2 أوت 1936 … صيحة مصالي الحاج وجريمة شارع “لالير”

بقلم حميد عبد القادر – الخبر

يعود، المؤرخ الفرنسي “كريستيان فيلين”، في كتابه الصادر عن منشورات “الشهاب” بعنوان “الأرض، النجمة والسكين…الجزائر العاصمة 2 أوت 1936″، للتجمع الشهير الذي جرى بملعب العناصر، باعتباره لحظة تاريخية أحدثت تحولات راديكالية في النضال الوطني ضد الاستعمار. كما يتوقف عند الاغتيال الذي استهدف المُفتي كحول في نفس اليوم، وفي نفس التوقيت تقريبًا، مُحللا انعكاساته على الحياة السياسية آنذاك، ويُفرد مكانة كبيرة للمؤتمر الإسلامي (1936) وظروف مجيء مصالي الحاج إلى الجزائر العاصمة لإلقاء كلمته الشهيرة “هذه الأرض ليست للبيع”.

نقرأ في كتاب “كريستيان فيلين”، الذي سبق له وأن نشر  عند منشورات “القصبة”، كتاب حول ثورة “مارغريت” الشهيرة بحمام ريغة وما جاورها بدائرة مليانة يوم 26 أبريل 1901، أنّ مصالي الحاج لم يكن مناضلاً ذائع الصيت، حين توجه لحضور تجمع ملعب العناصر صبيحة 2 أوت 1936. لم يكن برفقته سوى نفر من المناضلين. وحين وصل إلى الجزائر ليلة الحدث قادمًا من باريس، لم يكن في انتظاره سوى ثلاثة مناضلين كما ذكر في مذكراته، بينما وجد أعضاء المؤتمر الإسلامي حين عادوا من اجتماع باريس، آلاف من المناصرين. بيد أن ما حدث صبيحة يوم 2 أوت بملعب العناصر الذي شيدته السلطات الاستعمارية سنة 1930 بمناسبة الذكرى المئوية الأولى للغزو، غيّر مجرى التاريخ، فحدثت قطيعة نهائية مع أفكار كانت منتشرة على مستوى النخب وبعض الفئات الشعبية. وقصد فهم الظرف العام الذي جرى فيه التجمع الشهير بالملعب المذكور، يقدم الكتاب تحليلاً في أفكار المؤتمر الإسلامي (1936)، في علاقته بحكومة الجبهة الشعبية في فرنسا، وهو عبارة عن تحالف سياسي لحركات اليسار بما فيها الحزب الشيوعي والحزب الراديكالي الفرنسيين.

كان المنضوين تحت لواء المؤتمر الإسلامي، يطالبون أساسًا بالجنسيّة الفرنسيّة والارتباط بفرنسا مع الاحتفاظ بمقومات الشخصية الإسلامية، وهي أفكار تعود إلى الأمير خالد على حد تعبير مؤلف الكتاب، وذلك ضمن مشروع “بلوم فيوليت” الشهير، وما حمله من وعود للإصلاح لصالح “الأهالي” المسلمين، فوجد معارضة شديدة من قبل غلاة الأقدام السوداء من كبار المعمرين والملاك، والذين كانوا يرفضون تقديم أي تنازلات للجزائريين، بيد أنّ خطاب مصالي الحاج، ومطالب “نجم شمال إفريقيا” الذي اختلف مع باقي أعضاء المؤتمر الإسلامي بخصوص مسألة “الارتباط بفرنسا”، كانت تُعارض مثل هذه المطالب التي تَقدم بها أنصار المؤتمر الإسلامي، فكانت بمثابة مطالب راديكالية، فوصفها “كريستيان فلين” بـ “اللحظة التي تشكل انبثاق الوعي الوطني الاستقلالي”.

ويروي المؤلف استنادا لشهادات عديدة تركها مقربين من مصالي، إضافة لمذكرات هذا الأخير، أنّه لم يكن من السهل على مصالي وأتباعه إقناع المشرفين على التجمع بالوصول لاتفاق السماح له بإلقاء كلمة بالمناسبة، فالتجمع عُقد أساسًا بغرض إبلاغ الجزائريين المسلمين بنتائج اجتماع أعضاء المؤتمر الإسلامي بباريس. كما أنّ الجمع الغفير الذي جاء لحضور التجمع (خمسة عشرة ألف)، وفق ما ورد في الكتاب، جاء لهذا الغرض، وليس للاستماع لمصالي الحاج. ويوضح المؤلف، الذي خصص عدة صفحات من كتابه للحديث عن التحولات التي أحدثها خطاب مصالي الحاج الشهير على مستوى الوعي السياسي، كيف أصبح حي بلكور منذ ذلك التاريخ مكانًا لائقًا لانتشار أفكار نجم شمال إفريقيا، ثم حزب الشعب، وكل الوعي الوطني التحرّري لاحقًا.

كان مصالي يعتقد حسب المؤلف، أنّ تجمع ملعب العناصر، كان بمثابة مناسبة لنقل امتعاضه من سياسة ومطالب النخب للفئات الشعبية، والتوصل لتمكين أفكار نجم شمال إفريقيا من التغلغل في الجزائر بعد أن عرفت انتشاراً واسعًا في أوساط العمال المهاجرين في فرنسا. نقرأ في الكتاب كذلك، أنّ مصالي ورفاقه استطاعوا إقناع القائمين على التجمع بمنحه الكلمة لبعض دقائق فقط، ولا يعدو ذلك مجرد “إلقاء تحية للحاضرين”.  بيد أنّ الذي حدث حين ألقى مصالي الكلمة، ليردد “هذه الأرض ليست للبيع”، غير مجرى التاريخ، فتحوّل مصالي في لحظة وجيزة إلى زعيم وطني، فتشكل اثر ذلك وعيًا وطنيًا، راح يتخلى شيئا فشيئا عن أوهام بلوم فيلوليت، وفكرة الارتباط بفرنسا. وأكثر من هذا يضيف “كريستيان فلين”، برزت فكرة السيادة في الفكر الوطني الجزائري، والتخلي عن الحظيرة الاستعمارية، بشكل نهائي.

ومن نتائج ظهور مصالي في التجمع يوضح المؤلف، أنّ أفكاره عرفت انتشارا سريعًا في أوسط الشباب بدليل أنّ التجمع الذي عقده بقاعة سينما “مونديال” بحي بلكور يوم 29 سبتمبر، اثر عودته من تلمسان، حضره جمع غفير، فأصبح النجم بمثابة حزب الاستقلال الوطني. ومثلما تشير تقارير الشرطة الاستعمارية التي اطلع عليها المؤلف، تحوّل مصالي شيئا فشيئا إلى زعيم وطني انطلاقا من تلك اللحظة التاريخية.

ومن خلال عودته لاغتيال المفتي كحول في نفس الوقت بشارع “لالير” بالقصبة السفلى، وتوجيه أصابع الاتهام لكل من عباس التركي والشيخ العقبي (الذي عرف بمواقفه المعادية للاستعمار، إذ دعا  يوم 7 جوان اثر اجتماع المؤتمر الإسلامي بقاعة “ماجيستيك” بباب الواد إلى وضع حد لفكرة الأنديجان واستبدالها بفكرة “الجزائري”)، بتدبير الجريمة، يتساءل “كريستيان فيلين”، في كتابه بخصوص علاقة هذا الحدث بتجمع ملعب العناصر، قائلا :”هل هي مؤامرة من قبل الإدارة الاستعمارية؟ هل يتعلق الأمر بإثارة؟ أم هي مناورة من الحاكم العام؟ موضحا أنّ جريمة شارع “لالير” أدت إلى “تحطيم الديناميكية الوحدوية للمؤتمر الإسلامي”. وكشف أنّ ما وقع أدى إلى حدوث شرخ بين ممثل النخب بن جلول، وجمعية العلماء المسلمين، بعد تصريحات بن جلول المعادية للعلماء. ومن نتائج حادثة شارع “لالير” يضيف المؤلف بداية خُفوت نجم بن جلول، وعدم قدرة المؤتمر الإسلامي للتحوّل لحزب سياسي يجمع بين كل المناضلين على اختلاف توجهاتهم.

ويدافع “فلين”، في كتابه عن فكرة أنّ إخفاق المؤتمر الإسلامي هو في الحقيقة نهاية أوهام المطالبة بالاندماج بالاحتفاظ على مقومات الشخصية الوطنية. موضحا أنّ النقاش حول المؤتمر وجريمة شارع “لالير”، بقيت تلقي بضلالها إلى غاية السنوات الأخيرة، وبالضبط منذ أن فتح محمد لبجاوي في كتابه الشهير “حقائق حول الثورة الجزائرية” (1970)، النقاش حول الموضوع مُجددا، في حين عادت القضية بعد الذكرى المئوية لميلاد الرّوائي ألبير كامي، من منطلق أنّ هذه الأخير دافع عن الشيخ العقبي من خلال متابعته للمحاكمة، حين كان صحفيًا بجريدة “الجزائر الجمهورية”، بحكم الصداقة التي كانت تربط الرجلين وفق ما جاء في الكتاب استنادًا لعدة شهادات. وورد في الكتاب أنّ ألبير كامي، هو من تكفل بتغطية الحفل الذي نظمته جمعية العلماء يوم 9 جولية بنادي الإصلاح بلكور، على شرف عباس التركي والشيخ العقبي بعد تبرئتهما من قبل العدالة.

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 14657

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *