إعداد: وسام قدور – باحث بمركز المجدد للبحوث والدراسات
مركز المجدد للبحوث والدراسات
مستخلص:
تتناول هذه الدارسة موقف الإسلام من الاستبداد من خلال التركيز على مناقشة الرأي الذي قام على إبراز نصوص طاعة ولي الأمر والصبر على ظلمه هروباً من الفتنة في كل حال دون تفصيل، والتغاضي عن نصوص تحريم الظلم، والنهي عن أكل حقوق الناس وأموالهم وهتك أعراضهم، هذا الطرح الذي يسوغ شرعية الاستبداد. تعتمد هذه الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي بحيث توفر فهماً متكاملاً لجوانب الموضوع وتحليلها، وتحاول إلقاء الضوء على موقع نصوص طاعة ولي الأمر في سياق النظام الإسلامي العام، ومناقشة طرح العلماء الذين سوغوا للحاكم استبداده، وشكلوا سبباً رئيسياً في استدامة الاستبداد. ولتحقيق هذا الغرض لا بد من بيان موقف الشرع في ردع الحاكم الجائر وفقاً لحاله، وعلى وجوب فرض الالتزام عنده وحمله على العدل. وتتمثل أهمية هذه الدراسة في أنها تناقش معظم الحجج والأسانيد التي تحاول أن تسوغ للاستبداد دينياً مع نقدها، وتعرض وجهتي النظر في الموضوع. وتقدم نماذج متنوعة بعضها من واقعنا لعلماء دين وقفوا في وجه الاستبداد وقاوموا الظلم وثاروا عليه.
الكلمات المفتاحية: الاستبداد، الظلم، طاعة ولي الأمر، الحاكم، الخروج، الثورة، الفقه، الإسلام.
مقدمة:
إن الأوضاع السياسية السيئة التي يعيشها عالمنا العربي والإسلامي اليوم هي نتاج سلطات مستبدة تولت الحكم بالقوة والإكراه، وحافظت على طغيانها ووجودها بالعنف والقمع والاستبداد. ومن الأدوات التي يستخدمها المستبد المؤسسات الدينية التي جعلها تحت سلطته كذلك استقطابه من رموز العلماء -الذين تصغي لهم الأمة- ما يستمد بهم دوام شرعيته، ويقمع بهم كل من يفكر الرفض لظلمه والخروج عليه. أما الإسلام فجاء ليرسخ مبادئ العدل والشورى ويحارب الطغيان وحماية حقوق العباد.
لم يدخر المستبد وسيلة أو فكرة تسانده وتدعم وجوده إلا استخدمها وبذل لتحقيقها السلطة والأموال، فأسس جهازاً أمنياً قائماً على القمع والاضطهاد والتعذيب، وسخر الإعلام لزخرفة باطله بمظهر الحق، وجمع حوله باسم الدين فئة تشرع له البقاء والاستمرار، وتحوطه بقداسة وجلالة لا تجيز الخروج عليه، بل ولا الاعتراض عليه أو بذل النصح له. ولأن الإسلام هو دين الحق والعدل وجاء لمحاربة الظلم والاستعباد، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، كان لزاماً على العلماء والدعاة في كل زمان ومكان الصدع بكلمة الحق ورفض الظلم والعدوان والاستعباد، والجهر بكلمة الحق أمام المستبدين، و”أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”. إن تشريع الاستبداد قام على إبراز بعض النصوص الشرعية مفصولة عن سياقها، وإغفال نصوص أخرى، وتركيز الضوء على نصوص الطاعة، والتغاضي عن نصوص تحريم الظلم. حيث أن نصوص طاعة ولي الأمر التي يتمسك بها علماء السلطان ويستعملونها في ترسيخ الاستبداد، ينظرون إليها منفردة قائمة بذاتها، دون الجمع بينها وبين باقي نصوص وقواعد الشريعة التي تخص هذا الأمر، ودون التفصيل حسب اختلاف الحال والسياق. وأغلب الدراسات السابقة ركزت على أهمية طاعة ولي الأمر وحرمة الخروج عليه، لكن قليلة هي الدراسات التي تعرضت للعلاقة بين طاعة ولي الأمر وتحريم الظلم. من الدراسات السابقة:
- تفكيك الاستبداد دراسة مقاصدية في فقه التحرر من التغلب، محمد العبد الكريم، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2013. وهذه أبرز دراسة أبرزت بالتأصيل العلمي موقف الإسلام من الاستبداد، لكنها ركزت على حالة واحدة وموقف واحد، ولم تفصل في الأحوال المختلفة والآراء المختلفة في الموضوع.
- الخروج على الحاكم في فقه السياسية الشرعية، عثمان صالح فيروز، الناشر جامعة الخرطوم،2013.
- نظرية الخروج في الفقه السياسي الإسلامي، كامل علي إبراهيم رباع، جامعة القدس، رسالة ماجستير، دار الكتب العلمية.
- فقهُ مُناصحة ولاةُ الأمر في الدّولة الإسِلاميّة، يونس عبد الله موسى، رسالة ماجستير. 2014، مركز مقديشو للبحوث والدراسات
- مناصحة ولي الأمر في السنة النبوية والاثار -دراسة موضوعية، شقور عائشة، رسالة ماجستير، جامعة الشهيد حمه لخضر-الوادي،2019.
أغلب الدراسات السابقة كانت تعرض وجهة نظر واحدة، وتميزت هذه الورقة بعرض وجهتي النظر المختلفتين من خلال بيان موقفي العلماء تجاه مسألة “طاعة ولي الأمر” مع بيان الحجج والأدلة، وتركز على الموقف من المستبدين الظالمين منهم، وتبرز أهمية هذا الأمر أنه يفضي إلى تبيان الموقف الصحيح الذي يجب أن يتبناه علماء الدين، ذلك أن كثيراً منهم يتبنون مواقف خاطئة.
جاءت هذه الورقة في ثلاثة محاور، تناولت في المحور الأول التأصيل الشرعي لطاعة الحاكم في سياق النظام الإسلامي العام من خلال بيان شروط نصب الحاكم وواجباته، ثم عرضت في المحور الثاني موقف الإسلام من الحاكم في حال ظلمه واستبداده، وطرحت في المحور الثالث نماذج واقعية في مقاومة الاستبداد، ثم جاءت الخاتمة بأهم النتائج والتوصيات.
أولاً- التأصيل الشرعي لطاعة الحاكم في سياق النظام الإسلامي العام:
من هو الإمام (الحاكم الشرعي)؟
هل الحاكم صاحب سلطة مطلقة في إدارة شؤون الناس بحيث لا يحق لأحد من الرعية أن ينهاه عن منكر أو يأمره بمعروف؟
إن الحاكم في الشريعة الإسلامية وكيلٌ عن الأمة ونائب عنها، يقود الناس بشرع الله وأحكامه، والمقصد الأساسي الذي شرعت الإمامة لأجله هو إقامة الدين وحراسته وسياسة الدنيا به[1].
شروط الإمام وواجباته وأهليته
الإمام هو الرئيس الأعلى للدولة الإسلامية، وحتى يكون أهلاً لتحمل المسؤولية التي ستلقى على عاتقه اشترط العلماء في حال الاختيار شروطاً هي:
الشرط الأول: الإسلام قال تعالى:(ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)[2]، يدخل في ذلك أيضاً في الدنيا أن يسلطوا عليهم [3]. وقوله صلى لله عليه وسلم:(إنا لا نستعين بمشرك)[4] للذي أراد أن يغزو معه في بدر وهو على شركه، فإذا كان هذا في بعض الأمور رفضه النبي صلى الله عليه وسلم، فمن باب أولى أن لا يولى أمور المسلمين ولا يكون رئيساً عليهم. وقد حكي الإجماع على عدم جواز انعقاد الإمامة لكافر ابنُ حزم (456هـ)[5]، والقاضِي عياض (544هـ)[6].
الثاني والثالث والرابع والخامس: البلوغ والعقل والحرية والذكورة
السادس: العدالة بشروطها الجامعة، من اجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر، وبناء على هذا الشرط فلا يجوز تولية الفاسق، وقرر ذلك القاضي عياض[7].ومن الأدلة على اشتراط هذا الشرط ما ورد في قصة إبراهيم عليه السلام حينما قال له ربه:( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)[8]. أراد أن الظالم لا يكون إماماً[9]. وإذا لم يكن من الخيارات إلا الفاسق وتفاوتت رتب الفسوق في حق الأئمة يقدم أقلهم فسوقاً، مثل إن كان فسق أحد الأئمة بقتل النفوس وفسق الآخر بانتهاك حرمة الأبضاع، وفسق الآخر بالتضرع للأموال، قدمنا المتضرع للأموال على المتضرع للدماء والأبضاع، فإن تعذر تقديمه قدمنا المتضرع للأبضاع على من يتعرض للدماء، وكذلك يترتب التقديم على الكبير من الذنوب والأكبر والصغير منها والأصغر على اختلاف رتبها، فإن قيل: أيجوز القتال مع أحدهما لإقامة ولايته وإدامة تصرفه مع إعانته على معصيته؟ فالجواب: نعم دفعاً لما بين مفسدتي الفسوقين من التفاوت ودرءاً للأفسد فالأفسد[10].والسابع: العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام على قول الجمهور[11]، خلافاً للحنفية[12] والغزالي[13] من الشافعية الذين جوزوا كون الإمام غير مجتهد حيث يكفي الورع الذي يدعوه لمراجعة أهل العلم حتى يعرف حكم الشرع. والثامن: سلامة الحواس والأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة ليصح معها أن يدرك بها. والتاسع: الرأي المفضي إلى سياسة الناس وتدبير مصالحهم.
والعاشر: الشجاعة والنجدة لحماية بيضة البلاد وجهاد العدو. والحادي عشر: النسب، وهو أن يكون من قريش وهذا قول الجمهور، ومنهم من رأى أن الخلافة ممكنة لأي شخص، ولو لم يمكن قرشياً، وحجتهم في ذلك الحديث النبوي: (اسمعوا وأطيعوا ولو ولي عليكم عبد حبشي)[14]، منهم الإمام الجويني وابن خلدون رحمهما الله تعالى حيث اعتبراه شرطًا ليس ضروريًا لمنصب الخلافة، وأنه جاء فقط في ظرف تاريخي ما، كانت فيه قبيلة قريش أشد قبائل العرب وأكثرها حرصاً على الإسلام وتبليغه وصونه، لذا اعتبره شرطاً يسقط بتغير الأحوال[15].
ما هي وظيفة الحاكم؟
الحكم والإمامة تكليف لا تشريف، ومسؤولية كبرى وأمانة عظيمة، والشارع أكد على خطورة وعظم توليها لتتربى النفوس على الرقابة الذاتية والخوف من عقوبة الآخرة في حال الخيانة أو التقصير والإهمال، قال صلى الله عليه وسلم في شأن الإمارة:(إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها)[16]. كما حرص الشارع أن توسد الإمارة إلى مستحقيها أصحاب الكفاءات، وحذر الناس من طلبها أو التصارع عليها، فقد روي:(لا تسأل الإمارة فإنّه من سألها وُكل إليها ومن ابتلي بها ولم يسألها أُعين عليها)[17]. لذا كان سؤال الإمارة فيه محذوران:
أولاً: حرصُ السائل للإمارة على الدنيا، وهذا الحرصُ غالبًا يحمله على الكبر وتعدّي حدود الله.
ثانياً: اتّكاله على نفسه، وهذا يفقده الافتقار إلى الله، بينما كان من أكثر دعاء النّبي صلى الله عليه وسلم: (اللهمَّ رحمتَك أرجو، فلا تكِلني إلى نفسي طرفة عين)[18] . إن كان الإمام أهلاً لذلك وتولى الحكم وأحسن في مهمته وأدى الأمانة والمسؤولية الملقاة على عاتقه فهذا الإمام العدل الذي مدحته الشريعة، ووعدته أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في عرشه يوم لا ظل إلا ظله، أما إن قصر في واجباته أو تعدى في ظلمه لرعيته كان من الواجب نصحه فيما أخطأ وقصر فيه، بل وفي بعض الحالات تقويمه وأطره على الحق، وربما عزله وخلعه أحياناً. والذي يلزم الإمام من الأمور العامة عشرة أشياء[19]:
أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة. الثاني: تنفيذ الأحكام وقطع الخصام بين المتنازعين حتى يعم العدل، فلا يتعدى ظالم، ولا يضعف مظلوم. الثالث: حماية البلاد والذب عن الحريم؛ لينتشر الأمن والأمان على النفوس والأعراض والأموال.
والرابع: إقامة الحدود؛ لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك. والخامس: تحصين الثغور.
والسادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة.
والسابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع. والثامن: تقدير العطايا ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسع: استكفاء الأمناء لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.
العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح.
ثانياً-موقف الإسلام من ظلم واستبداد الحاكم
الأصل في الحاكم أن يكون عادلاً، فما موقف الشريعة من الحاكم إذا استبد وظلم؟ وما القواعد التي جاءت بها لإزالة هذا الظلم والمنكر والفساد؟ كيف يكون التدرج في الإنكار بحسب الحال وترجيح المصلحة؟
- الطاعة في المعروف
من حق الحاكم على المحكومين طاعته ما أطاع الله ورسوله، قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ)[20]. وأولو الأمر هم العلماء والأمراء، لكن الله تعالى لم يأمر بطاعتهم استقلالاً، بل حذف الفعل، وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول إيذاناً بأنهم إنما يطاعون تبعاً لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة، كما صح عنه – صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)[21]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة، ما أقام فيكم كتاب الله) [22]. فاشترط لطاعته دوام حكمه بما أنزل الله، فقال:(ما أقام فيكم كتاب الله). وعن علي- رضي الله عنه-: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً وأمَّر عليهم رجلاً، فأوقد ناراً، فقال: ادخلوها. فأراد الناس أن يدخلوها، وقال الآخرون: إنا فررنا منها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة، وقال للآخرين: قولاً حسناً، وقال: “لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف”[23]، وما دام الحاكم عادلاً فيحرم الخروج عليه وإن كان الخارج عادلاً، فإن خرج كان الخارج باغياً مستبداً لأنه خروج بغير حق.
- النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إذا قصر الحاكم في واجباته وصدر منه المخالفات العملية، أو تساهل في الالتزام بأحكام الشرع، فهذا يجب مع طاعته نصحه وإنكار ما جاء به من مخالفات وكرهها، حيث جاء في الحديث (فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدًا من طاعة)[24] ولكن يبقى الخروج عليه حراماً. عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: أوّل من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصَّلاة مرْوان. فقام إليه رجل، فقال: الصَّلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هُنالك، فقال أبو سعِيد: أمّا هذا فقد قضى ما عليه سمعت رَسولَ اللهِ ﷺ يقولُ:(من رأى منكم منكراً فلغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)[25]. يؤخذ من هذا الحديث مشروعية وواجب الإنكار على ولاة الأمور إذا لم تحدث مَضرَّة، وبحسب القدرة. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، يظهر واجب النصح للحاكم، فالنصيحة لأئمة المسلمين معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب الناس لطاعتهم[26] . وينبغي تحري الحكمة والأسلوب الحسن في النصح، وهذا مطلوب في نصح عامة المسلمين، ولكنه يتأكد في حق ذوي الجاه والسلطان منهم. والصبر على الحاكم الظالم يكون بترك الخروج عليه بالسيف ، لا أنه يقتضي ترك الإنكار عليه عند تلبسه بالمنكرات والجور والبدع والمحدثات ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه:( أنه قال أيّها الناس إنّكم تقرؤون هذه الآيةَ {يا أَيُّها الذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذا اهْتَدَيْتُمْ}[27] وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول:(إنّ الناس إذا رأوا الظالمَ فلم يأخذوا على يدَيهِ أوشكَ أن يَعُمَّهُمُ اللهُ بعقابٍ منهُ)[28]. لذلك كان أفضل الجهاد كلمةُ عدلٍ عند سُلطانٍ جائرٍ[29] . فالصدع بكلمة الحق أمام حاكم -يلِي من أمور المسلِمين ما يلي- لردعه عن ظلم اشتهر به من أعلى مراتب الجهاد، لأنه ربما آذى هذا الحاكم من يأمره وينهاه فجعل الله أجر الناصح له عظيماً، ذلك أن الحاكم لو أخذ بكلمته وأصلح سيعم النفع عددًا كبيرًا من الناسِ فتحصل المصلحة العامة. لكن كيف يتم الموازنة بين الصبر على ظلم الحكام وواجب النصح لهم وإنكار المنكرات أو تقويم الأخطاء؟
لا بد من اجتهاد الراسخين في العلم في هذه المسائل التي تحتاج نظراً متوازناً في المصالح والمفاسد وخبرة بالواقع. وإذا أراد الحاكم تبديل حكم من أحكام الشريعة أو صدرت منه قرارات أو أوامر خاطئة مخالفة للشريعة، ويراد من الناس تطبيقها والعمل بها، فإن النصح بالانفراد لا يكون كافياً بل لا بد من تحذير الناس مع نقد التصرف، وموقف الإمام أحمد معروف في إنكاره لخلق القرآن- تلك المخالفة لما هو معلوم من عقيدة المسلمين -والتي دعا إليها الخلفاء العباسيون فوقف الإمام أحمد موقفاً نال بسببه السجن والضرب والتعذيب.
- عزل الحاكم والخروج عليه
السعي لإزالة الحاكم عن حكمه باستخدام القوة والسيف هذا هو الخروج المقصود في نصوص الفقهاء وهو نوع خاص من العزل، أما ما كان من تغيير بطرق سلمية بعيداً عن السلاح فليس خروجاً بالمعنى الفقهي ويشمل جميع طرق التغيير والعزل السلمية الأخرى.
متى يجوز عزل الحاكم؟
ليس كل خطأ يرتكبه الحاكم يستلزم عزله، والمطلوب منه أن يصلح ما تبين له من أخطائه ولا يصر على دوام الخطأ، وثمة هناك أمور عظام تستلزم ضرورة عزل الحاكم المرتكب لها، منها أمور متفق عليها بين العلماء، ومنها ما هو مختلف فيه نوضحها كالتالي:
الأسباب المتفق عليها:
1.الكفر البواح والردة: أول شرط أجمع العلماء على اشتراطه في إمام المسلمين كونه مسلماً، فإذا ارتد الحاكم أو تغلب على الأمة حاكم كافر فالواجب العمل على عزله. ولا بد من التنبيه إلى أن الكفر البواح قيد أخص من مطلق الكفر، حيث يشترط أمران: البواح في أصل الناقض ألا يكون مختلفاً فيه بأن لا يكون من الصور التي يدخلها الاجتهاد في الحكم بكفرها أو عدمه، والبواح في ظهوره للناس بأن لا يكون ناقضاً تتستر به السلطة. لذلك رأى ابن حجر أن الحاكم ينعزل بالكفر إجماعًا، ويجب على كل مسلم القيام في ذلك فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض[30]. كذلك نقل السفاقسي الإجماع على أن الخليفة إذا دعا إلى كفر أو بدعة أنه يثار عليه[31].
2. ترك الصلاة أو الحكم بغير شرع الله والدعوة إلى ترك شرع الله:
عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم. قال: قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة…)[32].عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا)[33].
وقد أفتت اللجنة الدائمة بأن النظم التي وضعت ليتحاكم إليها مضاهاة لتشريع الله داخلة في معنى الطاغوت[34]. ورأى القاضي عياض أن الحاكم لو طرَأ عليه كفرٌ، أو تغييرٌ للشرع، أو بدعةٌ – خَرَج عن حكم الولاية، وسَقَطت طاعتُه، ووجَب على المسلمين القيامُ عليه، وخلعُه، ونصبُ إمامٍ عادلٍ إن أمكَنهم ذلك، فإن لم يَقَع ذلك إلا لطائفةٍ، وَجَب عليهم القيامُ بخلْعِ الكافر[35].
الأسباب المختلف فيها:
الفسق والبدعة
لا تعقد الإمامة لفاسق في حال الابتداء عند جمهور الفقهاء خلافاً للحنفية[36]، أما إذا طرأ الفسق على الحاكم فاختلف الفقهاء في أثر الفسق في عزله كما يلي:
1.تحريم الخروج على الحاكم إلا في حالة الكفر البواح أو ترك شيء من الشريعة والدعوة إلى تركه ووجوب الصبر مع النصح : وهو قول أصحاب الحديث وجمهور أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، وحجتهم أحاديث كثيرة منها قوله عليه الصلاة والسلام: (وألا ننازع الأمر أهله قال إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)[37]. وحديث:(لا ما أقاموا فيكم الصلاة)[38]، وحديث (إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع – قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: – لا ما صلوا)[39]. وهذا القول الذي تمسك به كثير من أصحاب الحديث كان سبباً في فقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تغلب الظالمون على أمور الإسلام[40].
2. مشروعية الخروج بالسيف على الحاكم الجائر عند القدرة على إزالته بحاكم عادل، وهو قول كثير من المرجئة والمعتزلة والخوارج، واشتهر هذا عن الإمامين أبي حنيفة ومالك، فالحاكم بعد انبرام العقد وتوليه منصبه إذا فسق بشكل ظاهر معلوم قالوا إنه تنفسخ إمامته ويخلع، وحجتهم أنه قد ثبت أن الحاكم إنما يقام لأداء مهام ووظائف معينة وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها. فلو جاز أن يكون فاسقًا أدى ذلك إلى إبطال ما أقيم لأجله، وكما أنه لم يجز أن يعقد للفاسق في الابتداء لأجل أنه يؤدي إلى إبطال ما أقيم له، كذلك لا يبقى في منصبه إذا ظهر عليه الفسق واستدام[41].
3.التفصيل بين نوعين من الظلم والفسق
- الفسق الذي اتبع فيه الشهوة وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات بالجوارح متبعاً هواه وشهوات نفسه، فهذا كما أنه يمنع من انعقاد الإمامة يمنع من استدامتها، وهذا ذهب إليه الماوردي.
- الفسق المتعلق بالشبهات في الاعتقاد، والتأويل بشبهة تعترض فيتأول لها خلاف الحق، فأجاز إمامته الكثير من علماء البصرة[42].
الرأي المختار في حكم الخروج على الحكومة الظالمة:
إن ما ذهب إليه جمهور العلماء في عصر ما بعد التابعين من تحريم الخروج على الحاكم الجائر وكادوا يجمعون على ذلك كان لما رأوه من مفاسد عظيمة نتجت بعد حركات خروج فاشلة حصلت زمن الصحابة والتابعين .لذلك رأى ابن تيمية(728ه) أن المشهور من مذهب أهل السنة عدم الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم، لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته[43]. لذلك يمكن أن نلخص القول في حكم الخروج على الحاكم الجائر بأنه بعد انعقاد إمامته فإنه لا يجوز مباشرة الخروج عليه بالسيف، بل يجب الاتجاه إلى تغيير ذلك أولاً بالوعظ والنصح والدعاء، وهذا لتقديم أخف المفسدتين، ويجوز عزله إن أمكن بإحدى الطرق السلمية بشرط ألا يترتب على ذلك مفسدة أكبر، فإن لم يكن ذلك وجب المبالغة في الإنكار عليه والتحذير من ظلمه وبدعته حتى لو أدى الأمر إلى الاعتزال عن العمل معه والتعرض لأذاه حيث جاء في الحديث(فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن)[44]ـ فإذا استمر في ظلمه وطغيانه ثم قام عليه إمام عدل عنده القدرة فيجوز الخروج معه -على قول كما مر- وإعانته على الجائر ، لكن بشروط فالقاعدة الشرعية المجمع عليها: (أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه، بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه)، أما درء الشر بشر أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين، لذلك إذا كانت الطائفة التي تريد إزالة هذا الحاكم الذي فعل فسقاً ظاهراً معلوماً عندها قدرة تزيله بها، وتضع حاكماً صالحًا طيبًا من دون أن يترتب على هذا فساد كبير على المسلمين، وشر أعظم من شر ذلك الحاكم الأول فلا بأس ، وهذا ما ذكره فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية [45].أما إذا كان الخروج يترتب عليه فساد أكبر، من حيث زهق الأرواح واضطراب الأمن، وانتشار الفوضى والظلم بين الناس، وقطع الطرقات وانتشار السرقات إلى غير هذا من الفساد العظيم، فهذا لا يجوز، بل يجب الصبر والسمع والطاعة في المعروف، ومناصحته والمبالغة في الإنكار عليه والتحذير من ظلمه، والاجتهاد في تخفيف الشر وتقليله وتكثير الخير وتعظيمه، لأن مقصد الشارع هو تكثير المصالح وتقليل المفاسد، وفي التزام عدم الخروج عند عدم القدرة تقليل للمفسدة ،وتكثير للمصلحة من حفظ أمن الناس وسلامتهم من التقتيل والحبس والتهجير. ونقل ابن حجر رحمه الله تعالى عن ابن التين عن الداودي قاعدة تراها ملخص المسألة كلها أن “الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب وإلا فالواجب الصبر” [46].
ثالثاً- نماذج حية في مقاومة الاستبداد
أ- نماذج في مقاومة الاستبداد من التاريخ الإسلامي
- أفضل البشر بعد الأنبياء أبو بكر الصديق رضي الله عنه: قال في خطبته الأولى بعد بيعته:” أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم” وقال: “فإن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فسددوني”[47].
- وقال سيدنا عمر رضي الله عنه: “من بايع رجلًا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا”[48] .
- الإمامان أبو حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى:
كان مذهب أبي حنيفة مشهوراً في قتال الظلمة وأئمة الجور، ولذلك قال الأوزاعي “احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف يعني قتال الظلمة فلم نحتمله”، وكان من قوله: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض بالقول، فإن لم يؤتمر له فبالسيف، على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم[49].
وعن ابراهيم بن سويد الحنفي قال كان الإمام أبو حنيفة يكرمني وسألته عن أيام ابراهيم بن عبد الله بن الحسن -أخي محمد النفس الزكية- فقال: إنها أحب إلي بعد حجة الإسلام من خمسين حجة[50].
ولما سأل أبو إسحاق الفزاري أبا حنيفة عن سبب مشورته على أخيه بالخروج مع إبراهيم حتى قتل؟ أجابه بأن مخرج أخيه أحب إلى أبي حنيفة من مخرجه. وكان أبو إسحاق قد خرج إلى البصرة، وهذا إنما أنكره عليه يعني مساندة أخيه لإبراهيم بن عبد الله أفضل من جهاد الكفار[51]،يفهم من هذا أن الجهاد عند الإمام أبي حنيفة لتخليص النظام الداخلي للمجتمع المسلم من سطوة القيادة المنحرفة أفضل من قتال الكفار خارج المجتمع المسلم. وإن الثورة في نظر أبي حنيفة إذا كان من المحتمل أن تكون ثورة ناجحة صالحة فالاشتراك فيها ليس جائزًا مشروعًا فحسب، بل هو فرض وواجب أيضًا.
ووقف الإمام مالك بن أنس موقف الإمام أبي حنيفة نفسه:
عندما استفتاه أهلُ المدينة في الخروج مع محمد النفس الزكية، وقيل له إن بيعة المنصور في رقابنا فقال: إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمد ولزم مالك بيته. عندما أفتى ببطلان البيعة جبرًا أو الحلف كرهًا، أو الطلاق قهرًا فهم الناس بطلان بيعة العباسيين، وبسبب فتوى الإمام مالك رحمه الله تعالى انضم كثير من الناس إلى جانب النفس الزكية، ثم نال الإمام مالك عاقبة فتواه بأن جلده والي المدينة العباسي جعفر بن سليمان ومدت يده حتى خلعت كتفه[52].
ومن أقوال الإمام مالك المشهورة في رفض الوقوف مع المستبد، ما قاله عندما سُئلَ عن القتال مع الخلفاء ضد من خرج عليهم:(إن كان الخليفة كعمر بن عبد العزيز فقاتل معه، وإن كان كمثل هؤلاء الظلمة فلا تقاتل معه).
ب- نماذج في مقاومة الاستبداد من واقعنا المعاصر
إن مذهب جمهور أهل السنة في عدم جواز الخروج على الحاكم الجائر كان لعلة الحفاظ على الوحدة واجتماع الكلمة، وحفظ الأمن، وإقامة الجهاد وشعائر الإسلام ، فإن كانت الحكومة لا تقیم شیئاً من ذلك أو ضيعت كثيراً منه فأحلت الربا وأذنت ببيع الخمور وخانات الزنا والفواحش ،بينما عطلت الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر …كما هو حال كثير من حكومات وطننا العربي اليوم؛ عندها فإن شرعية هذه الحكومات تكون مشكوك فيها وخصوصاً أنها استلمت الحكم بالإكراه والتغلب الذي قال عنه الإمام مالك لا بيعة لمكره، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، لذلك عندما لا تقوم السلطة الحاكمة بما أقيمت لأجله لا يبقى لها شرعية [53] . إن التاريخ مليء بأخبار العلماء والصالحين الذين وقفوا في وجه الحكام بالتقويم والوعظ وقول الحق ناصحين مبلغين ساعين بإصلاح حال الأمة ورد المظالم والحقوق لأهلها. وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، ومسؤولية العلماء لا تقل أهمية عن مسؤولية الأمراء، وفي الناس صنفان إذا فسدا فسد الناس، وإذا صلحا صلح الناسُ: العلماء والأمراء. لذلك كانت أهمية كلمة الحق من العالم لما تلقى من قبول ومنزلة عظيمة في قلوب المسلمين.
لقد انقسم العلماء والدعاة في موقفهم من ظلم الحكام واستبدادهم -وخصوصاً بعد ثورات الربيع العربي – بين داعم ومحايد ومتخاذل. فالداعمون لها دافعوا عن الشعوب المظلومة ضد الأنظمة الظالمة، وأنكروا ما يفعله المستبدون من قتل وتعذيب وخطف واغتصاب، وتضييع لحقوق الشعوب وأكل لأموالهم، فواجهوا هذا الطغيان بأقلامهم وألسنتهم، في خطبهم ومقالاتهم، وأنكروا المنكر بما استطاعوا. فهذا الشيخ سفر الحوالي مثال لعالم بذل في رفض الظلم وتأييد الحق ما يستطيع، الذي قال:(وأنا لا أملك إلا الكلمة، ولا خير فيّ إن لم أقلها، وإنما يخاف منها العروش المهترئة والكراسي المهزوزة)[54]. ثم نشر كتابه (الإسلام والحضارة الغربية) الذي وجه فيه نصائح للعلماء وأخرى للدعاة وثالثة لآل سعود، كلّفه حريته وحرية أولاده، ذلك أنه السفر الذي صَدع فيه ولأول مرة برأيه في حكومة آل سعود، ووجّه فيه النصيحة المباشرة والنقد اللاذع للسلطات الحاكمة، فكانت النتيجة اعتقاله دون مراعاة كبر سنه ولا مرضه ولا منزلة علمه، بل اعتقلوا أولاده معه.
كما رأينا مثل هذا للشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى (1928 – 2012) مؤسس جماعة العدل والإحسان أكبر الجماعات الإسلامية المغربية وكان المرشد العام فيها، أرسل كتاباً سماه (الإسلام أو الطوفان) نصيحة للملك الراحل الحسن الثاني 1974، أراد به أن يُقوِّم شرعياً ما كان في الحكم من اعوجاج وفساد واستبداد، فقال: عزمت على أن أقول كلمة حق عند سلطان جائر، فأكون مع سيد الشهداء إن شاء الله[55]. وجه النصيحة إلى ملك ورث الـمُلك عن أبيه، واشتُهر عنه الظلم والغرور بالسلطة والجاه والمال، بينما من حوله بطانة سوء من وزراء وعلماء وعملاء زينوا له سوء عمله، فجاءت رسالته لتقوم حكم يستعمل الإسلام لتغطية فساده واستبداده، دعا فيها الملك إلى التوبة والرجوع إلى شريعة الإسلام واقترح له فيها نموذجاً لحاكم عادل هو الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز وبين له خطوات عملية للإصلاح. كما وجه عشرات النسخ من هذا الكتاب إلى العلماء والمثقفين والوجهاء إبراء للذمة، لكل هذه الأسباب تلقى الإمام ياسين إثر ذلك عقوبة تمثلت في اعتقاله مدة ثلاث سنوات وستة أشهر دون أي محاكمة.
خاتمة:
وفيها أهم النتائج وبعض التوصيات:
أهم النتائج
- الصبر عند ظلم الحكام يدور على ترك الخروج عليهم بالسيف، لا أنه يقتضي ترك الإنكار على الحاكم عند تلبسه بالمنكرات والجور والبدع والمحدثات.
- يجوز عزل الإمام الجائر إن أمكن بإحدى الطرق السلمية بشرط ألا يترتب على ذلك مفسدة أكبر، فإن لم يكن ذلك وجب المبالغة في الإنكار عليه والتحذير من ظلمه وبدعته، وهذا لتقديم أخف المفسدتين.
- إذا كانت الطائفة التي تريد إزالة الحاكم الجائر عندها قدرة تزيله بها، وتضع حاكماً صالحًا طيبًا من دون أن يترتب على هذا فساد وشر أعظم من شر ذلك الحاكم الأول فلا بأس، والذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب وإلا فالواجب الصبر.
- أفتى الإمام أبو حنيفة الناس سراً في وجوب نصرة العدل الذي يثور على الحاكم الجائر.
- أفتى الإمام مالك ببطلان بيعة الإمام الذي يُكرِه ويجبر الناس على بيعته.
- رفض الإمام مالك القتال مع الحاكم الظالم وقال: إن كان الخليفة كعمر بن عبد العزيز فقاتل معه، وإن كان كمثل هؤلاء الظلمة فلا تقاتل معه.
- هناك من العلماء والدعاة من يتكلم كلمة الحق عند السلطان الجائر على مدى العصور رأينا منهم في زماننا أمثال سفر الحوالي وسلمان العودة وعبد السلام ياسين.
- العدل كله من الشرع، والظلم كله مخالف للشرع.
- الثورات في التاريخ الإسلامي ثلاثة: إما ثورات بغير حق، فالخارج فيها باغ مستبد ونهايتها للزوال، أو أنها بحق لكنها لم تستكمل أدواتها وأسباب النجاح فتفشل، أو أنها تستكمل أدوات النجاح ولها برنامج وخطط مدروسة فهذه الثورات الناجحة.
أهم التوصيات
- إعادة النظر في نصوص طرق التعامل مع ظلم الحكام عبر جمع جميع النصوص والقواعد الشرعية، وفهم الصدر الأول من الصحابة والتابعين.
- إعادة تفعيل الدور التاريخي الاجتماعي لتجمعات العلماء والمثقفين ووجوه المجتمع بحيث تنشأ تكتلات مجتمعية ذات قدرة كافية لمواجهة الاستبداد المعاصر.
- التفريق بين ظلم واستبداد السلطة الحاكمة المنتمية للأمة وثقافتها وهويتها، وبين ظلم واستبداد سلطة حاكمة تحمل هوية وثقافة غريبة غير هوية وثقافة أمة الإسلام.
- أهمية نشر العلم والوعي في المجتمع الذي يطرد الجهل والخوف، ويبعث على العمل النافع والإصلاح، والعلم فرض قبل كل قول أو عمل.
- الممارسة الجماعية لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما كان في الصدر الأول وفي مراحل كثيرة من التاريخ الإسلامي.
([1]) أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي، الأحكام السلطانية، تحقيق أحمد جاد، دار الحديث، القاهرة، 2006، ص 15، وعبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، تحقيق: عبد الله الدرويش، دار يعرب، 2004، ص 191.
([2]) سورة النساء، الآية [141].
([3]) إسماعيل بن عمر بن كثير، تفسير ابن كثير، تحقيق سامي السلامة، دار طيبة، الرياض، 1999، (3،388).
([4]) رواه ابن ماجة، سنن ابن ماجة، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، 2009، كتاب الجهاد باب الاستعانة بالمشركين، (2/945)، رقم الحديث:2832.
([5]) أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، مراتب الإجماع؛ دار الكتب العلمية – بيروت، (1/ 126).
([6]) أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المعروف بشرح النووي على مسلم، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثانية،1972.، (6/314).
([7]) القاضي عياض، إكمال المعلم بفوائد مسلم، تحقيق يحيى إسماعيل، دار الوفاء، 1998، الطبعة الأولى، (6/128).
([8])سورة البقرة، الآية [124].
([9])أحمد بن علي الرازي الجصاص أبو بكر، أحكام القرآن، تحقيق محمد صادق قمحاوي، دار إحياء الكتب العربية- بيروت، 1992، (1/69).
([10]) عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، تحقيق طه سعد، مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة، 1991، ص 86.
([11]) الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس، الأم، دار الوفاء، سنة النشر،2001، (1،161)، والماوردي، الأحكام السلطانية، ص6، والقرطبي، أحكام القرآن، (1،271)، ومقدمة ابن خلدون، ص139.
([12]) محمد علاء الدين الحسكفى، الدر المختار، تحقيق عبد المنعم خليل إبراهيم، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2002م (ج1، ص512)، ومحمد أمين بن عمر عابدين، رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين)، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود – علي محمد معوض، عالم الكتب، 2003، (ج1، ص512).
([13])الغزالي؛ محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، أبو حامد، فضائح الباطنية، تحقيق عبد الرحمن بدوي، وزارة الثقافة – مصر، 1964، ص191.
([14])البخاري؛ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله، صحيح البخاري، دار ابن كثير – دمشق بيروت، 2002، رقم الحديث (٧١٤٢).
([15]) عبد الملك بن عبد الله أبو المعالي الجويني، الإرشاد إلى قواعد الأدلة في أصول الاعتقاد، تحقيق محمد يوسف موسى، مكتبة الخانجي- مصر طبعة عام 1369هـ، ص 427.
([16]) أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم، صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي بيروت، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، (3،1457)، رقم الحديث:(1825).
([17]) ابن عساكر (ت ٥٧١)، تاريخ دمشق، تحقيق عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ،1995 م، (١٧/٢١).
([18]) أبو داود؛ سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير الأزدي السجستاني، سنن أبي داود، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية بيروت، (٥٠٩٠).
([19]) الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 40.
([20]) سورة النساء، [الآية:59].
([21]) ابن القيم، إعلام الموقعين، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 2002 م ، (2/89 ). والحديث رواه أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، 1421 هـ – 2001 م ، (4/426، 432).
([22]) رواه البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم يأمر بمعصية، رقم الحديث:(696).
([23]) البخاري، (4،355)، ومسلم، (3،1469).
([24]) صحيح مسلم، (١٨٥٥).
([25]) صحيح مسلم، رقم الحديث (٤٩).
([26])يحيى بن شرف النووي محي الدين أبو زكريا، المنهاج شرح النووي على مسلم، مؤسسة قرطبة، الطبعة الثانية، 1972، (2،228).
([27]) سورة المائدة، الآية 125.
([28]) سنن الترمذي، رقم الحديث (٢١٦٨).
([29]) أبو داود، (٤٣٤٤) واللفظ له، والترمذي (٢١٧٤)، وابن ماجه (٤٠١١).
([30]) ابن حجر أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، فتح الباري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، المطبعة السلفية ومكتبتها – القاهرة، الطبعة الأولى، (13/123).
([31]) أحمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الملك القسطلاني، إرشاد الساري بشرح صحيح البخاري، المكتبة العلمية، الطبعة الأولى 1996، (10/217).
([32]) رواه مسلم (1855).
([33]) رواه مسلم (1854).
([34])اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، تحقيق أحمد بن عبد الرزاق الدويش، دار المؤيد للنشر والتوزيع – الرياض، (3، 12)، رقم الفتوى (8008)، سنة 1996م.
([35])النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم، (6/314).
([36]) النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم، (12/229).
([37]) صحيح البخاري، رقم الحديث (٧٠٥٥).
([38])صحيح مسلم (١٨٥٥).
([39]) صحيح مسلم (١٨٥٤).
([40])الجصاص، أحكام القرآن، ص87.
([41]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ص85.
([42]) الماوردي، الأحكام السلطانية، (ص: 17).
([43]) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام أبو العباس، تقي الدين ابن تيمية، منهاج السنَّة النبوية، تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية،1986م، ط1، (3/ 391).
([44]) صحيح مسلم، (٥٠).
([45]) الجصاص، أحكام القرآن، (1، 86)، و أحمد بن غانم (أو غنيم) بن سالم ابن مهنا، شهاب الدين النفراوي، الفواكه الداني، دار الفكر الطبعة: بدون طبعة تاريخ النشر: 1415هـ – 1995م، باب ما تنظق به الألسنة وتعتفده الأفئدة من واحب، ص106، وابن حجر، فتح الباري، كتاب الفتن،( 498،14)، وزكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري، الغرر البهية في شرح البهجة الوردية، المطبعة الميمنية، بدون طبعة وبدون تاريخ، باب القضاء، مسألة انعزال القاضي، و أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، المحلى بالآثار، دار الفكر – بيروت، بدون طبعة وبدون تاريخ ، مسألة رقم 1777، ص427.
([46]) ابن حجر، فتح الباري، (14، 392).
([47]) عبد الرزاق بن همام الصنعاني أبو بكر، مصنف عبد الرزاق، تحقيق مركز البحوث وتقنية المعلومات – دار التأصيل، 2015م، الطبعة الأولى، (11/336).
([48]) صحيح البخاري، كتاب الحدود -باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، حديث رقم (6473).
([49]) الجصاص، أحكام القرآن، (1 ،86).
([50]) الموفق بن أحمد المكي المعروف بابن البزاز الكردري، مناقب الأمام الأعظم أبي حنيفة ، دائرة المعارف النظامية- حيدر آباد، (2،72).
([51]) الجصاص، أحكام القرآن، ص87.
([52]) أبو عبد الله الإمام مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري ، كتاب الموطأ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1985م، (ج1، ص23).
([53]) يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، استذكار الجامع لمذاھب فقھاء الأمصار، تحقيق عبد المعطي أمين قلعجي، دار قتيبة- دمشق 1993م، (5،11).
([54]) سفر الحوالي، المسلمون والحضارة الغربية، بدون طبعة، 2018م، (2734).
([55])برنامج مراجعات مع الأستاذ عبد السلام ياسين، الحلقة الثانية، تاريخ النشر: 04/10/2011، تاريخ الوصول: 11.06.2021 www.youtube.com/watch?v=8CiKvUc2Hyo