النفط بين النعمة والنقمة وتأثيره في اقتصاديات الدول – الجزء الثاني

الفصل الثالث تأثير صناعة البترول على اقتصاديات دول المنطقة العربية

         منذ هيمنة صناعة البترول على اقتصاديات المنطقة العربية والأنشطة المرتبطة بها، جعلت المنطقة تنقسم إلى مجموعتين من الدول:

المجموعة الأولى

  • تضم 9 دول عربية. يقع بها أغلب الاحتياطيات النفطية.
  • يبلغ عدد سكانها نحو 75 مليوناً.
  • بلغ ناتجها القومي الإجمالي 1993 نحو 367 مليار دولار.
  • بلغت الصادرات السلعية والخدمية لهذه المجموعة عام 1993 نحو 118 مليار دولار.
  • بلغت وارداتها السلعية والخدمية في العام المذكور نحو 107 مليار دولار.
  • بذلك حققت تلك المجموعة في عام 1993 فائضاً في ميزانها التجاري قدره 11 مليار دولار.

المجموعة الثانية

  • تضم 11 دولة عربية.
  • يبلغ عدد سكانها 164 مليوناً.
  • بلغ إجمالي ناتجها القومي الإجمالي عام 1993 نحو 141 مليار دولار.
  • بلغت الصادرات السلعية والخدمية للمجموعة الثانية عام 1993 نحو 43 مليار دولار.
  • وبلغت وارداتها السلعية والخدمية في العام المذكور نحو 55 مليار دولار.
  • بذلك حققت المجموعة الثانية عام 1993 عجزاً في ميزانها التجاري قدره 12 مليار دولار وهو ما يقرب من الفائض الذي حققته دول المجموعة الأولى.
  • أما احتياطيات المجموعة الثانية من النفط فلا تكاد تذكر. وباستثناء مصر وسورية اللتين تغطيان احتياجاتهما النفطية محلياً، فإن باقي دول المجموعة الثانية تدخل في عداد الدول المستوردة للنفط.

         ويتبين من ذلك أن هيمنة صناعة النفط على اقتصاديات المنطقة العربية تركت بصماتها على علاقاتها بالعالم الخارجي، كما صبغت العلاقات العربية بسِمَات نفطية واضحة.

         فالدول النفطية المحدودة السكان عملت على اجتذاب أعداد كبيرة من القوى العاملة من الدول ذات الكثافة السكانية العالية بحيث أصبحت التحويلات المالية الناتجة عن هذه الحركة أداة أساسية من أدوات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول المصدرة للعمالة.

         ولكن يُلاحظ من ناحية أخرى أن الدول النفطية أخذت تتجه إلى التوازن الداخلي في العمالة مما يتوقع معه ظهور بوادر للهجرة المضادة وعودة أعداد كبيرة من العمالة الوافدة إلى أوطانها الأصلية.

         كذلك أدى التركيز على صناعة النفط، وتوجه هذه الصناعة إلى تصديره خارج المنطقة العربية، إلى عرقلة خطوات التكامل الاقتصادي العربي والتخصص في الإنتاج فيما بين الدول العربية، كل دولة بحسب ما يتوافر لديها من عناصر الإنتاج.

ومن أمثله ذلك

  • صناعة البتروكيماويات العربية حيث اختارت كل دولة أن تقيم فيها وحدات صغيرة وتكفلت  بحمايتها. بينما كان من الممكن أن يخطط لهذه الصناعة على أساس تكاملي عربي مما يحقق لها درجة أعلى من الكفاءة ويتيح للصناعات المكملة والمرتبطة بها فرصة أكبر للنمو والتكامل.
  • وينطبق هذا المثل على الكثير من الصناعات العربية، التي أقيمت على أساس وحدات محلية صغيرة تعتمد على تكنولوجيا قديمة.

         وبالتالي أصبح التنافس ـ وليس التكامل ـ هو سمة العلاقات الاقتصادية العربية. والدليل على ذلك أن التجارة البينية داخل المنطقة العربية لم تتجاوز 10% من التجارة الخارجية لهذه المنطقة خلال الفترة 1991 ـ 1993.

         ويجد هذا النمط التجاري تفسيره في هيكل أو تركيبة الصادرات العربية المعتمدة أساساً على المواد الأولية والتي يكون النفط الجانب الأعظم منها.

ففي عام 1993 كانت الصادرات السلعية العربية تتكون من:

74 % مواد أولية (نفط وغاز طبيعي وبعض المعادن)

18 % سلع صناعية بما فيها نحو 5% منتجات كيماوية (أهمها الصادرات البتروكيماوية السعودية)

5 % منتجات زراعية.

         كذلك كان لهيمنة الصناعة النفطية على الاقتصاديات العربية تأثيرها على الأنماط الاستهلاكية التي تجلت في الإنفاق الاستهلاكي، والاعتماد المتزايد على التجارة الخارجية، حيث صارت المنطقة العربية تستورد ما يقرب من نصف احتياجاتها من مستلزمات الإنتاج ومواد البناء والأغذية والكساء. ولعل الأخطر في كل ذلك هو اتساع الفجوة الغذائية التي بلغت وارداتها عام 1992 نحو 10 مليارات دولار بزيادة 13% عن العام السابق، كما تزايدت بالنسبـة نفسها تقريباً في عام 1993.

         أما القيمة التراكمية لتلك الفجوة خلال الفترة 1985 ـ 1992 فقد بلغت نحو 88 مليار دولار منها 42 مليار دولار في الحبوب و15 مليار دولار في الألبان و13 مليار دولار في اللحوم.

         ويبدو أن اهتمام الدول العربية النفطية بصناعة البترول قد صرفها عن تضافر مواردها على أساس متكامل بهدف تأمين احتياجاتها من الغذاء.

فهل تعجز دول المنطقة العربية عن تحقيق هذا الهدف؟

         حاول الدكتور حسين عبدالله الإجابة على هذا السؤال في الكلمة التي ألقاها كرئيس لوفد مصر في مؤتمر الطاقة العربي الأول، الذي عُقد على المستوى الوزاري في أبوظبي  خلال مارس 1979 حيث قال: “إن جانباً كبيراً من الغاز الطبيعي في منطقة الخليج العربي يُحرق للتخلص منه، وأن دراسة الجدوى قد تؤيد إمكانية مد خط من الأنابيب لحمله عبر البحر الأحمر لكي يدخل منطقة التكامل المصري السوداني حيث توجد وفرة المياه العذبة وملايين الأفدنة والأيدي العاملة الزراعية. وبقليل من رأس المال العربي المودع بالمصارف يُمكن أن تتكامل صناعة زراعية تكفي لسد الفجوة الغذائية للمنطقة العربية بكاملها، بل ويمكن أن تحقق فائضاً كبيراً للتصدير”.

         وإذا كانت الظروف قد تغيرت الآن حيث لم يعد الغاز الطبيعي يُحرق، بل يجري استغلال الفائض منه بالتصدير، فيمكن القول: إذا كانت اقتصاديات الغاز تبرر إسالته وحمله عبر البحار إلى الشرق الأقصى أو إلى أوروبا، فمن باب أولى ينبغي أن تُدرس إمكانية استغلاله، أو جانب منه، في التنمية الزراعية والصناعية داخل المنطقة على أساس متكامل وليس فقط على أساس الاقتصاديات المحلية لكل دولة. وإذا ثبتت جدوى المشروع الزراعي الصناعي في منطقة التكامل المصري السوداني، أو في موقع آخر من الوطن العربي، فينبغي تنفيذه بمنأى عن تيار الخلافات السياسية، تأميناً للأجيال العربية القادمة ضد الجوع، وحماية لها من استغلال القوى الأجنبية وسيطرتها على مقدراتها نتيجة لاتساع فجوة الغذاء.

أولاً: تطور عائدات دول الأوبك من الصادرات البترولية وفوائض البترودولار العربية المستثمرة في الخارج

         عندما سئل وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر عن السبب الجوهري الذي من أجله خاضت بلاده الحرب في الخليج، قال: إذا كنتم تريدون تلخيص الجواب في كلمة واحدة فهي “صفقة تجارية Business “.

         وعلى ذلك فإن حرب عاصفة الصحراء، كانت في أحد أبعادها، حرباً من أجل البترودولار العربي (عائدات تصدير البترول) وفوائض البترودولار.وإضافة إلى أهمية دول الخليج في إمدادات البترول الخام، جعل البترودولار من المنطقة سوقاً شرهة للصادرات الأمريكية والغربية من السلع والخدمات والسلاح. وفي الوقت نفسه تتدفق فوائض البترودولار إلى الاقتصاديات الأمريكية والغربية. وكأن العالم الغربي ـ بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ـ قد وجد في حرب الخليج فرصة لاعتصار دول الخليج حتى لا تشكل بمواردها المالية الهائلة تهديداً لاستقراره الاقتصادي.

         ولئن كان يبدو من الصعب اعتبار الدول الخليجية قد انتصرت في الحرب، إلاّ أنه من المؤكد أنها كانت أكبر الخاسرين فيها، حيث كانت المكاسب على طول الخط من نصيب الولايات المتحدة والدول الغربية. وكأن العالم الغربي ـ بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ـ قد وجد في حرب الخليج فرصة لاعتصار دول الخليج حتى لا تشكل بمواردها المالية الهائلة تهديداً لاستقراره الاقتصادي.

         جدير بالذكر أن حرب هذه الصفقة التجارية ـ على حد قول وزير الخارجية الأمريكي فرضت على الكويت إنفاق حوالي 70 مليار دولار خلال الفترة (1990 ـ1995) لتمويل الحرب وإعادة الإعمار والتسليح.

         أما المملكة العربية السعودية فقد تكلفت 60 مليار دولار لتمويل عاصفة الصحراء وتوفير الوقود والخدمات لقوات التحالف الدولي ومشتريات السلاح وإزالة أثار الحرب (خاصة تلوث الشواطئ).

كما ساهمت الدول الخليجية الأخرى في تمويل العمليات العسكرية وساعدت الدول المتضررة من الغزو العراقي. وأمام ذلك اندفعت الدول الخليجية لزيادة الطاقة الإنتاجية النفطية باستثمارات تُقدّر بحوالي 30 مليار دولار.

         أما العراق، الذي قام بغزو الكويت من أجل البترودولار وفوائض البترودولار الكويتية، فقد قُدِّرت خسائره بنحو 120 مليار دولار عند أدنى تقدير.

حقبة البترودولار

         يطلق كثير من رجال الاقتصاد والسياسة على الربع الأخير من القرن العشرين اسم “حقبة البترودولار” لأهمية عائدات البترودولار وفوائضه، ولآثاره العميقة التي تتجلى في الأحوال التالية:

إن هذه الأهمية الفائقة للبترودولار لا تظهر في منطقة من العالم، كما تظهر في المنطقة العربية:

  • فالمال النفطي كان مورداً كافياً لبقاء دول في المنطقة تفتقد مقومات الدولة جغرافياً وديموجرافياً (الدراسة الإحصائية للسكان) وسياسياً.
  • شكَّل البترودولار ـ في حد ذاته ـ إغراءً لتهديد أمن وتهديد وجود دول عديدة في المنطقة، كما تكفَّل بالإنفاق على ردع ذلك التهديد.
  • مثَّل البترودولار مصدر الشرعية للعديد من الأنظمة في دول المنطقة، حيث أصبحت وظيفة الدولة التي تضع تحت تصرفها عائدات النفط، توزيع المزايا والمنافع على أفراد المجتمع.
  • كذلك، كان البترودولار العامل الرئيسي في تطور الاقتصاديات العربية لدرجة تقسيم اقتصاديات الدول العربية إلى اقتصاديات نفطية وأخرى شبه نفطية فقد اعتمدت اقتصاديات الدول الخليجية والعراق وليبيا والجزائر على إنتاج وتصدير النفط. وأصبحت إيرادات النفط تمثل العنصر الغالب على النشاط الاقتصادي مما أدى إلى تشكيل الهيكل الاقتصادي اعتماداً أساسياً على النفط.
  • وعلى الجانب الآخر، أفادت اقتصاديات الدول العربية ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ من البترودولارات العربية، فقد ساعد التوسع الاقتصادي الذي شهدته الدول النفطية في تهيئة الفرص لانتقال العمالة العربية من الدول غير النفطية وشبة النفطية لتنفيذ المشروعات المقامة في الدول النفطية.
  • كذلك فإن الفوائض البترودولارية التي تحققت للدول النفطية قد انتقل جزء منها إلى دول عربية أخرى سواء في شكل قروض أو منح من خلال مؤسسات التمويل العربية أو في شكل استثمارات مباشرة من المشروعات العربية المشتركة. ولكن أهمية البترودولار كعامل رئيسي في تطوير الاقتصاديات العربية لا تتبدى إلاّ من خلال رصد دوره إبان فترة الفورة النفطية (1974 ـ 1981) أولاً، وثانياً برصد تأثير تراجع الفورة النفطية بعد عام 1982 على الاقتصاديات العربية.

فترة الفورة النفطية (1974 ـ 1981)

         تتضمن هذه الفترة الصدمة الأولى لارتفاع أسعار البترول The First Price Shock بنسبة 400% خلال عام 1973 ـ 1974.

         والصدمة الثانية لارتفاع أسعار البترول The Second Price Shock بنسبة 150 % في عام 1979 ـ 1980.

         إن أهمية وحيوية دور البترودولار في الاقتصاديات العربية خلال فترة الفورة النفطية يمكن الاستدلال عليها من خلال كافة الأنشطة الاقتصادية في الدول العربية. فقد تضاعفت عائدات الدول العربية أعضاء أوبك إضافة إلى البحرين وعمان من تصدير النفط من 23.8 مليار دولار عام 1973 إلى 212 مليار دولار عام 1980.

         كما أدى تزايد العائدات النفطية إلى تحقيق الدول النفطية (باستثناء الجزائر) فائضاً هائلاً في موازناتها التجارية، فأدى بالتالي إلى تحقيق فائض من موازنات مدفوعاتها الجارية بحوالي 60 مليار دولار في المتوسط سنوياً خلال الفترة 1975 ـ 1981.

         وكان لتزايد العائدات النفطية الدور الأكبر في زيادة إيرادات الموازنات الحكومية خلال الفترة 1973 ـ 1981. وقد حققت الموازنات الحكومية للدول العربية خلال تلك الفترة فائضاً كلياً بلغ 11 مليار دولار عام 1975 وارتفع إلى 46.8 مليار دولار عام 1980.

         وقد هيأ البترودولار للدول العربية المصدّرة للنفط إنفاق استثمارات كبيرة في البنية الأساسية التي إستحوذت على النسبة الكبرى من الإنفاق العام لأسباب منها أن مشروعات الأعمال العامة تتمخض عن آثار سياسية مظهرية واضحة للجماهير.

         كما شهدت الدول العربية النفطية ـ بتأثير البترودولار ـ نمواً انفجارياً في الإنفاق على الواردات السلعية والخدمية التي ارتفعت قيمتها من حوالي 3 مليارات دولار عام 1970 إلى 87.9 مليار دولار عام 1982، لتتضاعف 29 مرة خلال فترة الفورة النفطية.

         كذلك بفعل البترودولار تضاعف الإنفاق العسكري على التسلح في الدول العربية النفطية 12 مرة بين عامي 1973 و1983 ليصل إلى 37.9 مليار دولار مقارنة بقيمة 3.4 مليارات دولار في بداية الفترة. ويُذكر في هذه المناسبة، أن صفقات السلاح المتتالية كانت الباب الأوسع لاستعادة أموال البترول من العرب، حيث وصلت نسبة العمولة في عقد هذه الصفقات إلى 25، 30% في شراء أسلحة حديثة بلغت قيمتها مليارات الدولارات.

         وتمكنت الدول العربية النفطية، من خلال البترودولار، من زيادة الإنفاق الاجتماعي على الخدمات والتعليم والصحة ليصل إلى 30% من الإنفاق العام خلال فترة الفورة النفطية.

         وشهدت فترة الفورة النفطية، كذلك تراكم فوائض بترودولارية للدول العربية النفطية في الخارج، في شكل استثمارات وودائع في الولايات المتحدة وأوروبا والدول الصناعية. وصل إجمالي هذه الفوائض من تلك الاستثمارات بنهاية 1983، حوالي 357 مليار دولار، منها 129.3 مليار دولار في استثمارات قصيرة الأجل، و 227.8 مليار في استثمارات طويلة الأجل.

         أما الدول العربية غير النفطية وشبة النفطية، فقد أفادت من البترودولار العربي خلال فترة الفورة النفطية من خلال تحويلات العاملين والقروض والمعونات التي تمنحها الدول النفطية. وقد ارتفعت تحويلات العاملين في هذه الدول من 898.3 مليون دولار عام 1973 إلى حوالي 5.4 مليار دولار عام 1980. ثم ارتفعت مرة أخر إلى 6.4 مليار دولار عام 1985.

         وفيما يخص القروض والمعونات والتحويلات الأخرى بدون مقابل، فقد ارتفعت من 1.3 مليار دولار عام 1973 إلى 7.9 مليار دولار عام 1985.

         لذلك فإن البترودولار العربي وفوائضه كان له تأثير واضح في تطوير الاقتصاديات العربية إبان فترة الفورة النفطية. فقد تم إنفاق العائدات البترودولارية في الدول العربية النفطية على الواردات والتسليح ومشروعات البنية الأساسية والخدمات الاجتماعية والاستثمارات في الخارج. كما أفادت الدول غير النفطية وشبة النفطية من تحويلات العاملين والقروض والمنح البترودولارية.

هجرة العمالة العربية إلى البلدان النفطية وآثارها

         وقد يكون من المناسب هنا أن نذكر نبذة مختصرة عن الآثار الإيجابية والآثار السلبية لهجرة العمالة العربية إلى البلدان النفطية.

الآثار الإيجابية

  • أصبحت تحويلات دخول ومدخرات العاملين في البلدان العربية النفطية من أهم موارد ومقومات موازين المدفوعات، ومن مصادر تكوين الدخل القومي، ومن المصادر الرئيسية لتغذية حصيلة النقد الأجنبي المتاحة للاقتصاد الوطني، التي أدت إلى الإقلال من الاعتماد على، الاقتراض الخارجي.
  • كذلك أصبحت تحويلات العاملين في الخارج Workers’ Remittances تؤثر تأثيراً مباشراً على الأوضاع المعيشية لقطاع مهم من السكان في البلدان المصدِّرة للعمالة.
  • ساهمت هذه التحويلات في التخفيف من حدة مشكلة البطالة لدى بعض فئات العمالة.
  • كل هذا يجعل من تحويلات العاملين في البلدان العربية النفطية سلاحاً ذا حدين بالنسبة للبلاد المصدِّرة للعمالة، فهي:

من ناحية: تمثل مصدراً مهماً لإعادة التوازن إلى موازين المدفوعات، وتساعد على رفع الطاقة  الإدخارية في البلدان المصدرة للعمالة.

ومن ناحية أخرى: تعتبر مصدراً غير ثابت، إذ أن حصيلتها مُعرَّضة للتقلب والتقلص ومعا في المستقبل، مما يجعل دورها في الحياة الاقتصادية للبلدان المصدِّرة للعمالة دوراً مرحلياً محفوفاً بالمخاطر، وذلك في ضوء التطورات التي سوف تطرأ على عائدات ومعدلات إنتاج النفط.

الآثار السلبية

  • إن العناصر المهاجرة عادة ما تكون من أكثر العناصر قدرة ومهارة، الأمر الذي يؤدي إلى حرمان الدولة المصدرة للعمالة من أكفأ العناصر الإدارية والفنية وفئات العمالة الماهرة.
  • إن الفروق الكبيرة في الأجور والمرتبات بين من يستمرون في العمل داخل البلد المصدِّر للعمالة وبين من يُتاح لهم فرصة العمل في الخارج، هذه الفروق تؤدي إلى ضعف الحوافز المعنوية لدى العاملين في الداخل.
  • وتصبح تطلعاتهم غير مرتبطة بتحقيق مستويات أعلى من الإنتاجية في بلدهم، بل تتركز آمالهم في اللحاق بقوافل المهاجرين إلى الأقطار العربية النفطية. ويؤدي ذلك في النهاية إلى انهيار روح الانضباط في العمل وإلى تدهور مستوى الخدمات في المرافق.
  • حدوث اختلال واضح في الهيكل المهني لعرض القوى العاملة في البلدان المصدرة للعمالة. فقد نتج عن هجرة العمالة المصرية إلى الأقطار العربية النفطية أن أصبحت سوق العمل المصرية تعاني من نقص عديد من المهارات الفنية المهنية والحرفية في قطاع البناء وصناعة الأخشاب، ونقص أيضاً في بعض أنواع العمالة غير الماهرة مثل العمالة الزراعية، مما رفع متوسط الأجور النقدية ارتفاعاً كبيراً.

كما انعكس ذلك على كافة البلدان المصدرة للعمالة. وعلى سبيل المثال أيضاً:

فقد تدهور مستوى الإنتاجية الزراعية في اليمن، حيث تخلفت معدلات نمو القطاع الزراعي ومشروعات البنية الأساسية، إذ بلغ عدد العاملين في الخارج ما يزيد على ثلث قوة العمل عام 1975.

واضطرت حكومة اليمن إلى اللجوء إلى استيراد العمالة من الهند وتوقيع اتفاقية بذلك في ديسمبر 1977 مع الحكومة الهندية.

تراجع الفورة النفطية (عام 1986)

          “هؤلاء الناس لا يملكون النفط، إنهم يعيشون فوقه فقط These People do not Own Oil .. They Only Sit on it.”

          تلك العبارة، قالها وليم سايمون وزير الخزانة الأمريكي، في أعقاب صدمة ارتفاع أسعار البترول الأولى 1973 ـ 1974. وأُعيد ترديدها بعد صدمة انخفاض أسعار البترول وتراجع الفورة النفطية عام 1986.

ويقول الدكتور محمود عبدالفضيل تعقيباً على هذا التصريح:

“وليس هناك في تقديري ما هو أبلغ من هذا القول للتعبير عن الذهنية الغربية السائدة لدى أوساط واضعي السياسات، إذ أنها تعكس بوضوح وجلاء فهمهم لعناصر الضعف والقوة الاستراتيجية في الموقف الراهن نتيجة ضعف سيطرة العرب على مقدراتهم النفطية. فالعبرة لديهم هي ليست بالسيادة الشكلية والملكية القانونية للموارد النفطية وإنما العبرة بآليات وأوجه الاستخدام للموارد النفطية (سواء في شكلها العيني المختزن في باطن الأرض أو في أشكالها المالية أو التداولية) على الصعيدين العربي والعالمي.

          كما يقول الدكتور برهان الدرجاني “إن تراجع الفورة النفطية تم التخطيط له بعناية من قبل الدول الصناعية المستهلكة للنفط، التي استطاعت أن تفرض شروطها وسياساتها على الدول النفطية. وبالتالي فإن العملية تدخل في باب المباريات السياسية، أكثر مما تدخل في باب التفاعلات الاقتصادية”.

          وإذا كان سعر برميل النفط قد تدنَّى إلى أقل من 9 دولارات في يوليه 1986 فإن معنى ذلك أن الارتفاع الكبير ثم الانخفاض الحاد في أسعار النفط يقع تفسيرهما خارج إطار السوق، بل لا بد أن يقع في إطار التحليل السياسي.

          والحق، أن التفسير الاقتصادي وحده غير كاف لتحليل ذلك التطور. ومن ثم يلزم أن تُؤخذ في الاعتبار العوامل السياسية والإستراتيجية من حيث أنها تعمل في المدى القصير، إلى جانب المحددات الاقتصادية من حيث كونها فاعلة في المدى الطويل. فيمكن القول بأن الولايات المتحدة كانت وراء ـ أو كان من صالحها ـ رفع أسعار النفط في السبعينيات حتى يتسنى للشركات البترولية تحويل جزء من استثماراتها إلى الولايات المتحدة، كما أن ارتفاع سعر النفط يقلل من المقدرة التنافسية لمنتجات الصناعة اليابانية والأوربية وذلك برفع تكلفتها … ويجعل الولايات المتحدة الممون الرئيسي لليابان وأوروبا.

          كما كان من مصلحة الولايات المتحدة أيضاً خفض أسعار البترول في الثمانينات عندما تطور عجز الحساب الجاري لميزان المدفوعات الأمريكي إلى حد خطير، من 8.1 مليار دولار عام 1982 إلى  113.7 مليار دولار عام 1985.

          وفي كلتا الحالتين لم يكن لدى دول الأوبك إستراتيجية محددة لاستقرار الأسعار، بل دخلت بعض دول الأوبك وثيقة الصلة بالولايات المتحدة حرب الأسعار مع الدول المصدرة للبترول خارج الأوبك، حيث قامت السعودية بزيادة إنتاجها بشكل كبير. هكذا كان تراجع الفورة النفطية بإرادة وسيطرة الدول المستهلكة للنفط خاصة بعد ظهور الوكالة الدولية للطاقة عام 1975 بضغط من الولايات المتحدة لمواجهة نفوذ دول الأوبك.

          على صعيد الاقتصاديات العربية ككل، أدى انهيار أسعار النفط إلى تراجع كبير في بترودولارات الدول العربية النفطية أعضاء أوبك إضافة للبحرين وعمان لتصل إلى 54.8 مليار دولار عام 1986 مقابل 212 مليار دولار عام 1980. وعلى الرغم من التحسن النسبي في أسعار النفط عامي 1987 و1988 لم تزد العائدات البترودولارية لتلك الدول عن 66.35 مليار دولار عام 1989.

          أنعكس ذلك على الموازنات الحكومية للدول العربية، فقد تحول الفائض البالغ 39.1 مليار دولار عام 1980 إلى عجز بقيمة 33.5 مليار دولار عام 1988.

          وبالنسبة للفوائض البترودولارية، تناقصت الاحتياطيات الدولية للدول العربية أعضاء أوبك من حوالي 51 مليار دولار عام 1982 إلى 32.4 مليار دولار عام 1989 وذلك لمواجهة الهبوط الكبير في إيرادات النقد الأجنبي.

          نتيجة لذلك لجأت الدول العربية النفطية إلى خفض الإنفاق الحكومي، وعلى الرغم من ذلك تزايد العجز في الموازنات الحكومية لتلك الدول. وبالنسبة للدول العربية غير النفطية فقد تراجعت تحويلات العاملين إليها وانخفضت المساعدات الإنمائية العربية للدول النامية وتناقصت تدفقات العون الإنمائي العربي للدول العربية.

قضية فوائض البرتودولار العربية المستثمرة في الخارج Investment Surplus

          منذ فورة ارتفاع أسعار البترول الأولى 1973 ـ 1974 تركز الاهتمام ـ داخل المنطقة العربية ـ على فوائض البترودولار، سواء بالنسبة إلى حاجة الاقتصاديات العربية إلى مساهمة تلك الفوائض في تحقيق التنمية الاقتصادية العربية، أو بالنسبة إلى المخاطر التي تواجهها تلك الفوائض المهاجرة إلى أسواق المال العالمية من جهة تقلبات أسعار الصرف والفائدة وانهيار البورصات العالمية واحتمالات التجميد.

          كما تركز الاهتمام على فوائض البترودولار العربية المستثمرة في الخارج ـ بعد تدهور أسعار البترول العالمية إلى أقل من 9 دولارات للبرميل في السوق الفورية عام 1986. فقد ساهمت عائدات تلك الفوائض في مواجهة النقص في سعر البترول والمحافظة على استقرار اقتصاديات الدول العربية النفطية.

إلاّ أن الجدير بالاهتمام والمناقشة، هو التعرُّف على “طبيعة” فوائض البترودولار العربية:

  • باعتبارها فوائض ناتجة عن ثروة ناضبة لا دوام لها وهي النفط.
  • ومن جهة كونها فوائض دول عربية بذاتها ولفترة زمنية بعينها.

          لقد كان للزيادة الكبيرة في أسعار النفط، في الفترة 1973 ـ 1974 (الصدمة النفطية الأولى)، أثرها الكبير في تضاعف عائدات تصدير النفط من الدول العربية المنتجة له. وبارتفاع أسعار النفط مرة ثانية في الفترة 1979 ـ 1980 (الصدمة النفطية الثانية) وزيادة حجم الصادرات، في ظروف الطاقة الاستيعابية المحدودة لاقتصاديات الدول العربية النفطية، تراكمت العائدات النفطية خلال الفترة (1973 ـ 1981).

          وتوضيحاً لذلك: فإنه بعد حرب أكتوبر 1973، ارتفع سعر برميل النفط من 3.5 دولار إلى 10.5 دولار. وعقب الثورة الإيرانية 1979 والحرب العراقية ـ الإيرانية 1980، ارتفع سعر برميل النفط من 13 دولاراً في يناير 1979 إلى 30 دولاراً في 1980 وإلى 35.5 دولاراً في يناير 1981.

          واستطاعت الدول العربية المنتجة للنفط الأعضاء في منظمة “أوبك” من زيادة صادراتها إلى ما يزيد عن 20 مليون برميل يومياً عام 1979، وحوالي 19 مليون برميل يومياً عام 1980. وأدت زيادة إنتاج وأسعار النفط المصدَّر من الدول العربية الأعضاء في (أوبك) إضافة إلى البحرين وعمان، إلى زيادة عائداتها النفطية من 23.7 مليار دولار عام 1973 إلى 208.3 مليار دولار عام 1980.

          شهدت الدول العربية النفطية نشأة “فوائض البترودولار” أي فوائض من العائدات النفطية، وقد حالت القدرة الاستيعابية المحدودة للاقتصاد المحلي في تلك الدول دون استثمارها محلياً. أصبح لدى هذه الدول فوائض من النقد الأجنبي تفوق احتياجات الإنفاق الإنمائي والجاري بالنقد الأجنبي، ومن ثم كان توجُّه هذه الفوائض للاستثمار خارجياً.

          ويتحدد الفائض المالي النفطي، بالفائض في ميزان العمليات الجارية لميزان المدفوعات. إن هناك فرقاً بين الفائض في الميزان التجاري لميزان المدفوعات والفائض في الميزان الجاري، حيث تدخل التحويلات الرأسمالية في حساب الميزان التجاري. وبالتالي فإن حساب “فوائض البترودولار” يتم حسب المعادلة الآتية:

عائدات الصادرات النفطية ـ واردات السلع والخدمات ـ التحولات الرأسمالية = الفائض في الميزان الجاري.

          وقد استطاعت 9 دول عربية (الدول الأعضاء في أوبك إضافة إلى عمان والبحرين) تحقيق فائض إجمالي في ميزان الحساب الجاري بلغ 323 مليار دولار خلال الفترة بين 1973 و1981.

أثار تراكم فوائض البترودولار خلال الفترة (1973 ـ 1981) مشكلة ذات جانبين:

الأول: ظهرت دعوة للمحافظة على الثروة النفطية والحد من استخراج النفط، حيث أن تلك الفوائض ناتجة عن ثروة ناضبة لا دوام لها، كما أن تراكم الفوائض تم دون اعتبار لاحتياجات التنمية الحالية والمستقبلية في الدول المصدرة للنفط، إضافة إلى أن تلك الفوائض المالية تتآكل قدرتها الشرائية بسبب التضخم وتقلبات أسعار صرف العملات الدولية. وكان الأجدى الحفاظ على النفط في باطن الأرض محتفظاً بقيمته.

الثاني: اعتبرت فوائض البترودولار العربية بمثابة فوائض لدول عربية بذاتها، وفي الأجل المتوسط فحسب، إذ أنها مرتبطة بالقدرة المحدودة لاقتصاديات الدول العربية النفطية على استيعاب العائدات النفطية، أما إذا نوقشت المشكلة على المستوى العربي القومي (في حالة حدوث وحدة عربية في المستقبل) فمن الممكن ألاّ يوجد معنى لما يُسمى (الفائض) في الأمد الطويل.

فوائض البترودولار العربية خلال سنوات تراجع الفورة النفطية

         شهد عقد الثمانينات تراجع العائدات النفطية العربية لانخفاض أسعار وصادرات النفط. فقد انخفضت أسعار النفط من حوالي 37 دولاراً للبرميل عام 1981 إلى 28 دولاراً للبرميل عام 1985، ثم تدهور سعر برميل النفط إلى أقل من 9 دولارات للبرميل في يوليه 1986 فيما سمى “الصدمة النفطية المعاكسة”.

         وانخفض إنتاج أوبك من 30.7 مليون برميل يومياً عام 1979 إلى 15.9 مليون برميل يومياً عام 1986. أما الدول العربية الأعضاء في أوبك فلم تتجاوز صادراتها النفطية 11 مليون برميل يومياً مقابل 20.3 مليون برميل يومياً عام 1979.

         ونتيجة لذلك، تراجعت العائدات النفطية من حوالي 208 مليار دولار عام 1980 إلى حوالي 51 مليار دولار عام 1986، بالنسبة للدول العربية الأعضاء في أوبك إضافة إلى البحرين وعمان.

         عملت تلك الدول على خفض وارداتها، إلاّ أن الميل الحدي للاستيراد ظل مرتفعاً، الأمر الذي أدى ـ لتناقص صادرات النفط ـ إلى انخفاض الفائض في الميزان التجاري من 127.7 مليار دولار عام 1980 إلى حوالي 26 مليار دولار عام 1985.

         وإذا انتقلنا إلى الحساب الجاري، نجد أن التناقص المستمر في فائض الميزان التجاري ـ لتناقص الصادرات النفطية أساساً ـ ولاستمرار العجز في حساب الخدمات والتحويلات. قد أديا إلى تحول الفائض في الحساب الجاري (خلال سنوات التراجع) إلى عجز منذ عام 1983 بقيمة 11.8 مليار دولار، ثم بقيمة 10 مليارات من الدولارات عام 1984، و2.4 مليار دولار عام 1985، و11.7 مليار دولار عام 1986 وذلك بالنسبة للدول العربية أعضاء أوبك إضافة للبحرين وعمان (عدا العراق).

         وخلال الفترة (1987 ـ 1990) حدث تحسن محدود للعائدات النفطية. كما انخفض العجز في الحساب الجاري للدول العربية النفطية ـ بدءاً من عام 1987. وهكذا فإن الفوائض البترودولارية المحققة في الفترة الأولى (1973 ـ 1981)، تم استنفاد جزء منها خلال الفترة الثانية (1982 ـ 1986) من جراء انخفاض أسعار وحصص الإنتاج.

         ومثلما أدى تراجع العائدات النفطية إلى عجز الموازين الجارية للدول العربية النفطية، تأثرت الموازنات الحكومية بشدة بانخفاض العائدات النفطية، حيث أصابها عجز شديد. وبعد أن كان الفائض في الموازنات الحكومية لهذه الدول هو المصدر الرئيسي للاحتياطيات الدولية، أدى العجز إلى السحب من الاحتياطات الدولية لتتناقص من 45.6 مليار دولار عام 1985 إلى 37.8 مليار دولار عام 1986، إلى 32.4 مليار دولار عام 1989. واضطرت بعض هذه الدول (العراق والجزائر) إلى الاقتراض الخارجي لتمويل العجز، بينما لجأ معظم هذه الدول إلى الاقتراض المحلي عن طريق إصدار أذون وسندات الخزانة.

         لقد كان من المهم التطرق إلى نشأة فوائض البترودولار العربية وحجمها وتطورها. فمن جهة النشأة، كان من الضروري التأكيد على أنها نشأت من تحويل الموجودات النفطية إلى أصول مالية سائلة، أي تسييل موجودات ناضبة غير متجددة. وبذلك تختلف في طبيعتها عن الفوائض المالية للدول الصناعية مثل اليابان وألمانيا التي تعبِّر عن إنتاج ودخل متجدد.

         كما أرتبط حجم وتطور فوائض البترودولار العربية بارتفاع أسعار النفط مرتين في أوائل ونهاية السبعينات من جهة، وبالطاقة الاستيعابية المحدودة للاقتصاديات النفطية العربية من جهة أخرى، بما يعني أن تراكم الفوائض المالية العربية لم يكن نتيجة لتطور وتوسع هياكل الاقتصاديات العربية مثلما حدث بالنسبة للاقتصاديات المتطورة.

         إضافة إلى ذلك، فإن القيمة الاسمية الحقيقية لفوائض البترودولار العربية تحددت وستظل تتحدد بالتطورات التي تحدث في البيئة الدولية الخارجية، سواء من ناحية تأثير الطلب على النفط وأسعاره على القيمة الاسمية للفوائض، أو من ناحية تأثير معدلات التضخم في الدول الغربية الصناعية وتقلبات أسعار صرف عملاتها على القيمة الحقيقة لهذه الفوائض.

         ويبقى بعد هذا العرض، أن الدول العربية صاحبة هذه الفوائض البترودولارية، قد تجاوزت منذ سنوات فترة التراكم للفوائض، إلى فترة استنفاد جزء منها كلما احتاجت إليها، بما يطرح قضية مصير تلك الفوائض البترودولارية، التي تتعرض لعديد من المخاطر التي سبق الإشارة إليها. والحل الوحيد أمام هذه الدول العربية هي الإعداد منذ الآن لدراسات الجدوى بهدف إقامة قاعدة اقتصادية ضخمة لدول مجلس التعاون الخليجي على سبيل المثال.

ثانياً: الاستثمارات العربية في الخارج

         حققت الدول العربية المنتجة للنفط (خاصة أعضاء الأوبك) فوائض بترودولارية نتيجة للطفرة النفطية خلال الفترة (1973 ـ 1981) قامت هذه الدول بتوظيف قسم هام من فوائض البترودولار في أسواق الدول الصناعية المتقدمة، في ظل اعتبارات مختلفة أهمها:

  • ضيق الطاقة الاستيعابية لأسواق رأس المال (البنوك ـ شركات الاستثمار ـ بورصات الأوراق المالية) في الدول العربية النفطية، ومحدودية تلك الأسواق بوجه عام في معظم الدول العربية.
  • وفرت أسواق الدول الصناعية ـ نسبياً  ـ لهذه الفوائض عناصر الجذب مثل الحرية والأمان والعائد، ووجود مؤسسات مالية على درجة عالية من الكفاءة والخبرة، إضافة إلى تنوع أدوات الاستثمار.
  • إلاّ أن أهم الاعتبارات وراء هذا التوجه هو توليد عائد مالي يحل محل العائد النفطي تدريجياً. ومع ذلك فإن الفوائض البترودولارية العربية في الأسواق الدولية لم تكن دائماً مأمونة أو مجزية العائد، وباتت أقرب إلى وضعية “الارتهان” والتآكل كما أُشير إلى ذلك من قبل.

أوجه استثمار الفوائض البترودولارية

         توزعت استثمارات الفوائض البترودولارية خلال الفترة (1974 ـ 1979) بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول السوق الأوروبية ودول أخرى في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

         كما توجه جزء من الفوائض المستثمرة خارجياً خلال تلك الفترة لتنمية احتياطيات دول الأوبك من الذهب والعملات الحرة لدى المؤسسات النقدية الدولية.

وتوزعت الاستثمارات من حيث طبيعتها ـ كما يلي:

ودائع مصرفية في بنوك الدول الصناعية       بنسبة     48.5 %

محافظ مالية واستثمارات مباشرة               بنسبة      20.9 %

أوراق حكومية من سندات وأذون خزانة        بنسبة     12.1 %

قروض للدول النامية                           بنسبة     13.9 %

قروض لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي     بنسبة      4.6 %

         خلال فترة تراجع العائدات النفطية (1982 ـ 1986) انخفضت الفوائض البترودولارية المستثمرة في الخارج. وبعد تحسن أسعار النفط والعائدات النفطية بدءاً من عام 1987، عاودت الفوائض العربية التزايد بمعدل أكبر لتصل إلى 588 مليار دولار عام 1989، وارتبط ذلك بتطورات فبعد أن كانت الولايات المتحدة تمثل المكان الأفضل للاستثمارات خلال السبعينات، حدث تحول واضح نحو المملكة المتحدة ودول السوق الأوروبية الأخرى، كما تزايد الاهتمام بأسواق دول الشرق الأقصى. كما تغيرت نسب توزيع الاستثمارات.

         جدير بالذكر أن الدول العربية التي تستثمر فوائضها البترودولارية تتصف بالتحفظ بطبيعتها، حيث تفضل الابتعاد عن قنوات الاستثمار غير الآمنة (مثل المضاربة على المعادن الثمينة والسلع والعقود الأجلية)، وعن الأسواق غير المألوفة لها (وذلك ما يعكس تفضيل الأسواق الأمريكية والأوروبية).

         كما تُفضل أن تتكون حافظتها الاستثمارية من أصول سائلة (الودائع المصرفية والأسهم والسندات) وقد تضحي بالعائد المرتفع مقابل التملك المأمون والمضمون ولو بعائد أقل (الاستثمارات في العقارات) وذلك إضافة إلى الحرص على “السرية” التي تدفعها للاستثمار في الودائع والسندات.

تجربة الاستثمارات الكويتية الخارجية

         عندما تمكن العراق من السيطرة على آبار النفط الكويتية ـ بعد الغزو ـ ثم إحراق معظمها، كانت الاستثمارات الكويتية الخارجية بديلاً للنفط الذي توقف تصديره وعائداته. وتحولت الأصول والاستثمارات الكويتية في الخارج إلى “اقتصاد منفي” مركزه لندن، خارج الإقليم الجغرافي للدولة حيث تمول أصوله وعائداته مصروفات الدولة. وقد سعت الحكومة الكويتية إلى الحصول على موافقة الدول الغربية بالسماح لها بإدارة الأموال الكويتية وذلك ما تم في 26 أغسطس 1990. فأصبح بمقدورها إدارة الأرصدة والاستثمارات في الخارج، عبر مكتب الاستثمار الكويتي في لندن وعبر فروع شركات الاستثمار في الخارج. كما باشر بنك الكويت المركزي في لندن أعماله لتسوية المعاملات بين البنوك الكويتية من جهة وبينها وبنوك العالم من جهة أخرى.

         وبمساعدة بقية دول مجلس التعاون الخليجي، تحركت مؤسسة البترول الكويتية لضمان توفير النفط الخام اللازم لتزويد محطات التكرير والتوزيع المملوكة لها في أوروبا حتى يستمر تشغيلها لتزويد المترددين عليها والوفاء بعقودها.

         وخلال الاحتلال العراقي للكويت، وحتى بعد انسحاب العراق، ظلت الاستثمارات الكويتية في الخارج تقوم بتدوير أصوله الرأسمالية خارج الكويت ويمول من خلال تسييل جزء من تلك الأصول ومن عائداتها تغطية جزء من نفقات قوات التحالف الدولي ضد العراق. ومساعدة الدول التي تضرَّرت من فرض الحصار الاقتصادي على العراق.

         وقد نشرت صحيفة “فاينانشيال تايمز” اللندنية (7 يوليه 1992) نقلاً عن مصادر مكتب الاستثمار الكويتي أن حقيبة المكتب تقلصت منذ الغزو العراقي في أغسطس 1990 بنسبة 50% لاضطراره لتمويل نفقات الحرب حتى أنه كان في فترة يدفع رواتب موظفي الحكومة الكويتية.

فرص ومخاطر الاستثمارات العربية في الخارج

         تكْشِف نشأة فوائض البترودولار العربية في الخارج وتطورها وتوزيعها عن درجة عالية من الارتباط بالسوق الدولية. فمن ناحية، ارتبطت نشأة الفوائض النفطية وأرصدتها بتطورات سوق النفط الدولية (الطلب والسعر). كما يتحدد مستقبل الفوائض المالية في الخارج بسوق النفط التي تتحكم تطوراتها في حجم العائدات النفطية نقصاً وزيادة.

         ومن ناحية أخرى. أرتبط توظيف الفوائض المالية العربية بأسواق المال الدولية، وبالتالي فإن القيمة الحقيقة لتلك الفوائض، تتوقف على استقرار أو تغيُّر أسعار العملات ومستويات الفائدة ومعدلات التضخم في الدول الصناعية المتقدمة، وتتأثر باهتزاز البورصات العالمية.

         وأخيراً تواجه الفوائض المالية العربية في الخارج، المتمركزة في الدول الصناعية المتقدمة، ما يمكن وصفه بالمخاطر السياسية، المتمثلة في احتمالات التجميد. كما حدث بالنسبة لإيران من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1979 وكذلك ما حدث لليبيا في عام 1986، أو كما حدث للممتلكات العراقية والكويتية في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان في عام 1990.

ثالثاً: تدوير فوائض البترودولار في المنطقة العربية

  1. التدفقات المالية من الحكومات ومؤسسات التمويل العربية

إن فوائض البترودولار العربية هي في واقع الأمر إيرادات حكومية يرجع أمر التصرف فيها إلى حكومات الدول المعنية. ويعتمد ذلك على سياسات هذه الحكومات في تيسير حركة هذه الفوائض المالية.

وقد بدأت الكويت محاولة مبكرة تكفل تدفق رؤوس الأموال النفطية داخل المنطقة العربية، بتأسيس الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية في 31 ديسمبر 1961. وذلك لمساعدة الدول العربية في تنمية اقتصادها، وبوجه خاص مدِّها بالقروض اللازمة لتنفيذ المشروعات الإنمائية بها.

ومنذ مؤتمر القمة العربي الثاني، ظهرت المساعدات العسكرية من دول الفائض النفطية إلى دول المواجهة العربية مع إسرائيل، كاتجاه حديث في العلاقات الاقتصادية بين الدول العربية. ما لبث أن تأصّل بعد هزيمة 1967 والقمة العربية التي انعقدت في الخرطوم في أغسطس من السنة نفسها.

ثم جاء تأسيس الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي عام 1968، التي ساهمت بأكثر من 80% من رأسماله سبع دول نفطية هي:

السعودية والكويت والعراق والجزائر وليبيا والإمارات العربية وقطر. وتلا ذلك تأسيس المصرف العربي الليبي الخارجي عام 1972.

وبعد ارتفاع أسعار النفط في عام 1973، وزيادة العائدات النفطية ساهمت الدول النفطية في تأسيس مجموعة من مؤسسات التمويل القطرية والإقليمية والدولية أهمها:

صندوق أبوظبي للإنماء الاقتصادي العربي           (1971)

الصندوق العراقي للتنمية الخارجية                   (1974)

المصرف العربي للتنمية في أفريقيا                  (1974)

الصندوق السعودي للتنمية                          (1974)

البنك الإسلامي للتنمية                       (1974)

صندوق النقد العربي                       (1976)

صندوق أوبك للتنمية الدولية               (1976)

الصندوق الدولي للتنمية الزراعية          (1976)

وقد بلغ عدد مؤسسات التمويل الجماعية 32

ومؤسسات التمويل القطرية 9

ومؤسسات التمويل المشتركة 34

والملاحظ أن هذه المؤسسات جميعها قد أنشئت خلال السنوات التالية لزيادة العائدات النفطية من عام 1974 إلى 1977.

كذلك أودع البنك المركزي الكويتي لدى بنوك مركزية أفريقية، إضافة إلى ودائعه لدى البنك المركزي المصري والبنوك التجارية المصرية، عام 1974 بلغ 660 مليون دولار بفوائد شبة تجارية.

ويتضح من ذلك أن معظم المساعدات التي قدمتها الدول العربية المنتجة للنفط إلى الدول النامية كانت على أساس ثنائي. ذلك لأن الدول العربية النفطية تتردد في استعمال المؤسسات الجماعية المشتركة لإدارة وتوجيه مساعداتها المالية نحو الدول النامية بسبب ما يتضمنه ذلك من فقدان السيطرة على استخدامات أموالها واوجه صرفها. ولهذا كانت كل دولة عربية تفضل إنشاء مؤسسة تمويل ضمن نطاقها وتحت سيطرتها كتلك الصناديق السابق الإشارة إليها.

ويعزى لهذه الصناديق فوائد منها:

أ. أنها تنشئ المشروعات بسرعة أكبر من إنشائها عن طريق المؤسسات الجماعية.

ب. إنها تكفل للدولة المعنية السيطرة النهائية على استعمال أموال الصندوق.

ج. أنها تتحاشى التكلفة والتأخير اللذين تتعرض لهما عمليات التمويل في حالة إنشاء مؤسسات تمويل قومية أو جماعية.

د. يمكن لهذه الصناديق أن تدعم السياسات والأهداف العامة للجهة التمويلية التي ترتبط بها، إذ تسطيع استعمال موارد الصندوق المذكورة في تنفيذ التوسعات في مشروعات قائمة وسبق لتلك الجهات المساهمة في إنشائها وتمويلها.

وعلى الرغم من ذلك، فقد اشتركت دول النفط العربية في إقامة مؤسسات تمويل تنموي جماعية تهدف إلى استثمار الموارد المالية العربية داخل العالم العربي وخارجه. كما اشتركت مع دول غير عربية بهدف تقديم القروض والمساعدات المالية الممكنة إلى الدول العربية والبلدان النامية الأخرى.

وذلك مثل مساهمتها مع رؤوس أموال أجنبية بغرض استثمار فوائض الدولارات العربية في مجالات عربية وغير عربية مثل:

  • بنك التنمية الأفريقي                         (أبيدحان 1966)
  • اتحاد المصارف العربية والفرنسية     (باريس 1970 ـ 25 مصرفاً عربياً و16 مصرفاً أوربياً)
  • البنك العربي الفرنسي للاستثمارات العالمية    (باريس 1969)
  • البنك العربي الأوروبي                        (لوكسمبرج 1972ـ المساهمة العربية 60%)
  • المصرف العربي الدولي للاستثمار            (باريس 1973)
  • البنك العربي الدولي في باريس               (1974 ـ مساهمة الجزائر وليبيا)
  • شركة التمويل الدولي                         (الكويت 1974)
  • المصرف العربي للاستثمار                   (مدريد ـ 1975 ـ نسبة المساهمة العربية 60%)
  • الشركة العربية البرازيلية للاستثمار           (1975)
  • بنك الجزيرة                                  (1975)
  • المجموعة المالية الكويتية                     (الكويت 1976 ـ المساهمة الكويتية 60%)
  • الشركة السعودية للاستثمار المصرفي         (الرياض ـ 1977 ـ مساهمة السعودية 65%)

وقد بلغ عدد مثل هذه المؤسسات في عام 1977 نحو 34 مؤسسة. ولا شك أن الموارد المالية التي وُضعت تحت تصرف هذه المؤسسات كانت في مجموعها كبيرة. فقد تراوح رأسمالها من مبالغ ضئيلة نسبياً لا تتجاوز 6 ملايين دينار بحراني في حالة المصرف العربي للاستثمارات والتجارة الخارجية، الذي أنشئ عام 1974، إلى 400 مليون دينار كويتي في حالة الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، الذي بدأ عمله في الكويت عام 1973 إلى 1000 مليون دينار كويتي في حالة الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، الذي أنشئ في الكويت عام 1961. وإلى 2000 مليون دينار إسلامي بالنسبة للبنك الإسلامي للتنمية الذي أنشئ في 1974 و2000 مليون دولار بالنسبة لهيئة الخليج للتنمية التي أُعلن عن قيامها في عام 1976 بالاشتراك بين السعودية والكويت وقطر ودولة الإمارات العربية لتمويل بعض متطلبات التنمية في مصر العربية وتغطية بعض العجز في ميزان مدفوعاتها.

ويعتقد مؤلف هذا المرجع (عبدالمنعم السيد علي، “دراسات في اقتصاديات النفط العربي”)

أن إنشاء مثل هذا العدد الكبير من مؤسسات التمويل القطرية والجماعية والمشتركة قد يكون فيه شئ من بعثرة الجهد وسبب لفقدان الانسجام والتنسيق بين الجهود التي تبذلها الدول العربية النفطية في سبيل تقديم العون المالي سواء للدول العربية الشقيقة أو للبلدان النامية الأخرى، الأمر الذي يقتضي إعادة النظر في هياكل وأساليب الدعم المالي، إذا أريد له أن يكون أكثر فاعلية وكافياً من حيث نوع الاستثمار وأسلوب التوجيه وطريقة الإدارة. ومن المقترح إنشاء مؤسسة تمويل واستثمار عربية مركزية تحت اسم بنك التنمية العربي، وذلك لتحقيق أمرين:

  • الكفاءة في استخدام الفوائض البترودولارية العربية.
  • توزيع المخاطر المترتبة على استثمارها في مناطق متعددة من الوطن العربي، وضمان الحفاظ عليها رأسمالاً وقيمةً وأرباحاً. وخلق رقابة مركزية على كيفية استخدام هذه الفوائض المالية ووجهة تدفقها وإعادة توجيهها حسب خطط تنموية عربية يتم التنسيق بينها مركزياً. ولعل إنشاء هذا البنك يكون وسيلة من وسائل تحقيق التكامل الاقتصادي العربي في المستقبل.

وقد انتقد كثير من الكتَّاب مؤسسات التمويل والصناديق السابق ذكرها، حيث أن أهم ما يؤخذ عليها يتمثل في ضالة رؤوس أموالها، مع أن معظمها قد أنشئ أثناء فترة الفورة النفطية لارتفاع أسعار البترول. وعلى الرغم من أهدافها الطموحة الخاصة بدعم التنمية الاقتصادية في دول العجز العربية، وتصحيح الخلل في موازين مدفوعاتها وتسوية المدفوعات الجارية بين الدول العربية بما يعزز التبادل التجاري فيما بينها، وتقديم تسهيلات ائتمانية قصيرة ومتوسطة الأجل إلى هذه الدول، فإن مجموع عجز موازين المدفوعات في بعض دول العجز يفوق بكثير رؤوس أموال هذه المؤسسات التمويلية ولا تساير الأهداف المطلوب تحقيقها.

حقيقة الأمر أن هؤلاء الكتُّاب لا يرمون من وراء هذا النقد الضغط على دول الفائض العربية كي تضاعف رؤوس أموال صناديق ومؤسسات التمويل، بل هو مجرد محاولة لمنع ظهور أفكار مغالى فيها أو دعاوى مغرضة يفوح منها شطط إثارة حقد أو كراهية بين الدول العربية، فقد تعالت أصوات كُتَّاب وصحفيين وسياسيين لا حصر لهم، يرفضون رفضاً باتاً أسلوب الضغط الذي مارسه صدام حسين لابتزاز دول الجوار العربية أثناء فترة حرب الخليج الإيرانية ـ العراقية طوال ثماني سنوات مدّعياً أن في ذلك حماية لكافة دول الخليج. كما أنهم لم يؤيدوا ـ بل واستنكروا ـ دعوى العراق المغرضة، التي طالب فيها بإعادة توزيع ثروات الوطن العربي.

  1. استخدام الفوائض البترودولارية في إقامة المشروعات العربية المشتركة

بدأ التفكير في المشروعات العربية المشتركة مع التحضير لتأسيس جامعة الدول العربية. وقد وافق مجلس الجامعة في 10 أبريل 1946، على إنشاء الشركة المساهمة لاستغلال وشراء الأراضي الزراعية في فلسطين تساهم فيها الحكومات والمواطنون العرب من جميع الأقطار العربية. وكان الدافع وراء ذلك هو مواجهة المخطط الصهيوني للاستيلاء على فلسطين عن طريق استغلال متاعب “الملاَّك العرب”.

وفي خلال الخمسينات وافق مجلس الجامعة العربية في 25 يناير 1956 على إنشاء شركة البوتاس العربية المساهمة المحدودة لكي تقوم باستغلال أملاح البحر الميت في الأردن، للرد على استغلال إسرائيل للثروة المعدنية في فلسطين المحتلة.

ولا شك أن صيغة “المشروع العربي المشترك” يمكن اعتبارها من أفضل الصيغ الممكنة عملياً لدفع عملية التنمية العربية في اتجاه تنموي وتكاملي، على أن يكون ذلك ضمن إطار عملية إعادة هيكلة أوسع لأوضاع الاقتصاد العربي في مجموعه.

وعلى الرغم من أهمية إقامة المشروعات العربية المشتركة، منذ بداية الخمسينات، فإن غالبية هذه المشروعات القائمة في الوقت الحاضر قد أنشئت بالفعل بعد عام 1973 في ظل “الحقبة النفطية الجديدة”.

وكجزء من الحركة العامة لتدوير البترودولارات في الوطن العربي. وسوف يستمر إنشاء هذا الشكل من المشروعات لأنه لا يقل، بل قد يفوق، في الأهمية الأشكال الأخرى لانسياب الأموال النفطية العربية في شكل قروض إنمائية أو إعانات مالية حكومية أو استثمارات مباشرة. خاصة وأن الظروف قد غدت مهيأة في المنطقة العربية بعد عام 1973 أكثر من أي وقت مضى، للتوسع في المشروعات العربية المشتركة لتشمل مختلف قطاعات الإنتاج والخدمات بما يحقق الاستغلال الأمثل للموارد المالية العربية المتاحة.

فضلاً عن أن إنشاء هذا الشكل من المشروعات يقتضي أن تتفق الدول الأطراف على إقامة المشروع المشترك فقط، وهذا أيسر بكثير من أن تتفق على الدخول في اتحاد جمركي أو سوق مشتركة.

وهكذا فإن المشرع العربي المشترك يمكن اعتباره أفضل السبل لتنفيذ المشروعات الضخمة التي تعجز موارد قطر عربي بمفرده عن تمويلها، أو عن تصريف منتجاتها في سوقها المحلية.

ويمكن تصنيف المشروعات العربية المشتركة في ثلاث مجموعات:

الأولى: المشروعات التي تهدف إلى تقوية حركة التكامل الاقتصادي العربي وتشتمل هذه المجموعة أساساً على المشروعات التي بادرت بها جامعة الدول العربية من خلال المجلس الاقتصادي العربي، والتي بادر بها مجلس الوحدة الاقتصادية العربية.

والثانية: المشروعات العربية المشتركة التي تستهدف التنمية المتكاملة لقطاع إنتاجي معين في عدة بلدان، ومثل هذه المشروعات أقامتها منظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط (أوابك).

كما أن مجلس التعاون الخليجي يوفر إطاراً مؤسسياً لإقامة مشروعات مشتركة من هذا النوع.

والثالثة: المشروعات المشتركة التي تستهدف تنمية قطاع معين في بلد ما، وذلك تحقيقاً لتطلع قومي. ومثل هذه المشروعات تقع أساساً ضمن اهتمامات الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي وغيره من المنظمات العربية.

وفيما يلي أمثلة للمشروعات العربية المشتركة من المجموعات الثلاث سالفة الذكر:

ففي إطار المجموعة الأولى قام مجلس الوحدة الاقتصادية العربية بتأسيس أربع شركات:

  • الشركة العربية للتعدين، برأسمال قدره 120 مليون دينار كويتي ومقرها عمان.
  • الشركة العربية لتنمية الثروة الحيوانية، برأسمال قدره 66 مليون دينار كويتي ومقرها دمشق.
  • الشركة العربية للصناعات الدوائية والمستلزمات الطبية، برأسمال قدره 50 مليون دينار كويتي ومقرها القاهرة.
  • الشركة العربية للصناعات الهندسية.

كما تقرر إنشاء الشركة العربية للاستثمارات الصناعية، برأسمال قدره 150 دينار عراقي ومقرها بغداد. وكذلك الشركة العربية لمصايد الأسماك.

وهناك شركات أخرى في طريقها إلى الإنشاء كالشركة العربية للزراعة والإنتاج الغذائي، و الشركة العربية للسياحة. كما أن مجلس الوحدة الاقتصادية بصدد إعداد الدراسات التمهيدية ودراسات الجدوى اللازمة لإنشاء شركة للمقاولات وأخرى لتمويل الصادرات والمخزون السلعي.

أما المجموعة الثانية من المشروعات العربية المشتركة، فقد أنشئت بعد تأسيس منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول (أوابك) في يناير 1968، وقد تطورت هذه المنظمة منذ ذلك التاريخ لتصبح من أقوى وأهم التجمعات الاقتصادية العربية في مجال ربط النفط بمسيرة التنمية العربية.

نصت المادة الثانية من اتفاقية منظمة أوابك على أن:

“هدف المنظمة الرئيسي هو تعاون الأعضاء في مختلف أوجه النشاط الاقتصادي في صناعة البترول وتحقيق أوثق العلاقات فيما بينهم في هذا المجال”.

وجعلت من بين الوسائل الكفيلة بتحقيق هذا الهدف:

“الإفادة من موارد الأعضاء وإمكانياتهم المشتركة في إنشاء مشروعات مشتركة في مختلف أوجه النشاط في صناعة البترول”.

وفي هذا الإطار قامت المنظمة بتأسيس عدة شركات هي:

  • الشركة العربية البحرية لنقل البترول             (1973)
  • الشركة العربية لبناء وإصلاح السفن              (1974)
  • الشركة العربية للاستثمارات البترولية             (1975)
  • الشركة العربية للخدمات البترولية                 (1977)
  • الشركة العربية للاستشارات الهندسية              (1980)
  • الشركة العربية للحفر وصيانة الآبار               (1980)
  • الشركة العربية لكيماويات المنظفات               (1981)
  • الشركة العربية لجس الآبار                        (1983)
  • الشركة العربية لخدمات الاستكشاف الجيوفزيائي   (1984)

وقد تم إنشاء هذه المشروعات العربية تحت مظلة منظمة أوابك، وكل منها بموجب اتفاقية دولية مستقلة أبرمت بين مجموعة الأقطار الأعضاء في المنظمة، دون أن تكون منظمة أوابك طرفاً مباشراً في أي من هذه الاتفاقيات.

إلا أنه في الواقع يوجد صلة مؤسسية واضحة بين هذه الشركات وبين المنظمة الأم بحيث يكون المجلس الوزاري للمنظمة ـ وهو السلطة العليا ـ هو الذي يرسم السياسات العامة لهذه الشركات ويوجه نشاطها ويضع القواعد التي تسير عليها.

وتجدر الإشارة إلى أن المجلس الوزاري للمنظمة يمارس اختصاصاته الإشرافية بالنسبة لكل شركة من الشركات المذكورة على أساس تكوينه الذي يقتصر على ممثلي الدول الأعضاء المساهمة في كل شركة.

أما المجموعة الثالثة، فقد قامت بعثة مشتركة من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي وبرنامج الأمم المتحدة للإنماء بعمل دراسات ميدانية بهدف استكشاف وإعداد قائمة حصرية بالمشروعات العربية المشتركة القابلة للتنفيذ. وقد أنهت البعثة أعمالها في مايو 1978 لتنتقي من بين 300 مشروع مائة مشروع مرشحة لإعداد دراسات الجدوى والتنفيذ في المستقبل في خمسة قطاعات رئيسية هي:

القطاع الصناعي ـ البنية التحتية ـ الموارد الطبيعية (بما في ذلك الزراعة) ـ الموارد البشرية ـ الخدمات.

وفي ظل الازدهار النفطي في السبعينات، تكاثر عدد المشروعات العربية المشتركة، وامتد توزيعها على خريطة الوطن العربي كله، وتنوعت من حيث الأطراف المشاركة فيها ما بين ثنائية وجماعية ومتعددة، وشملت جميع القطاعات الاقتصادية ابتداء من القطاع المالي والمصرفي وانتهاءً بقطاع الصناعات التحويلية والتعدين والزراعة.

وبتحليل نسب إسهام البلدان العربية المختلفة في رؤوس أموال المشروعات العربية المشتركة حتى نهاية 1979، يلاحظ أن البلدان النفطية تحظى بالترتيب التالي:

  • السعودية وتحتل المرتبة الأولى إذ بلغ نصيبها في رأس مال هذه المشروعات      17.14 %
  • الكويت بلغ نصيبها النسبي                                                        13.64 %
  • الإمارات العربية المتحدة بلغ نصيبها النسبي                                      13.15 %
  • العراق حيث بلغ نصيبها النسبي                                                  12.55 %
  • مصر حيث بلغ نصيبها النسبي                                                   10.33 %
  • الجماهيرية الليبية                                                                10.31 %
  • قطر                                                                            8.13 %
  • الجزائر                                                                        2.77 %

تقييم دور المشروعات العربية المشتركة

يتنازع الوطن العربي اتجاهان متناقضان في شأن تقييم دور المشروعات العربية المشتركة:

الأول: تكوين مشروعات عربية مشتركة تهدف أساساً إلى التكامل الاقتصادي العربي. وهذا النوع الأول من المشروعات يساعد على تدعيم مقومات الاستقلال الاقتصادي، ويدفع باتجاه التكامل الاقتصادي العربي.

الاتجاه الثاني: تكوين مشروعات دولية مشتركة تهدف أساساً إلى تكامل الاقتصاد العربي قُطرياً مع الاقتصاد الدولي. وهذا النوع الثاني يزيد من عناصر التبعية والتجزئة في الواقع العربي، وبالتالي يدفع في طريق مزيد من التكامل مع السوق الدولية.

وقد ثار جدل عنيف بين الاقتصاديين العرب حول المفاضلة بين النوعين، في ضوء ضرورة تطوير التكنولوجيا العربية من خلال المشروعات العربية المشتركة أو من خلال المشروعات العربية الدولية المشتركة باعتبارها من الشركات متعددة الجنسية.

وقد وافق المجلس الاقتصادي والاجتماعي للجامعة العربية في دورة انعقاده الرابعة والثلاثين (تونس 22 ـ 24 فبراير 1983) على أن:

“يتسع مفهوم المشروع العربي المشترك ليشمل المشروعات القطرية التي تستهدف تلبية حاجات قومية، أو قطرية في إطار قومي، وتؤدي إلى تدفقات سلعية أو خدمية أو ترابطات فيما بين الأقطار العربية.

وبتفصيل أكثر، فإن المشروعات العربية المشتركة هي تلك المشروعات المقامة وفقاً للقوانين سارية المفعول في الدول العربية، أو في إطار الاتفاقيات العربية، والتي تشترك في إقامتها أطراف عربية في دولتين عربيتين أو أكثر، سواء كانت هذه الأطراف مؤسسات قطاع عام أو مختلط أو خاص، والتي تستهدف القيام بنشاط إنتاجي أو تجاري أو مالي أو خدمي أو غيره، من شأنه أن يحقق منافع اقتصادية لأقطار عربية، ويعزز التلاحم بين اقتصاديات هذه الأقطار، ويزيد من متانة الروابط والعلاقات الاقتصادية والتبادل فيما بينها”.

وبذلك يتسع مفهوم المشروع المشترك من الناحية النظرية ليشمل كل صور المشاركات التي تقام على أساس المشاركة برأسمال Equity Joint Ventures والتي تقام على أساس المشاركة التعاقدية Contractual لتثبيت علاقات تعاونية مع الأطراف المعنية بقصد تحقيق أهداف اقتصادية.

ويقول الدكتور محمود عبد الفضيل إنه على الرغم من تقديرنا للمجهودات التي بذلت والمساهمات التي قدِّمت لتمويل وإنشاء المشروعات العربية المشتركة التي تأسست حتى الآن، فإنه لا بد لنا من أن نضم صوتنا إلى هؤلاء الذين يحذِّرون بأن صيغة المشروعات العربية المشتركة يجب ألاَّ يُنظر إليها كبديل لعمليات التكامل الاقتصادي الشاملة. أي انه في غياب تصور شامل لعمليات التنمية العربية، يُخشى أن تصبح هذه المشروعات العربية المشتركة غاية في حد ذاتها، وليست وسيلة لغاية أبعد هدفاً وأكثر طموحًا.

ولذا فإن غياب استراتيجية واضحة المعالم تحدد الأسس التي يسير على هديها برنامج العمل الاقتصادي المشترك على مدى زمني طويل نسبياً يجعل المشروعات المشتركة مجرد أدوات للتعاون، دون أن تكون وسيلة لتحقيق أي نوع من التكامل الاقتصادي.

  1. إعادة تدوير الأصول الخارجية داخل الوطن العربي

تمثل فكرة إعادة تدوير جزء مهم من الأصول البترودولارية العربية في الخارج إلى المنطقة العربية مطلباً مطروحاً من واقع تواضع حجم الفوائض المالية النفطية المستثمرة في الدول العربية المستوردة لرأس المال، وحاجة الاقتصاديات العربية في دول الفائض والعجز معاً، إلى مساهمة تلك الأصول المالية بدور في تحقيق التنمية الاقتصادية.

ومن جانب آخر، فإن الانشغال بإعادة تدوير الأصول المالية العربية في المنطقة العربية يفرضه الحرص على تلك الأصول وعائدها أمام مخاطر تقلبات أسعار الصرف العالمية خاصة الدولار، وأسعار الفائدة ومعدلات التضخم في الدول الصناعية المتقدمة، إضافة إلى المخاطر السياسية التي تحيط بتلك الأصول متمثلة في احتمالات التجميد أوالمصادرة.

وجاءت حرب الكويت، لتطرح مسالة توزيع الثروة النفطية العربية، من جهة أن الثروة النفطية قد أدت إلى انقسام الوطن العربي بين “دول فائض نفطي” و”دول عجز”. وانتهى ذلك الانقسام بتهديد أمن الدولة النفطية، بل وتهديد وجودها أصلاً. وبالتالي فإن تدوير الفوائض النفطية في دول العجز العربية يمكن أن يساهم في صيانة أمن الدول النفطية، عوضاً عن ابتزازها أو تهديدها.

  1. ضعف الأسواق المالية العربية

على الرغم مما ذكرنا عن التدفقات المالية من الحكومات العربية النفطية ومؤسسات التمويل العربية، فإنه خلال ثلاثين عاماً، ومنذ بداية تدفق المساعدات الإنمائية من دول الفائض النفطي إلى دول العجز، لم يتجاوز نصيب الدول الأخيرة من الفوائض المالية النفطية 60 مليار دولار (منح وقروض واستثمارات مباشرة)، بنسبة تقل عن 10% من الأصول البترودولارية العربية في الخارج، الأمر الذي أدى إلى لجوء دول العجز إلى الاقتراض من الخارج لتمويل احتياجات التنمية.

ويرجع ذلك إلى ضعف الأسواق المالية العربية، سواء من حيث حرية انتقال رؤوس الأموال عموماً، الخاصة منها والعامة، أو من حيث وجود وسائل السوق المتعارف عليها كالأوراق المالية على اختلافها، أو من حيث تكامل أسواق الفائدة فيها، مما يتطلبه وجود سوق نقدية ومالية متطورة ومنتظمة ومتكاملة على النمط الغربي المعروف. لذا يبقى تعاون الحكومات العربية فيما بينها من جهة، وتعاون البنوك التجارية العربية فيما بينها من جهة أخرى، وسيلتان لتيسير حركة الفوائض البترودولارية العربية على النحو اليسير الذي أشرنا إليه، أما إنشاء سوق نقدية ومالية عربية حسب النموذج الغربي لجذب هذه الفوائض، فإنه أمر صعب في ظل الظروف السائدة حالياً في دول الوطن العربي على اختلافها، وذلك بسبب المِلْكية الحكومية للفوائض المالية واتجاه بعضها نحو أنظمة اقتصادية موجهة مركزياً، في حين يبقى بعضها الآخر متجهاً نحو اقتصاديات حرة نسبياً، مما ينفي توفر الشروط الموضوعية لإقامة سوق نقدية ومالية عربية شبيهة نوعاً ما. بما يتوفر في الاقتصاديات الغربية عموماً.

هذا إضافة إلى أن الجهاز المصرفي، سواء المركزي منه أو التجاري، لم يؤد دوراً فعالاً في تداول الفوائض المالية العربية. وأي نشاط واضح في هذا الخصوص تقوم به حكومات الدول العربية ومؤسسات التمويل العربية كما ذكرنا من قبل.

وعلى الرغم من أن عدداً كبيراً من الدول العربية المستوردة لرأس المال، قد بذلت ولا تزال مجهودات كبيرة لتحسين مناخ الاستثمار فيها. وتضمنت قوانين الاستثمار في تلك الدول منح مزايا وإعفاءات ضريبية وجمركية للاستثمارات الوافدة وتبسيط إجراءات الاستثمار، وتحويل أرباح الاستثمارات إلى الخارج.

وعلى الرغم من أن هذه الدول العربية قد وفرت إطاراً قانونياً لتسهيل انتقال رؤوس الأموال العربية وتوظيفها داخل الدول العربية. وقد تمثَّل ذلك بصفة أساسية في اتفاقية المؤسسة العربية لضمان الاستثمار، التي حصّنت رؤوس الأموال العربية المستثمرة في الدول العربية من المخاطر  غير التجارية، ويتمثل ذلك أيضاً في الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية التي حصنت انتقال رؤوس الأموال العربية داخل الدول العربية بنظام قضائي خاص، بحيث تتم تسوية المنازعات الناشئة عن الاتفاقية عن طريق التوفيق أو التحكيم أو اللجوء لمحكمة الاستثمار العربية التي تشكلت لهذا الغرض.

وعلى الرغم من كل ذلك أيضاً كانت الاستثمارات الوافدة من دول الفائض إلى دول العجز قليلة غير مناسبة.

وموضع الداء الأصلي، هو بلا شك، التفكك السياسي والاقتصادي العربي، وضعف الثقة المتبادلة بين الأقطار العربية التي يمكن ـ إذا توفرت ـ أن تؤدي إلى تعاون اقتصادي ومالي فعّال.

رابعاً: أزمة الخليج ومستقبل فوائض البترودولار العربية

  1. الحرب من أجل النفط

حرب الخليج، التي بدأت فعلاً بغزو العراق للكويت في 2 أغسطس 1990، نشبت بسبب النفط ـ وحده ـ بآباره وأسعاره وأمواله. وتواصلت الحرب بهجوم التحالف الغربي على العراق وقواته الغازية، وتدمير آلته العسكرية والاقتصادية.

ومن قبل كان النفط ـ وحده ـ سبباً للمساندة الأمريكية لأبن سعود ضد حسين عام 1932.

وبعد أكثر من ثلاثين سنة من اكتشافه، كان النفط ـ وحده ـ سبباً للتدخل الأمريكي لإقصاء الدكتور مصدق في إيران عام 1953، لأنه حاول تأميم شركات النفط. كما كان النفط ـ إلى جانب إسرائيل ـ من أسباب تدخل أمريكا عام 1967، لإسقاط عبدالناصر. وفي حرب 1973 كان النفط أحد أسلحتها وحاكماً بعدها. وأثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980 ـ 1988) لم يكن النفط غائباً، حيث استدعى قصف الناقلات النفطية الحماية الأمريكية بوضع هذه الناقلات تحت العلم الأمريكي.

وما كان حاكم البعث العراقي، عندما قرر غزو الكويت، يجهل تلك الحقائق التاريخية الشائعة، إلاّ أن آبار النفط وأسعاره وأمواله، هذه المرة كانت أكثر خطورة من أي وقت مضى، خاصة بالنسبة للقرن القادم.

وقد كشف الرئيس الأمريكي “بوش” في خطاب له يوم 12 سبتمبر 1990 عن ذلك بقوله:

“إن العراق يسيطر على 10% من احتياطي النفط العالمي، ويسيطر مع الكويت على ضعف هذه النسبة. وإذا سُمح للعراق بابتلاع الكويت، ستكون له القوة الاقتصادية والعسكرية والغطرسة لتهديد جيرانه الذين يسيطرون على نصيب الأسد من النفط العالمي. ولا نستطيع ولن نسمح لشخص (…) بالسيطرة على مورد حيوي كهذا.

وما لم يوضحه بوش، أورده ـ من قبل ـ تقرير الأمين العام لمنظمة الأقطار العربية المصدِّرة للبترول “أوابك” عام 1989، مؤكداً حقيقتين أساسيتين:

الحقيقة الأولى

إن احتياطيات دول الخليج النفطية تفوق نسبة 60% من الاحتياطيات العالمية، حيث قُدِّرت قيمتها بأكثر من 600 مليار برميل:

بلغت احتياطيات السعودية                  255 مليار برميل.

                   والعراق                   100 مليار برميل.

                   والإمارات                 98  مليار برميل.

                   والكويت                  95 مليار برميل.

وبالمقارنة، كان أكبر احتياطي نفطي خارج منطقة الخليج وهو الاحتياطي السوفيتي، لا يتجاوز 60 مليار برميل، والاحتياطي المكسيكي لا يزيد عن 50 مليار برميل. في حين انخفض احتياطي الولايات المتحدة إلى أقل من 26 مليار برميل، وقدِّر احتياطي بحر الشمال بحوالي 17 مليار برميل، واحتياطي كندا بحوالي 6 مليارات برميل.

الحقيقة الثانية

إن البشرية لم تفشل فقط في العثور على مكامن عملاقة، بل فشلت أيضاً في التوصل إلى بدائل مناسبة، ذات تكلفة منخفضة عن النفط، بل إن بعض هذه البدائل مكلِّف وخطر جداً على الإنسان والبيئة.

هاتان الحقيقتان تؤكدان أن الدول الصناعية المستهلكة للنفط، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، أصبحت أمام مأزق حقيقي.

وبحساب أرقام تقييم احتياطيات النفط، وعلى أساس معدلات الإنتاج اليومية، فإن مخزون النفط في الولايات المتحدة ـ الذي يمثل نسبة 4.6% فقط من الاحتياطي العالمي ـ قد ينفد خلال 9 سنوات.

وفي حالة دول الاتحاد السوفيتي السابق ـ يصل نحو 21.9% من الاحتياطي العالمي ـ يكفي المخزون لمدة 13 سنة فقط.

بينما احتياطي النفط في أوروبا الغربية ـ الذي يُقدّر بـ 2.6% من الاحتياطي العالمي ـ يُعد متواضعاً جداً قياساً لحاجاتها وازدياد استهلاكها السنوي. أما اليابان فإنها دولة مستوردة للنفط كلية.

وعلى الرغم من أهمية نفط المكسيك وفنزويلا للولايات المتحدة والغرب، فإن مخزون أمريكا اللاتينية لا يتعدى 13% من الاحتياطي العالمي. كما أن التوسع الصناعي في دول أمريكا اللاتينية كالبرازيل والأرجنتين وشيلي، يزيد حاجتها إلى النفط في المستقبل المنظور.

أما مخزون دول الخليج، الذي يمثل ثلاثة أضعاف مخزون أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية. فإنه يتميز بأهمية كبرى سواء من ناحية الحجم أو العمر.

  النسبة المدة
مخزون النفط في  السعودية 23.7 % من الاحتياطي العالمي يكفي لما يزيد عن 140 سنة
مخزون النفط في الكويت 13.1 % يكفي لنحو 168 سنة
مخزون النفط في العراق 6.7 % يكفي لما يزيد عن 96 سنة
مخزون النفط في الإمارات 6.6 % يكفي لنحو 145 سنة
مخزون النفط في إيران 6.9 % يكفي لنحو 86 سنة

هذا إضافة إلى مخزون قطر وعمان والمنطقة المحايدة بين السعودية والكويت والاكتشافات المحتملة.

مؤدى ذلك، أن مخزون النفط في الغرب ودول الكومنولث الروسي معرَّض للنفاد بين 10 ـ 15 سنة، بينما تصبح الدول الخليجية (دول مجلس التعاون الخليجي والعراق وإيران) المصدر الأكبر لإنتاج النفط بعد تلك المدة، والمصدر الوحيد في الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين.

ويزيد من مأزق الدول الغربية، الفشل في التوصل إلى مصادر بديلة عن النفط أمام رخص مادة النفط من ناحية، وسهولة الحصول على هذه المادة من ناحية أخرى. فالطاقة النووية، إضافة إلى أنها مُكلِّفة، فإن خطورتها الكبيرة على الإنسان والبيئة، تمنع الاعتماد عليها. أما مصادر الطاقة الأخرى كالماء والشمس، فإن أجهزة استخدامها مازالت في طور الإنتاج. وتتطلب إعادة هيكلة الاقتصاد والآلة الصناعية في الغرب.

وأمام هذا المأزق، لم يكن في وسع الولايات المتحدة والدول الغربية عموماً سوى خيارين:

إما الهيمنة المباشرة على مواقع النفط في الخليج وبالتالي التحكم في إمداداته وأسعاره. وإما التحكم في تطورات المنطقة بكل احتمالاتها، في إمدادات وأسعار النفط، وبالتالي تهديد الاقتصاديات الغربية، ومن الطبيعي، كان الانحياز للخيار الأول، وانتظار الفرصة المواتية لفرضه.

Splithere

كيف استغل العراق النفط لتبرير عدوانه على الكويت

على الجانب الأخر، كان النفط بآباره وأسعاره وأمواله، وراء المغامرة العراقية بغزو الكويت. فالعراق الذي خرج من حربه مع إيران، مثقلاً بديون تصل إلى 80 مليار دولار، ولّى وجهه إلى الشاطئ العربي للخليج للسيطرة عليه، وإلى الكويت لحل مشاكله الاقتصادية، بحرب أخرى تجعل له اليد الطولى في المنطقة.

وأغلب الظن أن فكرة غزو الكويت لا بد أنها اختمرت في ذهن صدام حسين عقب انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية عام 1988، أو قبل ذلك بقليل.

والدليل على ذلك أن صدام حسين أخذ يعد العدة توطئة لغزو الكويت من الناحية السياسية ومن الناحية الإعلامية:

كان صدام حسين وراء فكرة إنشاء مجلس التعاون العربي في بداية عام 1989 قبل أشهر قليلة من غزو الكويت، بمبادرة منه ليضم أربع دول تحيط بمنطقة الخليج العربي المستهدفة. وكان يأمل أن يتحول هذا التجمع إلى تحالف عسكري يضم قوات مسلحة مشتركة لولا أن مصر استطاعت عرقلة هذا الجزء من الخطة رغم اشتراكها في هذا المجلس باعتبار أنه مجلس للتعاون الاقتصادي فحسب.

كذلك طلب العراق وبإلحاح توقيع اتفاقية عدم اعتداء مع المملكة العربية السعودية على أمل عدم إثارة مخاوفها، ثم محاولة تقييد تحركها العسكري في مواجهة الغزو. وقد نجح في إبرام اتفاقية بين العراق والسعودية لكنه لم ينجح في مرحلته التالية.

افتعل صدام مشكلات  عديدة معظمها إعلامي دعائي مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول غرب أوربا. وكان يهدف من ورائها إثارة الرأي العام العربي واستنفاره مستخدماً الأوتار الفلسطينية ومظاهر العداء الإسرائيلي.

آثار النعرات والحساسيات ضد دول الخليج العربي، متحدثاً عن حقوق يمنية في الجزيرة العربية، وحقوق هاشمية في المملكة العربية السعودية، وحقوق لمصر في ثروات الدول النفطية بدعوى أنه دين يستحق للمصريين في أزمتهم الاقتصادية.

انتهز فرصة قبول إيران قرار مجلس الأمن بشأن الحرب الإيرانية العراقية، وكثَّف عمليات دعم قواته واقتصادياته وزيادة المخزون العراقي من الموارد الطبيعية والتموينية وقطع الغيار.

ضاعف إنتاج الأسلحة الكيميائية والبيولوجية مع تطوير صناعة الصواريخ التي تحمل رؤوساً تدخل ضمن أسلحة الدمار الشامل.

قام بحملات إعلامية واسعة وأقبل بسخاء على دعوة كبار الصحفيين ورجال الإعلام العربي ومنحهم هدايا وهبات من ضمنها سيارات الركوب.

أجرى اتصالات دبلوماسية مع دول الاستهلاك الكبير لبترول الخليج وهي اليابان وألمانيا ودول غرب أوربا مؤكداً لها أن نشوب أي نزاع في الشرق الأوسط لن يؤثر على ضمان استمرار تدفق البترول إليها بكميات وفيرة وبالأسعار المعتادة.

حاول أن يحصل على ضوء أخضر من الإدارة الأمريكية في اتصال مباشر مع السفيرة الأمريكية في بغداد، حيث قالت السفيرة آبريل جلاسبي في لقائها الشهير مع الرئيس العراقي:

“سيادة الرئيس، ليس لنا رأي حول الخلافات العربية، كخلافكم على الحدود مع الكويت”.

كانت هذه آخر مراحل العمل السياسي، الذي انتقل بعده إلى العمل العسكري، حيث حشد قوات مدرعة عراقية في القطاعات الجنوبية من العراق، ودفع أمامها بوحدات من المشاة الميكانيكية.

أقام تجهيزات هندسية عديدة تمتد من مطار جليبة في الغرب وحتى قاعدة الرميلة والبصرة والزبير، ليعد بذلك المسرح لعملياته العسكرية القادمة.

بعد ذلك قام بدفع قوات الفيلق الثامن ـ وهو ما يعرف باسم الحرس الجمهوري ـ إلى جنوب العراق وثم توزيع وحداته على جليبة والزبير وجنوب البصرة. وأعلن أن ذلك يتم ضمن خطة لتنشيط قوات الجيش بعد خروجها من معركة طويلة ضد إيران.

تم إجراء عملية تدريبية خاصة على أعمال احتلال المدن وتأمينها. وقد تم إجراء هذه العملية داخل مدينة البصرة حيث قامت بها قوات الفرقة المدرعة 23.

بهذا أصبح كل شيء مهيئاً لاجتياح الكويت عسكرياً والاستيلاء عليها لضمها إلى العراق طبقاً للسيناريو الذي جرى فعلاً على الواقع بعد ذلك. وكان يتطلب تحركاً إعلامياً وسياسياً لاستكمال الشكل فقط.

وقد عبَّر الرئيس العراقي عن نواياه صراحة، في خطاب له في عمان يوم 24 فبراير 1990. فبعد أن استنتج أن تراجع قوة ونفوذ الاتحاد السوفيتي سيؤدي إلى أن تتمتع الولايات المتحدة بحِّرية مناورة واسعة في منطقة الشرق الأوسط، حذّر العرب من أن الولايات المتحدة ستتحكم في منطقة الخليج وستحدد أسعار النفط حسب مصالحها، وقال:

“إن الدول التي تستحوذ على النفوذ الأكبر في المنطقة، عبر الخليج العربي وما يملك من نفط، ستكون لها اليد الطولى بغير منافس”.

بدأ الرئيس العراقي الحرب في مؤتمر القمة العربية (يونيه 1990) في بغداد، على جبهة النفط. ففي جلسة مغلقة، وأمام الزعماء العرب، قال صدام حسين “إن الحرب تحصل أحياناً بالجنود، ويحصل الإيذاء بالتفجيرات وبالقتل وبمحاولات الانقلاب، وأحياناً أخرى بالاقتصاد”.

وكان الرئيس العراقي يقصد بالحرب الاقتصادية، خفض أسعار النفط من خلال عدم التزام بعض الدول العربية بحصص منظمة أوبك.

وقال: “إن كل انخفاض في البرميل الواحد بقدر دولار واحد، وحسب ما قيل لي، فإن خسارة العراق تبلغ مليار دولار في السنة.

وبعد إعلان الحرب في قمة بغداد، قام العراق بتحديد أطرافها باتهام حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة مع حكومة الكويت بإغراق سوق النفط العالمية، بإنتاج ما يزيد عن حصتيهما المقررتين بواسطة منظمة أوبك، وكان ذلك في شهر يونيه 1990.

وتلبية للمساعي السعودية، اجتمع وزراء نفط دول الخليج العربية الأعضاء في أوبك في مدينة جدة يوم 10 يوليه 1990. وانتهت الاجتماعات بموافقة الإمارات والكويت على خفض الإنتاج، إلاّ أن الرئيس العراقي، في خطابة بمناسبة أعياد الثورة في العراق يوم 17 يوليه أعاد اتهام الكويت والإمارات بإغراق سوق النفط و”تنفيذ مخطط لتدمير اقتصاد العراق”.

وفي اليوم التالي 18 يوليه 1990، صعَّد العراق هجومه السياسي على الكويت والإمارات، بإعلان مذكرة موقعة من وزير الخارجية العراقي في 15 يوليه إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية. وأوردت المذكرة “أن حكومتي الكويت والإمارات نفذتا عملية مدبرة لإغراق سوق النفط بمزيد من الإنتاج خارج حصتيهما المقررتين في أوبك … وقد أدت هذه السياسة المدبرة إلى تدهور أسعار النفط تدهوراً خطيراً … وأن السعر انخفض هذه السنة (أي 1990) عن 18 دولار بسبب سياستي حكومتي الكويت والإمارات، مما يعني خسارة العراق مليارات عدة من دخله لهذه السنة، في الوقت الذي يعاني فيه العراق ضائقة مالية”.

المؤتمر الوزاري العادي لمنظمة أوبك رقم 87 (يولية 1990)

وفي 26 و 27 يولية 1990 اجتمع المؤتمر الوزاري العادي لمنظمة أوبك في جنيف حيث توصل وزراء بترول أوبك إلى اتفاق جماعي تاريخي يقضي برفع سعر سلة خام القياس لبترول أوبك من 18 دولار للبرميل إلى 21 دولاراً للبرميل كحد أدنى، وتحديد سقف الإنتاج لدول أوبك للنصف الثاني من عام 1990 إلى نحو 22.49 مليون ب/ ي (شاملاً إنتاج المنطقة المقسومة)، وفقاً للحصص الموزعة على الأعضاء الموضحة فيما يلي:

(ألف ب/ ي)

الجزائر 827 إكوادور 273 الجابون 197 إندونيسيا 1374
إيران 3140 العراق 3140 الكويت 1500 ليبيا 1233
نيجيريا 1611 قطر 371 السعودية 5380 الإمارات 1500
فنزويلا 1945            
الإجمالي 22491            

وقد كلَّف المؤتمر لجنة الاستراتيجية التابعة لأوبك بتقييم ومراقبة الأسعار، ومتابعة تطورات الطلب على البترول.

كما شكل المؤتمر لجنة وزارية لمتابعة ومراقبة الإنتاج في الدول الأعضاء وتتألف من جميع الوزراء الأعضاء في أوبك.

وتنقسم اللجنة إلى لجنتين فرعيتين:

تضم اللجنة الأولى: وزراء بترول الإمارات والسعودية والعراق وأندونيسيا ونيجيريا والإكوادور والجزائر. وتقوم بمراقبة إنتاج الدول الآسيوية.

وتضم اللجنة الثانية: وزراء بترول الكويت وقطر وليبيا وإيران وفنزويلا والجابون، وتقوم بمراقبة إنتاج الأعضاء في أفريقيا وأمريكا اللاتينية.

على أن تقدم هاتان اللجنتان تقريراً في الأسبوع الأخير من كل شهر إلى اللجنة الوزارية لمراقبة السوق حول هذا الغرض.

وقد أكدت كل من الكويت والإمارات، أثناء الاجتماع الوزاري لأوبك (26 ـ 27 يوليه 199) إلتزامها التقيد بحصتها من إنتاج أوبك مراعاة واستجابة للمطالب العراقية.

كان من الواضح في هذا الاجتماع أن دول أوبك قد تخطت خلافاتها ووحدت كلمتها وحاولت إرضاء العراق بتكليف كافة الوزراء أعضاء أوبك بتكثيف المراقبة والالتزام بالحصص المقررة.

بيد أن الغزو العراقي للكويت في 2 أغسطس 1990، قد كشف عن أن المطالب العراقية كانت تتجاوز حد فرص الالتزام بالحصص الإنتاجية لمنع خفض أسعار النفط، وبما يعني فعلياً السيطرة على القرار النفطي في أوبك. فقد كان المطلب الأساسي الاستحواذ على “الغنيمة” الكويتية بنفطها وعائداتها واستثماراتها الخارجية لمنع انهيار العراق اقتصادياً.

وكما صرح سعدون حمادي، نائب الرئيس الوزراء العراقي وقتئذ، بعد الغزو بشهر واحد، أن ضم الكويت ـ التي اعتُبرت المحافظة العراقية التاسعة عشرة في 28 أغسطس 1990 ـ يقفز بالاحتياطي النفطي إلى 194.5 مليار برميل، مقابل الاحتياطي العراقي السابق والبالغ 100 مليار برميل فقط، ويصل بالحصة الإنتاجية إلى 4.6 مليون ب/ ي وذلك بإضافة حصة الكويت البالغة 1.5 مليون ب / ي.

وقدَّر المسؤول العراقي إيرادات العراق من النفط حسب الحصة السابقة وبسعر أدنى قدره 25 دولار للبرميل، بقيمة 38.3 مليار دولار سنوياً. أما في حالة زيادة الحصة الإنتاجية إلى 5.5 مليون ب/ ي، فإن الإيرادات النفطية تصل إلى أكثر من 50 مليار دولار سنوياً. بما يتيح للعراق سداد ديونه الخارجية في قترة تراوح بين عامين وأربعة أعوام. وكان تعيين حكومة مؤقتة، بعد الغزو وقبل الضم، بهدف وضع اليد على الأصول البترودولارية الكويتية في الخارج، بمنطق الغنيمة والاستلاب.

وهكذا كان النفط، بآباره وأسعاره وأمواله، وراء الغزو العراقي للكويت، ووراء التحالف الغربي ضد العراق بهدف تدمير آلياته العسكرية وبنيته الاقتصادية.

2. الأزمة الكويتية والعائدات البترودولارية

عندما قام الجيش العراقي بغزو الكويت في 2 أغسطس 1990، كانت الدول العربية النفطية، قد بدأت في التغلب على الانكماش الاقتصادي الذي أعقب انهيار أسعار النفط عام 1986. وتعززت الثقة في الانتعاش مستقبلاً نتيجة للمستجدات على الصعيد العالمي، خاصة انتهاء الحرب الباردة بين القوتين العظميين، والتحولات السياسية والاقتصادية التي شهدتها دول أوروبا الشرقية بنهاية عام 1989. فقد تلا تلك المستجدات والتحولات ارتفاع الطلب العالمي على النفط، بما يؤدي إلى زيادة حصة دول المنطقة من سوق النفط العالمي، خاصة مع تراجع معدلات إنتاج النفط في الاتحاد السوفيتي.

وكانت الدول العربية النفطية الأعضاء في أوبك (السعودية ـ الكويت ـ قطر ـ العراق ـ الإمارات ـ ليبيا ـ الجزائر) قد لجأت خلال عام 1989، إلى زيادة معدلات إنتاج النفط اليومي إلى مستويات لم تصل إليها منذ عام 1981. ورافق ذلك ارتفاع أسعار النفط بأكثر من 20%.

كان لارتفاع أسعار النفط وزيادة مستوى الإنتاج خلال عام 1989، الفضل في زيادة العائدات النفطية للدول العربية النفطية أعضاء أوبك، إضافة إلى عمان والبحرين، إلى 72 مليار دولار، بلغ نصيب دول مجلس التعاون الخليجي منها 48.5 مليار دولار، أي نسبة الثلثين تقريباً.

نتيجة لذلك، انخفضت نسبة العجز في الميزانية الحكومية إلى الناتج المحلي في الدول العربية النفطية عام 1989 مقارنة لعام 1988، إلاّ أن تقلص العجز على هذا النحو يعكس أيضاً تأقلم الدول العربية النفطية مع تراجع الفورة النفطية وتدهور العائدات النفطية منذ عام 1982. وكان هذا العجز يُسدد من الاحتياطي العام. وعلى سبيل المثال: اضطرت السعودية إلى سحب 44 مليار دولار من الاحتياطي العام، لتمويل عجز الميزانية الحكومية خلال السنوات 1984 ـ 1988.

قدَّرت الدول العربية النفطية ميزانياتها الحكومية لعام 1990، على أساس استمرار نمو أسعار النفط وزيادة حصصها الإنتاجية. غير أن إنتاج دول منظمة أوبك من النفط الخام خلال النصف الأول من عام 1990، قد زاد عن سقف الإنتاج الذي حددته المنظمة في مؤتمرها الوزاري في نوفمبر 1989 بحوالي 22.05 مليون برميل يومياً، حتى استقر معدل الإنتاج في شهر يونيه 1990 عند  23.43 مليون برميل يومياً بزيادة 1.37 مليون برميل يومياً عن السقف المحدد، الأمر الذي أدى إلى انخفاض أسعار النفط من 17.31 دولار للبرميل عام 1989، إلى 16.7 دولار خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 1990. وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية للنزاع العراقي ـ الكويتي خلال شهري يونيه ويوليه 1990 وكان أيضاً الخلفية السياسية للغزو العسكري في أغسطس 1990، الذي أحدث تقلبات واسعة في سوق النفط.

فماذا حدث لسعر النفط؟

ارتفع إلى 19 دولاراً للبرميل بعد غزو الكويت، ثم قفز إلى حوالي 40 دولاراً للبرميل في أكتوبر 1990، لاشتداد التوتر بين العراق والولايات المتحدة، والمخاوف من حدوث عجز شديد في إمدادات النفط، إلاّ أن سعر النفط أخذ منحنى هبوطياً بعد هجوم التحالف الغربي على العراق في 17 يناير 1991، لينخفض سعر البرميل إلى 19 دولاراً للبرميل.

وماذا حدث للإنتاج في ظل هذه الحرب؟

انخفض إنتاج الكويت من النفط إلى 50 ألف برميل يومياً.

وانخفض إنتاج العراق من النفط إلى 300 ألف برميل (للاستهلاك المحلي).

ولكن زادت المملكة العربية .لسعودية إنتاجها إلى 8.5 مليون برميل يومياً.

وزادت الإمارات إنتاجها إلى 2.4 مليون برميل يومياً.

وزادت قطر وسلطنة عُمان وليبيا إنتاجها بنسب قليلة.

بذلك استطاعت المملكة العربية السعودية وحدها تعويض نحو مليون ونصف مليون برميل من النقص الذي نجم عن غياب صادرات النفط من الكويت والعراق، بين أغسطس 1990 ويناير 1991. كما استطاعت دولة الإمارات العربية المتحدة ضخ ما يزيد عن 500 ألف برميل يومياً. في المتوسط. إضافة إلى حصتها المقررة من أوبك. ومع ذلك فإن معدل إنتاج أوبك في يناير 1991 ظل دون المعدل الذي كان سائداً قبل أزمة الخليج.

وساهم ـ إلى جانب ذلك ـ في خفض أسعار النفط، قرار الوكالة الدولية للطاقة في 17 يناير 1991 (يوم هجوم التحالف الغربي على العراق) تطبيق برنامج الطوارئ لتزويد سوق النفط العالمية بـ  2.5 مليون برميل يومياً من النفط، إضافة إلى تأكيد استمرار إمدادات النفط، مع حسم الموقف العسكري لصالح التحالف الغربي.

وقد كان لارتفاع أسعار النفط في الفترة من أغسطس 1990 وحتى يناير 1991، مع الزيادة في إنتاجه. من جانب دول مجلس التعاون الخليجي، دورهما في تحقيق ارتفاع مرحلي ملحوظ في العائدات البترودولارية للدول العربية النفطية. إلا أن حرب الخليج التي هي في الأساس حرب نفطية، لم تغير المعطيات الأساسية لسوق النفط لصالح الدول المنتجة. بل إن عكس ذلك هو الصحيح، إذ أن المستفيد منها هو الولايات المتحدة والدول الغربية، بالسيطرة على النفط وأسعاره من أجل إنعاش الاقتصاديات الغربية.

3. الأزمة الكويتية والفوائض البترودولارية العربية

قدَّرت وزارة الدفاع الأمريكية في نهاية يوليه 1991، التكلفة الإجمالية لحرب الخليج بـ 61.1 مليار دولار. تكلفت الدول الخليجية منها 46.6 مليار دولار ـ على النحو التالي:

تكلفت السعودية 21.5 مليار دولار.

والكويت  19.7 مليار دولار.

والإمارات 5.4   مليار دولار.

بيد أن الالتزامات المالية التي رتبتها الأزمة على الدول الخليجية لا تقتصر على نفقات حرب الخليج. فأثناء أزمة الخليج، قامت السعودية بإقراض الاتحاد السوفيتي 4 مليارات دولار، وألغت الدول الخليجية الجزء الأكبر من قروضها لمصر (حوالي 7 مليارات من الدولارات).

وأثناء الأزمة أيضاً، زادت السعودية إنتاجها النفطي من حوالي 5.4 مليون برميل إلى 8.3 مليون برميل يومياً. وتحولت الإمارات أثناء الأزمة من سادس إلى ثالث أكبر منتج في أوبك. وتطلبت الزيادة في الطاقة الإنتاجية النفطية للدول الخليجية استثمارات بحد أدنى 10 مليارات دولار تزيد إلى 30 مليار دولار بنهاية عام 1995.

كما تطلبت الترتيبات الأمنية، وفقاً لوثيقة التعاون الأمني الاقتصادي (إعلان دمشق) بين دول مجلس التعاون الخليجي ومصر وسورية، إنشاء صندوق تنمية برأسمال ـ قُدِّر مبدئياً بـ  10 أو 15 مليار دولار ـ تموله الدول الخليجية.

ودفعت أزمة الخليج إلى تصاعد الإنفاق الدفاعي للدول الخليجية، وأهم مؤشراته الإعلان عن تعاقد السعودية على شراء أسلحة بقيمة 21 مليار دولار وارتفعت القيمة لكل الدول الخليجية إلى 30 مليار دولار.

أما بالنسبة للكويت، فإن تكاليف إعادة الإعمار قُدِّرت ـ عند الحد الأدنى ـ بحوالي 30 مليار دولار ـ بينما قدرت تكلفة إصلاح الآبار والمنشآت النفطية بحوالي 15 مليار دولار. إضافة إلى حوالي 8 مليارات دولار لتشغيل الجهاز الحكومي وتعويضات الموظفين.

وبذلك، تكون أزمة الخليج قد رتبت التزامات مالية على دول مجلس التعاون الخليجي تفوق 170 مليار دولار.

فهل تستطيع العائدات النفطية أن تفي بتلك الالتزامات؟

وفقاً لتقديرات الوكالة الدولية للطاقة، فإن إجمالي الطلب العالمي عام 1991، وصل إلى 53.4 مليون برميل يومياً، مثّل الإنتاج خارج الأوبك 28.6 مليون برميل يومياً. في حين ساهم إنتاج دول أوبك بحوالي 24.6 مليون برميل يومياً بزيادة 2.3 مليون برميل يومياً عن السقف الإنتاجي الذي حددته المنظمة.

ولذلك انخفض معدل سعر نفط دول أوبك من 22.38 دولار للبرميل في يناير 1991، إلى متوسط سنوي حوالي 17 دولاراً للبرميل.

وفي ظل وجود طاقة إنتاجية فائضة، فإن مستويات أسعار النفط في المستقبل المنظور لا تمكِّن الدول الخليجية من الوفاء بالتزاماتها المالية بسهولة.

لقد دفعت الالتزامات المالية المترتبة على أزمة الخليج ـ المملكة العربية السعودية إلى سحب  6.35 مليار دولار من الاحتياطيات الخارجية، وتسييل أصول خارجية بقيمة 4.5 مليار دولار واستدانة قروض مصرفية بحوالي 4.5 مليار دولار خلال عام 1990، كما اضطرت الكويت ـ لمواجهة الأعباء المالية لأزمة الخليج إلى استهلاك 40 مليار دولار من موجوداتها المالية السائلة ضمن استثماراتها في الخارج، وتوجهت إلى اقتراض 33 مليار دولار من سوق الاقتراض الدولية بضمان احتياطيها النفطي واستثماراتها في الخارج.

وانتهت الإمارات ـ أمام التزامات حرب الخليج والاستثمارات النفطية لزيادة طاقتها الإنتاجية، وخسائر بنك الاعتماد والتجارة الدولي (تمتلك 77.4% من أسهمه) ـ إلى استنفاد ما يزيد عن 15 مليار دولار من موجوداتها الخارجية التي تُقدر بحوالي 60 مليار دولار.

وبالجملة، فإن حرب الخليج قد استنفدت العائدات النفطية الإضافية لدول مجلس التعاون الخليجي الناتجة عن ارتفاع أسعار وإنتاج النفط عام 1990 (حوالي 16.2 مليار دولار). ومن ناحية ثانية استنفدت الحرب قسماً هاماً من الفوائض البترودولارية الخارجية لتلك الدول، لتنخفض إلى مستوى أدنى من مستواها في أوائل الثمانينات.

وأخيراً أسفرت حرب الخليج عن رهن الاحتياطيات النفطية، وما تبقى من الفوائض البترودولارية الخارجية للدول الخليجية، الأمر الذي يعني في النهاية فقدان سيادتها على النفط بآباره وأسعاره وأمواله.

وفي هذا الإطار يمكن فهم ما أشارت إليه صحيفة نيويورك تايمز في يوليه 1991 عن “مشروع للتعاون الوثيق بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية من أجل ضمان استقرار اقتصاديات البترول” حيث يتضمن المشروع، إعداد مستودعات بالأراضي الأمريكية لتخزين جزء من احتياطي النفط الخليجي بصفة عامة والسعودي بصفة خاصة، ليبقي بعيداً عن مخاطر المنطقة التي شهدت ثلاثة زلازل: حرب أكتوبر 1973، والحرب العراقية ـ الإيرانية 1980 ـ 1988، وحرب الخليج 1991.

ويكفل هذا المشروع للولايات المتحدة السحب من المخزون بالأسعار السائدة عام 1991 (20 دولار للبرميل)، لتحقيق التوازن بين الاستهلاك العالمي والإنتاج من النفط، وبما يحد من سيطرة منظمة أوبك.

ويوفر المشروع للدول الخليجية ضمان جزء من احتياطياتها النفطية، على الأراضي الأمريكية، بدلاً من تخزينه في ناقلات نفط عملاقة في المواني العالمية بما يحتاجه من نفقات تأمين وصيانة وحراسه، مع استمرار الإنتاج اليومي من النفط للدول الخليجية.

كما يُمكِّن المشروع الدول الخليجية من تسديد قيمة فواتير صفقات السلاح من الأرصدة النفطية المخزونة، دون المساس بالميزانيات السنوية.

وتعقيباً على هذا المشروع ـ الذي أشارت إليه صحيفة نيويورك تايمز ـ في هذا الوقت بالذات (يوليه 1991)، فإنه يدل على أن الولايات المتحدة الأمريكية قد انتهزت فرصة انتهاء حرب الخليج الثانية لطرح هذا المشروع.

وقد سبق الإشارة، في الصفحات السابقة تحت عنوان “الأزمة الكويتية والفوائض البترودولارية العربية” إلى الالتزامات المالية الضخمة التي فرضتها هذه الحرب على الدول الخليجية، وخاصة المملكة العربية السعودية والكويت، الأمر الذي استنفد قسماً هاماً من الفوائض البترودولارية الخارجية.

إن دعوة الولايات المتحدة الأمريكية للمملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج لتخزين جزء من احتياطياتها النفطية بمستودعات بالأراضي الأمريكية، من أجل ضمان استقرار اقتصاديات البترول، لا يكفي لتحقيق التوازن بين الدول المصدرة والدولة المستهلكة، التي تضمن إمدادات بترولية كافية ومستمرة تغطى احتياجاتها. ولكن الدول المصدرة لن تحصل على عائدات مستقرة تأخذ صفة التدرج، كما هو الحال في العلاقات التجارية الدولية، بل إن الوضع سوف يظل مائلاً لصالح الدولة المستهلكة، التي يعود إليها معظم عائدات الدول المصدرة مقابل تصدير السلع والخبرة التكنولوجية والأسلحة إلى تلك الدول.

فهل هذا هو المقصود بضمان استقرار اقتصاديات البترول؟

أم المقصود ضمان استمرار التبعية الاقتصادية؟

إن هذا المشروع لا يدخل في مجال التجارة الدولية الحرة. وقد يكون سبباً في إثارة الخلاف بين الدول المصدرة والدولة المستهلكة بشأن تكاليف التخزين.

فهل ستدفع الدولة المصدرة إيجاراً لمستودعات التخزين؟

أم ستدفع الدولة المستهلكة إيجاراً للمخزون النفطي؟

وكيف تسيطر الدولة المصدرة على بترولها القابع في أراضي دولة أجنبية؟

وقد يخضع للمصادرة أو التجميد شأنه في ذلك شأن الأرصدة المودعة في المصارف الأجنبية.

كذلك فإن هذا المشروع يؤدي إلى إضعاف قوة منظمة أوبك، وإلى إثارة الخلافات بين أعضائها، خاصة وأن سبع دول من الدول الخليجية أعضاء في المنظمة.

وأخيراً، يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية قد لجأت إلى ابتكار هذا المشروع بهدف رفع مستوى مخزونها النفطي الاستراتيجي لاستخدامه في حالة الطوارئ، حتى لا تعتمد على الواردات البترولية من ناحية، وللضغط على الأسعار بقصد انخفاضها من ناحية أخرى. وذلك تحقيقاً لهدف وكالة الطاقة الدولية، التي قامت عام 1974 بعد فورة ارتفاع أسعار النفط عقب حرب أكتوبر 1973، لمواجهة منظمة أوبك.

Splithere

خامساً: الاقتصاد السياسي لفوائض البترودولار العربية

          آثار فوائض البترودولار العربية في انتقال المشرق العربي من البداوة إلى الدولة الحديثة. كانت منطقة الخليج والجزيرة العربية تعتمد على اقتصاد الزراعة القائمة على الأمطار، ورعي الماشية، وصيد اللؤلؤ والأسماك على السواحل البحرية، والأعمال الحرفية التقليدية كالنسيج والفخار والأدوات المعدنية البسيطة.

          تدفق النفط لأول مرة في المنطقة، يوم أول يونيه 1932، من أول بئر حُفر في البحرين عند مدينة “العوالي” الحالية. ونص عقد الامتياز بين شركة “باكو” وشيخ البحرين عام 1932، على حق الشركة في استغلال النفط في جميع أراضي البحرين ومياهها الإقليمية.

          وفي عام 1935، وقعت الشركة الإنجليزية الفارسية، اتفاقية مع شيخ قطر عبدالله آل ثان، حصلت بموجبها على حقوق إنتاج وتسويق النفط والغاز الطبيعي في قطر لمدة 75 عاماً.

          وبعد ثلاثة أعوام، اكتُشف النفط السعودي في الظهران، وتضمن عقد الامتياز بين شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا وابن سعود الذي عُدل عام 1939، احتكار الشركة للتنقيب في مساحة 85 ألف ميل مربع لمدة 70 عاماً.

          وكان شيخ الكويت أحمد الجابر، قد وقَّع عام 1934 عقد امتياز مع شركة بترول الكويت (الأنجلو أمريكية)، شمل جميع أراضي الكويت ومدته 75 عاماً.

          وبدأ عصر العائد النفطي بالإتاوات التي حصل عليها شيوخ الخليج من الاحتكارات النفطية، مقابل امتيازات الاكتشاف والإنتاج.

          وفي ديسمبر عام 1950. عدّلت الاتفاقيات نصيب البلدان النفطية على أساس “مبدأ مناصفة الأرباح”. وبعد تأسيس منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) تزايد نصيب البلدان المصدرة للنفط من العائدات النفطية نتيجة لتعديل الاتفاقيات.

          ونجحت أوبك عقب مؤتمر طهران عام 1970، من خلال مفاوضاتها مع شركات النفط، في رفع سعر برميل النفط من 1.8 إلى 2.8 دولاراً. وبعد حرب أكتوبر 1973 (الصدمة النفطية الأولى) ارتفع سعر برميل النفط من 3.5 إلى 10.5 دولاراً. وعقب الصدمة النفطية الثانية (1979 ـ 1980) ارتفع سعر برميل النفط إلى 30 دولاراً عام 1980 وإلى 35.5 دولاراً عام 1981.

          ونتيجة لذلك، تضاعفت العائدات النفطية للدول العربية الأعضاء في أوبك إضافة إلى البحرين وسلطنة عُمان من 23.7 مليار دولار عام 1973 إلى 208.3 مليار دولار عام 1981.

          إن اعتبار العائدات النفطية “ريعاً نفطياً” يأتي من أن تلك العائدات هي إيجار تتقاضاه البلدان النفطية من تأجير أراضيها إلى الشركات النفطية، وهي بذلك ريع خارجي غير مكتسب، لم يتولد من العمليات الإنتاجية للاقتصاد الوطني. ومعنى ذلك، أن الأداء الاقتصادي في الدولة النفطية اعتمد على تحويل الثروة النفطية الناضبة كأصل عيني إلى أصول مالية. أي تحويل ثروة في باطن الأرض إلى ثروة نقدية ورقية.

          فالدولة النفطية بذلك لا تحصل على دخل وإنما تأكل ثروتها. فالدخل إيراد دائم متجدد يمكن الحصول عليه بشكل مستمر مع بقاء الثروة أو الطاقة الإنتاجية على ما هي عليه، ويمثل إضافة إلى موارد الفرد أو الدولة. ولكن الدول النفطية تكسب موارد نقدية ورقية، وتخسر في الوقت نفسه مورداً طبيعياً.

          وبتضاعف العائدات النفطية، مع تضاعف استخراج وتصدير الثروة النفطية، تراكمت فوائض بترودولارية قابلة للاستثمار، تم توجيهها إلى أسواق المال في الدول الصناعية المتقدمة، بهدف الانتقال من الاعتماد على “العائد النفطي” إلى “العائد المالي” مع اقتراب أجل نضوب النفط.

          وخلال الفترة من 1973 إلى 1990، بلغت التدفقات التراكمية للفوائض البيترودولارية العربية المستثمرة في الخارج، حوالي 600 مليار توجهت الحصة الأكبر منها إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية وبقية الدول الصناعية الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وتحول جزء منها في السنوات الأخيرة إلى أسواق الدول المصنعة حديثاً في الشرق الأقصى. وتركزت تلك الأصول نوعياً في الموجودات السائلة وشبة السائلة مثل ودائع الدولار واليورودولار والذهب والأوراق المالية الحكومية مثل سندات الخزانة الأمريكية والأسهم.

          كما نشطت البنوك العربية الخارجية في لندن وباريس ولكسمبرج ونيويورك والبحرين في الإقراض المصرفي لمختلف دول العالم. مثلما نشطت الحكومات في الدول العربية النفطية في إقراض صندوق النقد والبنك الدوليين.

          وهكذا أُعيد تدوير الفوائض البترودولارية إلى الخارج بهدف توليد عائدات مالية لتغطية تناقص العائدات النفطية مع اقتراب نضوب النفط. ومؤدى ذلك، أنه بدلاً من تدوير العائدات النفطية محلياً في تنويع مصادر الناتج القومي تحسباً لمرحلة ما بعد النفط، كان توجيه هذه العائدات لتوليد عائدات مالية في الخارج منفصلة عن العملية الإنتاجية في الداخل.

          وقد ارتبطت فكرة الحصول على العائد المالي دون بذل أي جهد بظاهرة المضاربة وبذلك عرفت دول الخليج النفطية مراكز متميزة للمضاربة وخاصة في مجال المضاربات العقارية ثم المضاربات المالية في أسواق الأسهم لتحقيق المكاسب نتيجة لبعض الظروف الخاصة القائمة أو المفتعلة.

          وعلى صعيد العلاقات العربية ـ العربية، فإن الفوائض البترودولارية المتوافرة للدولة النفطية العربية تدفعها إلى اتجاه استبعاد التكامل الاقتصادي وصولاً إلى التكامل الإقليمي سياسياً. فالأولوية بالنسبة لها، أن تتمكن من استثمار فائض أموالها في أي مكان من العالم. ولا يمنع ذلك من توجيه قدر متواضع من تلك الفوائض إلى دول العجز العربية لأغراض سياسية:

أولها: التأثير على النُظم القومية والتقدمية (مثلما حدث مع مصر وسورية).

وثانيها: إعاقة التكامل السياسي (مثلما حدث مع اليمن الشمالي حتى لا يتوحد مع اليمن الجنوبي، ومع تونس لإبعادها عن الوحدة مع ليبيا).

وثالثها: دعم النُظم المحافظة في الدول العربية مثل المغرب والأردن.

          وإذا توجهت الفوائض العربية لأغراض اقتصادية في الوطن العربي، تركزت في الأنشطة المالية والخدمية دون إضافة حقيقية للطاقات الإنتاجية.

          وإن كانت دول الفائض العربية تحتاج للعمالة من دول العجز العربية، فإنها لا تفضل تنظيم انتقالها وتمنع إدماجها حقوقياً في مجتمع الدولة النفطية.

          وعلى الرغم من أن دول الفائض العربية تستبعد التكامل الاقتصادي أو السياسي العربي، فإنها تطلب التكامل الأمني من أجل تحقيق الاستقرار، دون أن يغني ذلك عن الاستنجاد بالقوى الخارجية، وتصاعد الإنفاق على مشتريات السلاح. ومع ذلك، فإن الدول العربية غير النفطية تدرك أنها تشارك الدول النفطية في الانتماء إلى كيان ثقافي واحد هو “الأمة العربية” إلاّ أنها لا تشاركها الثروة النفطية. وتسعى دول العجز العربية الآن لمسايرة هذا الوضع من خلال نمط للعلاقات يتضمن تهيئة الفرص لتدفق الفوائض إليها من الدول العربية النفطية إضافة إلى تسهيل تصدير منتجاتها وانتقال العمالة إلى الدول النفطية. ولعل المشاعر العربية والروابط التاريخية ووحدة اللغة والعقيدة والمشاركة الأمنية تكون مدعاة إلى تقارب وثيق يسفر عن إنشاء السوق العربية المشتركة تدعيماً لاقتصاد الوطن العربي بأسره.

          إن معضلة استمرار محدودية القاعدة الإنتاجية في الدول النفطية العربية وتواضع دور الفوائض النفطية في تحقيق التكامل الاقتصادي العربي ترتبط باستمرار عملية تحويل الثروة النفطية إلى عائدات نفطية ثم إلى عائدات مالية. فهل يستمر تحويل الثروة النفطية إلى أصول مالية خارجية بدلاً من تدويرها لتنويع مصادر الناتج المحلي، وتنمية القاعدة الإنتاجية عربياً، حتى آخر برميل من النفط؟

          الإجابة على هذا السؤال تخلص في أنه إذا استمر هذا الحال على ما هو عليه، فإن وصول الدولة العربية النفطية إلى آخر برميل من النفط يمكن أن يحدث بعد ثلاثة أجيال (حوالي 75 سنة) من الآن. وعندئذ تغلق الدولة أبوابها وتتوالى الهجرة من البلاد، فإن أكثرية المواطنين والمؤسسات الخاصة قد تمكنت من تهريب رؤوس أموالها إلى الخارج. وكما يقول جياكومو لوشياني: “قد تتحول عواصم النفط الحالية إلى مدن مهجورة مما يُعرف باسم مدن الأشباح … وعندئذ لن تواجه خطراً أمنياً لأنها لن يطمع فيها أحد، ولن يشغل بالها أمر الدفاع عن نفسها …”.

          ولا يمكن تعميم هذا القول على كافة الدول الخليجية، بل يُستثنى من ذلك السعودية والعراق. حيث يوجد فيهما مقومات الدولة الحديثة وقواعد اقتصادية من زراعية وصناعية دائمة. وتتميز السعودية بوجود الأماكن المقدسة فهي بذلك دولة تجذب إليها ملايين الوافدين من المسلمين لأداء الشعائر الدينية، وهي ليست دولة يهاجر مواطنوها إلى الأبد. ويُعتقد أن ما يقوله جياكومو لوشياني يتسم بالتحذير المبالغ فيه حتى يثير اهتمام الحكومات العربية النفطية تجاه إنشاء قواعد صناعية وزراعية منتجه، والإستعانة بالخبرات العالمية في هذا المجال. خاصة وأن فترة الأجيال الثلاثة (75 سنة) التي يُفترض في نهايتها الوصول إلى آخر برميل النفط، هي فترة كافية من الأفضل وضع إستراتيجية ثابتة لاستكمال مقومات الدولة الحديثة خلالها استعداداً لمواجهة اليوم الذي ينضب فيه النفط.

          كذلك فإن هذا الإطار النظري، الذي صاغ فيه ذلك الكاتب رأيه، ما هو إلاّ فكرة تحيط بها نظرة تشاؤمية، غاب عنها أن منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول (أوابك) وكافة دول الخليج تولي اهتماماً بالغاً في سياساتها التخطيطية لاستمرار أعمال التنقيب والمسح الجيوفزيائي لاستكشاف آبار جديدة في مناطق أخرى من أراضيها الشاسعة، وعلى طول شواطئها الممتدة لمسافات بعيدة.

          وقد يكون من المناسب هنا مما يبدد تلك النظرة التشاؤمية لهذا الكاتب المذكور، الإشارة إلى أحدث اكتشاف في قلب صحراء الربع الخالي في السعودية، وهو حقل (الشيبة) الذي افتتحه سمو ولي العهد السعودي في 10 مارس 1999، والذي أثبتت الأبحاث التقنية أن احتياطه الثابت من الزيت الخام يزيد على 14 مليار برميل، بما يفوق احتياطي عديد من الدول المنتجة للبترول مثل النرويج وبريطانيا، وبما يماثل احتياطي مخزون بحر الشمال كله، وربما زاد على احتياطي منطقة بحر قزوين.

          وصرح رئيس شركة أرامكو السعودية أن حقل الشيبة (133بئراً) تبلغ طاقته الإنتاجية نحو 500 ألف برميل يومياً من الزيت الخام. ويعتبر أكبر مشروع إنتاج من نوعه في العالم خلال العقدين الماضيين.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button