دراسات افريقيةدراسات سياسية

السودان بين السؤال والبرهان

وليد عبد الحي

اسئلة تقوم على فرضية واحدة :

السؤال الاول : كيف يتم تنظيم لقاء علني بين الحاكم العسكري السوداني الحالي عبدالفتاح البرهان وبين رئيس الوزراء الاسرائيلي نيتنياهو بعد فترة قصيرة جدا من وقوع الانقلاب في السودان رغم أن مثل هذه اللقاءات تحتاج لترتيب مسبق وسري واجراء اتصالات وترتيبات مختلفة بخاصة اذا كانت للمرة الاولى من ناحية ، وإذا كانت بعد وقوع انقلاب عسكري يحتاج لترتيب البيت الداخلي وضمان عدم حدوث ردات فعل داخلية بخاصة إذا مس السلوك موضوعا له حساسية شعبية ونخبوية في مجتمع الانقلاب من ناحية اخرى ؟

السؤال الثاني: هل كانت مصادفة ان تتم الهجمات الجوية الاسرائيلية على الاراضي والمياه الاقليمية السودانية لضرب طرق امدادات الاسلحة الايرانية للمقاومة في غزة عبر الاراضي السودانية في الفترة التي كان يتولى فيها البرهان قيادة ونيابة قيادة حرس الحدود السودانية؟ ففي مارس 2009 تمت مهاجمة اسرائيل لقافلة تضم 23 سيارة داخل الاراضي السودانية بحجة انها تحمل اسلحة ايرانية موجهة لحركة المقاومة لتصل اليها في غزة عبر الحدود السودانية وعبر سيناء، وتكررت الهجمات على السودان في 2011 و 2012، وهي الفترة التي كان فيها البرهان في مناصب عسكرية ذات صلة بالحدود وبالتصنيع العسكري .

السؤال الثالث: هل البيئة السياسية السودانية مخترقة من قبل الاستخبارات الاسرائيلية الى الحد الذي لا يبدو فيه ارتباط البرهان باجهزة استخبارات اجنبية امرا غير عادي؟

سنحاول أن نثير هذه الاسئلة لنصل الى نتائج محددة، ولكن الامر يستوجب خلفية تاريخية، فقد كان حزب الامة السوداني من ضمن الاحزاب الاكثر عداء للناصرية، ومنذ تولي عبد الناصر مقاليد الامور بدأت اتصالات حزب الأمة مع دبلوماسيين إسرائيليين في لندن كانت بدايتها عام 1954 ، وتبع ذلك زيارة مسؤول سوداني لإسرائيل في أواخر آب 1956 لطلب مساعدات اقتصادية لحزب الأمة، وأعقب ذلك وتحديدا عام 1957 لقاءاً في باريس بين رئيس الوزراء السوداني عبد الله خليل (من حزب الأمة القومي السوداني) مع وزيرة الخارجية الإسرائيلية في ذلك الحين غولدا مائير، وترتب على ذلك زيادة الرئيس الامريكي آيزنهاور المساعدات للسودان.

لكن مقاومة ظهرت في تللك الفترة لمنع العلاقة مع اسرائيل،ففي عام 1958 وافق البرلمان السوداني على اصدار تشريع بمقاطعة العلاقة مع اسرائيل، وهو التشريع الذي الغاه الحاكم العسكري الحالي في ابريل 2021.

وتعود العلاقات السرية بين اسرائيل والسودان لتتجدد مع مطلع الثمانينات من القرن الماضي عندما تم لقاء الرئيس السوداني السابق جعفر النميري ورئيس الوزراء الاسرائيلي اريل شارون (وكان حين اللقاء وزيرا للدفاع) لترتيب عملية تهجير يهود الفلاشا من اثيوبيا الى فلسطين المحتلة، وتم استئناف التهجير في عام 1985 بعد ضغوط امريكية ، وقد اكد شارون في مذكراته ان اول لقاء له مع النميري كان خلال مشاركتهما في جنازة السادات في اكتوبر 1981، ويضيف ان اللقاء الثاني كان في عام 1982 وتم بترتيب من ضابط الموساد الاسرائيلي (يعقوب نمرود) واحد رجال الاعمال العرب وهو تاجر السلاح السعودي عدنان خاشقجي، والملاحظ ان النميري جاء للسلطة بوعود اشتراكية ثم انقلب الى حد فرض قوانين تطبيق الشريعة الاسلامية على جنوب السودان وكان من اوائل المساندين لاتفاقية كامب ديفيد 1979.

اما في مرحلة رئاسة عمر البشير، فقد اشترطت الولايات المتحدة على السودان تطبيع العلاقات مع اسرائيل مقابل رفع العقوبات والعزلة الدولية عنها، وازداد الضغط عليه الى حد إدراج اسمه على قائمة المطلوبين للمحكمة الدولية ، وابدى البشير بعض الاستجابة من خلال قطع العلاقات مع ايران من ناحية وزيادة الضغوط على حركات المقاومة الفلسطينية من ناحية ثانية ، بل ان وزير خارجية السودان في حينها ابراهيم غندور لم يستبعد احتمال التطبيع مع اسرائيل،وهو ما أكده وزير الاستثمار في حكومة البشير مبارك المهدي، فالبشير جاء كسابقه بوعود كثيرة بل انه استهزأ ممن دعوه للاعتراف باسرائيل او بقرار المحكمة الدولية لكنه بدأ عبر وزرائه يحاول المماطلة في هذا الموضوع مما عجل في قرار الانقلاب.

بعد ذلك حدث الانقلاب الذي قاده عبدالفتاح البرهان عام 2019، ويعود البرهان الى احد قرى شمال السودان(من مواليد 1960) ثم التحق بالكلية العسكرية وشارك في الحروب الداخلية في السودان(معارك دارفور و الحرب الاهلية مع جنوب السودان قبل الانفصال) وتلقى تدريبات في الاردن ومصر ، وعمل في حرس الحدود واصبح نائبا لقيادتها ثم قائدا لها وصولا لتوليه مفتشية القوات المسلحة(قبل شهرين من الانقلاب) ليصل لتولي رئاسة اركان الجيش السوداني عم 2018 (فبراير) وتمت ترقيتة بعد عام الى رتبة فريق أول واصبح في ابريل 2019 هو الحاكم الفعلي للسودان..

وبعد الانقلاب على عمر البشير (الذي قال ان الغرب يطلب منه التطبيع مع اسرائيل وهو يرفض ذلك) امر البرهان باطلاق سراح كل المعتقلين من ناحية لكنه اشرف من ناحية اخرى على مذبحة الخرطوم بعد الانقلاب والتي تم فيها قتل العشرات والقاء عشرات في نهر النيل ، وحدثت فوضى عارمة في الخرطوم، ثم تراجع البرهان عن وعوده بالانتقال لسلطة مدنية ودب الخلاف بينه وبين رئيس وزرائه عبدالله حمدوك فعزله(25 اكتوبر 2021) وقام باعتقال العديد من رموز المعارضة السودانية وقطع الانترنت ..الخ ، ولعب الضغط الخليجي دوره الكبير في مساندة البرهان وعززوا نهجه بعدم التحول لسلطة مدنية نظرا لهواجس دول الخليج من احتمال امتداد الديمقراطية الى دولهم القائمة على نظم وراثية.

ويلاحظ ان جماعات الجانجويد (التنظيم الذي شكل قوة عسكرية اثناء أزمة دارفور) ساندت الانقلاب ، وعاود البرهان (بهدف تهدئة الشارع والقوى السياسية السودانية والدولية) وعوده بانتخابات ديمقراطية في يونيو 2023.

ويشير السجل الشخصي للبرهان أنه شخص يعمل في الظل دائما، كتوم الى حد بعيد، وان بعض التقارير حوله اثناء خدمته كانت تنطوي على معلومات مريبة حول بعض لقاءاته السرية ، الى جانب أنه :

1- كان من ابرز المساندين لارسال قوات سودانية الى اليمن للعمل ضد انصار الله ، وساند موقف البشير في هذا الصدد منذ 2015، وبعد الانقلاب تلقى دعما ماليا (500 مليون دولار) ووعودا بودائع مالية خليجية تصل الى 3 ملياردولار.

2- بعد اقل من عشرة شهور على توليه السلطة الرسمية التقى رئيس الوزراء الاسرائيلي(فبراير 2020) في اوغندا وبعدها باشر بتطبيع العلاقات مع اسرائيل، والملاحظ ان سرعة اللقاء العلني مع نيتنياهو تشير الى ان الامر له جذوره، بل ان اختيار عنتيبي للقاء له رمزيته لان هذه المدينة هي التي قتل فيها شقيق نيتنياهو خلال معركة مع مجموعة من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في يوليو 1976.

3- قال حرفيا ان “تعاونه الامني مع اسرائيل ساهم في تفكيك العديد من الجماعات العسكرية السودانية، وان سلسلة من اللقاءات بين الاجهزة الامنية الاسرائيلية والسودانية قد تم ترتيبها وعقدها لتكريس التعاون بين الطرفين لمواجهة خصومهما”( مقابلة مع البرهان في التلفزيون الرسمي السوداني الى جانب تقرير اوردته صحيفة تايمز اوف اسرائيل-13 فبراير 2022).

وكانت اللقاءات التي اشار لها البرهان قد عقدت في تل ابيب في الاسبوع الاول من فبراير 2022 والآخر كان في الخرطوم في يناير 2022(اي قبل شهر من اجتماع الخرطوم)،وشارك فيه ضباط الموساد .

ملاحظات عامة:

أ‌- حَكَم العسكر السودان 57 سنة من اصل 66 سنة هي فترة الاستقلال (كان الاستقلال عام 1956)، اي ان العسكر حكموا 86% من عمر الاستقلال السوداني، ولم يلتزم اي منهم لا بالديمقراطية ولا بالتحرر ولا بأي من الشعارات التي طرحوها، بل ان السودان تحتل المرتبة 183 من بين 194 في معدل الاستقرار السياسي وبواقع يساوي 14.8% فقط ( طبقا لعدد من المقاييس الدولية)،فإذا اضفنا الى ان المجتمع السوداني موزع بين حوالي 600 قبيلة، يتحدثون 115 لهجة محلية موزعين على مساحة تصل الى مليون و886 الف كم2، وتحيط بها سبع دول بحدود طولها 6آلاف و 819 كم ،الى جانب 853 كم على البحر الاحمر يجعل منها دولة مفتوحة للتسلل عبر تنوعها الثقافي واتساعها الجغرافي وتمدد حدودها.

ب‌- أن اغلب عسكر السودان كان لهم بطريقة او اخرى (بخاصة الذين حكموا لفترات طويلة) علاقة بمستوى أو آخر مع اسرائيل، بل ان بعضهم له صلات اعمق مع اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية على الرغم من انهم يحاولون الظهور بمظهر غير هذا كما اوضحنا.

ت‌- ان كافة العسكريين الذي حكموا فترات كافية كذبوا في وعودهم الاستراتيجية وتغيرات توجهاتهم اكثر من مرة خلال حكمهم.

فاذا عرفنا ان نظرية اول رئيس للموساد رؤوفين شيلواح هي ضرورة التعامل مع العالم العربي على انه ليس جسدا متناغما ثقافيا وحضاريا ، وانه محاط بقوى اقليمية يمكن تأليبها عليه، يصبح من الضروري تفتيته على اساس حلف الضواحي( التعاون واستغلال اسرائيل للاقليات والتنوعات الثقافية الفرعية) ونهشه من القوى الاقليمية المجاورة، وهو ما عززه كتاب موشي فرجي عن ” اسرائيل وحركة جنوب السودان” قبل 19 سنة، ناهيك عن دراسات أوديد ينون(استراتيجية لاسرائيل في الثمانينات) وكتابات أبا ايبن(بخاصة صوت اسرائيل) ..الخ ، ولعل انفصال جنوب السودان تعزيز ميداني، لذا فان الحكم العسكري في السودان ليس الا تطبيق ميداني لنظريات شيلواح وغيره، ولن يقف الامر عند المشهد الحالي…فليبيا مرشحة والعراق وسوريا، والسودان ما زال مطروحا رغم أن ظروف الاقليات العربية تزداد صعوبة في تحقيق هذا التوجه الاسرائيلي، لكن رخاوة البيئة العربية عموما والسودانية خصوصا تغري على الاستمرار في التفتيت.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى