دراسات سياسية

نحو ثقافة سياسية جديدة

بقلم محمد محفوظ – شبكة النبأ
twitter share

مقدمة:

عديدة هي الدوافع والمعطيات التي تدفعنا إلى القول: أن هناك ضرورات ذاتية وموضوعية قصوى لتنمية ثقافة سياسية ـ ديمقراطية جديدة في المجالين العربي والإسلامي، تتجاوز كل عناصر التخلف والانحطاط والاستبداد العالقة في الثقافة السياسية السائدة.

وذلك لأنه لا يمكن الخروج من مآزق الراهن والتفاعل الإيجابي مع مكاسب الحضارة، بدون ممارسة قطيعة معرفية وسياسية مع ثقافة وتقاليد التخلف والاستبداد. وذلك لأنها هي المسئولة عن عرقلة الكثير من مشروعات التقدم والحرية في الأمة.

فالاستبداد السياسي الجاثم على صدر الأمة، هو الذي يعرقل انطلاقتها الحضارية الجديدة، وهو الذي يكبل الأمة بالمزيد من الكوابح التي تحول دون التقدم والتطور السياسي والحقوقي والحضاري. من هنا تتشكل الحاجة الماسة إلى تفكيك ثقافة الاستبداد والديكتاتورية في الفضاء الثقافي والسياسي العربي، وبناء فكر وثقافة سياسية جديدة، قوامها الديمقراطية وسيادة القانون واحترام وصيانة حقوق الإنسان.

الاستبداد جذر الأزمة:

ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن المسئول الأول عن إخفاقات الأمة المتتالي في كل حقول الحياة، هو الاستبداد والاستئثار بالرأي والقرار والاستفراد بالسلطة.

وذلك لأن الاستبداد بمتوالياته العديدة والخطيرة، هو الذي يؤسس للفشل والإخفاق، ويشرع للهزيمة والانكسار. فحيثما كان هناك استبداد سياسي. توفرت كل موجبات الإخفاق والهزيمة. بل لا يكتفي فعل الاستبداد بذلك، بل يحاول إسقاط كل عناصر القوة في الأمة، وذلك من أجل ضمان ديمومة استبداده واستمرار ديكتاتوريته.

لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع التقدم والتطور في المجالين العربي والإسلامي، هو نبذ الاستبداد وتفكيك ثقافية وموجباته، ودحر مبرراته، ومقاومة رجاله ومؤسساته. وبدون إزالة الاستبداد السياسي، ستبقى كل التطلعات مجردة، وكل الأعمال والأنشطة بدون أفق حقيقي.

من هنا ينبغي أن تتجه كل الجهود والطاقات لمقاومة الاستبداد، وإرساء معالم وحقائق سياسية ـ اجتماعية جديدة تستند على قيم الديمقراطية والشورى والتداول السلمي للسلطة. وهذا بطبيعة الحال، بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة، تتجه إلى صياغة العقول وبناء الحقائق على هدى هذه الأسس والمرتكزات.

فالاستبداد هو أم الرذائل كلها، ولا خيار أمامنا إذا أردنا الأمن والتنمية والاستقرار، إلا التحول نحو الديمقراطية وبناء أنظمتنا السياسية والتربوية والثقافية على أسس الديمقراطية والمشاركة وحقوق الإنسان.

فالاستبداد بمتوالياته وتأثيراته المتواصلة، هو الذي أوصل العديد من المناطق والدول في المجالين العربي والإسلامي إلى دوامة العنف والقتل المجاني. وذلك لأنه (الاستبداد) هو الذي يغذي مصادر العنف وينشط حركة الصراع السلبي في المجتمع، وهو الذي يشرع في كل الأحوال إلى ممارسة القهر والقوة في العلاقات الإنسانية والاجتماعية والسياسية. فالاستقرار لا يتحقق بالإرغام والإكراه المتعسف، بل بالرضا والمشاركة والتوزيع العادل للثروات وتكافؤ الفرص.

“والاستبداد أو الطغيان (Tyranny) يمكن تعريفه على أنه ذلك الإكراه الذي تمارسه سلطة ليس لها الحق في استعمال القوة، أو حتى سلطة شرعية تتجاوز القيود والحدود في استعمالها. والإرغام (أو الإكراه) الذي (قد) تمارسه السلطة المستبدة هو عادة إرغام يمكن تجنبه (أو تجنب القسط الكبير منه) من ناحية، ويتعذر التنبؤ به (في أغلب الأحيان) من ناحية أخرى. أما ضحيته الأولى فواضحة وجلية: الفرد وحريته. ومن الشرور البارزة لهذا الإكراه الاستبدادي أنه يلغي الفرد كشخص مفكر ومقيم ويجعله مجرد أداة لتحقيق أهداف الآخرين. فهو مرغم على التصرف وفق خطه حياة ليست له. وعلى خدمة أهداف لا تخصه. والاستبداد، دون أدنى شك، من الممارسات الملازمة لأي نظام ديكتاتوري أو قل، لأي نظام حكم مطلق “”.. (1)

والاستبداد كثقافة وممارسة لا تتوقف فقط عند طبيعة وآليات صنع القرار السياسي وتسيير شؤون الدولة الكبرى، بل هي تتسرب إلى كل الحياة والتفاصيل. بحيث يكون الطابع الاستبدادي هو المسيطر على مختلف شؤون المجتمع وقضايا الوطن. وحاجتنا الطبيعية والإنسانية إلى الانضباط والنظام والوحدة، ينبــــغي أن لا تقودنا إلى مـــمارسة الكبت والاستبداد.

وذلك لأن هذه الممارسات لا تؤدي إلى الغاية المنشودة، بل على العكس من ذلك تماما. حيث أن الكبت لا يصنع انضباطا، والاستبداد لا يخلق وحدة، بل تشتتا وتداعيا مستمرا. فالاستبداد ليس هو الحل العبقري والحضاري لتلبية حاجات الإنسان المتعددة. بل هو حل العاجزين والجاهلين لسنن الاجتماع الإنساني.

و”إن الدول الاستبدادية التي تبدو قوية للمراقبين في الخارج، كما بدا الاتحاد السوفيتي، وكما تبدو الصين نسبيا حتى الآن، هي في واقع الأمر دول ضعيفة من الداخل لا تجرؤ على الخيار الديمقراطي وعلى حمل جنين الديمقراطية في جوفها الضعيف والمريض. أما الدول القوية، فعلى ما نسمع عنها من مشكلات داخلية، فهي التي تواصل المسار الديمقراطي على رغم تلك المشكلات الداخلية، بل تحلها بالديمقراطية ” (2).

حاجتنا إلى ثقافة سياسية جديدة:

من المهم القول: أن عملية تأسيس وبناء ثقافة سياسية جديدة، تتجاوز رواسب الانحطاط وموروثات الاستبداد السياسي، ترتبط بطبيعة الهدف أو الأهداف المتوخاة من هذه العملية. وعليه فإن الغاية المتوخاة من الثقافة السياسية الجديدة، هي إشاعة النمط الديمقراطي في الحياة العامة للعرب والمسلمين. بحيث تكون الديمقراطية كثقافة وآليات ووسائل ونظم، هي السائدة في الحياة السياسية وإدارة شؤون الدولة والسلطة، كما هي جزءا حيويا في النسيج الاجتماعي والثقافي.

فالثقافة السياسية الجديدة التي ننشدها ونتطلع إليها، هي تلك الثقافة التي تعزز التطور الديمقراطي والحقوقي في مجتمعاتنا، وتحول دون بروز السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية المفضية والمؤسسة إلى الديكتاتورية والاستبداد.

إننا بحاجة إلى ثقافة سياسية تعزز الخيار الديمقراطي في صفوف المجتمع، وتعمل على تهيئة المناخ لرفض كل محاولات تكميم الأفواه والعودة بالمجتمع إلى الأنظمة الشمولية التي تلغي الإنسان وحقوقه، وتحارب كل محاولاته للتحرر والانعتاق من ربقة الاضطهاد والقهر السياسي والاجتماعي.

ومحاولات الأنظمة الشمولية في رفع شعارات تقدمية لتعبئة المجتمع باتجاهها، دون خطوات عملية تترجم هذه المحاولات، أضحت عملية مكشوفة، ولا تثمر إلا المزيد من التوتر والاحتقان. لذلك فإن حاجتنا إلى ثقافة سياسية جديدة، تتكثف في النقاط التالية:

1. بناء الوعي الاجتماعي والسياسي على أسس العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، وتجاوز كل أشكال الوعي الاجتماعي والسياسي المشوه. الذي يبرر استخدام القهر ويسوغ ممارسة الاستبداد ويقبل بتأجيل مشروع حقوق الإنسان وامتهان كرامته.

إننا لا نبالغ حين القول: إن الذي ساعد بشكل مباشر في تغوّل الأنظمة الاستبدادية ـ الشمولية في العديد من دولنا ومجتمعاتنا، هو الوعي الاجتماعي والسياسي المشوه، الذي لم يتعامل بفعالية وصدق مع مشروع الديمقراطية وحقوق الإنسان.

إن هذا الوعي الممسوخ الذي يرحب بالاستبداد السياسي ما دامت السلطة في يده، ويتجاوز عن الكثير من الانتهاكات التي تتعرض لها الحريات السياسية وحقوق الإنسان، هو أحد المسئولين المباشرين عن تردي أوضاعنا وتدهور استقرارنا السياسي.

وحاجتنا إلى الثقافة السياسية الجديدة، تنبع من حاجتنا إلى بناء وعي اجتماعي وسياسي جديد، يمارس القطيعة بكل مستوياتها مع الديكتاتورية والاستبداد وكل مسوغات تعطيل مشروع الحريات السياسية والديمقراطية الشاملة. ويبني هذا الوعي الجديد حقائق العدالة والمساواة وسيادة القانون والتداول السلمي للسلطة واحترام حق التعبير والاختلاف، وصياغة واقعنا كله وفق مقتضيات الديمقراطية وحقوق الإنسان.

2. إن الديمقراطية كبنية وآلية وممارسة، ترتكز على مفهوم المشاركة السياسية. إذ لا يمكن أن تبنى الديمقراطية في أي بيئة اجتماعية، بدون مشاركة سياسية ـ مجتمعية فاعلة.

إذ أن مستوى المشاركة هو الذي يحدد مستوى الديمقراطية، كما أن توسع دائرة المشاركة السياسية في الفضاء الاجتماعي، هو أحد التعبيرات المهمة على الوعي الديمقراطي في المجتمع.

لذلك كله فإننا بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة، تدفع وتحفز المجتمع بكل فئاته وشرائحه وأجياله إلى المشاركة السياسية وشؤون إدارة الشأن العام. من هنا فإن حاجتنا إلى الثقافة السياسية الجديدة، بمستوى حاجتنا إلى الديمقراطية والحريات السياسية. وذلك لأنه لا يمكـــن إنـجاز ديمقراطية في بنائنا الاجتمـــاعي والسياسي مـــن دون مشاركة الناس.

ووسيلتنا الحضارية لتحفيز الناس للمشاركة في هذا المضمار، هو خلق ثقافة سياسية جديدة، تدفعهم بشكل ذاتي ـ دينامي إلى تحمل المسؤولية العامة والمشاركة بحيوية وفعالية في الشأن السياسي العام..

و”الثقافة السياسية الجديـــدة الــتي تفترضها إستراتيجية الانتقـــال الديمقراطي هي ـ باختصار ـ الثقافة التي تحل النزعة النسبية في وعي السياسية والمجال السياسي محل النزعة الشمولية (أي التوتاليتارية)، وتحل التوافق، والتراضي، والتعاقد، والتنازل المتبادل، محل قواعد التسلط، والاحتكار، والإلغاء….الخ، فتفتح المجال السياسي ـ بذلك ـ أمام المشاركة الطبيعية للجميع. وتفتح معه السلطة أمام إرادة التداول السلمي عليها. هذا يعني أن في قاع هذه الثقافة السياسية النظري مفهوما مركزيا تأسيسيا للسياسة والسلطة: إنهما ـ معا بحسبها ـ ملكية عمومية للمجتمع برمته يلتقي معها أي سلم معياري تتوزع بموجبه أقساط ومستحقات السياسية والسلطة على قواعد الامتياز أو الأفضلية أو ما في معناها من أسباب السطو على الرأسمال الجماعي السياسي.

وغني عن البيان أن مفهوم السياسة والسلطة، بهذا المعنى، يعيد تعريف الشرعية السياسية بوصفها تلك التي تتحصل برضا الشعب وحرية اختياره، من حيث هو مصدر السلطة والتشريع في النظام المدني الحديث، وليس بوصفها حاصل امتياز ما: عرقي، أو فئوي، أو ثيولوجي، أو أيدلوجي….الخ “..(3).

3. إن الكثير من التناقضات والتوترات السياسية والاجتماعية الداخلية، لا يمكن معالجتها بدون ثقافة سياسية جديدة، تؤسس لنمط جديد من العلاقة والتواصل بين مكونات وقوى المجتمع قوامها التسامح والحرية وسيادة القانون وقيم حقوق الإنسان. فالكثير من مشكلات الداخل في المجالين العربي والإسلامي، بحاجة إلى رؤية وحلول جديدة، تتجاوز النمط التقليدي في معالجة هذه المشاكل. فأزمات السلطة وعلاقتها بالمجتمع وتعبيراته المتعددة وطبيعة الموقف من التعدد والتنوع المذهبي والقومي والعرقي المتوفر في العديد من المجتمعات، بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة، تعيد صياغة العلاقة وعلى أسس جديدة بين السلطة والمجتمع، كما أنه لا يمكن تجاوز معضلات التمييز الطائفي والعرقي والقومي، بدون ثقافة سياسية، تعيد الاعتبار إلى التنوع ومتطلباته، وترسي دعائم المواطنة وأسس الوحدة وفق رؤية وثقافة لا تلغي الخصوصيات الثقافية لكل فئة أو شريحة في المجتمع والوطن، دون أن تشرع إلى الانكفاء والانحباس في الذات.

من هنا فإن إعادة بناء أسس الثقافة السياسية في المجالين العربي والإسلامي، وبناء أنماط جديدة للعلاقة بين مختلف مكونات المجتمع والوطن على أسس الحرية والعدالة من المداخل والروافد الأساسية لبناء واقع ديمقراطي وسياسي جديد.

فالثقافة السياسية الجديدة هي الإطار الضروري لتمكين أفراد المجتمع من ممارسة وظائفهم العامة والقيام بمسؤولياتهم السياسية. وتنظيم العلاقات بين تنوعات المجتمع تنظيما حضاريا وبعيدا عن الصراعات والحروب المفتوحة.

4. إن الإصلاح السياسي الذي تتطلع إليه الشعوب العربية والإسلامية اليوم، بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة، تبلور تطلعات الإصلاح السياسي، وتنضج المضامين السياسية والمجتمعية لعملية الإصلاح السياسي. وبالتالي فإن الثقافة السياسية المنشودة هي التي تساهم في إنضاج الشروط الاجتماعية والثقافية والسياسية للانخراط في مشروع الإصلاح السياسي.

فالقطع المعرفي والعملي مع حقائق التسلط والهيمنة وموجبات احتكار السلطة والقرار والرأي وانتهاك حقوق وإرادة المواطنين، بحاجة إلى رؤية سياسية جديدة وثقافة مجتمعية ودستورية، تأخذ على عاتقها بلورة برنامج وطني متكامل للإنعتاق من كل أشكال وموجبات الاستبداد السياسي، والانخراط الفعلي في بناء حياة سياسية جديدة للمجالين العربي والإسلامي على قاعدة الديمقراطية وحقوق الإنسان.

إننا في العالم العربي والإسلامي اليوم، بحاجة إلى ثقافة سياسية تعيد تنظيم أولوياتنا السياسية وتصيغ علاقات مكوناتنا مع بعضها البعض على أسس الحرية والعدالة، وتولي اهتماما خاصا وحيويا لمسائل التنمية والتعايش الأهلي والمواطنة الدستورية. وتدعم سياق التحديث السياسي القيمي والمؤسسي الذي يتطلب القبول القانوني بالتعددية وتشكيل الأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية والتشكيلات النقابية وضمان المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين.

وبكلمة: إننا بحاجة إلى ثقافة سياسية تنسجم ومتطلبات الديمقراطية والتعددية الفكرية والسياسية وقيم الحوار والتسامح وحقوق الإنسان.

إننا بهذه العناصر والقيم الأساسية، نتمكن من تجديد حياتنا السياسية وتجاوز تحديات المرحلة والانطلاق من إمكانات الواقع وممكناته لبناء واقعنا الوطني على هدى هذه القيم ومقتضياتها الثقافية والمؤسسية.

أوليات الثقافة السياسية الجديدة:

والثقافة السياسية التي نتطلع أن تسود فضائنا الوطني والقومي والإسلامي، لها أجندة وأولويات، تسعى إلى التركيز عليها وإعطاءها الأولوية على مستوى المعرفة والموقف.

وهذه الأولويات هي التالي:

1. الحريات السياسية:

لقد أبانت تطورات المنطقة وتحولاتها المتلاحقة، أن الداء العضال الذي يعاني منه جسم الأمة، ويساهم في تدهور أوضاعها وانحطاط أحوالها. هو داء الاستبداد والاستفراد بالحكم والسلطة. إذ أن العديد من الإخفاقات والتوترات التي تعيشها المنطقة اليوم وفي مختلف المجالات، هي جراء سياسات وتأثيرات أنظمة شمولية – استبدادية، تمارس القهر والإقصاء تجاه شعبها، وتحول بكل الوسائل لمنعه من ممارسة حريته ونيل حقوقه.

إن هذه الأنظمة بسياساتها وخياراتها الداخلية والخارجية، هي المسئول الأول عن تردي أوضاعنا وتدهور أحوالنا في مختلف المجالات. وإن الخطوة الأولى في مشروع التحرر من هذه الظروف والأحوال السيئة، هو بناء ثقافة وواقع سياسي جديد، يعتبر الحريات السياسية للمواطنين بصرف النظر عن أصولهم القومية أو العرقية أو منابتهم الدينية والمذهبية من أوليات الأعمال التي ينبغي أن تتوجه جميع الجهود إلى بلورة الإطار النظري الذي يؤكد على هذه الحقيقة، ويعمل على إنضاج الشروط المجتمعية التي تدفع باتجاه تبني خيار الحريات السياسية أولا ودائما.

إن المجال العربي والإسلامي اليوم، بحاجة إلى ثقافة سياسية، تؤسس لقيم الحرية والشورى والديمقراطية، وتعطي الأولوية لبناء واقع اجتماعي وسياسي يقبل الالتزام بكل مقتضيات ومتطلبات الحريات السياسية في الواقع الاجتماعي.

فبمقدار ديمقراطية ثقافتنا السياسية وإصرارها على الحريات الأساسية للفرد والمجتمع، نتمكن من معالجة العديد من مآزق راهننا وتوترات مجتمعنا. وذلك لأن هذا المضمون الديمقراطي لثقافتنا، سيمارس دوره في صناعة رؤية جديدة لمعالجة أزمات الواقع، وسيعيد تنظيم العلاقة بين مختلف القوى والتعبيرات على أسس العدل والإنصاف والمساواة.وذلك لأنه ” تفرض ديمقراطية الثقافة السياسية تحقيق المساواة وإتاحة المشاركة في العملية السياسية أمام أفراد المجتمع بغض النظر عن الاختلافات العقائدية أو الدينية أو اللغوية أو السلالية بين هؤلاء الأفراد. والديمقراطية تفرض المساواة بحكم التعريف.وإسباغ الطابع الديمقراطي على الثقافة السياسية المحلية قد يتم في سياق ضغوط عملية التحديث، وما تفرضه من تأكيد لدور العقل والعمل الفعال للإنسان وكثيرا ما تثار التحفظات في هذا الشأن على أساس أن هذا قد يؤدي إلى النيل من القيم الروحيــة والتراث الثقافي للمجتمع النامي وأن القيم الروحية لهذه المجتمعات يجب أن تكون هي المنطلق لتحقيق الديمقراطية “. (4).. فمن الأولويات القصوى التي ينبغي أن تتجه الثقافة السياسية إليها في مجالنا العربي والإسلامي، هي الحريات السياسية. وذلك من أجل أن تتشكل الإرادة المجتمعية المطالبة بها والمدافعة عن متطلباتها.

2. حقوق الإنسان:

حين التحليل العميق والتأمل المتواصل في أسباب الاستقرار السياسي وعوامل الانسجام الاجتماعي الذي لا يلغي الفعالية والدينامية. نكتشف أن توفر قيم حقوق الإنسان في الفضاء الاجتماعي من العوامل الرئيسية لعملية الاستقرار السياسي والانسجام الاجتماعي. حيث أن المجتمع الذي تتوفر فيه حقائق ومتطلبات حقوق الإنسان وتصان فيه كرامة الإنسان، هو المجتمع الذي يتمتع باستقرار متين وانسجام صلب. أما المجتمع الذي تهان فيه كرامة الإنسان، ويمارس النظام السياسي فيه كل ألوان وأشكال التجاوز لحقوق الإنسان، فإن هذا المجتمع يعيش الإضراب وتتوفر في فضاء ه كل عوامل وأسباب الفوضى على الصعد كافة. لذلك فإن من الطرق الأساسية لتعزيز خيار الاستقرار السياسي والاجتماعي في فضائنا الوطني والقومي، هو العمل على صيانة حقوق الإنسان بكل مستوياتها، وتوفير كل ما من شأنه احترام هذه الحقوق، التي هي بمثابة الضرورات في حياة الإنسان الفرد والمجتمع.

من هنا فإن الثقافة السياسية، من الأهمية، أن تتجه إلى الإعلاء من شأن هذه القيم / الحقوق، وتسعى نحو تربية أبناء المجتمع على مقتضياتها. فكلما تعزز هذا الواقع في فضائنا، توفرت عوامل الاستقرار وأسباب الانسجام. وهذا بطبيعة الحال، بحاجة إلى نبذ كل الموروث الثقافي والسياسي والاجتماعي المضاد والمناقض لحقوق الإنسان وقيمه الأساسية. فكل رؤية تستهين بحقوق الإنسان أو تسوغ امتهانها، هي رؤية تزيد من الإرباك السياسي، وتساهم بشكل أو بآخر في عملية الاختراق الأمني والوطني. إنه آن الأوان بالنسبة لنا جميعا ومن مختلف مواقعنا العمل على تعزيز قيم حقوق الإنسان في فضائنا السياسي والثقافي والاجتماعي، ومقاومة كل توجه أو إرادة تمتهن هذه الحقوق أو تستخف بمتطلباتها وشروطها. وإن استقرارنا السياسي وأمننا الاجتماعي والوطني اليوم، يتوقف إلى حد بعيد على قدرة الأنظمة السياسية في مجالنا العربي والإسلامي على إجتراح واقع سياسي جديد، يعلي من شأن حقوق الإنسان، ويتجاوز كل حقائق ومحاولات الامتهان الذي يتعرض لها الإنسان في ظل أنظمة شمولية ـ استبدادية ساهمت بسياساتها وخياراتها الداخلية في القضاء على الكثير من حقائق وقيم حقوق الإنسان. لذلك فإن من الأولويات الأساسية لثقافتنا السياسية المطلوبة، هي العمل على تعميق وإشاعة ثقافة حقوق الإنسان، ودفع قوى المجتمع وتعبيراته الحية إلى احترام وصيانة هذه الحقوق.

3. بناء القوة الحضارية:

ثمة حقيقة أساسية يكشفها المشهد السياسي المعاصر، وهي: أن الشعارات واليافطات الكبرى المجردة، لا تصنع واقعا جديدا، ولا تغير واقعا سيئا. وإن استرسالنا في إطلاق الشعارات ورفع اليافطات، لا يغير من أوضاعنا شيئا. لذلك فإن العمل الحيوي والهام، هو الذي يتجه إلى بناء القوة الحضارية للمجالين العربي والإسلامي. القوة التي لا تنحصر في جانب واحد، بل هي قوة شاملة وتستوعب القدرات العملية والقوة الاقتصادية والمادية والتطور السياسي والاجتماعي.

