير من القوة مخاوف داخل دوائر السلطة “فأصدر الرئيس كوندي مرسومًا بإنشاء وحدة جديدة من قوات الأمن (كتيبة التدخل السريع) للتنافس معهم وإعادة توازن القوى. بل انتشرت شائعات عن اعتقال دومبويا؛ لذلك يبدو أن دومبويا تحرك أولًا لحماية نفسه”(7).

وفي بوركينا المجاورة، شملت التغييرات المستمرة التي أجراها الرئيس بليز كومباوري داخل المؤسسة العسكرية منذ 2016 سلسلة من “الترقيات والإقالات لرؤساء مؤسسات الدفاع، وتغيير وزراء الدفاع ورؤساء الأركان عدة مرات”(8)، كما أدى الفساد إلى إضعاف سلاسل التوريد اللوجستية للجبهة أو حرمان أولئك الذين شاركوا هناك من المعدات المناسبة(9)؛ مما ولَّد حالة من التوتر بين الطرفين منذ القائمة التي قدمها العسكريون للرئيس، عام 2018.

4- مهدِّدات أمنية خطيرة

مثَّلت منطقة الساحل مؤخرًا أحد أبرز البقع الساخنة التي تشهد تدهورًا أمنيًّا مستمرًّا نتيجة العديد من العوامل، وأبرزها: “جماعات الجريمة المنظمة والتنظيمات الإرهابية المختلفة” التي زادت خطورتها نتيجة “التعاون والتنسيق والتحالف الموجود بينهما في ظل الفشل الدولتي. وهو ما يجعلها بيئة ملائمة تستحكم فيها وتتنامى هذه التهديدات”(10)؛ حيث شهد العام الماضي وحده أكثر من 800 هجمة دموية وفق تقرير أممي(11)، بالإضافة إلى سيطرة المجموعات الإرهابية المختلفة على مساحات كبيرة داخل الدول المعنية.

ولم يكن السودان في الطرف الآخر من القارة أفضل حالًا حيث ظل يعاني من نشاط الحركات المسلحة في غربه وجنوبه، ولم تفلح محادثات جوبا والاتفاق الناتج عنها في ضمان دخول كل أطياف المعارضة المسلحة ضمن تفاهم مع الحكومة الانتقالية حيث لا تزال حركتان رئيسيتان خارج هذا الاتفاق، كما لم تفلح أيضًا في وقف الخروقات الأمنية في غرب السودان وجنوبه، وكان لافتًا في الفترة الماضية انتقال حالة عدم الاستقرار والاحتراب الأهلي إلى منطقة شرق السودان أيضًا.

5- تدهور اقتصادي وتذمر اجتماعي

أسهمت العوامل السابقة في حالة من التدهور الاقتصادي الكبير نتيجة الفساد وانعدام الشفافية وضعف كفاءة الدولة، في حين تذكر أرقام أممية أن أعداد النازحين داخليًّا ارتفعت 10 أضعاف منذ عام 2013، وبلغ عدد النازحين في بوركينا فاسو وحدها العام الماضي أكثر من مليون ونصف المليون(12). وبالمقارنة مع الترف الذي يعيشه أبناء الطبقة الحاكمة الفاسدة فمن الطبيعي أن تشيع حالة من التذمر الاجتماعي من المواطنين الذين يدفعون فواتير هذا الفشل في إدارة الدولة، وبالتالي انعكس هذا تآكلًا مستمرًّا في القاعدة الشعبية المؤيدة للحكم الديمقراطي، والتطلع إلى الانقلاب كمخرج من المأزق الذي تمر به بلادهم.

وفي مؤشر ذي دلالة، إثر الاحتجاجات على العقوبات التي فرضتها الإيكواس على مالي، فقد خلص استطلاع للرأي إلى أن أكثر من 90% من المشاركين في باماكو يؤيدون الحكم العسكري، في حين قدَّرت أحدث البيانات من Afrobarometer، وهي شبكة بحثية مستقلة تقيس المواقف العامة بشأن المسائل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في إفريقيا، الدعم الوطني للحكم العسكري في مالي بنحو 31%، في حين أن 50% من المشاركين في بوركينا فاسو يوافقون أو يوافقون بشدة على الحكم العسكري في نفس العيِّنة، وهو ما يزيد بنسبة 10% عن عقد سابق(13).

6- تاريخ طويل من الانقلابات والحكم العسكري

لئن كان صامويل ديكو وصف الانقلابات بأنها “السمة الأكثر وضوحًا وتكرارًا للتجربة السياسية الإفريقية”(14) فإن هذا يتجلى بوضوح في السلسلة الطويلة من المحاولات الانقلابية الناجحة والفاشلة التي أدت إلى عقود طويلة من الحكم العسكري في البلدان موضوع الورقة، فمع استبعاد القادة المؤقتين الذين لم يستمروا في السلطة طويلًا فإن مالي “لديها رئيس واحد فقط لم يترك منصبه تحت فوهة البندقية”(15)، وبينما شهد السودان 16 محاولة انقلاب وظل تحت الحكم العسكري 52 عامًا من أصل 56 عامًا(16)، فقد حكمت الأنظمة التي يقودها الجيش في بوركينا فاسو “ما مجموعه 48 عامًا على مدار 61 عامًا من الاستقلال”(17).

هذه الأعوام الطويلة رسَّخت انخراط المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية بشكل عميق، بجانب نشوء عقيدة مرتبطة برؤية الجيش لنفسه باعتباره “المنظِّم أو الملاذ النهائي في الأزمات السياسية الخطيرة”(18) التي تمر بها البلاد، بالإضافة إلى تشكل نخب عسكرية ذات شبكات مصالح اقتصادية واجتماعية ممتدة تمثل عائقًا مستمرًّا أمام الانسحاب الكامل للجيوش من الحياة السياسية.

 

1

مصدر الصورة: https://www.bbc.com/news/world-africa-46783600

 

7- وقوع هذه الدول ضمن أقواس تنافس دولي

تعد منطقة الساحل إحدى الساحات التي تشهد تنافسًا اقتصاديًّا وجيوسياسيًّا محتدمًا بين العديد من القوى الدولية والإقليمية، نتيجة تمتعها “بوفرة الموارد البشرية والطبيعية؛ مما يوفر إمكانات هائلة للنمو السريع”(19). وعلى الرغم من الوجود الفرنسي التقليدي في منطقة تعد من مستعمرات باريس السابقة، إلا أن قوى دولية أخرى بدأت بتهديد نفوذ باريس وتقليصه، وأهمها: روسيا والصين، وكذلك هناك حضور يتوسع لأطراف إقليمية كتركيا. وفي هذا السياق، تؤدي الأجندات المتضاربة لهذه الدول إلى تعميق حالة عدم الاستقرار التي تعيشها دول المنطقة(20).

ونتيجة لموقعه الاستراتيجي المهم، شهد سودان ما بعد نظام الإنقاذ تنافسًا بين الصين وروسيا حليفتي نظام الرئيس المخلوع عمر البشير بعلاقاتهما الممتدة مع المؤسسة العسكرية في البلاد من جهة، والولايات المتحدة وحليفاتها الراغبة في تثبيت موطئ قدم استراتيجي لها في بلد لطالما ناصبها العداء، من خلال دعم الشق المدني في السلطة وعملية الانتقال الديمقراطي في الخرطوم(21).

 8- الـتجاور الجغرافي

وقعت الانقلابات موضوع الورقة في دول متجاورة تمتد من شرق القارة إلى غربها، ووَصْف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، لهذه الموجة بأنها “وباء الانقلابات”(22) يستدعي نظرية “العدوى” في انتقال الانقلابات التي ترى أن “أن حدوث انقلابات عسكرية في دولة ما بشكل ما يؤثر على الاحتمال اللاحق للانقلابات العسكرية في مكان آخر”(23).

وفي هذا الإطار، يمكن وصف انقلاب مالي، في الأول من أغسطس/آب 2020، والإجراءات التي تبعته كنموذج ملهم أو قدوة لبقية الانقلابات حيث تتالت من بعده في تشاد، أبريل/نيسان 2021، وغينيا، سبتمبر/أيلول 2021، والسودان، أكتوبر/تشرين الأول 2021، وبوركينا فاسو، يناير/كانون الثاني 2022، بالإضافة إلى العديد من المحاولات الانقلابية الفاشلة.

 

2
المصدر: https://www.dwcug.org/tag/coup/

 

ب- دور العامل الخارجي

العامل الخارجي حاضر في الواقع السياسي للدول موضوع الورقة، كما سبق توضيحه، والمقصود به هنا خلق ديناميكية تنافسية مستمرة بين قوى دولية وإقليمية على تثبيت موطئ قدم استراتيجي لها في بعض المناطق ذات الأهمية الجيوستراتيجية. ويمكن ملاحظة فعالية هذا العامل في مرحلتي ما قبل الانقلاب وما بعده.

وفي هذا الإطار، دعمت الإمارات العربية المتحدة والسعودية محاولة الجيش السوداني البقاء في السلطة لاعتبارها أن “منع ترسيخ الديمقراطية العربية يحد من أي زخم إصلاحي قد تواجهه هذه الدول”(24)، بجانب روسيا التي ترى أن دعم الانقلاب يسهِّل حصولها على منفذ بحري سوداني على البحر الأحمر(25).

كما أسهمت حملات التضليل الروسية عبر وسائل التواصل الاجتماعي في زيادة الغضب الشعبي من الرئيس المالي أبو بكر إبراهيم كيتا، حليف باريس، في العام الذي سبق الانقلاب عليه؛ ما أدى إلى احتجاجات شعبية استُخدمت ذريعةً للانقلاب عليه من قبل المجلس العسكري الذي سبق للعديد من أعضائه أن درسوا في روسيا(26)، في حين أدانت موسكو الانقلاب في غينيا على الرئيس عمر ألفا كوندي(27) الذي يعد صديقًا لموسكو وبكين وأنقرة.

ج- موقف المؤسسات الدولية

أدى التنافس بين الأجندات المتصارعة إلى إصابة مجلس الأمن بالعجز عن اتخاذ قرارات حاسمة تجاه الانقلابيين، فبيان مجلس الأمن حول الانقلاب في السودان أُعلن بعد مفاوضات شاقة استمرت أيامًا، تمكنت فيها روسيا والصين من تخفيف لهجة المسوَّدة التي أعدتها بريطانيا(28)، وكذلك تمكنت كل من بكين وموسكو من عرقلة تبني نص مقترح من قبل فرنسا في مجلس الأمن الدولي يدعم العقوبات التي فرضتها الإيكواس على مالي(29).

في حين كان موقف الاتحاد الإفريقي لافتًا للانتباه؛ فرغم أن إعلان لومي الموقع سنة 1999 ينص على “حظر ورفض وإدانة” التغييرات غير الدستورية في الدول الأعضاء، فقد كانت قرارات الاتحاد بصدد الانقلابات الأخيرة في إفريقيا متفاوتة؛ حيث جرى تعليق عضوية مالي وغينيا من قبل مجلس الأمن والسلم الإفريقيين، في حين لم يَتَّخذ هذا الإجراء الصارم مع تشاد واكتفى بحزمة من المطالب المتعلقة بالانتقال المدني والدستوري للسلطة(30).

كان موقف المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (الإيكواس) الأكثر صرامة؛ حيث فرضت عقوبات قاسية على مالي تضمنت غلق الحدود وإجراءات اقتصادية وسحب كل الدبلوماسيين من باماكو(31)، في حين أقرَّت عقوبات بحق منفذي انقلاب غينيا تضمنت تجميد الأصول المالية لأعضاء المجلس العسكري الذي تولى السلطة وأصول أفراد أسرهم وفرض حظر سفر عليهم(32)، بناء على بروتوكول المجموعة بشأن الديمقراطية والحكم الرشيد الموقَّع عام 2001، والذي يعد آليتها الرئيسية لمعارضة الحكم الاستبدادي واستبعاد الأقليات وانتهاكات حقوق الإنسان. ولعل هذا القرار يعود في أحد جوانبه إلى تخوف الدول الأخرى من سريان عدوى الانقلابات إلى جيوشها.

د- خلاصة وسيناريوهات

يبدو تفاعل العديد من العوامل داخليًّا وخارجيًّا قادرًا على تفسير الموجة الأخيرة من الانقلابات في إفريقيا جنوب الصحراء. فعلى الرغم من التجربة الديمقراطية قصيرة الأجل التي عاشتها البلدان المعنية، مثَّل الفشل الاقتصادي والأمني والإخفاق في التمسك بالممارسات الديمقراطية من خلال رغبة الحكام في البقاء في السلطة بالتحايل على الدستور، عاملًا دفع شرائح من المجتمع إلى الاحتجاج العلني في الشوارع؛ ما يوفر للضباط المغامرين الذريعة المناسبة لتغيير السلطة الحاكمة.

خارجيًّا، شجَّع التنافس الدولي المحتدم حول القارة الإفريقية المطامح الانقلابية؛ حيث استفاد الضباط من وجود حلفاء وقوى بديلة قادرة على تقديم الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الذي يخفف من الضغوط الخارجية عليها(33)، في مؤشر على تغييرات واضحة في بنية النظام الدولي وبروز قوى منافسة للقطب الأميركي الذي انفرد بالهيمنة منذ تسعينات القرن الماضي.

ورغم أن وجود مؤسسات دولية وقارية وإقليمية تنص مواثيقها على إدانة التغييرات غير الدستورية للسلطة يفترض أن يشكِّل عائقًا أمام أية محاولة انقلابية، فإن أداء هذه المؤسسات إزاء الانقلابات الأخيرة ربما كان عامل تشجيع أكثر منه مصدر تخوف أمام العسكريين الراغبين في القيام بانقلاب، فمجلس الأمن الدولي منقسم نتيجة الصراع بين كتلتين: روسيا والصين والمنظومة الغربية، في حين أن المعايير المزدوجة في قرارات الاتحاد الإفريقي ذات الصلة بالانقلابات الأخيرة كشفت “التآكل التدريجي للإجماع على رفض التغييرات غير الدستورية للحكومات”(34).

بل إن منظمة الإيكواس التي كانت الأشد صرامة في قراراتها أسهمت في تعقيد الأزمة في غينيا من خلال قبولها بنتائج استفتاء تحايل من خلاله الرئيس ألفا كوندي على الدستور للحصول على ولاية ثالثة؛ ممَّا أسهم بشكل مباشر في وقوع الانقلاب(35).

وفي هذا الإطار، لا يمكن فصل الانقلابات الأخيرة عن سياق عالمي تواجه فيه الديمقراطية العديد من التحديات، فمؤشر إيدلمان للثقة في الحكومات يكشف عن تراجع كبير في ثقة المواطنين في الدول الديمقراطية بحكوماتهم(36)، في حين أن مؤشر فريدوم هاوس للدول الحرة يشهد انخفاضًا في عدد الدول الحرة ولا سيما منذ عام 2015(37)، وبينما يقتحم محتجون الكونغرس ويرفض دونالد ترامب الاعتراف بنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، 2020، يعمد قادة آخرون إلى حيل مختلفة لتمديد بقائهم في السلطة لآجال غير محددة؛ ما يفرِّغ العملية الديمقراطية من إحدى قيمها الرئيسية، فلماذا والحال هذه لا يعمد الضباط إلى انتهاك العملية الديمقراطية بطريقتهم الخاصة؟ وهكذا، يمكن القول: إن هذه الانقلابات تمثل إحدى نتائج ومظاهر التراجع الديمقراطي في آن.

تمثل المقاربة المناسبة للتعامل مع الانقلابات معضلة حقيقية لا يبدو التغلب عليها سهلًا، فرفض هذا النوع من التغييرات من خلال فرض إجراءات عقابية أثبت عدم جدواه في النموذج المالي؛ حيث استثمر المجلس العسكري سردية التدخل الاستعماري الجديد لتعزيز الدعم الشعبي وتعزيز صورة القادة الحاليين كمدافعين عن الماليين في مواجهة فرنسا المجتمع الدولي. وامتد هذا الدعم الشعبي ليشمل مجتمعات أخرى في غرب إفريقيا تعاني من وطأة النخب الحاكمة الحليفة لفرنسا(38).

في المقابل، يبدو التسليم بالأمر الواقع والاعتراف بسلطة الانقلابيين بمنزلة ضوء أخضر يمهد الطريق أمام استمرار سلسلة الانقلابات.

يزيد من ضرورة الوصول إلى هذه المقاربة أن العوامل المشتركة المذكورة في الورقة بين البلدان التي شهدت انقلابات تبدو حاضرة في دول أخرى مرشحة لنفس السيناريو، ولاسيما عند النظر إلى محاولات انقلابية فاشلة في بلدان مثل النيجر وغينيا بيساو.

وفي هذا الإطار، تبدو السيناريوهات المتوقعة على الشكل التالي:

  1.  ترسيخ سلطة الانقلابيين محليًّا وإقليميًّا: من خلال بناء محور من الدول الانقلابية، وهو ما بدأت ملامحه بالتشكل من خلال رفض غينيا تطبيق عقوبات الإيكواس على مالي(39)، وهذا سيغري المزيد من الضباط بالخروج من ثكناتهم لإعلان البيان الأول، وسيزيد من حراجة الموقف الدولي في مواجهة الانقلابيين بالنظر إلى الحساسية الأمنية التي تتصف بها منطقة الساحل، كما أن غضَّ الطرف إقليميًّا ودوليًّا عن إرساء الانقلابيين سلطاتهم يشكِّل “سوابق” سوف تشجع على الإطاحة بالحكومات والأنظمة المنتخبة ديمقراطيًّا، راهنًا ومستقبلًا.
  2.  الانقلابات المضادة: وهو سيناريو تاريخي تكرَّر مرارًا، ووقع مؤخرًا في الانقلاب الثاني في مالي 2021، يدعمه الخلافات المحتملة داخل المؤسسات العسكرية، وصراع الأجندات الدولية المختلفة، واحتمالية فشل الانقلابيين في معالجة التحديات التي تذرعوا بها للقيام بتحركهم، وهو ما سيؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار وإضعاف الأجهزة الأمنية الهشة والضعيفة وصرفها عن مهامها الأكثر إلحاحًا في الوقت الراهن: مكافحة الإرهاب.
  3.  الانفجار الشعبي: يُتوقع حدوثه مع فشل الانقلابيين في إنجاز أهدافهم المعلنة على المستوى السياسي بتمديد الفترة الانتقالية مع ترسيخ السلطة العسكرية، أو بتردي الأوضاع الاقتصادية نتيجة العقوبات والضغوط الدولية والإقليمية، والانهيار الأمني مع تصاعد نشاط المجموعات المسلحة.
  4.  نجاح الانتقال السياسي: ويعتمد على قدرة المؤسسات العسكرية على التعاون مع القوى السياسية لإنجاز توافقات سياسية ودستورية تعيد البلاد إلى سكة الانتقال الديمقراطي تتضمن الحوار الوطني الشامل لمعالجة أخطاء التجارب الماضية، وتحديد مواعيد لتنظيم انتخابات عامة شفافة وعدم العمل على الاحتفاظ بالسلطة عبر تجيير الفترات الانتقالية لمصلحة المؤسسة العسكرية، وهي إجراءات كفيلة بتوفير الدعم الدولي والإقليمي والرضا المحلي لإنجاح العمليات الانتقالية.
مراجع

1- Day, Christopher, Khisa, Moses, & Reno, William, Revisiting the Civil-Military Conundrum in Africa, Civil war, Volume 22, 2020, Issue 2-3, 21/07/2020, (Accessed: 02/02/2022), https://cutt.us/Hq3ft

2-Depagne, Rinald &Foucher, Vincent, Alpha Condé a ouvert la voie au retour de l’armée à la tête de son pays, ICG, 09/09/2021, (Accessed: 02/02/2022), https://cutt.us/96qw7

3- Depagne, Rinald &Pellerin, Mathieu, L’insécurité, facteur déterminant du putsch de Ouagadougou, ICG, 28/01/2022, (Accessed: 02/02/2022).https://cutt.us/UdH8I

4-ICG: Mali : défaire le coup d’Etat sans revenir en arrière, ICG, 21/08/2020, (Accessed: 01/02/2022). https://cutt.us/keFAS

5-Depagne, Rinald &Foucher, Vincent,

6-Eizenga, Daniel, Chad’s ‘Political Transition’ Is a Smokescreen for Military Rule, WPR, 12/10/2021, (Accessed: 02/02/2022), https://cutt.us/Ivrf9

7-Depagne, & Foucher, Cit. Op.

8-Depagne, & Pellerin, Cit. Op

9-المصدر السابق.

10- بشكيط، خالد، التهديدات اللاتماثلية في منطقة الساحل الإفريقي: الإرهاب والجريمة المنظمة- دراسة في حدود العلاقة، مجلة أبحاث قانونية وسياسية، العدد السادس، يونيو/حزيران 2018، 217.

11- بعد عقد من الصراع في منطقة الساحل، نزوح 2.5 مليون شخص داخل الحدود وعبرها، الأمم المتحدة، 14 يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول: 4 فبراير/شباط 2022): https://cutt.us/rthuV

12-المصدر السابق.

13- Powell, Jonathan, Burkina Faso coup: latest sign of a rise in the ballot box being traded for bullets, The Conversation, 25/01/2022, (Accessed: 04/02/2022), https://cutt.us/QxZ6a

14-Annual Risk of Coup Report, OEF, April 2019, p. 32, (Accessed: 02/02/2022), https://cutt.us/J0pQ0

15-Tchioffo, Kodgo, 4 out of 4: Why has Mali had so many successful coups?, African Arguments, 27/08/2020, (Accessed: 02/02/2021), https://cutt.us/6XREE

16-Soliman,Ahmed, Reversing the military coup in Sudan, Chatam House, 11/11/2021, (Accessed: 02/02/2021), https://cutt.us/OBfb3

17-Depagne,& Pellerin, Cit. Op.

18-المصدر السابق.

19-UN, The Sahel: Land of Opportunities, African Renewal, (Accessed: 02/02/2022), https://cutt.us/IhdYm

20-Gain, Mohammed, Conflicting agendas and strategic rivalry in the Sahel, MEI, 16/11/2021, (Accessed: 02/02/2022), https://cutt.us/up4lk

21- محمد علي، عبد القادر، القاعدة الروسية في السودان.. صراع القوى الكبرى وديناميات السياسة المحلية، مركز الجزيرة للدراسات، 15 يوليو/تموز 2021، (تاريخ الدخول: 2 فبراير/شباط 2022): https://studies.aljazeera.net/ar/article/5068

22-Nichols, Michelle, ‘An epidemic’ of coups, U.N. chief laments, urging Security Council to act, Reuters, 26/10/2021, (Accessed: 04/02/2022), https://cutt.us/kbeWU

23-LI, RICHARD, &THOMPSON, WILLIAM, The “Coup Contagion” Hypothesis, The Journal of Conflict Resolution , Mar., 1975, Vol. 19, No. 1, P. 78.

24-Gallopin, Jean-Baptiste, The Great Game of the UAE and Saudi Arabia in Sudan, Middle East Political Science, (Accessed: 03/02/2022).

25-Siegle, Joseph, Africa’s Coups and the Role of External Actors, Africa center for strategic studies, 17/12/2021, (Accessed: 02/02/2022), https://cutt.us/RYVKF

26-المصدر السابق.

27- الأناضول، روسيا تعلن رفضها “الاستيلاء على السلطة بالقوة” في غينيا، الأناضول، 6 سبتمبر/أيلول 2021، (تاريخ الدخول: 3 فبراير/شباط 2022): https://cutt.us/1Spll

28- بالإجماع.. مجلس الأمن يطالب بعودة حكومة مدنية في السودان، دي دبليو، 28 فبراير/شباط 2021، (تاريخ الدخول: 3 فبراير/شباط 2022): https://cutt.us/Mypbu

29- روسيا والصين تعرقلان نصًّا في مجلس الأمن يدعم عقوبات “إيكواس” على مالي، فرانس 24، 12 يناير/كانون الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 3 فبراير/شباط 2022): https://cutt.us/ubpid

30- HANDY, PAUL-SIMON, & DJILO, FÉLICITÉ, AU balancing act on Chad’s coup sets a disturbing precedent, Institute For Security Studies, 02/01/2021, (Accessed: 03/02/2022), https://cutt.us/PIjNV

31- “إيكواس” فرضت عقوبات على مالي.. تعرف أكثر على المنظمة التي تقود غرب إفريقيا، الجزيرة، 11 يناير/كانون الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 3 فبراير/شباط 2022): https://cutt.us/N15si

32- “إيكواس” تفرض عقوبات فردية بحق منفذي الانقلاب على الرئيس الغيني ألفا كوندي، فرانس 24، 17 سبتمبر/أيلول 2021، (تاريخ الدخول: 3 فبراير/شباط 2022): https://cutt.us/3M4pR

33- الأشقر، أسامة، مالي تفتح ذراعيها لروسيا وتطرد فرنسا مجددًا، TRT عربي، 31 مايو/أيار 2021، (تاريخ الدخول: 3 فبراير/شباط 2022): https://cutt.us/hNEvk

34-HANDY, & DJILO, Cit. Op.

35- عبد الرحمن، حمدي، متلازمة “الرجل القوي”: دوافع انقلاب كوناكري وتداعياته الجيوستراتيجية، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 7 سبتمبر/أيلول 2021، (تاريخ الدخول: 3 فبراير/شباط 2022): https://cutt.us/G9jL8

36-Edelman, Edelman Trust Barometer 2022, (Accessed: 03/02/2022), https://cutt.us/oRdPe

37-Cassani, Andrea, Beyond Africa: Militaries Are Back in an Age of Democratic Backsliding, ISPI, 17/12/2021, (Accessed: 04/02/2022), https://cutt.us/YEV7C

38-Claes, Johannes, & Schmauder, Anna, Mali: Two Coups and Two Shortcomings for a Successful Transition, ISPI, 17/12/2021, (Accessed: 04/02/2022), https://cutt.us/UimjT

39- غينيا ترفض تطبيق عقوبات إيكواس بحق مالي، ميدي 1، 11 يناير/كانون الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 4 فبراير/شباط 2022): https://cutt.us/OgqBA

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button