هل يستمر التنسيق الأورو–أطلسي بعد انتهاء الأزمة الأوكرانية ؟

شهدت الأزمة الأوكرانية أعلى درجات التوافق والتنسيق بين التكتلات الدولية من قبل الاتحاد الأوروبي وحلف “الناتو” ومجموعة السبع الكبار؛ حيث ألقى الرئيس الأمريكي “جو بايدن” خطاب “حالة الاتحاد”، يوم 2 مارس 2022، وقد توعَّد فيه بمعاقبة وعزل الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، بعد قراره شن عملية عسكرية في أوكرانيا، منذ 24 فبراير 2022، ولا تزال مستمرة حتى اليوم، كما أكد “بايدن” استمرار التنسيق والتشاور مع حلفاء بلاده الأوروبيين؛ لاتخاذ مواقف جماعية تجاه موسكو. وقد تزامن ذلك مع إعلان الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع الكبار عن فرض عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا. ورغم ذلك فقد نفى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، عزمه التدخل عسكريّاً في أوكرانيا أو دخول حرب مباشرة ضد روسيا؛ ما يثير التساؤلات حول جدوى آليات التنسيق الجماعي لمواجهة الأزمة، ومدى استمراريتها مستقبلاً بعد أن تضع الحرب أوزارها.

آليات التنسيق الأورو–أطلسي

منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، تحركت الدول الغربية لمواجهة تلك الأزمة من خلال عدد من آليات التنسيق الأورو–أطلسية؛ لمحاصرة وعزل روسيا بهدف الضغط عليها لوقف العملية العسكرية على أوكرانيا، وبدت مواقفها متكاملة إلى حد بعيد. ويمكن استعراض ذلك على النحو التالي:

1– تطويق موسكو اقتصاديّاً وعسكريّاً عبر محور بروكسيل–واشنطن–لندن: أدانت كافة دول الاتحاد الأوروبي العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فور الإعلان عنها، وفرضت –بالتنسيق مع واشنطن– عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا؛ ما أدى إلى خسارة بورصة موسكو 30% من قيمتها، كما اتخذ الاتحاد قرارات جماعية لمعاقبة موسكو؛ منها منع التعامل بنظام “سويفت” المالي، وحرمان سبعة بنوك روسية كبرى منه، كما فرضت عقوبات رياضية ومنعت وسائل الإعلام الروسي من البث بأوروبا، كما فرضت بريطانيا عقوبات على كبار رجال الأعمال الروس الموجودين بها، وأعلنت ألمانيا تعليق العمل بمشروع خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2” الذي يضخ الغاز الروسي إلى أوروبا.

وأمنيّاً، عقد وزراء الداخلية بالاتحاد اجتماعاً طارئاً؛ لبحث سبل تنظيم اللاجئين الأوكرانيين الفارين من بلادهم، وتم تنسيق وجودهم على الحدود البولندية. وعسكريّاً أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين” أن الاتحاد سيُمول عمليات شراء وتسليم أسلحة لأوكرانيا؛ وذلك للمرة الأولى في تاريخه. كما وجهت عدد من الدول الأوروبية مساعدات ومُعدَّات عسكرية دفاعية لكييف؛ منها فرنسا وإيطاليا وإسبانيا. وفي الوقت الذي حدثت فيه تحولات جذرية في مواقف دول شمال أوروبا التي كانت ترفض الانضمام إلى الناتو خشية الغضب الروسي، منها فنلندا والسويد؛ فقد أعلنت الأولى عن رغبتها في الانضمام إلى الحلف، في حين أعلنت الثانية لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، توجيه مساعدات عسكرية للخارج لدعم أوكرانيا.

2– دعم عسكري أوروبي أمريكي لأوكرانيا عبر الناتو: سادت حالة من الاستنفار لدى حلف الناتو منذ بدء الأزمة الأوكرانية؛ فقد أعلن الأمين العام للحلف “ينس ستولتنبرج” عن تزويد أوكرانيا بصواريخ دفاع جوي وأسلحة مضادة للدبابات، وأجرى محادثات هاتفية مع الرئيس الأوكراني لدعمه، وكشف عن تعزيز الحضور الدفاعي لقوات الحلف في دول البلطيق (لاتفيا، وإستونيا، وليتوانيا)، واتهم “بوتين” “بتدمير السلام في أوروبا، بيد أنه نفى في 2 مارس 2022، بعد التشاور مع واشنطن، عزم الحلف إرسال قوات عسكرية إلى أوكرانيا، أو خوض حرب مباشرة ضد روسيا. وقد كان أكبر تحول شهده الحلف خلال الأزمة هو تغير العقيدة العسكرية الألمانية لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية؛ فقد أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس، في خطاب تاريخي له، في 27 فبراير 2022، عن رفع الإنفاق العسكري لبلاده ليصل إلى 2% من حجم الدخل القومي السنوي، وضخ 100 مليار يورو استثمارات في الجيش الألماني لعام 2022، كما أعلن عزمه تسليم أوكرانيا ألف صاروخ مضاد للدبابات، و500 صاروخ أرض–جو من نوع “ستينجر”؛ وذلك بعد إلغاء بند بالدستور يمنع تصدير الأسلحة الألمانية الفتاكة إلى مناطق النزاع، كما أعلنت برلين تعزيز قواتها شرقاً في سلوفاكيا.

3– تعميق العزلة الاقتصادية لروسيا عبر السبع الكبار: رغم أن الأزمة الأوكرانية من الناحية الجيوسياسية هي أزمة أوروبية، فإن مجموعة دول السبع (كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية) أصدرت بياناً مشتركاً، يوم 27 فبراير 2022، أعلنت فيه عن فرض عقوبات قاسية بحق روسيا. وأكد وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن”، أن المجموعة “لم تكن قط أكثر اتحاداً في الدفاع والحفاظ على حرية وسيادة أوكرانيا وسيادة جميع الدول” من تلك اللحظة. وخلال بيان “حالة الاتحاد” الذي ألقاه الرئيس الأمريكي، في 2 مارس 2022، توعد “بايدن” نظيره الروسي فلاديمير بوتين، بدفع ثمن باهظ يستمر على المدى الطويل، مشيراً إلى خطوات تستهدف الجيش الروسي؛ حيث سيتم منع موسكو من الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة؛ ما سيضعف قوتها الاقتصادية وجيشها لسنوات مقبلة. وكان لافتاً موقف اليابان وأستراليا اللتين تضامنتا بشدة مع الموقف الأمريكي والأوروبي، رغم عدم الاتصال الجغرافي مع التكتل الأورو–أطلسي، ورغم بُعد الأزمة عن مصادر تهديد الأمن القومي لكلا البلدين على نحو مباشر؛ أعلنت اليابان عن رفض عقوبات اقتصادية، فيما كشفت أستراليا عن اعتزامها تقديم مساعدة عسكرية لأوكرانيا.

ارتدادات محتملة

ومع ما يبدو أنه تكامل في مواقف المحور الأورو–أطلسي إزاء الأزمة الأوكرانية، وتنسيق المواقف المشتركة ضد روسيا، على مستويات سياسية واقتصادية وعسكرية متقاطعة؛ إلا أن الحرب في أوكرانيا ربما تنذر بارتدادات محتملة على التكتلات الدولية القائمة، وصولاً إلى بروز تكتلات وتحالفات مستقبلية موازية أو على أنقاض التكتلات والتحالفات الراهنة، وهو ما يمكن بيانه فيما يأتي:

1– مخاطر تفكك الاتحاد الأوروبي بسبب تباين المواقف حول روسيا: ألقت رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين”، خطاباً أمام البرلمان الأوروبي يوم 1 مارس 2022، أكدت فيه أن “مصير الاتحاد أصبح على المحك في الحرب الأوكرانية، وأن طريقة التعامل مع الأزمة ستحدد مستقبل النظام العالمي”، كما طالب رئيس المجلس الأوروبي “شارل ميشال”، يوم 2 مارس 2022، مؤسسات الاتحاد بمناقشة طلب انضمام أوكرانيا إليه، فيما ستُعقَد جلسة، يوم 12 مارس 2022، لبحث ذلك رغم تأكيد “ميشال” عدم وجود رغبة في توسيع الاتحاد، ورغم عدم استيفاء كييف أيّاً من المعايير الاقتصادية والسياسية اللازمة للانضمام؛ ما أثار المخاوف من تغير عقيدة الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بشروط ومعايير العضوية، وربما يُعَاد النظر في آليات اتخاذ القرار داخل مؤسسات الاتحاد التي أصبحت أكثر صعوبةً مع نمو التكتل وتوسيعه؛ ما ينذر بحدوث تغييرات في المؤسسات البنيوية للاتحاد عبر إنشاء مؤسسات جديدة، أو تفكُّك الاتحاد بشكله الحالي، لا سيما في ظل رفض بعض الدول الأوروبية المشاركة في فرض عقوبات على موسكو، وخاصةً المجر وصربيا.

2– تكامل أوروأطلسي–هندوباسيفيكي عبر توسيع “إيكواس”: هناك اتساق تام في العقوبات الاقتصادية والأوروبية والأمريكية واليابانية والأسترالية المفروضة على روسيا. وقد جاء انضمام اليابان وأستراليا إلى الموقف الأورو–أطلسي لأنهما تتبنيان القيم الغربية من وجهة نظرهما، كما أن الدولتين تشعران بتهديدات للأمن القومي لطوكيو وسيدني، إثر تصاعد الدور الروسي والصيني في محيطهما الاستراتيجي، وهو ما يدفعهما إلى الاصطفاف مع المحور الأوروأطلسي ضد بكين وموسكو؛ الأمر الذي يشير إلى إمكانية تشكل “تكتل دولي جديد عابر للحدود” يجمع التكتلين الأوروأطلسي والهندوباسيفيكي معاً، وربما يتم ذلك من خلال اتفاقية دولية مثل “إيكواس” أو حتى من خلال توسيع تحالف “إيكواس” نفسه ليجمع تلك الأطراف البعيدة من حيث الجغرافيا، القريبة من حيث الثقافة الديمقراطية والمصالح الاقتصادية الليبرالية.

3– نشوء محورَيْن دوليَّيْن غير متكافئَيْن أحدهما بقيادة روسيا: بعد أسبوع على الأزمة الأوكرانية، يبدو أن ثمة تكتلَيْن أو محورَيْن يتبلوران في أفق العلاقات الدولية، هما: المحور الروسي الذي يضم موسكو، والمؤيدين لها من الصين وبعض الدول في شرق أوروبا (بيلاروسيا، والمجر، وصربيا، وأحزاب اليمين القومي بكل الدول الأوروبية، وبعض الدول الآسيوية، مثل كوريا الشمالية، وبعض الدول اللاتينية، مثل كوبا وفنزويلا)، في مقابل المحور الثاني الأكبر عدداً والأكثر قوةً ونفوذاً على الصعيد العالمي، الذي يضم الولايات المتحدة، وحلف الناتو، والاتحاد الأوروبي، بجانب بريطانيا، وأستراليا، واليابان، وغيرها؛ مما يعيد إلى الأذهان انقسام العالم إلى كتلتين: شرقية وغربية، خلال حقبة الحرب الباردة، ويطرح تساؤلات حول مدى استمرارية التنسيق والتوافق في المواقف بين أعضاء كل تكتل، ومدى استمرارية ذلك، وهل يمكن أن يتم إحياء ما يشبه “حلف وراسو” في مواجهة “حلف الناتو” أو التكتل “الأوروأطلسي – الهندوباسيفيكي”.

4– إيجاد بديل رادع للعقوبات بعيداً عن اعتبارات التسييس: يعد اندلاع الحرب الأوكرانية في حد ذاته دليلاً على فشل التكتلات الغربية في إدارة الأزمة سياسياً بعد رفض دعوات “بوتين” المستمرة للتفاوض حول الترتيبات الأمنية الجديدة بأوروبا إثر توسع حلف “الناتو” شرقاً، كما أن العقوبات الاقتصادية القاسية المفروضة على موسكو لم تدفعها إلى التراجع عن موقفها؛ ما يثير التساؤلات حول جدوى فرض العقوبات وتأثيرها؛ فقد سعت الدول الأوروبية إلى الضغط على الاقتصاد الروسي، مع مراعاة الحد الأدنى من مصالحها الاقتصادية؛ فعلى سبيل المثال استمر تدفق الغاز الروسي إلى أوروبا رغم فرض العقوبات. وقد أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون ديرلاين” أن العقوبات ستؤثر على الاقتصاد الأوروبي الذي لم يتعافِ بعدُ من تداعيات أزمة “تفشي فيروس كورونا”؛ الأمر الذي يُحتِّم على الدول الأوروبية والقوى الدولية استحداث آليات جديدة للعقوبات الاقتصادية الدولية مستقبلاً؛ لتجنب آثارها السلبية من جهة، والابتعاد بها عن منطق التسييس وتضارب المصالح من جهة أخرى.

5– تعاظم دور القيادة الجماعية وانتهاء عصر القطب الأوحد: منذ بدء الأزمة الأوكرانية، لم تنفرد الولايات المتحدة الأمريكية باتخاذ أي قرار وتنفيذه أحاديّاً، كما حدث في أزمات دولية سابقة، على غرار حالتي العراق وأفغانستان. بل إن الحاصل أن هناك نوعاً من القيادة الجماعية للأزمة على الصعيد الدولي؛ حيث تقوم فرنسا بوصفها رئيس الاتحاد الأوربي الحالي، بالتواصل مع روسيا لبدء وقف إطلاق النار ومفاوضات لحل الأزمة، بينما تضطلع بريطانيا بدور أمني أكبر داخل الناتو رغم خروجها من الاتحاد الأوروبي، بما يمكن تفسيره بوجود توتر بين لندن وموسكو قبل سنوات من اندلاع الأزمة الأوكرانية، فيما صعدت أدوار لدول صغيرة، مثل فنلندا وبيلاروسيا والسويد في تلك الأزمة.

وختاماً.. مما سبق نجد أن الأزمة الأوكرانية ربما تُعِيد هيكلة النظام الدولي من خلال الإعلان عن تحوُّله إلى نظام متعدد الأقطاب، سواء إذا نجحت موسكو في تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية من الحرب وحصول “بوتين” على شروطه “بحياد أوكرانيا” ومنع انضمامها إلى الناتو، أو إذا فشلت الحملة العسكرية الروسية، ومن ثم ظهور تكتلات دولية جديدة تعبر عن فلسفات متباينة لإدارة العلاقات الدولية، وتتواكب مع المتغيرات الدولية والإقليمية وصعود قوى كبرى وأخرى متوسطة خلال العقدين الماضيين.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button