دراسات استراتيجيةدراسات جيوسياسيةدراسات سياسيةدراسات شرق أوسطيةنظرية العلاقات الدولية

مياه الخليج بين الهيمنة الأمريكية والتعنّت الإيراني: السياقات والمآلات

اعداد الباحث : ماهر لطيف – دراسات حضارية اختصاص حضارة حديثة – صفاقس – تونس 

  • المركز الديمقراطي العربي

مُلخّص تنفيذي:

يدرس هذا البحث دوافع وسياقات التصعيد الأمريكي ـ الإيراني في مياه الخليج والمتمثل في احتكاك زوارق حربية تابعة للحرس الثوري بقطع بحرية أمريكية متواجدة في المنطقة وهو ما أدى إلى ارتفاع في حدة التصريحات والتهديدات المتبادلة بين الطرفين، في ظل تداعيات تفشي فيروس كورونا.

كما يعمل هذا البحث أيضا على ابراز محاولات كل من أمريكا وإسرائيل وروسيا وتركيا تحجيم النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة. ثم قمنا في الأخير بتبيان السيناريوهات المتعددة لمستقبل العلاقة بين واشنطن وطهران.

أسئلة الدراسة:

تحاول هذه الدراسة تحري الإجابة عن عدد من الأسئلة في هذا المضمار:

  • 1ـ ماهي سياقات الأزمة الأمريكيةـ الإيرانية وتطوراتها؟
  • 2ـ ماهي تداعيات فيروس كورونا على الولايات المتحدة الأمريكية وإيران؟
  • 3ـ وفي ما تتمثل محاولات تحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة؟
  • 4ـ  وماهي سيناريوهات مستقبل العلاقة بين واشنطن وطهران؟

تقديم:

عاد التوتر بين واشنطن وطهران ليطفو من جديد على سطح مياه الخليج الساخنة والمنطقة عموما بعد التهديد الأمريكي بتدمير أي جسم إيراني يقترب من السفن الأمريكية. رد الحرس الثوري الإيراني بتهديد مماثل تزامنا مع رفض أمريكي أوروبي لإطلاق إيران قمرا صناعيا مُعتبرين إياه غطاء لتجارب صاروخية.

هذا التوتر ليس وليد اللحظة بل برز منذ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي عام 2018 وفرض عقوبات اقتصادية على إيران ضمن سياسة الضغوط القصوى التي تمارسها إدارة ترامب، تلاها احتجاز ناقلات في عرض البحر، مرورا بعملية اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، وحروب قصف القواعد والمصالح الحيوية وصولا إلى الحرب بالوكالة التي تقودها طهران في دول المشرق العربي.

هل ستستمرّ الحرب الباردة بين الطرفين أم أنّنا على أعتاب مرحلة اشتباك جديدة بدأت مع اغتيال قاسم سليماني في العراق؟

1ـ سياقات الأزمة الأمريكيةـ الإيرانية وتطوراتها:

لم يحل تفشي فيروس كورونا وانهماك دُول العالم في مواجهة الفيروس دون أن يعود التوتّر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران إلى سيرته الأولى.

اشتعل فتيل الأزمة الأخيرة بين العُدوّين اللدُودين إثر حادثة تعود لمنتصف الشهر الجاري وكالعادة اختلفت رواية كلّ طرف لما جرى في مياه الخليج المُضطربة، حيث اتّهم الجيش الأمريكي 11 سفينة تابعة للحرس الثوري بالاقتراب ولمسافة خطيرة من 6 سفن عسكرية أمريكية في عمل استفزازي ومُخالف لكلّ القوانين الدُولية المُنظّمة لحركة الملاحة.

وقد دعا الرئيس دونالد ترامب بعد هذا التوتّر القُوّات الأمريكية إلى ردّ قاسي على أيّ قارب إيراني يحتكّ بسُفنها الحربية، وردّ عليه قائد الحرس الثوري حسين سلامي بأنّ البحرية الإيرانية تلقت الأوامر أيضا باستهداف السفن الأمريكية إذا حاولت تعريض السفن الإيرانية للخطر.وورد في بيان سلاح البحرية الأمريكية أن 11 زورقا سريعا تابعا للحرس الثوري اقتربت مرات عدّة وضايقت 6 سفن حربية أمريكية كانت تقوم بمهام مُشتركة للمُراقبة البحرية في المياه الدولية في شمال الخليج، وأوضح البيان أنّ الزوارق الإيرانية مرّت مرارا وتكرارا أمام السفن الأمريكية وخلفها، واقتربت منها إلى مسافة قريبة جدا وبسرعة عالية.

وأضاف أنّ هذه الزوارق اقتربت إلى مسافة 50 مترا فقط من حاملة الطوّافات الأمريكية “يو أس أس .لويس ولير” وإلى مسافة تقل عن 10 أمتار من قوس سفينة الدوريات “ماوي”. وأرفق سلاح البحريّة الأمريكيّة بيانه بصُور وشريط فيديو وثّق فيها ما جرى.”(1)

وصل التصعيد هذه المرّة إلى أبعد مراحله وإن كان كلاميا إلى حدّ هذه اللّحظة، من خلال إعطاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التفويض الرئاسي للأسطول البحري الخامس في البحرين الذّي يُفيد بأنّ للبحرية الأمريكية حق الردّ المباشر والدفاع عن النفس ضدّ أي هجوم من شأنه أن يُهدّد سلامة سفنها وجنودها دون المرور بسلسلة الإجراءات الأمنية المُعقّدة (تفرض البروتوكولات الأمريكية انتظار موافقات كل من وزير البحرية ووزير الدفاع والقائد العام للقُوّات المسلحة قبل القيام بأيّ عمل عسكري أو حتّى الردّ على أي هجوم). وهذا يُعتبر تطوّر جديد في سياق الصراع الإيراني ـ الأمريكي الذّي لم يخرج عن إطار الحروب الكلامية والتصريحات الإعلامية عدا حادثة مقتل قاسم سليماني.

ويُمكن لنا أن نتفهّم التخوّف الأمريكي من الزوارق الصغيرة وخُصوصا تلك التّي تحمل أسلحة، حيث لا تزال في البال حادثة تفجير المُدمّرة “يو أس اس كول “عام 2000 في عدن بواسطة قارب صغير يحمل مُتفجّرات، وقد أسفر ذلك الهجوم عن مقتل 17 جنديا وإصابة 39 آخرين، ولذلك لا نجانب الصواب إن قُلنا بأنّ هناك فوبيا أمريكية من الزوارق الحربية الصغيرة.

في اعتقادي أنّ البحرية الإيرانية تعرف كيف تستفزّ القُوّات الأمريكية وتعرف جيدا أنّ هذه القُوّات لا تستطيع الردّ عليها نظرا لسلسلة الاجراءات الطويلة التّي يجب اتباعها للحصول على اذن بالردّ. وبالتالي فإنّ هذه المُضايقات ليست على درجة كبيرة من الأهميّة والخُطورة ولا تخرج عن كونها مسألة استفزازية دأبت على تكرارها إيران في السنوات الأخيرة.

حيث نتج دائما عن الوجود الأمريكي في الخليج تصاعد التوترات بين الجانبين نظرا إلى أنّ كلاهما يسعى للتأكيد على حضوره. على سبيل المثال، اعترضت طائرات إيرانية في عام 2014 مُدمّرة بحرية أمريكية وحذّرتها بأنّ عليها مُغادرة ممرّات مضيق هرمز، عندما كانت المُدمّرة تُنفّذ تدريبات عسكرية.

وحدثت مُناوشة في 2015، عندما اقتربت مروحية أمريكية من طائرة مُراقبة إيرانية في نطاق 50 مترا” (2)

كما لا أعتقد أيضا أنا البحرية الإيرانية بهذا الغباء حتّى تدخل في احتكاك مباشر مع حاملة الطائرات والبوارج الحربية المُحيطة بها في مياه الخليج، حيث تستطيع القوات الأمريكية الدفاع عن نفسها وإغراق الزوارق الإيرانية في لحظات كما حدث في عملية “فرس النبي” في أفريل 1988 التّي نتج عنها اغراق نصف القُوّة البحرية الإيرانية في الخليج عندما احتكّت الزوارق الإيرانية بحاملة الطائرات “صامويل روبرت” وكادت أن تُغرقها.

لغّمت إيران مياه الخليج خلال حربها مع العراق في ثمانينات القرن الماضي، والتي نتج عنها تدمير سفينة حربية أمريكية بعد اصطدامها بلُغم، فانتقمت الولايات المُتّحدة بلا هوادة ودمّرت البحرية الإيرانية تدميرا بالغا وقلّصت قُدراتها العملياتية إلى درجت اقتربت من الصفر.

وتنبع أهمية هذه العملية من أنّها أضعفت البحرية الإيرانية لسنوات عديدة لم تتعاف منها إلاّ ببطء شديد،(3) لذلك تُدرك إيران جيّدا الخُطوط الحمراء التّي لا يجب أن تتجاوزها في التعامل مع القُوّات الأمريكية.

وفي أوج زوبعة وعيد المسؤولين الأمريكيين وتهديداتهم المتواصلة جاء نبأ إطلاق الحرس الثوري الإيراني أوّل قمر صناعي عسكري بنجاح ليرفع من درجة التصعيد إلى مستويات أعلى، القمر نور 1 أو الانجاز الوطني العظيم وفق طهران استقرّ في مداره حول الأرض يوم الاربعاء الماضي، وكالعادة سارعت واشنطن إلى التنديد بهذه الخُطوة التصعيدية التّي اعتبرتها دليلا على أنّ الضغط الذّي يُمارس على إيران غير كاف.

وعلى الرغم من أنّني لست خبيرا عسكريا لكي أتحدّث تفصيلا عن أهميّة وأبعاد هذا الإنجاز الإيراني الكبير من ناحية عسكرية، إلاّ أنّني أستطيع القول بأنّ إعلان الحرس الثوري الإيراني بأن “نور واحد” هو قمر اصطناعي عسكري أي لأغراض الرصد والمُراقبة والتجسّس هو خروج عن المألوف في تعامل إيران مع برنامجها الفضائي الذّي كانت سابقا تُؤكّد بأنّه لأغراض سلمية بحتة وليس لأغراض عسكرية. الأمر الذّي يُشير إلى أنّ إيران تُريد من خلال هذا الإعلان أن تُوصل رسالة إلى ترامب ومن ورائه نتنياهوـ الذّي نجح منذ أيام في تشكيل حُكومة طوارئ في إسرائيل ـ مفادها بأنّ عليهما أن ينتظرا المزيد وأن يُفكّرا تريليون مرة قبل أن يُقدما على أيّة مُغامرة عسكرية حمقاء ضدّ إيران.

ولكي نتصور كيف سيكون وقع هذا الانجاز في واشنطن وتل أبيب يكفي أن نُشير إلى أنّ ترامب ونتنياهو اغتبطا كثيرا حينما فشلت ثلاث مُحاولات إيرانية سابقة في وضع أقمار اصطناعية في مدارات لها في الفضاء في العام الماضي ومطلع العام الحالي.(4)

هدفت إيران من وراء إجراءاتها التصعيدية إلى بث رسائل لخُصومها بأنّ مزيدا من الإجراءات التصعيدية والعقابية ضدّ إيران يعني في القاموس الإيراني مزيدا من الإجراءات التصعيدية المُضادّة، وبثّ رسائل بأنّها هي الأخرى تمتلك أوراق ضغط وقادرة على التأثير على الاقتصاد العالمي بقُدرتها على تعطيل حركة الملاحة الدولية، وأنّها لن تسمح بتصفير صادراتها النفطية كما تطمح الإدارة الأمريكية، وأنّ هُناك ثمنا كبيرا يتحمّله من يعمل على تصفير عائدات النفط الإيراني، وأنّ إيران باتت دولة فوق إقليمية تتمتّع بسيادة ونفوذ  كبيرين في مياه الخليج العربي، وأنّها قادرة على أن تُحدث اضطرابات وتأثيرات على حركة الملاحة العالمية. (5)

2ـ تداعيات فيروس كورونا على الولايات المتحدة الأمريكية وإيران:

أـ تداعيات الفيروس على الولايات المتحدة:

كشفت أزمة كورونا عن مدى الوهن الذّي أصاب الولايات المتحدة الأمريكية، ليس بسبب عدم كفاءة نظامها الصحّي فحسب، وإنما أيضا بسبب طريقة إدارة الأزمة التّي جاءت مُرتبكة ومُتردّدة، ممّا ساهم بتصدّر الولايات المتحدة للمرتبة الأولى في عدد الإصابات والوفيّات في العالم، حيث أصبحت تستحوذ على أكثر من خُمس الإصابات في فترة زمنية قصيرة جدّا وتخطّت عتبة مليون إصابة وأكثر من57 ألف وفاة. ولا يُمكن لنا أن ننسى أيضا فشل الإدارة الأمريكية في احتواء أزمة الطاقة وأسعار النفط.

وقد حملت هذه الأزمات المُتتالية معها انتقادات كبيرة لسياسات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وطريقة تعاطيه السلبية معها وخاصّة تراخيه في مُستهل ظهور الفيروس، وفي سياق هذه الانتقادات كتب أحمد عبد الباسط الرجوب في صحيفة”رأي اليوم اللندنية:” استيقظ العالم على هشاشة دول كبرى كان يُعوّل عليها في حماية العالم، إن هو تعرض إلى غزو فضائي، فإذا بها تسقط عند أوّل امتحان، يكاد يهزمها فيروس كورونا المُرتبط بمُتلازمة الشرق الأوسط التنفسية.

ويُضيف:”لم يأخذ  الرئيس الأمريكي بالجدّية المطلوبة مُواجهة وباء كورونا، حتّى أنّ جوقة الإعلاميين المُحيطين به قد اعتبروا أنّ هذا الفيروس خُدعة إعلامية ليبرالية، والذّي على أساسه وافق ترامب على استخدام دواء الملاريا لعلاج هذا الوباء، وفي ذات السياق فقد واجه الرئيس انتقادات كثيرة، خاصة من الديمقراطيين وعلى رأسهم نانسي بيلوسي، باتهامها للرئيس ترامب بانتهاجه سياسات مُتخبّطة واتهامه بالفشل والكذب تجاه التعامل مع وباء كورونا، لم يكن يتوقع الكثيرون أن تكون أمريكا بهذا الضعف في بنيتها التحتية أو أنها غير جاهزة حتى بالأقنعة الواقية على أقلّ تقدير”(6)

جاءت أزمة كورونا لتعصف بالقوة الأمريكية وتعبث بعنجهيتها وغُرورها وقد بيّنت ضعف البنية التحتية وتدنّي المُستوى الطبّي، وأشعلت الخلافات بين الجُمهوريين والديمقراطيين وبين ترامب وحُكّام الولايات الرافضين لسياساته في مُعالجة هذا الوباء من استخفاف واستهتار ومن تغليب للاقتصاد على سلامة المُواطن الأمريكي، كل هذا يحدث وسط استعدادات للانتخابات الرئاسية في نُوفمبر المُقبل.

إنّ انتشار فيروس كورونا في عام 2020 يجعل كلّ الجوانب المرتبطة به سواء مستوى انتشار المرض، وكيفية الاستجابة له ذات طبيعة خاصة، فعام 2020 هو عام مُهمّ في الحياة السياسية الأمريكية، ليس فقط لأنّه عام الانتخابات الرئاسية وانتخابات التجديد النصفي للكونغرس، ولكنّه أيضا عام التحدّي، فمن جهة يريد الرئيس ترامب إعادة انتخابه، وفي المقابل يُريد الديمقراطيون إزاحته من البيت الأبيض.

ومن ثمّة مثّل تعامل الرئيس ترامب وإدارته مع انتشار فيروس كورونا جزءا رئيسيا في تقييم أداء الإدارة بشكل عام، ولهذا يُنظر لانتشار فيروس كورونا داخل الولايات المتحدة الأمريكية ليس باعتباره أزمة صحّية تتعلّق بانتشار فيروس، ولكن أزمة سياسية تتعلق بكيفية التعامل مع تهديد يواجه الأمن القومي.فبرغم الجهود المُختلفة التّي تقوم بها إدارة الرئيس ترامب لإدارة الأزمة، تحوّلت لتُصبح أزمة سياسية للإدارة وليست صحّية(7)

ومهما يكن من أمر لن يكون حال أمريكا بعد الكورونا كسابقها لاسيما أنّ الصين وروسيا قد قامتا بملء كثير من مُربّعات النُفوذ الاستراتيجي العالمي بعد أن تخلّت أمريكا عن دورها الريادي في مساعدة الدول المنكوبة وفي تمويل مُنظّمة الصحّة العالمية، وفي دعم الجهود الأممية التّي تقوم بها الأمم المُتّحدة لصالح غيرها من الدول التّي عرفت جيدا كيف تستفيد من الأزمة. وبدلا من ذلك قامت الولايات المتحدة بالاستحواذ على شحنات كبيرة من الكمّامات وأجهزة التنفس الصناعي بالقوة ضاربة عرض الحائط القوانين الدولية.

وتحت عنوان “أمريكا ما بعد الكُورونا”، يقول إيميل أمين في “الشرق الأوسط اللندنية” “المؤكد أنّ هناك إشكالية حقيقية في مقدرة واشنطن على اختراق الستار الحديدي الجديد، الذّي هو صيني في هذه الحقبة التاريخية وليس سُوفياتيا. كان ذلك قبل ظهور أزمة كورونا، ومعها ازداد الوضع ضراوة، فلم تستطع 16 وكالة استخبارية الحصول على أيّ معلومات دقيقة حول سبب تفشي الفيروس السريع سواء في الصين وإيران وإنما يمتدّ كذلك إلى كوريا الشمالية وروسيا.(8)

وتنبّأ جعفر الجعفري في “الميادين اللبنانية “بسيناريو كارثي للوضع الذّي ستؤول إليه الولايات المتحدة في أعقاب تفشّي وباء كورونا، حيث يرى أنّ الفيروس سيُفاقم الأزمة الاقتصادية ممّا سينجرّ عنه تصاعد مُعدّلات البطالة إلى مُستويات غير مسبوقة، والتّي يُمكن لها أن تتخطّى مُعدّلات البطالة أيام أزمة الثلاثينات النقدية وبالفعل فقد فقد أكثر من 21 مليون أمريكي وظائفهم إلى حدّ هذه اللحظة وأعلنت مئات الشركات إفلاسها، إضافة إلى ظُهور مُؤشّرات المجاعة التّي ستطال قطاعات اجتماعية واسعة من الشعب الأمريكي بما أنّه شعب استهلاكي قد تُؤدّي إلى احتجاجات وفوضى عارمة ربّما تتحوّل إلى اشتباكات مُسلّحة وعصيان مدني يٌهدّد مصير الولايات الفيدرالية الأمريكية.

ب ـ تداعيات الفيروس على إيران:

لا العُقوبات ولا التّدهور الاقتصادي ولا سياسة الضُغوط القصوى الأمريكية ولا حتّى تداعيات فيروس كورونا أثنت إيران عن مُواصلة تمويل وكلائها ومليشياتها المُسلّحة في المنطقة، فقد أوردت “فوكس نيوز” الأمريكية تقريرا أبرزت فيه حجم التجاوزات الإيرانية حيث استغلّ النظام الإيراني أزمة فيروس كورونا، واعتمد منذ بداية تفشي الفيروس سياسة مُماطلة مُظلّلة تلتها مُحاولات استغلال الأزمة لمآرب أخرى كالضغط لرفع العقوبات المفروضة عليها مُستغلّة الخلافات القائمة بين الأوروبيين والأمريكان، وهذا ما لفتت إليه مُنظمات دُولية عدّة من أنّه أمر يعكس سوء الإدارة وحجم الفساد المُستشري في النظام.

أيضا رصدت الوكالة النوويّة استمرار طهران في أنشطتها النووية رغم تعهدها بالتوقّف عنها، حيث تعمل طهران على انتاج 60 جهاز طرد مركزي متقدّم يوميا وتمويل الوكلاء في دول الهلال الشيعي، وقد سبق أن ندّدت الخارجية الأمريكية بإنفاق طهران الأموال التّي كان أولى أن تُخصّصها للشعب الإيراني المُفقّر بدل أنشطتها الخارجية بدءا من حزب الله اللبناني والنظام السوري إلى مليشيات الحشد الشعبي في العراق وأنصار الله الحُوثي في اليمن وجمعية الوفاق في البحرين وحتّى شبكات المُخدّرات في فنزويلا.

سياسة النظام العدائية الشرسة تُديرها ثُلّة من الكهُول في طهران بكفاءات إدارية واقتصادية محدودة، أمّا قدرته على استخدام الصواريخ البالستية وطائرات الدرونز، وشنّه بعض الهجمات المُتطوّرة مثل هُجومه على أرامكو، فإنّ مُعظمها يعود لدعم حلفاء له مثل كوريا الشمالية، وأخرى مُعادية للقطب الأمريكي.لم يبن النظام منذ وصوله للحكم دولة حديثة وصناعية بل بنى آلة عسكرية ودعائية كبيرة، يُوهم شعبه والخارج بأنّه قادر على الاستقلال والإنتاج، والدخول في حروب من خلال منظومة عسكرية ضخمة من قُوّات نظامية وميليشياوية كبيرة واحتياط ضخم ربما تُعطيه قُوّة هائلة، ومع هذا لا يستطيع تدبّر أمره حتّى في تطوير مصافي النفط التّي ورثها من عهد الشاه مع ما ورث. (9)

أمّا داخليا فالشعب الإيراني يُعاني الأمرّين نتيجة العقوبات التّي استهدفت بلاده ولا يجد النظام أيّ حلّ سوى زيادة الضرائب التّي تؤدي إلى ارتفاع مُستوى المعيشة وإلى انكماش اقتصادي شديد، حيث أدى الصمود الإيراني أمام سياسة الضُغوط القصوى التّي يُمارسها المجتمع الدولي إلى كارثة اقتصادية واجتماعية ذهب ضحيتها جميع المُواطنين، ولم يعد النصر ـ حتى وإن تحقّق ـ يعني شيئا أمام ضخامة هذه الكارثة والتّي تبرز ملامحها من خلال المشاكل التالية التيّ أدت إلى تدهور مستوى معيشة المواطنين وإلى استياء شعبي واسع النطاق نذكر منها ازدياد البطالة وارتفاع الأسعار وتفاقم الفقر وتراجع سعر صرف الريال وعجز ميزان المدفوعات وارتفاع الإنفاق العسكري وتصاعد العبء الضريبي.

أسهمت هذه العوامل مُساهمة فاعلة في تردّي الوضع المالي للبلد وتزايد عجز الميزانية العامّة، ويُمكن تقدير النفقات العسكرية(مصروفات الجيش والحرس الثوري) بحوالي عشرين مليار دولار في السنة، وهذا المبلغ يفوق جميع الإيرادات النفطية الحالية.(10)

ونقل موقع إيراني مُتخصّص في الشؤون الاقتصادية عن مسؤولين رفيعين في الجمهورية الإسلامية توقعاتهم بأنّ البلاد ستشهد إضافة مليون عاطل جديد إلى العاطلين الذي يبلغ عددهم نحو 5 ملايين شخص، فيما توقعّت زيادة كُلفة السكن والمعيشة بنحو 40 بالمئة، في ظلّ التضخم الكبير والكساد الذّي سببه انتشار فيروس كورونا والعقوبات الدولية على إيران. وقال موقع Iran Focus إنّه من الآن فصاعدا يمكن رُؤية مستقبل الوضع الاقتصادي البائس لملايين المحرومين في أعقاب انتشار فيروس كورونا في إيران.(11)

محور داخلي آخر تحدثت عنه “فوكس نيوز” وندّدت به أيضا مُنظّمة العفو الدولية وهو طريقة تعامل السُلطات الإيرانية مع تفشّي فيروس كورونا في السجون التابعة للنظام من قمع لاحتجاجات السُجناء على تدنّي مُستوى الخدمات الصحية والتّي تُؤدّي وبدون شكّ إلى تفشي الإصابات بينهم، فضلا عن الأوضاع المُتهالكة أساسا وعدم توفر وسائل الحماية من أي مرض خلف تلك الأسوار.

هكذا إذن ورغم الخلافات المُعلنة والمُستترة بين الخصمين إلاّ أنّها يشتركان وبنسب متفاوتة في تداعيات تفشي فيروس كورونا الذّي لم يكن ضيفا خفيفا على كلّ منهما، ولا ننسى أيضا تهاوي أسعار النفط بشكل مُخيف وخطير على كلّ الدول المُنتجة للذهب الأسود الرخيص جدّا هذه الأيّام بما فيهما إيران والولايات المتحدة الأمريكية.

3ـ محاولات تحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة:

أـ محاولات للحدّ من النفوذ الإيراني في العراق:

استغلّت إيران سُقوط جارتها العراق والتغيرات الحاصلة سواء في بنية الأنظمة العربية أو التحوّلات في السياسة الأمريكية التّي تميزت بالموادعة والسلمية في التعامل معها خاصّة فترة حكم بوش وباراك أوباما، لتنفرد بتقرير مصير الشرق الأوسط وفي التحكّم بموازين القُوى وشكل التحالفات في المنطقة وفي توسيع نفوذها الممتّد من بغداد إلى صنعاء وبيروت ودمشق والمنامة وحتّى غزّة نظرا لمعرفتها الدقيقة بالمنطقة العربية وإجادتها للغاتها وثقافتها.

هذا النفوذ بات يُزعج اليوم أكثر من أي وقت مضى القيادة الأمريكية التّي بدأت تستشعر حجم الخطأ الذّي ارتكبته بتسليم العراق على طبق من فضّة لنظام الملالي الذّي عاث فيه خرابا ودمارا وسرقة عبر مليشياته الشيعية المُسلّحة، حيث تغيرت الاستراتيجية الأمريكية في التعامل مع إيران مع تولي دونالد ترامب الحكم من منطق التفاهم إلى التصعيد عبر مُحاولتها الإطاحة بحُكومة روحاني وتغيير النظام، وكانت أولى المُحاولات إلغاء الاتفاق النووي بعد أقلّ من عام ونصف العام من رئاسته في مايو 2018 وتصنيف الحرس الثوري الإيراني مُنظّمة إرهابية، وقد طالت العُقوبات المُرشد الأعلى خامنئي وطبّق ترامب خلال ذلك حملة ضغوط قصوى لتركيع نظام ولاية الفقيه بعُقوبات اقتصادية صارمة،(12 ماهر اللطيف منتدى السياسات الايرانية) وتحوّلت بعدها قواعد الاشتباك بين واشنطن وطهران من استخدام آليات الضغط السياسي والاقتصادي إلى استخدام صريح للقوّة العسكرية نتج عنها اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني داخل الأراضي العراقية مطلع العام الجاري.

وعمدت واشنطن إثر ذلك إلى استهداف أذرع إيران في العراق بتدمير مخازن وأرتال الحشد الشعبي بصفة مُباشرة، ومُحاولة تصفية قياداته في محاولة للجم النفوذ الإيراني وردع  طهران عن مواصلة أنشطتها العسكرية المُزعزعة لاستقرار الشرق الأوسط، ونصبت منظومة صواريخها باتريوت لصدّ أي هجمات انتقامية من إيران أو من وكلائها.

ولم يمنع تفشّي فيروس كورونا الولايات المُتّحدة من مُواصلة معركتها ضدّ إيران حيث تُخطّط إدارة ترامب لإلحاق القيادي بحزب الله العراقي “محمد كوثراني” بقاسم سليماني وذلك في إطار مُلاحقة الأصول المالية لحزب الله الأمّ في لبنان والمُرتبطة بفيلق القدس، وقد عرضت 10 ملايين دولار لمن يُدلي بمعلومات عنه في مُحاولة لوقف الاختراق الإيراني لمُؤسّسات الدولتين اللبنانية والعراقية.

ويعتبر العراق بالنسبة للإدارة الأمريكية أحد أبرز أوراق الضغط على نظام ولاية الفقيه ووجها من أوجه التضييق عليه وحدّا من سياساته التوسعية والعدوانية كخط الدفاع الأخير للمجال العربي كلّه، وإذا وقع العراق بأكمله رهينة في يد الإيرانيين يعني أنّ القواعد الأمريكية الموجودة في منطقة الشرق الأوسط ستُصبح مُحاصرة وهدفا سهلا ومكشوفا للصواريخ الإيرانية أو لوكلائها المحلييّن، وستُصبح دول الخليج من ورائها مُهدّدة وغير مُستقرّة إذا ما تم استكمال المشروع الإيراني، كما أنّ التداعيات التي سيُحدثها الاختراق الإيراني الكامل الذّي لو نجح في إدخال العراق في بيت الطاعة فإنّ عواقبه ستكون وخيمة في بنية الأنظمة العربية الهشّة وغير المُتجانسة لدول المشرق العربي بما تحمله مجتمعاتها من تناقضات مذهبية وإثنية.(13)

وقد أعاد فيروس كورونا تشكيل العلاقة الإيرانيةـ العراقية من جديد بعد أن كانت السيادة مُنتهكة على يدّ إيران ومليشياتها الشيعية، وتتمّثل السياسة العراقية الجديدة في رفض بغداد فتح حُدودها البريّة مع طهران رغم حجم الضُغوط الكبيرة التّي تُمارس عليها، حيث تُريد إيران المُتضرّرة من الفيروس ومن العقوبات الاقتصادية فتح الحدود وعلى الفور لأنّ التجارة مع العراق هي المنفذ الوحيد لاستقرار الاقتصاد الإيراني والسوق الرئيسية للبضائع والمنتجات الزراعية الإيرانية.”خُلاصة القول أن فتح الحدود بين العراق وإيران يجلب للأخيرة منافع اقتصادية هي بأمسّ الحاجة إليها في ظروفها الاقتصادية الصّعبة، وفتحها يعني أيضا ضمان التواصل المُستمرّ مع مليشياتها في العراق، أمّا إقليميا يتمثل نفعها بوصفها جزء مهم في مشروع طهران الكبير لأجل الوصول إلى حُلفائها في البيئة العربية. (14)

وقد لاحظنا في الآونة الأخيرة تنامي مشاعر الكراهية والرفض للمشروع الإيراني في أرض الرافدين من خلال تزايد الاحتجاجات المُناهضة للحُكومة في الخريف الماضي، والآن في عصر الفيروس التاجي ومع تعرض صحة العراقيين للخطر اكتسب الضغط لإبعاد البلاد عن إيران جاذبية أوسع خاصة داخل الهلال الشيعي (كربلاء والنجف والبصرة).

ب ـ محاولات للحدّ من النفوذ الإيراني في سوريا:

يتعرّض التواجد الإيراني في سوريا إلى تهديدات ومُضايقات كبيرة يُمكن أن تُهدّد مستقبل تواجده من إسرائيل الحليف التقليدي للولايات المتحدة الأمريكية، حيث عاد سلاح الجوّ الإسرائيلي في شهر أفريل إلى توجيه ضربات جديدة على مواقع إيرانية ومخازن أسلحة الحرس الثوري في محيط مدينة دمشق وريفها في رسالة مُتكرّرة من تل أبيب تدلّ على عمق الانزعاج الإسرائيلي من توسّع مشروع النفوذ الإيراني في سوريا، ورغم تكرّر الضربات الإسرائيلية للمواقع الإيرانية داخل الأراضي السورية، إلاّ أنّ لهذه الضربة خصوصيتها وهي التّي تأتي كأوّل رسالة إسرائيلية مُباشرة تدلّ على أننا أمام موجة تصعيدية سيزيد مداها خلال الشُهور المقبلة، وذلك بعد إعلان وزير الدفاع الإسرائيلي عن خُطّة مُشتركة مع الولايات المتحدة الأمريكية تقضي بتولّي إسرائيل مُهمّة ضرب النفوذ الإيراني في سوريا، بينما تضرب واشنطن النفوذ الإيراني في العراق.

ويُمكننا القول بأنّ الهجمات الإسرائيلية الأخيرة تمّت بتواطؤ روسي، حيث عطّلت روسيا بطارية صواريخها المُضادّة للطائرات الموجودة في قاعدة “حميميم” ولم تقم بتشغيلها إلاّ بعد ساعة ونصف من الهجوم. والجديد في هذه المرّة يكمن في تصريحات الوزير الإسرائيلي نفتالي بينيتز الذّي قال مخُاطبا المجتمع الدولي ” ضعوا السمّاعات على آذانكم وانتظروا ستسمعون وترون أشياء، فنحن لا نُواصل لجم نشاطات التموضع الإيراني في سوريا فحسب بل انتقلنا من اللّجم إلى الطرد وأقصد طرد إيران من سوريا”، وقد تُرجمت هذه التصريحات إلى غارات جنوب سوريا استهدفت مُستودعات تقول عنها إسرائيل أنّها مخازن لأسلحة استراتيجية مُتطوّرة وصواريخ مُوجّهة.

وقد عبّر فلاديمير بوتين عديد المرّات عن انزعاجه من الرئيس بشار الأسد لمُحاباته إيران، والذّي ينسى أو يتناسى دعم روسيا له لصالح دعمه لبقاء التواجد الإيراني على الأراضي السورية، الأمر الذّي ترفضه موسكو وبشدّة لاعتبارات عديدة من أهمّها المكاسب الاقتصادية من خلال الانفراد بعقود اعادة الاعمار المُزمعة في سوريا والتّي تشهد مُنافسة إيرانيةـ روسية مُحتدمة.
تذمّر روسيا من إيران ليس بأمر جديد إذ يجد بوتين أنّ منافسه المباشر في سوريا هو النظام الإيراني الذّي دخل بكل قوّته ومليشياته منذ السنوات الأولى للثورة السورية، ما يدفع بوتين لمحاولة إنهاء التمدّد الإيراني بالقوّة أوّلا وهو ما حدث خلال اشتباكات عديدة حدثت بين الطرفين في عدّة مدن سورية رغم محاولة النظام نفي ذلك، وثانيا بالسكوت الروسي عن الضربات الإسرائيلية القاسية التّي تستهدف المليشيات الإيرانية وكأنّ الكرملين يبارك ضمنيا تلك الضربات.
وثالثا بتنفيذ اتفاق أستانة وسوتشي وذلك مع الشريك التركي واستبعاد الإيرانيين منه تماما، كشف الاتفاق الروسي ـ التركي في 5 مارس 2020 أعطاب العلاقة بين موسكو وطهران، إذ قرأت إيران في الاتفاق مُحاولة لتجاوزها وخُطّة ممنهجة لإخراجها من سوريا، وأن روسيا تعاملت معها بوصفها لاعبا ثانويا في الساحة السورية، وبالتالي ليس من الضرورة إشراكها في اتفاقات لها علاقة بترتيب الوضع السوري، ويعزّز هذا التفسير توجّسا إيرانيا سبق وأن عبّرت عنه جهات سياسية مُتعدّدة في البرلمان الإيراني والمُؤسّسات الأخرى، تحدثت أكثر من مرّة عن وجود نوايا روسية للاستحواذ على سوريا وتهميش إيران.

وتتخوّف إيران من تحوّل الاتفاق التركي ـ الروسي الأخير في إدلب، إلى نموذج للتفاهم مع اللاعبين الأخرين، بحيث يتمّ استثناء إيران واستبعادها من دائرة التأثير في الملعب السوري وصولا إلى تهميشها نهائيا، لذا تعمل على إيصال رسالة واضحة لروسيا بأن لديها المقدرة على عكس التطوّرات لصالحها، وعرقلة أي ترتيبات لا تلحظ تأثيرها ونفوذها ولا تعطيهما اعتبارا وازنا.(15)

ولعل التوجه الروسي الأخير سيكون باستمالة حلفاء إيران على الأرض السورية وسط الأنباء العديدة التي تتحدث عن عروض روسية لكتائب تدعمها إيران في سوريا لا سيما كتيبة العباس التابعة للواء فاطميون والتّي دخلت في خدمة المصالح الروسية أخيرا بعد أن مدّتها موسكو بالسلاح والمال مُقابل الارتزاق لصالحها.

وسيعمل الوكلاء وأجهزة المخابرات العالمية من خلال التحالفات القائمة على تسوية معقولة للملف السوري تضمن لكلّ منها مصالحه، وستُحدّد وضع كل طرف في المعادلة السورية ومقدار هامش حركته في هذا البلد مستقبلا وربما سيتحول الصراع الصامت مع إيران إلى صراع علني مباشر خاصّة مع تضارب المصالح وتعاظم المدّ الإيراني الذي يحاول التأثير على هُويّة الدولة السورية ومستقبل علاقاتها الإقليمية ونزع هُويتها العربية لفائدة المشروع الإسلامي الشيعي الأعلى تحت مُسمّى مشروع المقاومة، والتأثير أيضا على عمل الجيش السوري النظامي الذّي يُمثّل خطرا على مُستقبل المليشيات الإيرانية، والعمل على إعادة توظيف المكانة الجيوسياسية لسوريا.

4ـ سيناريوهات مستقبل العلاقة بين واشنطن وطهران:

تحوّلت مياه الخليج في السنوات الأخيرة إلى ساحة توتّر بين واشنطن وطهران، ولم يحل تفشي فيروس كورونا وانهماك الدولتين في مواجهة الفيروس دون أن يعود التوتر بينهما من جديد إلى سيرته الأولى، بل وأكثر حدّة هذه المرة من سابقاتها رغم أنّ عديد المراقبين يرون أن التصعيد الأمريكي ـ الإيراني لا يعدو أن يكون مُجرّد حرب كلامية ودعائية بين الطرفين، ولن تشتعل فتيل الحرب في هذه الفترة الحسّاسة التّي تشهد خسائر اقتصادية كبيرة وتزايدا في أعداد الإصابات والوفيات جرّاء تفشي الفيروس، خاصّة وأنّ مياه الخليج شهدت خلال 3 سنوات الماضية ما يزيد عن 12 عملية احتكاك بين القُوّات البحرية للبلدين.

ولم تُؤدّي هذه العمليات إلى مواجهة عسكرية سوى مواجهة محدودة على الأراضي العراقية بعد اغتيال قاسم سليماني وهو ما يشير إلى أن الأراضي العراقية من الممكن أن تبقى ساحة لتصفية الحسابات بين الطرفين.

بينما يذهب طيف من المُحلّلين الإيرانيين إلى أنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يريد تصدير مشاكله الداخلية إلى الخارج وأنّه يرى إيران الحلقة الأضعف مُقارنة مع أعدائه الكبار (روسيا والصين) ووجد في مياه الخليج الساحة الأنسب، وهو ما يُفسّر الردّ الإيراني العنيف على المناورات الأمريكية الأخيرة(16)

كلّ السيناريوهات مُمكنة ومطروحة اليوم، فباستطاعة الولايات المتحدة الأمريكية أن تدخل حربا مع إيران ولكنّها ستكون حربا غير مُتوافقة من حيث موازين القوى وستُنزف الطرفين، وباستطاعتها أن تمحي النظام عن بكرة أبيه وباستطاعتها ضرب منشآت نووية ومراكز أسلحة وصواريخ بالستية للحرس الثوري، الإضافة إلى استهداف مراكز البحرية الإيرانية، وذلك في إطار ضربة عسكرية محدودة كعمليّة فرس النبي عام 1988 تدوم يوم أو يومين وذلك لإضعاف النظام. حيث أنّ مُخطّط ضربة عسكرية امريكية محدودة لأهداف مُركّزة في طهران كان جاهزا منذ 2012 في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إلا أنّه على الأرجح تأخّر بفعل اندلاع أحداث الربيع العربي التّي راهنت الإدارة الأمريكية على أن يطال إيران أيضا ويكون التغيير الذي تطمح له واشنطن من الداخل، إلا أنّ إيران استفادت من هذا الربيع لتقوية نفسها داخليا وتعزيز نفوذها في المنطقة.

وقد تكون الظروف اليوم ملائمة لإدارة ترامب لحسم المُخطّطات المُعلّقة، وبالتالي تنفيذ المُخطّط الذّي تردّد أوباما في اتخاذ قرار فيه إلى أن وجد مخرجا للملف بعد اتفاق نووي يخدم الإيرانيين أكثر من غيرهم. لكن ترامب في حال إعطائه الضوء الأخضر لضربة محدودة فقد تكون بسيناريوهات مُختلفة ومُبتكرة. إذ أنّ سيناريو الضربة سيعتمد على عُنصر المفاجأة. وقد لا يتمّ استهداف أراضي إيران بل على الأرجح يمكن استهداف قوات أو مواقع إيرانية أو عناصر موالية لإيران منتشرة في المنطقة وفي مناطق النزاع الأخرى وخصوصا في المناطق البحرية وذلك بعد استفزازها ودفعها إلى عمل مُتهوّر يُصنّف بالعمل العدائي ضدّ مصالح واشنطن وحلفائها (17)

أو أن تُراهن الولايات المتحدة على اسقاط نظام الملالي بالضغط عليه بمزيد من العقوبات الاقتصادية أو بدعم تيارات المعارضة في الداخل لينهار النظام تحت الضغوط الهائلة من الشارع كما هي الحال زمن الشاه. ولكن هذا الانهيار سيحمل معه فوضى عارمة ليست في إيران وحدها بل ستُغرق المنطقة بأسرها وهو خيار قد لا تُحبّذه الولايات المتحدة التّي تُعاني تخبّطا كاملا في مقاربتها نحو إيران.

  • وهنا يُطرح السؤال هل إدارة دونالد ترامب قادرة على سحق إيران؟

قطعا أكيد ولكن ماهو الثمن؟ الثمن هو اختلال ميزان التوازن الإستراتيجي، فالولايات المُتّحدة مُضطرّة أن تحشد حجم قوات يتجاوز نصف مليون جندي أمريكي على الأقل إذا ما أرادت تدمير إيران، إضافة إلى قُدرات عسكرية جوّية وصاروخية هائلة (بوارج حربية وقوات وحاملات طائرات)

وإذا كانت حرب العراق تطلبّت 300000 جندي وهي تحت الحصار لأكثر من 14 عاما، فإننا نتحدّث هنا عن إيران التّي طورت منظومة عسكرية وكوّنت أذرعا ومليشيات في المنطقة (لبنان واليمن والعراق وسوريا والبحرين) بهدف مُحاصرة القوات الأمريكية وضربها إن أعلنت الحرب، كما طورت شبكات خارج المنطقة مُمتدّة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا وهي قادرة على إحداث زلازل كبيرة وصدعا يُهدّد توازن العالم بأكمله.

كما أنّ حشد قوّة عسكرية أمريكية كبيرة بالتركيز على ضرب دولة صغيرة في ميزان القوة الاستراتيجي سيسقط من اعتباراتها التحدّي الاستراتيجي المركزي وهو مقاومة التمدّد الصيني بدرجة أولى في شرق آسيا ثم بدرجة ثانية روسيا.لذلك فإنّ خيار الحرب سيضعف وسينهك الولايات المتحدة عسكريا واقتصاديا وسيخلّ بميزان توزيع القدرات العسكرية وهذا سيكون أسوأ مما حصل لها في العراق بما يعقبه من خطر على الأمن القومي الأمريكي.

اليوم يُريد ترامب أن يحتوي إيران وأن يكبح غرورها وتسلّطها ويُريد أن تعلن طهران الاستسلام وأنها لن تتحدّى الإدارة الأمريكية في المنطقة، ولكنّه لا يملك مُقاربة واضحة لفعل ذلك، هو اليوم انتهى إلى الضغوط الاقتصادية القُصوى التّي شلّت مفاصل النظام وعطّلت مشاريعه لكن إيران ليست تلك الدولة الضعيفة التّي قد تستسلم أمام ضغوط اقتصادية.

ونحن هنا نرى أنّ السيناريو الثالث المُتمثّل في اعتماد الحلول الدبلوماسية والسعي نحو السلام والتركيز على مُحادثات يُقدّم فيها الطرفان تنازلات كبيرة هو الأقرب للواقع، وهذا يتطلّب الاعتراف بأنّ سياسة العقوبات وممارسة أقصى الضغوط فشلت في جر إيران إلى الاستجابة للمطالب الأمريكية، كما أجّجت مشاعر الجماهير الإيرانية ضدّ الولايات المتحدة خاصّة في ظل أزمة كورونا، وترى الكاتبة بوني كريستيان في مقال لها نشرته التايم الأمريكية أنّ كلّ هذا يتطلّب إعادة تقييم أولويات السياسة الخارجية الأمريكية بعد ما يقرب عقدين من الصراع في المنطقة، الذّي خسرت فيه الولايات المتحدة أكثر ممّا ربحت.(18)

خاتمة:

في المُحصّلة تُريد كلّ من واشنطن وطهران استغلال أزمة كورونا لمصلحتها، فالولايات المتحدة لا تعتبر الاتفاق النووي قائما بل ولا تعترف به أصلا، هي فقط تُريد أن تدفع إيران للجلوس على طاولة المفاوضات مرّة أخرى للوصول إلى اتفاق آخر وبشُروط أخرى تُمليها على الجانب الإيراني للتأكيد على هيمنتها المطلقة على كامل المنطقة، من جهتها إيران لا تريد أن تجلس على طاولة المُفاوضات لأنّها أضعف الآن وتُريد في المقابل العودة إلى الاتفاق النووي وأن تُحافظ عليه خاصّة في هذه المرحلة مع وُجود أطراف أخرى مُتمسّكة به كالأوروبيين والروس والصينيين. وهي تُريد المُماطلة في انتظار نتيجة الانتخابات الأمريكية المقبلة لتحدد موقفها من عملية التفاوض.

الهوامش:

1ـ تقرير لفرانس 24، “بوارج أمريكية تتعرّض لمُناورات استفزازية من زوارق إيرانية في المياه الدولية في الخليج”،16 افريل 2020، موقع France 24.COM

2ـ تي ارتي عربي، “هل تعود حرب ناقلات الثمانينات إلى الخليج مجددا”، 17 يونيو 2019.

3ـ م، نفسه

4ـ محمد النوباني، “ماذا يعني نجاح إيران في اطلاق نور واحد وإعلان الحرس الثوري بأنه لأغراض عسكرية؟” جريدة رأي اليوم، 27 افريل 2020

5ـ عبد الرؤوف مصطفى الغنيمي، “الوساطات الدولية لتسوية الأزمة الأمريكية ـالإيرانية ومستقبل نفوذ طهران الإقليمي” المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، ص8.

6ـ   bbc arabic “فيروس كورونا: هل تطيح أزمة الوباء بزعامة أمريكا؟”، 4 أفريل 2020.

7ـ  حسام ابراهيم، “ملامح استجابة إدارة ترامب لأزمة كورونا”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 13مارس 2020

8ـ  bbc arabic “فيروس كورونا: هل تطيح أزمة الوباء بزعامة أمريكا؟”، 4 أفريل 2020.

9ـ عبد الرحمان الراشد، “هل نظام المرشد في مهب الريح؟”،ساسة بوست، 14جانفي 2020.

10ـ صباح نعوش، “ماهو ثمن برنامج اقتصاد إيران المقاوم؟”، البيت الخليجي للدراسات والنشر، 13 مارس 2020

11ـ تقرير لقناة الحرة الأمريكية، “الاقتصاد الايراني أرقام مُخيفة وتحذيرات من انهيار وشيك”، 25 افريل 2020

12ـ ماهر لطيف، “المواجهة الأمريكيةـ الإيرانية في العراق: السياقات والمآلات”،  المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية أفايب، 10 أفريل 2020.

13ـ م، نفسه

14ـ  تقرير لمركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، “الحدود العراقية:ما أهميتها لإيران”، 27 افريل 2020

15ـ مركز الامارات للسياسات، “صراع نفوذ صامت روسي ـ إيراني في سوريا”، 31مارس 2020

16ـ الجزيرة نت،”طبول الحرب تقرع ما سيناريوهات التصعيد الأمريكي الإيراني في مياه الخليج”، 28 أفريل 2020.

17ـ ورقة تقدير موقف لمركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والإستراتيجية،” واشنطن تخطط لضربة محدودة وطهران مستعدة لحرب تكتيكية”، 18 ماي 2019

18ـ شبكة الجزيرة للأخبار، “ثلاثة سيناريوهات لمستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران”، 24 أفريل 2020

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى