العولمة و تأثيرها على الأمن الثقافي و المجتمعي

لقد اصبحت العولمة حديث الناس في كل مكان خاصه هذه الايام، وكثرت حولها المصطلحات والتعريفات التي تجري على الالسن والاقلام ولعل اكثر هذه المصطلحات شيوعا هو ان العالم اصبح قريه صغيره وهو تعريف فيه الكثير من الحق.

فقد اصبح العالم مكاناً صغيراً بفضل الإتصالات الحديثه والقدره على تبادل المعارف و الإنتقال من مكان الى آخر وإستخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة ولكن هذا التواصل تقابلة نزعه واضحه إلى التشبث بالقوميه وبالغه مهما يكن انتشارها محدوداً وكأنما تقابل بعض الشعوب لهذه النزعه سلطان العولمه الذي يعتمد في المقام الأول على السياده في الإقتصاد والصناعه والتجاره والنفوذ السياسي وتلوذ الشعوب بقوميتها وتراثها ولغتها كيلاتذوب وتصبح قطره في ذلك المد الجارف والامثله كثيره على هذا الاتجاه في دول البلقان وغيرها.[1]

عناصر العولمة

العولمة تتكون من الثالث العناصر الرئسية التاليه :

1. تعميم الرأسماليه
ان التغلب الأسماليه على الشيوعه جعلها تعمم مبادئها على كل المجتمعات الاخر، فأصبحت قيم السوق ، والتجاره الحره ، والانفتاح الاقتصادي ، والتبادل التجاري ،وانتقال السلع ورؤوس الاموال، وتقنيات الانتاج والاشخاص والمعلومات هي القيم الرئجه، وتقود أامريكا وتفرضها عن طريق مؤسسات البنك الدولي، وغيرها من المؤسسات العالميه التابعه للامم المتحده، وعن طريق الاتفاقيات العالميه التى تقرها تلك المؤسسات كإتفاقية الجات وغيرها.

2. القطب الواحد
تفردت امريكا بقيادة العالم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكيك منظومته الدوليه، ومن الجدير بالملاحظه انه لم تبلغ امبراطورية في التاريخ بقوة امريكا العسكريه والاقتصاديه، مما يجعل هذا التفرد خطيرا على الاخرين في كافة المجالات الاقتصاديه والثقافيه والاجتماعيه … إلخ.

3. ثورة التقنيات والمعلومات
مرت البشريه بعدة ثورات علميه منها ثورة البخار والكهرباء والذره وكان اخرها الثوره العلميه والتكنولوجيه والخاصه بالتطورات المدهشه في عالم الكمبيوتر، وتوصل الكبيوتر الحالي الى إجراء أكثر من ملياري عمليه مختلفه في الثانيه الواحدة وهو الامر الذي كان يستغرق الف عام لإجرائه في السابق، اما المجال الآخر من هذه الثورة فهو التطورات المثيره في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتي تتيح للأفراد والدول والمجتمعات للإرتباط بعدد لا يحصى من الوسائل التي تتراوح بين الكبلات الضوئيه والفاكسات ومحطات الاذاعة والقنوات التلفزيونيه الأرضية والفضائية التي تبث برامجها المختلفه. بالإضافة إلى أجهزة الكمبيوتر والبريد الإلكتروني وشبكات الإنترنت التي تربط العالم بتكاليف اقل وبوضوح اكثر على مدار الساعه، ولقد تحولت تكنولوجيا المعومات إلى أهم مصدر من مصادر الثروة أو قوة من القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية الكاسحة في عالم اليوم. [2]

الجذور التاريخيه للعولمة

ان تحليل الجذور التاريخيه اظاهرة العولمة يوضح قيامها ، منذ بدايتها الاولى ،على عالم الاقتصاد والسياسه ، فقد بدأ مفهوم رأس المال البزوغ مع تهميش السلطه ،وتزايد حركة التجاره الذي اسهم في كسر العزله الاقتصادية، على صعيد الكره الارضيه ، استرعى هذا كل انتباه القوميات ، فكان ان التقت القوميات ورؤس الاموال ، مما اتاح الفرصة لانفتاح الاقتصاديات القوميه على ديناميكية العلاقات التجارية، وتوحيد الاسواق الداخلية.

وقد شهد القرن التاسع عشر أوج الاقتصاد، ولم يكن قد بلغ حد العولمة بعد، انما امتد عالمياً الى حد بعيد والنتيجة أن اصبحت التأثيرات الاقتصاديه لهذه العولمة لاسيما في الوقت الحالي أكثر حدة ووضوحا منها على الثقافات القوميه. وفي الجال السياسي ثمة ظاهره تشكل العولمة، وهي تتكون من حركات سياسيه، تعمل على مستوى عالمي.

ومن هنا فالعولمة بمفهوم الطرح الغربي والامريكي، والذي يسعى الغرب الى ترويجه بشتى الوسائل التكنولوجيه الحديثه، هي محاولة فرض نموذج معين للثقافه. ويمكن القول بأن العولمة الثقافيه نتيجة حتمية وملازمتها للعولمه الاقتصاديه. لكن الثقافه المقصود بها في شعار العولمة هي الثقافه “الاستهلاكيه” الموجهه اساسا لدعم العمل الاقتصادي والتجاري، فهي تخص عالم الموضات والفنون بمختلف اشكالها.
وبعد ذلك انتقل مفهوم العولمة من الفضاء الاقتصادي والسياسي الى الفضاء الاقتصادي والسياسي الى الفضاء الثقافي والاعلامي والادبي أو مايعرف ب “عالمية الادب”، ومايعرف بالثقافه الشامله أو “القريه الصغيره”أو المجتمع الكوني “الكوزموبوليتي”، الذي يكمن وراء انتشار الثقافات والتدخل الحضاري بين الشعوب.
ويمكن ان نعتبر الولايات المتحده الامريكيه البلد الاكثر انفتاحا على العالم والاكثر حضورا فيه، فلذلك ان الحضور العالمي على الصعيد الامريكي يؤكد ظاهرة العولمة، حيث يتوافق صطلح “العولمة” مع معنى “الامركة” بحيث اضحى يتم النظر الى العولمة على انها قادمه من امريكا، فالعولمة اذن بصدد جعل بقية العالم شبيها بعض الشيء بامريكا خيرا وشرا.[3]

أبرز اخطار العولمة وكيفية مواجهتها

للعولمة أخطار كثيرة ومختلفة على الدولة والفرد ومن ابرز هذه الاخطار مايلي:

الخطر الأول: إحياؤها مجتمع الخمس وإفقارها أربعة أخماس المجتمع الآخرين
ستؤدي العولمة إلى تشغيل خمس المجتمع وستستغني عن الأربع الأخماس الآخرين نتيجة التقنيات الجديدة المرتبطة بالكمبيوتر فخمس قوة العمل الكافيةلإنتاج جميع السلع، وسيدفع ذلك بأربعة أخماس المجتمع إالى حافة الفقر والجوع، ومن مخاطر العولمة ايضاً قضاؤها على حلم مجتمع الرفاه، وقضاؤها على الطبقة الوسطى التي هي الأصل في احداث الإستقرار الاجتماعي، وفي إحداث النهضة والتطور الاجتماعي، ومن مخاطرها ايضاً دفعها بفئات اجتماعية متعددة إلى حافة الفقر والتهميش، فيكون هناك تفاوت بين الطبقات في كل دولة حيث يستأثر قلة من السكان بالشطر الأعظم من الدخل الوطني والثروة القومية، في حين يعيش أغلبية السكن على الهامش.
كذلك من الملاحظ ان ظاهرة فتح الأبواب على مصراعيها أمام التجارة الحرة باسم حرية السوق قد رافقتها نسبة مهولة من ازدياد الجريمة، فقد ارتفع حجم المبيعات في السوق العالمية لمادة الهيرويين إلى عشرين ضعفاً خلال العقدين الماضيين، أما المتاجره بالكوكايين فقد ازدادت خمسين مرة.
ويمكن أن نواجه خطر العولمة هذا من خلال تحقيق السوق العربية المشتركة وغيرها من المؤسسات العربية والإسلامية المنبثقة عن الجامعة العربية ومؤتمر القمة الإسلامي هذا على المستوى الخارجي، أما على المستوى الداخلي لكل دولة فيمكن أن نواجهه بزيادة التكافل الاجتماعي الذي ترعاه الدولة، وزيادة الرعاية الاجتماعية، والتأمينات الاجتماعية وتقوية المجتمع المدني، وتعزيز المشاعر الدينية.

الخطر الثاني: الأمركة
الأمركة هي الخطر الثاني، ومما يساعد على الأمركة انفراد الولايات المتحدة بالعالم، واعتبارها القطب الواحد الذي انتهت إليه الأوضاع السياسية في العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، والامركة تعني انتشار الازياء والموسيقى والأكل الأمريكي، وتكون نتيجة ذلك إلغاء الهوية الثقافية، ولكن أخطر ما في الأمركة نسبية الحقيقة التي تقوم عليها، وهي التصادم تصادماً مباشراً مع ثوابت الدين الاسلامي المستمدة من النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة، لذلك نجد أن قوى الأمركة تدعم كل من يروج لنسبية الحقيقة، ومن امثال رواد الأمركة العرب هو نصر حامد أبو زيد الذي تناول امور عقائدية كالكرسي والعرش والميزان والصراط والملائكة والجن والشياطين والسحر والحسد … إلخ. وفسرها على انها الفاظ مرتبطة بواقع ثقافي معين، ويجب أن نفهمها على ضوء واقعها الثقافي، واعتبر أن وجودها الذهني السابق لا يعني وجودها العيني، وقد أصبحت ذات دلالات تاريخية.
ويمكن ان نواجه خطر العولمة هذا من خلال التمسك بالدين الاسلامي والاخذ من الحضاره الغربية مايتناسب مع معتقداتنا والدينية ومنهجنا الإسلامي.

الخطر الثالث: ثورة التقنيات والمعلومات
ما زالت ثورة التقنيات والمعلومات بأبعادها الجديدة مجهولة النتائج على البشرية إلى حد كبير وبالذات فيما يتعلق بالهندسة الوراثية، وإن كانت ذات نتائج إيجابية في مجالات كثيرة.[4]

العولمه بين الاسلام والمسلمين

والان نتعرف على العولمه من خلال الخطاب الاسلامي. لقد اكد الاسلام على ان الناس جميعا امه واحدة، تجمعها الانسانية وان فرقتها الاهواء والمصالح، قال تعالى “كان الناس امة واحدة فبعث الله النبين مبشرين ومنذرين”.[5]
وان خلق الناس شعوبا وقبائل لم يكن ليتقاتلوا، ولكن ليتعارفوا ويتعاونوا، قال تعالى “يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم”[6]. فليس فب الاسلام اختلاف في المعامله بسبب اختلاف اللون، وان التفاوت بين الناس بالعمل لا باللون والقوميه والاقليمية، ليكون العدل هو السائد. كما اقر الاسلام للإنسان ان يعمر الارض ويستثمرها ويسير في طريق اصلاحها، قال تعالى: “هو انشأكم من الارض واستعمركم فيها”[7]، كما ان الشموليه الانسانيه العالميه تعين الناس على التواصل والتعاون في اقتسام الطيبات، حتى يكون العالم كله سوقا للعمل، وسوقا للإنتاج، ومجالا للتبادل والتداول. فرسالة الاسلام الى الانسان تعميريه، طاليه منه التنقل في ارجاء الارض للإستثمار ولغيره طالبه منه التعاون مع الآخرين، مع استخدام اسلوب الحوار وتشكيل القناعة “ادع الى سبيل ربك بالحكمه والموعظه الحسنه وجادلهم بالتي هي احسن”.[8]
وبناء على ما تقدم يمكن القول: بان الاسلام له رؤيته الخاصة العالميه، وبذلك ينفصل عن اشكالية العولمه- فهو بعكس النظام الغربي- وبذا يتعزز المستقبل في العالم الحديث لصالح مبادىء الاسلام، لانه يقود العالم كله الى الخلاص بعد فشل رأس المال، وفشل الشيوعية، وقصور العقائد الدينيه الاخرى عن تدارك احوال المعاش وتدبير الحلول للجماعات الانسانية ومشكلات الاجتماع والاقتصاد وما يتفرع عنها من مشكلات الاخلاق والآداب.
هذا من جهة الإسلام وما يحمله من مبادئ وقيم روحية يمكن ان تساهم في حل اشكاليات العولمه المستعصيه، التي يتخوف العالم – خاصة الدول الناميه- من الشرور المصاحبه لتلك الهيمنه المصاحبة للعولمهز هذه المخاطر والمخاوف التي تحملها العولمه وتبشر بها، وتؤيد حاجة البشرية الى الاسلام، لانه يشكل شفينه النجاة.

أما علاقة المسلمين بالعولمة، فترجع الى الصراع والاحتكاك والتفاعل المستمر تاريخيا، والذي اخذ اشكالا متعددة تتراوح من التبادل الثقافي الى الحروب الصليبية، وحتى الاستعمار الغربي والهيمنة الرأسمالية الغربية. فالعولمة لدى المسلمين من خلال الرصيد التاريخي للاستعمار والتغريب، هي مشروع غربي للهيمنة.

ومن هذا المنظور يتم تحليل العولمة، ومن ثم التعامل معها، وبالتالي فان النظرة للعولمة هي امتداد للبحث عن كيفية التعامل مع الغرب من خلال تأكيد الهوية الاسلامية، إلا أن ذلك يجب ان لا يحول دون النظر للعولمة من خلال معايير موضوعية وصحيحة حتى نتمكن من ان نعرف وننكر بعيدا عن الأحكام العامه والعامية، التي سوف لا تمكننا من التعامل معها بمهارة.

فمعظم الفكر الاسلامي الحديث في حوار وصراع مع الغرب. وهذا ما حدد الاطار العام لأسئلة الفكر العربي الإسلامي الأساسية، إذ دارت الأسئله منذ الاحتكاك بالغرب: “عما يجب عليهم وعما يمكنهم أن يأخذوه عن الغرب لإحياء مجتمعهم. كما يتساءلون بأي معنى يظلون مسلمين، إذا ما تأثروا بالغرب واقتبسوا منه”. وقد حاول الفكر الإسلامي الحديث إثبات قضيتين:شمولية الاسلام وإنسانيتة المتفردة، مقابل التأكيد على أزمة الحضارة الغربية بسبب الافراط في المادية والبعد عن الأخلاق والقيم، وفي ضوء ذلك يقدم المسلمون مشروعهم الحضاري الذي يعتبرونه صالحاً لكل زمان ومكان. كما اهتم الفكر الإسلامي بتقديم عالميه اسلاميه تتشابك مع عولمة الغرب حسب التصور الإسلامي. ويصل باحث إسلامي الى القول: وأنا أزعم أن في الاسلام عقائد وتعاليم تشكل مذهباً إسلامياً في العولمة يمكن إذا قارناه بالنظريات الاخرى، أن يظهر تفوقه. فالقرآن الكريم رسالة للبشر كافة، أو هو رسالة عالمية لكل الأجناس والأمم التي تعيش على كوكب الأرض، وفي هذا يقول الحق تبارك وتعالى للنبي- صلى الله عليه وسلم – “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”[9]. [10]

العولمة والهوية الثقافية :عشر أطروحات

تهدف هذه الورقة إلى رسم إطار عام للعلاقة بين العولمة والهوية الثقافية كما يمكن أن ترصداليوم في الوطن العربي، سواء كعلاقة قائمة بالفعل أو كما يمكن أن تقوم فيالمستقبل. وهي تستعيد بصورة أو بأخرى معطيات سبق تقريرها في أعمال سابقة. وبالتاليفالورقة تقدم أطروحات تؤخذ هنا كحقائق أو مسلمات سبق تبريرها في أعمال أخرى. هذهالأطروحات هي:

الأطروحة1: ليست هناك ثقافة عالمية واحدة ، بل ثقافات…

إننانقصد بـ “الثقافة” هنا: ذلك المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات والتطلعات التي تحتفظ لجماعة بشرية، تشكل أمة أو ما في معناها، بهويتها الحضارية، في إطار ما تعرفه من تطورات بفعل ديناميتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء. وبعبارة أخرى إن الثقافة هي”المعبر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم، عن نظرة هذه الأمة إلىالكون والحياة والموت والإنسان ومهامه وقدراته وحدوده، وما ينبغي أن يعمل وما لاينبغي أن يأمل”.
تلزم عن هذا التعريف، لزوما ضروريا، النتيجة التالية، تشكل قلب هذه الأطروحة وجوهرها،وهي أنه: ليست هناك ثقافة عالمية واحدة، وليس من المحتمل أن توجد في يوم من الأيام ، وإنما وجدت، وتوجد وستوجد، ثقافات متعددة متنوعة تعمل كل منها بصورة تلقائية، أو بتدخل إرادي من أهلها، على الحفاظ على كيانها ومقوماتها الخاصة.من هذه الثقافات ما يميل إلى الانغلاق والانكماش، ومنها ما يسعى إلى الانتشاروالتوسع، ومنها ما ينعزل حينا وينتشر حينا آخر.

الأطروحة2: الهوية الثقافية مستويات ثلاثة: فردية، وجمعوية، ووطنية قومية. والعلاقة بين هذه المستويات تتحدد أساسا بنوع “الآخر” الذي تواجهه.

إن الهوية الثقافية كيان يصير، يتطور، وليست معطى جاهزا ونهائيا. هي تصير وتتطور، إمافي اتجاه الانكماش وإما في اتجاه الانتشار، وهي تغتني بتجارب أهلها ومعاناتهم،انتصاراتهم وتطلعاتهم، وأيضا باحتكاكها سلبا وإيجابا مع الهويات الثقافية الأخرىالتي تدخل معها في تغاير من نوع ما. وعلىالعموم، تتحرك الهوية الثقافية على ثلاثة دوائر متداخلة ذات مركز واحد:
-فالفرد داخل الجماعة الواحدة، قبيلة كانت أو طائفة أو جماعة مدنية (حزبا أونقابة الخ…)، هو عبارة عن هوية متميزة ومستقلة. عبارة عن “أنا”،لها “آخر” داخل الجماعة نفسها: “أنا” تضع نفسها في مركز الدائرة عندما تكون في مواجهة مع هذا النوع من “الآخر”.
-والجماعات، داخل الأمة، هي كالأفراد داخل الجماعة، لكل منها ما يميزها داخل الهوية الثقافية المشتركة، ولكل منها “أنا” خاصة بها و”آخر”من خلاله وعبره تتعرف على نفسها بوصفها ليست إياه.
-والشيء نفسه يقال بالنسبة للأمة الواحدة إزاء الأمم الأخرى. غير أنها أكثرتجريدا، وأوسع نطاقا، وأكثر قابلية للتعدد والتنوع والاختلاف.
هناك إذن ثلاثة مستويات في الهوية الثقافية، لشعب من الشعوب: الهوية الفردية،والهوية الجمعوية، والهوية الوطنية (أو القومية). والعلاقة بين هذه المستويات ليست قارة ولا ثابتة، بل هي في مد وجزر دائمين، يتغير مدى كل منهما اتساعا وضيقا،حسب الظروف وأنواع الصراع واللاصراع، والتضامن واللاتضامن، التي تحركها المصالح:المصالح الفردية والمصالح الجمعوية والمصالح الوطنية والقومية.
وبعبارةأخرى إن العلاقة بين هذه المستويات الثلاثة تتحدد أساسا بنوع “الآخر”،بموقعه وطموحاته: فإن كان داخليا، ويقع في دائرة الجماعة، فالهوية الفرديةهي التي تفرض نفسها كـ”أنا”، وإن كان يقع في دائرة الأمة فالهويةالجمعوية (القبلية، الطائفية، الحزبية الخ) هي التي تحل محل “الأنا”الفردي. أما إن كان “الآخر” خارجيا، أي يقع خارج الأمة (والدولةوالوطن) فإن الهوية الوطنية –أو القومية- هي التي تملأ مجال “الأنا”.

الأطروحة3: لا تكتمل الهوية الثقافية إلا إذا كانت مرجعيتها: جماع الوطن والأمة والدولة.

لاتكتمل الهوية الثقافية، ولا تبرز خصوصيتها الحضارية، ولا تغدو هوية ممتلئة قادرةعلى نشدان العالمية، على الأخذ والعطاء، إلا إذا تجسدت مرجعيتها في كيان مشخص تتطابق فيه ثلاثة عناصر: الوطن والأمة والدولة.
الوطن: بوصفه”الأرض والأموات”، أو الجغرافية والتاريخ وقد أصبحا كيانا روحيا واحدا،يعمر قلب كل مواطن. الجغرافيا وقد أصبحت معطى تاريخيا. والتاريخ وقد صار موقعاجغرافيا.
الأمة: بوصفهاالنسب الروحي الذي تنسجه الثقافة المشتركة: وقوامها ذاكرة تاريخية وطموحات تعبرعنها الإرادة الجماعية التي يصنعها حب الوطن، أعني الوفاء لـ “الأرضوالأموات”، للتاريخ الذي ينجب، والأرض التي تستقبل وتحتضن.
الدولة: بوصفهاالتجسيد القانوني لوحدة الوطن والأمة، والجهاز الساهر على سلامتهما ووحدتهماوحماية مصالحهما، وتمثيلهما إزاء الدول الأخرى، في زمن السلم كما في زمن الحرب.ولا بد من التمييز هنا بين “الدولة” ككيان مشخص ومجرد في الوقت نفسه،كيان يجسد وحدة الوطن والأمة، من جهة، وبين الحكومة أو النظام السياسي الذي يمارسالسلطة ويتحدث باسمها من جهة أخرى. وواضح أننا نقصد هنا المعنى الأول.
وإذن،فكل مس بالوطن أو بالأمة أو بالدولة هو مس بالهوية الثقافية, والعكس صحيح أيضا: كلمس بالهوية الثقافية هو في نفس الوقت مس بالوطن والأمة وتجسيدهما التاريخي:الدولة.

الأطروحة4: ليست العولمة مجرد آلية من آليات التطور الرأسمالي بل هي أيضا، وبالدرجة الأولى،إيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم.
العولمةالتي يجري الحديث عنها الآن: نظام أو نسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد. العولمةالآن نظام عالمي، أو يراد لها أن تكون كذلك، يشمل مجال المال والتسويق والمبادلات والاتصال الخ… كما يشمل أيضا مجال السياسة والفكر والإيديولوجيا.
والعولمة تعني في معناها اللغوي: تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله. وهي تعني الآن، في المجال السياسي منظورا إليه من زاوية الجغرافيا ( الجيوبولتيك)، العمل على تعميم نمط حضاري يخص بلدا بعينه، هو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات،على بلدان العالم أجمع. ليست العولمة مجرد آلية من آليات التطور”التلقائي” للنظام الرأسمالي، بل إنها، أيضا، وبالدرجة الأولىدعوة إلى تبني نموذج معين. وبعبارة أخرى، فالعولمة ، إلى جانب أنها تعكس مظهراأساسيا من مظاهر التطور الحضاري الذي يشهده عصرنا، هي أيضا إيديولوجيا تعبربصورة مباشرة، عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته. وقد حددت وسائلها لتحقيق ذلك في الأمور التالية:
1-استعمال السوق العالمية أداة للإخلال بالتوازن في الدول القومية، في نظمهاوبرامجها الخاصة بالحماية الاجتماعية.
2-اتخاذ السوق والمنافسة التي تجري فيها مجالا لـ”الاصطفاء”،بالمعنى الدارويني للكلمة، أي وفقا لنظرية داروين في “اصطفاء الأنواع والبقاءللأصلح”. وهذا يعني أن الدول والأمم والشعوب التي لا تقدر على”المنافسة” سيكون مصيرها ، بل يجب أن يكون، الانقراض.
3-إعطاء كل الأهمية والأولوية للإعلام لإحداث التغييرات المطلوبة على الصعيدالمحلي والعالمي، باعتبار أن “الجيوبوليتيك”، أو السياسة منظورا إليهامن زاوية الجغرافيا، وبالتالي الهيمنة العالمية، أصبحت تعني اليوم مراقبة”السلطة اللامادية”، سلطة تكنولوجية الإعلام التي ترسم اليوم الحدودفي “الفضاء السيبرنيتي”: حدود المجال الاقتصادي السياسي التي ترسمهاوسائل الاتصال الإلكترونية المتطورة.
وهكذافبدلا من الحدود الثقافية، الوطنية والقومية، تطرح إيديولوجيا العولمة”حدودا” أخرى، غير مرئية، ترسمها الشبكات العالمية قصد الهيمنة علىالاقتصاد والأذواق والفكر والسلوك.

ِالأطروحة5:العولمة شيء و”العالمية” شيء آخر. العالمية تفتح على العالم،
علىالثقافات الأخرى، واحتفاظ بالاختلاف
الثقافي وبالخلاف الإيديولوجي. أما العولمةفهي نفي للآخر وإحلال للاختراق الثقافي محل الصراع الإيديولوجي.
العولمةGLOBALISATION إرادة للهيمنة وبالتالي قمع وإقصاء للخصوصي. أما العالمية UNIVERSALITE UNIVERSALISME. فهي طموح إلى الارتفاع بالخصوصية إلى مستوى عالمي. العولمة احتواء للعالم،والعالمية تفتح على ما هو عالمي وكوني.
نشدان العالمية في المجال الثقافي، كما في غيره من المجالات، طموح مشروع، ورغبة في الأخذوالعطاء، في التعارف والحوار والتلاقح. إنها طريق الأنا للتعامل مع”الآخر” بوصفه “أنا ثانية”، طريقها إلى جعل الإيثار يحل محلالأثرة. أما العولمة فهي طموح بل إرادة لاختراق “الآخر” وسلبه خصوصيته،وبالتالي نفيه من “العالم”. العالمية إغناء للهوية الثقافية، أماالعولمة فهي اختراق لها وتمييع.
والاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة يريد إلغاء الصراع الإيديولوجي والحلول محله.. الصراع الإيديولوجي صراع حول تأويل الحاضر وتفسير الماضي والتشريع للمستقبل، أما الاختراق الثقافي فيستهدف الأداة التي يتم بها ذلك التأويل والتفسير والتشريع: يستهدف العقل والنفس ووسيلتهما في التعامل مع العالم: “الإدراك”.
لقدحل هذا اللفظ اليوم – الإدراك- محل لفظ آخر كان كثير الاستعمال بالأمس، في عصرالصراع الإيديولوجي، لفظ “الوعي” (الوعي الطبقي، الوعي القومي، الوعي الديني…). كان الصراع الإيديولوجي وما يزال يستهدف تشكيل الوعي، تزييفه أو تصحيحه الخ، أما “الاختراق الثقافي” فهو يستهدف أول ما يستهدف السيطرة علىالإدراك، اختطافه وتوجيهه، وبالتالي سلب الوعي، والهيمنة على الهوية الثقافية الفردية والجماعية.
في زمن الصراع الإيديولوجي كانت وسيلة تشكيل الوعي هي الإيديولوجيا، أما في زمن الاختراق الثقافي فوسيلة السيطرة على الإدراك هي الصورة السمعية البصرية التي تسعىإلى “تسطيح الوعي”، إلى جعله يرتبط بما يجري على السطح من صور ومشاهد ذات طابع إعلامي إشهاري، مثير للإدراك، مستفز للانفعال، حاجب للعقل…
وبالسيطرة على الإدراك، وانطلاقا منها، يتم “إخضاع النفوس”، أعني تعطيل فاعليةالعقل، وتكييف المنطق، والتشويش على نظام القيم، وتوجيه الخيال، وتنميط الذوق، وقولبة السلوك. والهدف تكريس نوع معين من الاستهلاك لنوع معين من المعارف والسلع والبضائع: معارف إشهارية تشكل في مجموعها ما يمكن أن نطلق عليه “ثقافةالاختراق”.

الأطروحة6: ثقافة الاختراق تقوم على جملة أوهام هدفها: “التطبيع” مع الهيمنة وتكريس الاستتباع الحضاري.

تتولىالقيامَ بعملية تسطيح الوعي، واختراق الهوية الثقافية للأفراد والأقوام والأمم،ثقافةٌ جديدة تماما لم يشهد التاريخ من قبل لها مثيلا: ثقافة إشهارية إعلامية سمعية وبصرية تصنع الذوق الاستهلاكي (الاشهار التجاري) والرأي السياسي (الدعايةالانتخابية) وتشيد رؤية خاصة للإنسان والمجتمع والتاريخ، إنها “ثقافةالاختراق” التي تقدمها العولمة بديلا للصراع الإيديولوجي.
ولايعني حلول الاختراق الثقافي محل الصراع الإيديولوجي موت الإيديولوجيا، كما يريدالمبشرون بالعولمة أن يوهموا الناس.. كلا إن الاختراق الثقافي ، بالعكس من ذلك،مُحَمَّلٌ بإيديولوجيا معينة، هي إيديولوجيا الاختراق، وهي تختلف عن الإيديولوجيات المتصارعة، كالرأسمالية والاشتراكية، في كونها لا تقدم مشروعا للمستقبل، لا تقدم نفسها كخصم لبديل آخر تسميه وتقاومه، وإنما تعمل على اختراق الرغبة في البديل وشل نشدان التغيير لدى الأفراد والجماعات.
إيديولوجياالاختراق تقوم على نشر وتكريس جملة أوهام، هي نفسها “مكونات الثقافة الإعلاميةالجماهيرية في الولايات المتحدة الأمريكية”، وقد حصرها باحث أمريكي في الأوهام الخمسة التالية: وهم الفردية، وهم الخيار الشخصي، وهم الحياد، وهم الطبيعةالبشرية التي لا تتغير، وهم غياب الصراع الاجتماعي. وإذا نحن أردنا أن نوجز في عبارة واحدة مضمون هذه المسلمات الخمس، أمكن القول إن “الثقافة الإعلامية الجماهيرية” الأمريكية، هذه، تكرس إيديولوجيا “الفردية المستسلمة”،وهي إيديولوجيا تضرب في الصميم الهوية الثقافية بمستوياتها الثلاثة، الفردية والجمعوية والوطنية القومية.
إن”وهم الفردية”، أي اعتقاد المرء في أن حقيقة وجوده محصورة في فرديته وأن كل ما عداه أجنبي عنه لا يعنيه، إنما يعمل -هذا الوهم- على تخريب وتمزيق الرابطة الجماعية التي تجعل الفرد يعي أن وجوده إنما يكمن في كونه عضوا في جماعة وفي طبقة وأمة، وبالتالي فوهم الفردية هذا إنما يهدف إلى إلغاء الهويةالجمعوية والطبقية والوطنية القومية، وكل إطار جماعي آخر.، ليبقى الإطار”العالمي” –بل العولمي- هو وحده الموجود…
أما”وهم الخيار الشخصي” فواضح أنه يرتبط بالأول ويكمله. إنه، باسم الحرية، يكرس النزعة الأنانية ويعمل على طمس الروح الجماعية سواء كانت على صورةالوعي الطبقي أو الوعي القومي أو الشعور الإنساني.
ويأتي”وهم الحياد” ليدفع بالأمور خطوة أخرى في الاتجاه نفسه: فمادام الفرد وحده الموجود، ومادام حرا مختارا فهو “محايد”، وكل الناس والأشياءإزاءه “محايدون” أو يجب أن يكونوا كذلك. وهكذا تعمل هذه الإيديولوجيا من خلال “وهم الحياد” على تكريس التحلل من كل التزام أو ارتباط بأية قضية.ومن هنا ذلك الشعار الذي انتشر في السنين الأخيرة: شعار: “وانا مالي”.
وأماالوهم الرابع وهو “الاعتقاد في الطبيعة البشرية التي لا تتغير”،فواضح أنه يرمي إلى صرف النظر عن رؤية الفوارق بين الأغنياء والفقراء، بين البيض والسود، بين المستغلين وبين من هم ضحايا الاستغلال، وقبولها -أعني تلك الفوارق-بوصفها أمورا طبيعية كالفوارق بين الليل والنهار والصيف والشتاء، وبالتالي شل روح المقاومة في الفرد والجماعة.
ويأتي الوهم الخامس صريحا في منطوقه ومفهومه: إن “الاعتقاد في غياب الصراع الاجتماعي” هو التتويج الصريح للأوهام السابقة: غياب الصراع الاجتماعي معناه -إذا قبلناه وسلمنا به- الاستسلام للجهات المستغلة، من شركات ووكالات وغيرهامن أدوات العولمة. وبعبارة أخرى التطبيع” مع الهيمنة والاستسلام لعمليةالاستتباع الحضاري الذي يشكل الهدف الأول والأخير للعولمة.

الأطروحة7 :العولمة نظام يعمل على إفراغ الهوية الجماعية من كل محتوى ويدفع للتفتيت والتشتيت،. ليربط الناس بعالم اللاوطن واللاأمة واللادولة، أو يغرقهم في أتون الحرب الأهلية.
ومع ا لتطبيع مع الهيمنة والاستسلام لعملية الاستتباع الحضاري يأتي فقدان الشعوربالانتماء لوطن أو أمة أو دولة، وبالتالي إفراغ الهوية الثقافية من كل محتوى. إن العولمة عالم بدون دولة، بدون أمة، بدون وطن. إنه عالم المؤسسات والشبكات العالمية، عالم “الفاعلين”، وهم المسيرون، و”المفعول فيهم”وهم المستهلكون للسلع والصور و”المعلومات” والحركات والسكنات التي تفرض عليهم. أما “وطنهم” فهو الفضاء “المعلوماتي” الذي تصنعه شبكات الاتصال، الفضاء الذي يحتوي –يسيطر ويوجه- الاقتصاد والسياسة والثقافة.
العولمة نظام يقفز على الدولة والأمة والوطن. نظام يريد رفع الحواجز والحدود أمام الشبكات والمؤسسات والشركات المتعددة الجنسية، وبالتالي إذابة الدولة الوطنية وجعل دورهايقتصر على القيام بدور الدركي لشبكات الهيمنة العالمية. والعولمة تقوم علىالخوصصة، أي على نزع ملكية الوطن والأمة والدولة ونقلها إلى الخواص في الداخل والخارج. وهكذا تتحول الدولة إلى جهاز لا يملك ولا يراقب ولا يوجه. وإضعاف سلطةالدولة والتخفيف من حضورها لفائدة العولمة يؤديان حتما إلى استيقاظ وإيقاظ أطرللانتماء سابقة على الأمة والدولة، أعني القبيلة والطائفة والجهة والتعصب المذهبي الخ… والدفع بها جميعا إلى التقاتل والتناحر والإفناء المتبادل: إلى تمزيق الهوية الثقافية الوطنية القومية… إلى الحرب الأهلية.
ولابد من الـتأكيد هنا على أن مفهوم الهوية الثقافية القومية الذي نستعمله هنا، بمعنى الهوية المشتركة لجميع أبناء الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، لايعني قط إلغاء ولا إقصاء الهويات الوطنية القطرية ولا الهويات الجمعوية، الإثنية والطائفية. إنه لا يعني فرض نمط ثقافي معين على الأنماط الثقافية الأخرى، المتعددةوالمتعايشة، عبر تاريخنا المديد، داخل الوطن العربي الكبير. كلا، إن التعددالثقافي في الوطن العربي واقعة أساسية لا يجوز القفز عليها، بل بالعكس لا بد منتوظيفها بوعي في إغناء وإخصاب الثقافة العربية القومية وتوسيع مجالها الحيوي .ولكن تبقى مع ذلك كله الوظيفة التاريخية لهذه الثقافة، وظيفة التوحيد المعنوي،الروحي والعقلي، وظيفة الارتفاع ب “الوطن العربي ” من مجرد رقعة جغرافيةإلى وعاء للأمة العربية لا تكون إلا به ولا يكون إلا بها.
هذامن جهة ومن جهة أخرى، فاللغة المشتركة بين جميع أبناء الأمة العربية، لغة التراث المشترك، ولغة العلم والثقافة العالمة جملة، وبالتالي لغة التحديث والحداثة هي اللغة العربية. ولذلك كانت اللغة العربية هي، في آن واحد، الرابطة المتينة التيتوحد بين مستويات الهوية في الوطن العربي، أعني المستوى الفردي والمستوى الجمعوي والمستوى الوطني والقومي، وأيضا الأداة الوحيدة التي بها يمكن العرب الدخول في العالمية وتحقيق الحداثة.

الأطروحة8: العولمة وتكريس الثنائية والانشطار في الهوية الثقافية العربية

كلنانعرف أن الثقافة العربية تعاني، منذ ما يقرب من قرنيـن، وضعا متوترا نتيجةاحتكاكها مع الثقافة الغربية، بتقنياتها وعلومها وقيمها الحضارية التي هي نتيجة تطور خاص قوامه التحديث والحداثة، تطور لم تعشه الثقافة العربية، بل بقيت بمعزل عنه تجتر وضعا قديما توقف عن النمو منذ قرون.
ومنهنا تلك الثنائية التي تطبع الثقافة العربية بمختلف مستوياتها المادية والروحية،ثنائية التقليدي والعصري. وهي ثنائية تكرس الازدواجية والانشطار داخل الهويةالثقافية العربية بمستوياتها الثلاثة: الفردي والجمعوي والوطني القومي:أحد طرفي هذه الثنائية يعكس الهوية الثقافية على صورة “جمود على التقليد” ضمن قوالب ومفاهيم وآليات دفاعية تستعصي على الاختراق وتقاوم التجديد. والآخر يجسم الاختراق الثقافي وقد اكتسح الساحة اكتساحا ليتحول إلى ثقافة الاختراق، أعني الثقافة المبشرة به المكرسة له.
فهذا الإطار إذن يجب أن نضع خصوصية العلاقة بين العولمة والهوية الثقافية عندمايتعلق الأمر بالوطن العربي. فالاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة لا يقف عن حدود تكريس الاستتباع الحضاري بوجه عام، بل إنه سلاح خطير يكرس الثنائية والانشطارفي الهوية الوطنية القومية، ليس الآن فقط بل وعلى مدى الأجيال الصاعدة والقادمة.ذلك أن الوسائل السمعية البصرية، المرئية واللامرئية التي تحمل هذا الاختراق وتكرسه إنما تملكها وتستفيد منها فئة معينة هي النخبة العصرية وحواشيها، فهي التي تستطيع امتلاكها والتعامل مع لغاتها الأجنبية، بحكم التعليم “العصري”الذي تتلقاه. أما “عموم الشعب” وعلى رأسه النخبة التقليدية فهو في شبه عزلة، يجتر بصورة أو بأخرى ثقافة “الجمود على التقليد”. والنتيجةاستمرار إعادة إنتاج متواصلة ومتعاظمة للثنائية نفسها، ثنائية التقليدي والعصري،ثنائية الأصالة والمعاصرة، في الثقافة والفكر والسلوك.
الأطروحة9 :إن تجديد الثقافة، أية ثقافة، لا يمكن أن يتم إلا من داخلها: بإعادة بنائهاوممارسة الحداثة في معطياتها وتاريخها، والتماس وجوه من الفهم والتأويل لمسارهاتسمح بربط الحاضر بالماضي في اتجاه المستقبل.
ماالعمل إزاء هذه السلبيات والأخطار التي تطبع علاقة العولمة بالعرب على صعيد الهويةالثقافية؟
هناك موقفان سهلان، وهما السائدان: موقف الرفض المطلق وسلاحه الانغلاق الكلي وما يتبع ذلك من ردود فعل سلبية محاربة… وموقف القبول التام للعولمة وما تمارسه من اختراق ثقافي واستتباع حضاري، شعاره “الانفتاح على العصر” و”المراهنة علىالحداثة”.
لامفر من تصنيف هذين الموقفين ضمن المواقف اللاتاريخية التي تواجه المشاكل، لا بعقل واثق بنفسه متمكن من قدراته، وإنما تستقبلها بعقل “مستقيل” لا يرى صاحبه مخرجا من المشاكل إلا بالهروب منها، إما إلى الوراء وإما إلى الأمام، كل سلاحه رؤية سحرية للعالم تقفز على الواقع إلى اللاواقع.
إنالانغلاق موقف سلبي ، غير فاعل . ذلك لأن فعله “الموجه” ضد الاختراق الثقافي – أي محاربته له – لا ينال الاختراق ولا يمسه ولا يفعل فيه أي فعل ، بل فعله موجه كله إلى الذات قصد “تحصينها”. والتحصين إنما يكون مفيدا عندمايكون المتحاربان على نسبة معقولة من تكافؤ القوى والقدرات. أما عندما يتعلق الأمربظاهرة عالمية تدخل جميع البيوت وتفعل فعلها بالإغراء والعدوى والحاجة، ويفرضهاأصحابها فرضا بتخطيط واستراتيجية، فإن الانغلاق في هذه الحالة ينقلب إلى موت بطيء، قد تتخلله بطولات مدهشة ولكن صاحبه محكوم عليه بالإخفاق .
ومثل الانغلاق مثل مقابله: الاغتراب . إن ثقافة الاغتراب ، أعني إيديولوجيا الارتماء في أحضان العولمة والاندماج فيها ، ثقافة تنطلق من الفراغ، أي من اللاهوية، وبالتالي فهي لا تستطيع أن تبني هوية ولا كيانا. يقول أصحاب هذا الموقف: إنه لا فائدة في المقاومة ولا في الالتجاء إلى التراث ، بل يجب الانخراط في العولمة من دون ترددومن دون حدود، لأنها ظاهرة حضارية عالمية لا يمكن الوقوف ضدها ولا تحقيق التقدم خارجها. إن الأمر يتعلق بـ “قطار يجب أن نركبه” وهو ماض في طريقه بنا أوبدوننا. ولا يوضح أصحاب هذه الدعوى هل سنبزر هوياتنا عند ركوب القطار أم أنناسنركبه بدون هوية، بدون ورقة تعريف!؟
وبعيداعن مناقشة جدالية لهذه الدعوى، يكفي التنبيه إلى أنها نفس الدعوى التي سبق أنادعاها ونادى بها مفكرون عرب رواد منذ أزيد من قرن، ومنذ ذلك الوقت وهي تتردد وتتكرر هنا وهناك في الوطن العربي ، تبنتها حكومات وأحزاب فضلا عن الأفراد… ومع ذلك فحصيلة قرن كامل من التبشير بهذه الدعوى – دعوى “الاغتراب”- لم تنتج سوى فئة من “العصرانيين ” قليلة العدد، نشاهد اليوم تناقصا نسبيا واضحافي حجمها، بينما ازداد ويزداد الطرف المقابل لها عددا وعدة، كما وكيفا، في جميع الأقطار العربية وداخل جميع الشرائح الاجتماعية. وهكذا فبدلا من تيارات”حداثية” تمارس الهيمنة والقيادة تستقطب الأجيال الصاعدة، بدلا من ذلك يسود الحديث عن “الأصولية الدينية ” بوصفها الظاهرة المهيمنة.
أمانحن فنرى أن الجواب الصحيح عن سؤال “ما العمل”؟ –سواء إزاء الثنائية والانشطار الذين تعاني منهما الثقافة العربية، أو إزاء الاختراق الثقافي وإيديولوجيا العولمة- يجب أن ينطلق أولا وقبل كل شيء من العمل داخل الثقافةالعربية نفسها. ذلك لأنه سواء تعلق الأمر بالمجال الثقافي أو بغيره ، فمن المؤكدأنه لولا الضعف الداخلي لما استطاع الفعل الخارجي أن يمارس تأثيره بالصورة التيتجعل منه خطرا على الكيان والهوية.
إن الثنائية والانشطار -اللذين تحدثنا عنهما واللذين يشكلان نقطة الضعف الخطيرة في واقعناالثقافي الراهن التي منها يمارس الاختراق تأثيره التخريبي- إنما يعكسان وضعيةثقافة لم تتم بعد إعادة بنائها، ثقافة يتزامن فيها القديم والجديد، والأصيل والوافد، في غير ما تفاعل ولا اندماج . وهذا راجع إلى أن التجديد في ثقافتنا كان يراد له ، منذ أزيد من قرن ، أن يتم من “الخارج”: بنشر الفكر الحديث علىسطحها. لقد سبق لنا أن أكدنا مرارا على أن تجديد الثقافة، أية ثقافة، لا يمكن أن يتم إلا من داخلها: بإعادة بنائها وممارسة الحداثة في معطياتها وتاريخها، والتماس وجوه من الفهم والتأويل لمسارها تسمح بربط الحاضر بالماضي في اتجاه المستقبل.ونعود فنؤكد هنا هذا المعنى.

الأطروحة10:ِإن حاجتنا إلى الدفاع عن هويتنا الثقافية بمستوياتها الثلاثة، لا تقل عنحاجتنا إلى اكتساب الأسس والأدوات التي لا بد منها لدخول عصر العلم والتقانة، وفي مقدمتها العقلانية والديموقراطية.
إن حاجتنا إلى تجديد ثقافتنا وإغناء هويتنا والدفاع عن خصوصيتنا ومقاومة الغزو الكاسح الذي يمارسه ، على مستوى عالمي ، إعلاميا وبالتالي إيديولوجيا وثقافيا، المالكون للعلم والتقانة المسخرون لهما لهذا الغرض ، لا تقل عن حاجتنا إلى اكتساب الأسس والأدوات التي لا بد منها لممارسة التحديث ودخول عصر العلم والتقانة، دخول الذوات الفاعلة المستقلة وليس دخول “الموضوعات” المنفعلة المسيرة.
نحن في حاجة إلى التحديث ، أي إلى الانخراط في عصر العلم والتقانة كفاعلين مساهمين.ولكننا في حاجة كذلك إلى مقاومة الاختراق وحماية هويتنا القومية وخصوصيتناالثقافية من الانحلال والتلاشي تحت تأثير موجات الغزو الذي يمارس علينا وعلىالعالم أجمع بوسائل العلم والتقانة. وليست هاتان الحاجتان الضروريتان متعارضتين كما قد يبدو لأول وهلة، بل بالعكس هما متكاملتان ، أو على الأصح متلازمتان تلازم الشرط مع المشروط .
ذلك لأنه من الحقائق البديهية في عالم اليوم أن نجاح أي بلد من البلدان ، النامية منهاأو التي هي في “طريق ” النمو، نجاحها في الحفاظ على الهوية والدفاع عن الخصوصية، مشروط أكثر من أي وقت مضى بمدى عمق عملية التحديث الجارية في هذا البلد،عملية الانخراط الواعي ، النامي والمتجذر، في عصر العلم والتقانة
والوسيلة في كل ذلك واحدة: اعتماد الإمكانيات اللامحدودة التي توفرها العولمة نفسها، أعني الجوانب الإيجابية منها وفي مقدمتها العلم والتقانة. وهذا ما نلمسه بوضوح في تخطيطات الدول الأوروبية التي يُدَق في كثير منها ناقوسُ خطر “الغزو الأمريكي” الإعلامي الثقافي الذي يتهددها، في لغتها وسلوك أبنائها وتصوراتهم الجمعية،والذي يوظف أرقى وسائل العلم والتقانة – ومنها الأقمار الصناعية – في اكتساح مختلف الحقول المعرفية والخصوصيات الثقافية.
إن أوربا اليوم تتحدث حديث الخصوصية والأصالة، وتتحدث عن “الهوية الأوربية”تعزيزا لسيرها الجدي على طريق تشييد الوحدة بين شعوبها وأقطارها، بخطوات عقلانية محسوبة في إطار من الممارسة الديموقراطية الحق. وهي بذلك تقدم لمستعمراتهاالقديمة، لأقطار العالم الثالث كله، نموذجا صالحا للإقتداء به بعد ملاءمته مع الخصوصيات المحلية.
إن جل الحكومات العربية، إن لم يكن جميعها، تسعى اليوم لتحقيق “الشراكة” مع أوربا، الشراكة في مجال الاقتصاد، وأيضا في مجال الثقافة. ومع أن هذه الشراكةالمطلوبة تمليها على الجانبين ظرفية تحكمها المصالح القومية فإنه لاشيء يضمن تحولها إلى عولمة أخرى داخل العولمة الكبرى، غير شيء واحد، هو بناء الشراكة في الداخل كما في الخارج على الديموقراطية والعقلانية.
فهل للشعوب العربية أن تطالب بالشراكة مع أوربا في مجال اعتماد العقلانية والديمقراطية، في الفكر والسلوك، في التخطيط والإنجاز، في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة؟
العولمةنظام système ، والنظام لا يقاوم من خارجه إلا بنظام مكافئ له أو متفوق عليه.ونحن في العالم العربي نعيش حالة اللانظام. ليس لدينا نظام عربي يكافئ النظام العالمي للعولمة. فلا سبيل إذن إلى مقاومة سلبيات العولمة إلا من داخل العولمة نفسها، بأدواتها وبإحراجها في قيمها وتجاوزاتها. وأيضا بفرض نوع من النظام على الفوضى العربية القائمة، فوضى اللانظام ?

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button