من هنا فإن الثقافة السياسية المطلوبة، ليست هي الثقافة التي ترفع شعارات فضفاضة أو تحمل يافطات كبرى، وإنما هي الثقافة التي تنصب بوعي وحكمة لأسئلة الواقع وتتفاعل على نحو إيجابي مع إمكاناته وقدراته، وتسعى نحو خلق الحقائق والوقائع البديلة، في سياق العمل على بناء القوة الحضارية للعالمين العربي والإسلامي.

فالتحولات الكبرى والحقيقية، لا تنجز بالشعارات المجردة، بل بالكفاح المتواصل في بناء الحقائق وتشييد القوة وتوطيدها في الواقع الاجتماعي والسياسي.

ويخطأ من يتصور أن التغيير الاجتماعي، ينجز بالشعارات واليافطات. صحيح أن لهذه الشعارات الدور الأساسي في تعبئة المجتمع وتحشيد طاقاته، ولكن التحولات لا تتحقق بالتعبئة العاطفية بل بالعمل الذي يستلهم من القيم الكبرى والأهداف العليا برنامج عمل وطني، يستهدف بناء القوة الحضارية والحقيقية للمجتمع. حيث أن القوة الحضارية وحدها، هي القادرة على إخراجنا من دهاليز الضعف والتردي.

ولا ريب أن انخراط قوى المجتمع الحية في مشروع المطالبة بالديمقراطية وتعزيزها في الفضاء السياسي والاجتماعي، سيساهم بشكل كبير في رفد هذه الحركة بقوة إضافية حقيقية على المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية.

وذلك لأنه “دفع الإسلاميون غرامات باهضة من حرياتهم، وحقوقهم، وكرامتهم، في سجون النظام العربي أسوة بغيرهم. ولذلك، من الطبيعي أن يعرفوا جيدا قيمة الحرية، وأن يحرصوا عليها ضد الكبت والقمع والطغيان. لكن الأهم أنهم إذ اختاروا أن يضووا في مجرى الكفاح الديمقراطي الواسع، أدخلوا إلى ساحة هذا المعترك قوة جماهيرية ضخمة ذات ثقل في ميزان القوة، و ـ بالتالي ـ فقد عززوا من رصيد هذا النضال، وحسنوا من حالة التوازن التي كانت دائما مختلة لصالح النخب الماسكة بالسلطة” (5)..

وفي تقديرنا أن هذا الانخراط، سيضيف للواقع السياسي في الدائرتين الوطنية والإسلامية، العديد من عناصر القوة التي هي في المحصلة النهائية ذات أثر إيجابي وحيوي في مشروع التحول السياسي ـ الديمقراطي.

ولقد أثبتت أحداث المنطقة وتطوراتها، أنه لا يمكن مقايضة الديمقراطية وحقوق الإنسان بأهداف وتطلعات أخرى. وذلك لأنه لا يمكن إنجاز تطلعات المجتمع والأمة إلا على قاعدة الديمقراطية وحقوق الإنسان.

لذلك نقول وبشكل جازم، أن الديمقراطية بكل ما تحتضن من قيم الحرية وسيادة القانون والتداول السلمي للسلطة، هي حجر الأساس في مشروع التقدم والتطور السياسي والاجتماعي. وكل محاولات التقدم بعيدا عن الديمقراطية ومقتضياتها، فإن مآلها الأخير هو المزيد من تراكم الأخطاء والإخفاقات.

فالإصلاح السياسي والحد من مظاهر الاستفراد بالقرار والسلطة، هو حجر الزاوية في مشروع الخروج من مآزق الراهن وتوتراته الصعبة.

……………………………………….
1-مجموعة من المؤلفين، المسألة الديمقراطية في الوطن العربي، ص 58، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت 2000 م.
2-المصدر السابق، ص 111.
3-المصدر السابق، ص 137.
4-مجلة منبر الحوار، العدد 34، ص 67، السنة التاسعة، خريف1994م.
5-عبد الإله بلقزيز، الإسلام والسياسة – دور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي، ص 22، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت 2001م.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى