منظور مركب الأمن: مفهوم مركب الأمن الإقليمي

لقد قدم باري بوزان وزميله[1] عددا من التعاريف لمفهوم مركب الأمن الإقليمي Regional Security Complexe، والتي منها أنه: “مجموعة الدول التي اهتماماتها الأمنية الأولية مرتبطة مع بعضها البعض بشكل وثيق وكاف بحيث أن الأمن القومي للواحدة لا يمكن أن يكون معتبرا بشكل معقول بعيدا عن الأخرى”. وهذا أول تعريف صاغه في تحديد المضمون الإستراتيجي للمفهوم.

    وفي مناسبة أخرى –وهو التعريف الأكثر حداثة-، عرّفه بأنه: “مجموعة الوحدات التي تكون بينها العمليات الكبرى للأمننةSecuritisation  أو اللاأمننةDesecuritisation ، أو كلاهما هي جد مترابطة بحيث أن مشكلات الأمن لا يمكن أن تكون محلّلة بشكل معقول بعيدة الواحدة عن الأخرى”.

    ظهور مفهوم مركب الأمن

    المنظر الأول الذي طرح هذا المصطلح هو باري بوزان في كتابه “الشعب، الدول، والخوف: مشكلة الأمن القومي في العلاقات الدولية People, States, and Fear : The National Security Problem in International Relations”[2]، وكان إشارة منه إلى بداية التحول في مضمون المفاهيم التقليدية لقضية الأمن في تحليل العلاقات الدولية؛ لتنتقل من المستوى الوطني إلى المستوى الإقليمي. لا شك أن هذا المفهوم لم يتنصل تماما من الأساس الواقعي في اعتبار الدول أطرافا أساسية أو أحادية في العلاقات الدولية؛ لكن يركز في المقام الأول على الديناميكيات الأمنية التي تخترق الحدود الوطنية للدولة بحيث يصبح الاستقرار الأمني المحلي محددا بما يحدث في المنطقة الإقليمية التي تحيط بالدولة.

    في مقابل ذلك، يرى بوزان وويفر أن الكثير من الخاصيات الجوهرية للدول التي اعتمد عليها الواقعيون في تحليل العلاقات الدولية وفهم السياسة الدولية لم تعد لها نفس الأهمية في إنتاج الديناميكيات الأمنية. فالتباين في القوة والموقع الجغرافي والقدرات الطبيعية والبشرية لا تتدخل كثيرا في تحديد ثقل الدولة وتأثيرها في العلاقات الأمنية الإقليمية، فباكستان لا تقارن مع الهند من حيث القوة العسكرية والثقل الديمغرافي والعمق الجغرافي؛ إلا أنها طرف أساسي أو أحد القطبين في إنتاج الديناميكيات الأمنية الإقليمية بحيث أن الاستقرار أو عدم الاستقرار في جنوب أسيا متوقف على العلاقات الأمنية الهندية الباكستانية.

    كما أن مفهوم القوة في مركبات الأمن الإقليمية هو غير ثابت أو محدد في مضمون معين بشكل صارم بالنسبة لكل الأطراف، فالدول التي تتمتع بتماسك وتلاحم قومي بين معظم المكونات الاجتماعية عادة ما تحدد التهديدات في البيئة الخارجية، وتكون أكثر حساسية لمسائل السيادة الوطنية، في حين أن الدول الضعيفة أو التي تعاني من انقسامات قومية حادة أو صراعات داخلية تكون فضاء لتنافس القوى الخارجية المختلفة والمجاورة لها على وجه الخصوص؛ وتكون أقل تشبثا بالسيادة وأكثر عرضة للعطب بواسطة التهديدات الخارجية. وبشكل عام، تكون بيئتها الأمنية أكثر هشاشة وأقل استقرارا. ومن ثم، سوف تتباين الديناميكيات الأمنية من منطقة لأخرى بناءً على طبيعة وخاصيات البيئة القائمة، والأعمق من ذلك طبيعة المجتمع من حيث التحديث وعدمه، ومن حيث تماسكه السوسيولوجي من عدمه.

    لذلك، حاول بوزان وويفر أن يضعا تصنيفا آخر للدول -المناقض للمنظور الشائع في تراث الواقعية/الواقعية الجديدة-، والذي يتضمن الدول ما بعد الحداثة، ودول الحداثة، والدول ما قبل الحداثة. الحقيقة أن هذا التصنيف لا يختلف من حيث المضمون عن التصنيف الذي ورد في نظرية التبعية[3] ونظرية النظام العالمي للعلاقات الدولية،[4] اللتان تقسمان وحدات النظام الدولي إلى دول القلب ودول المحيط ودول شبه المحيط، لكن يختلفان من حيث التسمية والشكل. فالدول ما بعد الحداثة عادة هي دول القلب الرأسمالي التي عرفت مجتمعاتها طفرة نوعية في التطور التكنولوجي وأدوات الاتصال والاندماج والتكامل. أما دول الحداثة فهي تلك الدول التي اقتربت كثيرا من دول القلب من حيث التصنيع والتحديث الاجتماعي والنظمي وتميل إلى تحقيق الأمن في الداخل وفي الخارج. أما دول ما قبل الحداثة، فهي تلك الدول التي تعاني من حالة التخلف في جميع القطاعات وتقع على هامش التطور الاقتصادي العالمي. لكن الخاصية المشتركة التي تجمع بين الفئات الثلاثة هي أنها كلها دول قومية وفواعل مركزية في العلاقات الدولية، مما يعني أن بوزان وزميله لم يتحررا عن الواقعية الجديدة وإنما يمكن اعتبار أفكارهما إحدى الصيغ المتطورة عنها.

    لكن مع وجود هذه الخاصية المشتركة، إلا أن هناك بعض التباينات بينها مثل المرونة حول الخاصيات الجوهرية كالسيادة والهوية الوطنية والحدود القومية. فدول ما بعد الحداثة هي أكثر انفتاحا وتسامحا حول حرية التفاعلات الاقتصادية والتجارية والثقافية والتعددية وتقلص أهمية الحدود القومية أمام هذه القضايا. وبذلك، لم تعد تعاني من التهديدات التقليدية للأمن، لكن في نفس الوقت ظهرت لها تهديدات من نوع جديد مثل تصاعد حساسية مجتمعاتها نحو المهاجرين والهوية ومشاكل البيئة ونظافة المحيط واستقرار النظام الاقتصادي العالمي وأسواق المال والوظائف. وتعتبر أمريكا الشمالية وأوربا الغربية واليابان أكثر تمثيلا لمركبات الأمن التي تضم دول ما بعد الحداثة؛ وهي في نفس الوقت قلب النظام الدولي. في مناطق أخرى من العالم في إفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية، يوجد عدد من الدول التي يمكن أن يطلق عليها اسم دول الحداثة تسيطر عليها أجندة أمنية لا تتشابه تماما مع تلك الشائعة في دول القلب. أما دول ما قبل الحداثة عادة هي موجودة في صحراء إفريقيا وباقي أطرافها والتي تعاني من صعوبات أمنية قاسية.

    الفكرة الأساسية هنا هي أن كل نموذج من النماذج السابقة للدول يواجه تحديات أمنية من نوع خاص. فعلى سبيل المثال بالنسبة لدول الحداثة، تشكل العولمة لها تهديدا في اتجاهين الإقصاء والخوف من الاحتواء. وغالبا الدول التي تعاني من الخوف من الإقصاء هي تلك الدول التي هي متاخمة لدول القلب وتخشى أن تُبتلع أسواقها مثل المكسيك بالنسبة للولايات المتحدة وتركيا بالنسبة لأوربا. ففي حالة تركيا، المعاناة من الإقصاء هي بارزة من خلال حرمانها من منافع الانضمام إلى الاتحاد الأوربي؛ وكذلك المكسيك التي بالرغم من عضويتها في اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، إلا أنها لازالت تعاني من وجودها في الصف الثاني بعد الولايات المتحدة وكندا وتعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية حادة.

    في نفس الوقت، نجد أن مطالب دول ما بعد الحداثة نحو دول الحداثة مقابل الاستفادة من الامتيازات الاقتصادية، تكون لها تأثيرات مأساوية على مجتمعاتها وترافقها كلفة اقتصادية عالية التي في بعض الأحيان تتحول إلى اضطرابات اجتماعية وأمنية. فمثلا مطالب الانفتاح الاقتصادي وتبني معايير مجتمعات دول القلب في السياسة والثقافة، ينظر لها في دول الحداثة على أنها تهديد حضاري وثقافي خاصة في الدول الإسلامية أو الدول التي لها أغلبية مسلمة، مثل هذه الإدراكات يمكن أن تتحول إلى تهديدات أمنية أو على الأقل مخاوف أمنية. وفي أحيان أخرى، تكون القيود على بعض المعايير الاقتصادية في دول الحداثة ضمانات أمنية للاستقرار الاجتماعي في مجتمعاتها وهي في نفس الوقت شروط ضرورية لدول ما بعد الحداثة، وهكذا تظهر الديناميكيات الأمنية الإقليمية أو ما يسميه بوزان وزميله بمركب الأمن الإقليمي.

    بالنسبة لبوزان وزميله، مثل هذه التباينات في الأولويات والتفضيلات هي المسؤولة بشكل كبير عن إنتاج الديناميكيات الأمنية الإقليمية، وتحدد السمات الرئيسية للبيئة الأمنية الدولية المعاصرة وتساعد على عقد المقارنات والتناظرات بين مركبات الأمن الإقليمية.[5]

    متغيرات النظرية

    1-العداوة/الصداقة عادة تكون العوامل المتحكمة في ديناميكيات التفاعل في مركبات الأمن الإقليمية محددة في علاقات “العداوة/الصداقة Enemity/Amity” التاريخية والتلاحم الجغرافي الذي يخلّف حالة الاعتماد المتبادل الأمني، سواء باتجاه الاستقرار أو عدم الاستقرار. فالعلاقات الأمنية الإقليمية غالبا ما تكون متأثرة بشكل كبير بالعداوة أو الصداقة التاريخية وكذا المنافسة الأمنية أو التعاون بين الأطراف الإقليمية؛ مثل العلاقة الهندية-الباكستانية في جنوب أسيا والعلاقة التركية-اليونانية في جنوب أوربا والعلاقة الجزائرية-المغربية في شمال إفريقيا والعلاقة العربية–الإيرانية في الخليج العربي. كما لا تهمل نظرية مركب الأمن الإقليمي أيضا نمط العلاقات الثقافية بين الحضارات الكبرى كعلاقة الحضارة الغربية-الإسلامية، وأمريكا الشمالية-أمريكا الجنوبية. يشكل مجموع أنماط التفاعلات الأمنية الإقليمية مضمون مركب الأمن الإقليمي كإطار نظري لتحليل العلاقات الأمنية الدولية المعاصرة. تتضمن هذه التفاعلات خليطا من تأثير البنية الفوضوية للنظام الدولي وميزان القوى وتأثير التقارب الجغرافي للأطراف الدولية، الذي يساعد على إنعاش وتغذية التأثير المتبادل للمظاهر الأمنية المختلفة من بيئة لأخرى، سواء كانت في شكلها المستقر أو المضطرب.

    فالتحليل الأمني لنمط علاقات العداوة/الصداقة يبدأ من المستوى الإقليمي ثم يتم تقفي أثره وامتداده عالميا ومحليا. على افتراض أن المستوى الإقليمي لنمط علاقة العداوة/الصداقة يفرز الخيارات الإستراتيجية ويحدد مضمون الأهداف الأمنية لكل طرف، ثم يفرغها في المستوى المحلي والدولي.

    الأكثر من ذلك، أن هذا المستوى من التفاعل الأمني ليس مهما فقط للقوى الإقليمية المعنية بمركب الأمن، وإنما أيضا بالنسبة للقوى العظمى الخارجية، لكن لا يتوقف استمراره على هذه الأخيرة. على اعتبار أن جدوى متغير “العداوة/الصداقة” في التحليل الإقليمي لقضايا الأمن، يكمن في أنه مستمر في تحديد المخرجات الأمنية الإقليمية حتى ولو اختفت بعض القوى العظمى من النظام الدولي التي كانت فواعل مساعدة على تحريك الديناميكيات الأمنية الإقليمية. فالعداوة العربية-الإسرائيلية استمرت في مرحلة ما بعد الحرب الباردة بعد اختفاء الاتحاد السوفياتي من النظام الدولي، وكذلك الأمر بالنسبة للعداوة الهندية-الباكستانية والعداوة بين كوريا الشمالية وغريمتها الجنوبية. ومازالت العلاقات التاريخية بين الصين وتايوان (العداوة) هي التي تتحكم في الديناميكيات الأمنية الإقليمية في البحر الأصفر في شرق أسيا بالإضافة إلى أنماط أمنية أخرى.

    2-التخومية. المتغير المستقل الآخر الذي يؤثر في الديناميكيات الأمنية الإقليمية هو مبدأ “التخومية Adjacency”، الذي يعمل على إنتاج الديناميكيات الأمنية العابرة للحدود، على افتراض أن التقارب الجغرافي يعني في جوهره الإستراتيجي التقارب في التأثير المتبادل لمفهوم الأمننة التي تتضمن المكونات العسكرية والسياسية والسوسيولجية والبيئية؛ فهي أجندة موسعة أو تعكس مفهوم الأمن في صيغته الجديدة المفهممة. فالأمن أو عدم الأمن هو مرتبط بالتقارب الجغرافي من جهة أن هذا الأخير ينتج الأنماط الأمنية المختلفة (التوازن، المنافسة الأمنية، المساعدة الذاتية، سباق التسلح)، وبالتالي وجود مجموعة من الأطراف متقاربة جغرافيا يشكل مفهوم المنطقة التي بدورها تكّون مركب الأمن الإقليمي، الذي يتميز بوجود علاقات أمنية أكثر كثافة من تلك العلاقات بين الدول المتباعدة جغرافيا. وبسبب التباينات الجغرافية والثقافية والسياسية، تتعدد المناطق ومن ثم يكون لدينا مركبات أمن إقليمية وليس مركب أمن واحد في النظام الدولي.

    من الشواهد التي يستدل بها بوزان وزميله في هذا الصدد، جنوب أسيا الذي يشكل مركب أمن إقليمي متميز بكثافة العلاقات الأمنية التي لا تتأثر في الغالب بالأحداث الأمنية التي تجري في منطقة الخليج العربي أو جنوب شرق أسيا. النتيجة النظرية هي أن الجغرافيا والتمايزات القومية والسياسية ضمن حدود جغرافية معينة، قد أدت إلى إنتاج التجمعات الأمنية الإقليمية المتمايزة عبر العالم، أطلق عليها اسم مركب الأمن الإقليمي.

    3-الاعتماد المتبادل الأمني. المتغير المستقل الآخر في تحليل نظرية مركب الأمن الإقليمي للعلاقات الأمنية الدولية هو الاعتماد المتبادل الأمني، الذي هو الآخر متأثر بمبدأ التخومية أو التقارب الجغرافي من جهة، وبوجود وحدات سياسية قوية تشكل قلب مركب الأمن الإقليمي من جهة ثانية. على افتراض أن هذه الوحدات تملك قدرات كبيرة يمكن أن توجهها نحو تحريك وتفعيل التفاعلات الأمنية الإقليمية. ولو أن في كثير من الأحيان تعمل القوى العظمى على تخطي الحدود الإقليمية (الصين مثلا) من أجل زيادة نفوذها العالمي أو بسبب الحاجات المتزايدة التي لا تستوعبها المنطقة الإقليمية، لكن معظم أطراف مركب الإقليمي تبقى مقيدة بالحدود الإقليمية وتربط أمنها بالجيران القريبين منها وتجد نفسها مغلقة بالزامات وديناميكيات الأمن الإقليمية؛ بسبب محدودية قدراتها العسكرية والسياسية وبالتالي سوف تعزز النظام الأمني الإقليمي بدل أن تتخطاه. فالقوى العظمى (التي ركز الواقعيون الجدد[6] تحليلهم عليها) تميل إلى التخلي عن القيود الإقليمية في حين أن القوى الصغرى تميل إلى تعزيزها، لكن ما هو مهم من الناحية المنهجية بالنسبة لنظرية مركب الأمن الإقليمي هو أن عدد القوى العظمى قليل في العالم في حين أن القوى الصغرى تشكل الغالبية العظمى في النظام الدولي، ومادام الأمر كذلك، فإن التحليل الإقليمي للعلاقات الأمنية هو الأكثر أهمية في تفسير وفهم نمط السياسة الدولية المعاصرة.

    فالاعتماد المتبادل الأمني كمتغير مستقل، يعمل على إنتاج الديناميكيات الأمنية الإقليمية سواء في الاتجاه السلبي أو الاتجاه الإيجابي، على افتراض أنه لا يمكن إطلاق مركب الأمن الإقليمي على أي تجمع من الدول ما لم تكن بينها علاقات أمنية مكثفة، تستجيب بشكل متكرر للمنبهات الأمنية المرسلة من بعضها البعض نحو بعضها البعض. الاعتماد المتبادل عند أنصار النظرية الوظيفية الجديدة[7] هو وجود علاقات وظيفية بين مجموعة من الأطراف بحيث أن كل طرف ينتج وظيفة ويتلقى حاجة، ومؤشره أن حدوث أي خلل في بيئة طرف معين المحلية يؤثر مباشرة في بيئات الأطراف الأخرى. الاعتماد المتبادل الأمني لدى نظرية مركب الأمن الإقليمي هو موسع المجال، بحيث تكون علاقات تأثير أمني متبادل سواء كانت الأفعال إيجابية (تنسيق أمني، استقرار) أو سلبية (الإعداد للحرب، توسيع النفقات العسكرية، زيادة النفوذ على حساب الآخرين).

    السمة المميزة لمركبات الأمن الإقليمية التي تعتمد كخلفية نظرية للتحليل هي عمومية الاعتماد المتبادل الأمني بين الأطراف المشكّلة للمنطقة. فالفكرة الجوهرية لهذا المتغير المستقل في التحليل الإقليمي لقضايا الأمن هي الترابط الأمني الشديد والتأثير المتبادل بشكل صارم بين الأطراف الإقليمية، بحيث أن حالة التفكك أو الانسجام داخل بيئة أحد الأطراف تصدّر مخرجاتها إلى بيئات الأطراف الأخرى، مثل الحرب الطائفية في العراق في 2006 وتأثيرها على صحوة الانقسامات المذهبية في دول الخليج واليمن وحتى باكستان في جنوب أسيا. هذا المتغير هو الآخر ليس مفصولا عن النظام الدولي، إذ يعتقد أنصار هذه النظرية أن حالة الاعتماد المتبادل لمركبات الأمن الإقليمية هي التي تؤهلها لأن تكون نظاما فرعيا من النظام الدولي.

    4-الاختراق. من المتغيرات المستقلة الأخرى في تحليل نظرية مركب الأمن الإقليمي للعلاقات الأمنية الدولية هو مفهوم “الاختراقPenetration “. يحتوي هذا المفهوم مضامين نظرية في اتجاهات مختلفة، إذ يتضمن معنى اختراق القوى العظمى مركبات الأمن الإقليمية من أجل دعم حلفائها الإقليميين وحماية مصالحها؛ عبر وضع الترتيبات الأمنية بالمشاركة مع القوى الإقليمية داخل مركب الأمن الإقليمي. لكن عملية الاختراق لا تحدث إلا بدوافع نابعة من داخل المنطقة لا من خارجها، عن طريق قيام طرف إقليمي أو أكثر بخلق فرص أو مطالب لتدخل القوى العظمى الخارجية، المتمثلة في تهديد ميزان القوى أو السيطرة على مصالح معينة أو زيادة النفوذ على حساب الآخرين أو تنامي دافع الهيمنة لدى طرف معين للسيطرة على المنطقة ككل أو محاولة السيطرة على المواقع الحيوية للنظام الاقتصادي العالمي. كل هذه التفاعلات هي بمثابة محفزات حيوية لسلوك القوى العظمى الخارجية للتدخل في مركبات الأمن الإقليمية، كما هو الحال مع الولايات المتحدة في شبه الجزيرة الكورية وأوربا ومناطق أخرى من العالم.

    من ناحية أخرى، يعتبر توازن القوى ومنطق المنافسة الأمنية الإقليمية مصدران محفزان للأطراف المحلية لطلب المساعدة من الأطراف الخارجية، وبذلك ترتبط الديناميكيات الأمنية الإقليمية بنظيرتها العالمية. فخلال الفترة الممتدة ما بين عامي 1952 و1971 ارتبطت مصر بالاتحاد السوفياتي، وارتبطت إسرائيل بالولايات المتحدة؛ وأصبحت مخرجات العلاقات الأمنية الإقليمية مرتبطة بسلوك وسياسات هاتين القوتين العظميين. يعتقد بوزان وزميله أن هذا الارتباط الأمني بين البيئتين (الإقليمية والدولية) هو خاصية طبيعة للبنية الفوضوية للنظام الدولي؛ وفي نفس الوقت هو مظهر أساسي لمتغير الاختراق في نظرية مركب الأمن الإقليمي حول تحليل العلاقات الأمنية الدولية.

    كما يمكن للقوى الإقليمية اختراق مركبات الأمن الإقليمية في المناطق المجاورة، مثل حالة الصين الموجودة في شمال شرق أسيا وفي جنوب شرق أسيا وفي جنوب أسيا. في نفس الوقت يمكن أن ينعكس الاختراق في معنى اختراق الديناميكيات الأمنية للحدود الجغرافية للدول نحو بعضها البعض بسبب وجود الإثنيات الموزعة على عدد من دول المنطقة كما هي حالة الأكراد في الشرق الأوسط والطوارق في دول ساحل الصحراء بإفريقيا. أو بسبب اختراق المذاهب الدينية لعدد من الدول كالسنة والشيعة في الشرق الأوسط. نشوب النزاعات بين هذه الفئات سوف تخترق بسهولة الحدود القومية نحو المناطق الأخرى.

    التأكيد على مبدأ “الاختراق” هو في نفس الوقت وبطريقة أخرى تحدي لنظرية مركب الأمن الإقليمي، من حيث مبالغة الواقعية الجديدة[8] في تعظيم دور القوى العظمى في السيطرة على العلاقات الدولية. لا تنف نظرية مركب الأمن الإقليمي تماما دور القوى العظمى في اختراق مركبات الأمن الإقليمي عبر العالم، ولكن المستوى الإقليمي في التحليل هو الأهم في فهم العلاقات الأمنية الدولية. تشتق هذه الأهمية من أنماط التفاعل الأمني مثل المنافسة الأمنية الإقليمية وتوازن القوى والتحالفات بين القوى الإقليمية. كل هذه الديناميكيات تحدث في المنطقة وليس في النظام الدولي. وحتى الأسباب العميقة للنزاعات والحروب الدولية هي في الأساس إقليمية وليست كونية، كما هي حالة البيئة الأمنية في الشرق الأوسط وجنوب أسيا. فهنا وظف بوزان وويفر وحدات التحليل للواقعية الجديدة، لكن في اتجاه التحليل الإقليمي وليس الكوني على عكس ما فعل جون ميرشيمر.

    5-مبدأ القوة. المتغير الآخر في تحليل نظرية مركب الأمن الإقليمي للقضايا الأمنية هو “القوة”، كعامل أساسي منتج للتفاعلات الأمنية بشكل مكرر وكثيف، وربما هو أكثر المتغيرات تأثير في الديناميكيات الأمنية الإقليمية. عندما يتفاعل مفهوم القوة عبر المستوى الإقليمي، سوف ينتج خاصية توازن القوى التي تشكل النظام الأمني الإقليمي وتتفاعل الأطراف بناء على إلزامات هذا النظام. تظهر الأنماط الأمنية للقوة في شكل مخاوف تحرك سلوك الفواعل الإقليمية باتجاهات مختلفة، سوف تتصاعد مثل هذه المخاوف بشكل صارم كلما احتد الصراع من أجل التفوق في حيازة القوة؛ جراء التوقعات المأساوية حول نتائج اكتساب طرف معين لعناصر القوة على حساب الآخرين. يمكن أن تترافق مثل هذه المخاوف بتهديدات للاستقرار الإقليمي تتحكم في المخرجات الأمنية لمركب الأمن، كما هو الوضع اليوم قائما في الخليج العربي (2012)، بحيث أن تنامي القوة الهجومية الإيرانية يبث الخوف في دول الخليج العربية، وهذه المخاوف هي مترافقة بتهديدات إيرانية بأنها سوف تهاجم هذه الدول إذا استخدمت أراضيها لتهديد أمنها القومي من قبل القوى العظمى. كل هذه الديناميكيات الأمنية المنتجة بواسطة متغير القوة، تشكل مفهوم مركب الأمن الإقليمي.[9]

    مستويات التحليل

    ميّز بوزان وزميله[10] بين مستويين رئيسيين من التحليل للقضايا الأمنية وهما المستوى الإقليمي والمستوى العالمي، مع الإقرار بغموض هذا التمييز أو صعوبة وضع حد فاصل بين ما هو إقليمي وما هو عالمي؛ لكن التمييز بين المستويين يعطي نظرية مركب الأمن الإقليمي قوتها التحليلية. إذ يستهدف التمييز في المقام الأول إبراز الأهمية المنهجية والنظرية للتحليل الإقليمي للقضايا الأمنية، وكيف أنه أكثر قدرة على فهم الأبعاد الحقيقية ويذهب إلى ما وراء الأحداث الجارية في البيئة الدولية. كما أنه يثبت العلامة الفارقة لنظرية مركب الأمن الإقليمي وتميزها عن النظريات الأخرى، بل ذهب بوزان وزميله بعيدا في تمييزها حتى عن المضمون التحليلي للواقعية الجديدة.

    فإذا كان تحليل كنيث ولتز[11] قد ركز على أهمية البنية في تحليل العلاقات الدولية وأعطى المستوى العالمي الأولوية في التحليل، فإن بوزان وزميله حاولا الاعتماد على الفهم التعددي للعلاقات الدولية انطلاقا من الوحدة ثم المنطقة ثم ما بين إقليمي ثم المستوى الكوني؛ لكن لا معنى ولا أهمية لأي تحليل لكل هذه المستويات ما لم يؤخذ بعين الاعتبار المستوى الإقليمي في التحليل؛ الذي يشكل المجال الحيوي في إنتاج الديناميكيات الأمنية. على اعتبار أنه بالرغم من أن العولمة الاقتصادية والتجارية وحتى الإعلامية تشكل محركا مهما للعلاقات الكونية، إلا أن قوة الدفع الحقيقة هي نابعة من مصادر إقليمية وليست كونية سواء تعلق الأمر بالقضايا الأمنية أو الاقتصادية. المبرر لذلك هو أنه في نهاية المطاف هناك تقسيمات بين المجالات الجغرافية للأمن، فهناك الأمن الأوربي وأمن جنوب شرق أسيا وأمن جنوب أسيا وأمن الشرق الأوسط وأمن شمال إفريقيا، وهكذا. في نفس الوقت لا ينف أنصار نظرية مركب الأمن الإقليمي مسألة الترابط الأمني ما بين المناطق المطروح من قبل الكونيين أيضا،[12] لكن مرجعية هذا الترابط الأمني النهائية هي موجودة في المناطق الإقليمية.

    الفكرة الأساسية هنا هي أن الديناميكيات الأمنية المتحكمة في سلوك الدول لها أصولها في المنطقة الإقليمية، وهي تستمد قوتها من مستوى المنطقة الإقليمي وليس من مستويات أخرى؛ لذلك النزعة الإقليمية هي مركز على تحليل العلاقات الإقليمية الأمنية. المبرر المقدم من قبل أنصار هذه النظرية لتحدي الكونيين هو التمايز الواضح بين المناطق وأن الديناميكيات الأمنية الإقليمية لكل منطقة تعمل بطريقة معينة، على عكس ما يدعيه الكونيون[13] من أن كل المستويات منحلة في مستوى واحد. فالإقليمية هي السمة البارزة في العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، تشتق تمايزها من العناصر الجغرافية والاقتصادية والديموغرافية والنظمية وتاريخ تشكيل الدول وعلاقات العداء والصداقة بين الدول؛ بل حتى الصراعات الكبرى تساهم في تمييز المناطق عن بعضها البعض.

    لذلك، وجه النقص في النظرية الواقعية/الواقعية الجديدة[14] والنظرية الكونية[15] في تحليل العلاقات الأمنية الدولية، هو أنهما يبالغان بشدة في إعطاء المستوى الكوني أهمية كبرى على حساب المستوى الإقليمي الذي منه تشتق الديناميكيات الأمنية قوتها التأثيرية في العلاقات الدولية. وأن مبررات كل نظرية هي متباينة، لا تؤدي في نهاية المطاف إلى تقديم تحليل واف لحقيقة العلاقات الدولية، مع إقرار أنصار نظرية مركب الأمن الإقليمي بإبقاء افتراض مركزية الدولة كوحدة أساسية في التحليل باعتبارها الطرف المهيمن على العلاقات الدولية الإقليمية. حرص كل من بوزان وويفر[16] على تمييز نظرية مركب الأمن الإقليمي عن النظرية الواقعية/الواقعية الجديدة والنظرية الكونية، لا يعني أنها لا تلتق معهما في عدد من النقاط، مثل الاعتراف بأن الكونية وفرت فضاء للتحليل الإقليمي وأن الواقعية الجديدة وفرت إطار جيدا للتمييز بين المستويات الكونية والإقليمية.

      [1]Barry Buzan and Ole Waever, Regions and Powers: The Structure of International Security (Cambridge, New York, Melbourne, Madrid, Cape Town, Singapore, Sào Paulo: Cambridge University Press, 2003), pp. 21-22.

          [2] Barry Buzan, People, States, and Fear : The National Security Problem in International Relations ( London: Wheatsheaf Books, 1982), pp. 73-75.

          [3]Chris Brown, “Development and Dependecy,”  In International Relations: A Handbook of Current Theory, ed. Margot Light and A. J. R. Groom (Great Britain: Frances Pinter (Publishers) Limited, 1985), pp. 64 -65.

      [4] Immanuel Wallerstein, “Patterns and Perspectives of the Capitalist World –Economy,” In: International Relations Theory: Realism, Pluralism, Globalism, ed. by Paul R. Viotti & Mark V. Kauppi (New York: Mac Millan Publishing Company, 1993), pp. 501-12.  

      [5]Barry Buzan and Ole Waever, Regions and Powers: The Structure of International Security (Cambridge, New York, Melbourne, Madrid, Cape Town, Singapore, Sào Paulo: Cambridge University Press, 2003), pp. 22-25.

      [6] John Mearcheimer, “Strategies for survival,” in Perspectives on World politics, 3rd ed. Ed. Richard Little and Michael Smith (London and New York: Routledge Taylor & Francis Group, 2006), pp. 69 -78.

      [7] Robert O. Keohane and Joseph S. Nye, “Power, interdependence and the information age,” in Perspectives on World Politics, 3rd ed. Ed. Richard Little and Michael Smith (London and New York: Routledge Taylor & Francis Group, 2006), pp. 217 – 27.

      [8] Jack Donnelly, Realism and International Relations (U K: The Edinburgh Building, Cambridge CB2 2RU, 2004), pp. 81- 107.

      [9]Barry Buzan and Ole Waever, Op. Cit., pp. 45-50.

      [10]Barry Buzan and Ole Waever, Op. Cit., pp. 25-26.

      [11] Kenneth N. Waltz, “Explaining War,”  In: International Relations Theory: Realism, Pluralism, Globalism, ed. by Paul R. Viotti & Mark V. Kauppi (New York: Mac Millan Publishing Company, 1993), pp. 123-40. 

      [12] David Held, «Cosmopolitanism: Globalization Tamed,» in Perspective on World Politics, 3rd ed., ed. Richard Little and Michael Smith (London and New york: Routledge Taylor & Francis Group, 2006), pp. 247-48.

      [13] William S. Cohen, « Globalization Today : How Interconnected Is The World, » in Globalization In The 21th Century : How Interconnecte dis the World ? (Abu Dhabi : The Emirates Center For Strategic Studies And Research, 2008), pp. 13-19.

      [14] K. J. Hols, “States and statehood,” in Perspectives on World Politics, 3rd ed., ed. Richard Little and Michael Smith (London, New York: Routledge Taylor &  Francis Group, 2006), pp. 18-30.

      [15] Frances Fox Piven, «Globalizing Capitalism and the Rise of Identity Politics,» in Perspective on World Politics, 3rd ed., ed. Richard Little and Michael Smith (London and New york: Routledge Taylor & Francis Group, 2006), pp. 308-12.

      [16]Barry Buzan and Ole Waever, Op. Cit., pp. 25-28.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button