دراسات تاريخيةدراسات سوسيولوجية

مراجعة كتاب العقل التاريخي العربي: بحث في اسباب صعود العرب الى الريادة التاريخية

وليد عبد الحي

في كتاب : العقل التاريخي العربي: بحث في اسباب صعود العرب الى الريادة التاريخية(الجزء الاول)

نقد العقل التأويلي الاسلامي: بحث في الردة المعرفية للعرب( الجزء الثاني) الصادر عام 2020

يتبنى الكاتب مختار الفجاري في دراسته(638 صفحة) فكرة العلوم البينية- كما سنوضح- ويطبقها في اطار علم الاجتماع الثقافي على موضوع محدد هو التضارب بين العقل التاريخي والعقل التأويلي في فهم النص الديني الاسلامي ، فالأول عقل منفتح على مستقبل أفضل استنادا للتطور الانساني ويجعل من الانسان ووعيه المعرفي أداة الفهم للظواهر كافة، وعليه فهو يرى في محمد (النبي) نقطة تحول في التاريخ العربي من حيث تأسيس منظور تطوري متقدم على ما سبقه من يهودية ومسيحية ومستجيبا لبيئته الاجتماعية ولو بقدر من ” الميكافيلية” كما يصفه الكاتب في اكثر من موضع من دراسته، ويعمل هذا العقل التاريخي الذي تبناه محمد على وضع الاسس لدولة مدنية (في يثرب) ووظف محمد حدسه ليستجيب –الى جانب ذكائه- لمتطلبات الواقع الذي يعيشه ، وشكل ثورة على الكثير من جوانب المنظومة القيمية والمعرفية السائدة في عصره بل ودشن المنهج القدري القائم على حرية الارادة ، ويحاول هذا العقل التاريخي “أنسنة” المقدس وتفسيره استنادا لعلم النفس احيانا وللمنظور التفكيكي للخطاب الديني (بخاصة القرآن والحديث) وللمنطق والفلسفة احيانا اخرى. وفي مواجهة هذا العقل هناك نقيضه وهو ” العقل التأويلي” الذي بقي اسير الاسطورة الدينية بحرفيتها ، فيرى النموذج الكامل ومرجعية التفكير في الماضي لا في المستقبل ، مما يعطل منطق التطور، ويعمل على تأويل النصوص لتكريس صورة المقدس بمدلولها الحرفي الميتافيزيقي، وهو ما أسس لظاهرتين، الاولى امتناع النظرة التطورية وجعل الماضي هو المقياس لكل حكم على الظواهر والسلوكيات ، والثانية انتشار الفكر الذي مارس التأويل للنص لصالح السلطة او للتشكيك في رأي الخصوم، كما ان هذا العقل تجلى بشكل واضح في اضفاء القداسة على ” صورة الخليفة عند السنة، وصورة الامام المعصوم عند الشيعة وصورة الولي لدى الصوفية.

وطبقا للكاتب، فقد ساد الاول- أي العقل التاريخي – بشكل جلي في فترة الرسول وفي فترة قصيرة من زمن العباسيين بينما كان للأمويين الدور الاكبر في تكريس النمط الثاني- العقل التأويلي- بخاصة على يد كل من عثمان ومعاوية بتركيزهما على الطاعة وتغييب البعد الاجتماعي( الموقف من الأغنياء) وعودة دور القبيلة، وعندما ضعف دور القبيلة في المرحلة المتأخرة من حكم الامويين اهتموا بالبيئة الثقافية لتدعم سلطتهم عبر العقل التأويلي للنصوص وبشكل منحاز للاستبداد كما يقول المؤلف.

وإذا اردنا ان نناقش مستوى الجدة في هذه الدراسة، فانها من حيث المعلومات او الوقائع أو حتى اغلب التحليل لا تنطوي على جديد ذي شأن، لكن هذه الدراسة – وبغض النظر عن القبول او الرفض لمضمونها – فيها ” تجرؤ يتضح في تناول المقدس خلفا لما يفعل الكثير من الكتاب الذين يتبنون هذا المنهج النقدي لكنهم يتجنبون الخوض في مدى صدق او عدم صدق البعد الميتاقيزيقي ، فالكاتب في هذه الدراسة يستبعد فكرة الوحي بمعناها المتداول ويميل لتفسير العلاقة بين محمد والوحي بمنهجية تتكئ على نظريات علم النفس وعلى ما ترسب في وعي محمد من مكونات بيئته الثقافية والاجتماعية ، فالكاتب يرى ان الوحي هو “من المواجيد التي يستقيها محمد من محيطه تأثرا وتَمثُلا ” ، ويميز بين القرآن وبين المصحف ويميل باتجاه استبعاد ان يكون اي منهما(المصحف والقرآن) لم تنله يد الاضافة والحذف المتعمد او الناتج عن الطبيعة الانسانية في النسيان والفهم الخطأ، لكنه يعطي للبعد السياسي في هذا التحريف الدور الأكبر وهو ما يتضح في الجزء الثاني من الكتاب عند تناوله للمذهبين الاكبر وهما السنة والشيعة، ويضيف (صفحة 61 من الجزء الثاني من كتابه ) ان النصوص التراثية السابقة على القرآن هي بمثابة النص المنجب للقرآن “، الى جانب ان الكاتب ينفي وبقوة ان تكون الجاهلية التي وصفها العرب لحالهم قبل الاسلام هي الحقيقة ، ويرى ان السمة العامة في فترة ” الجاهلية ” هي سيطرة الفكر المسيحي واليهودي وبعض المذاهب الدينية القريبة من الجزيرة العربية الى جانب الشعر الذي تنطوي بعض قصائده على بعد ديني واضح.

ويطالب الكاتب بضرورة تقديم استراتيجية ” نقدية تحالفية ” بين الادب والفلسفة والعلوم الانسانية لمواجهة العلوم الدينية اللاهوتية ،ومن اجل تقديم تفسير بديل على غرار المنهج الوضعي الذي طرحه أوغست كونت في اوروبا.

يقع متن الكتاب في جزأين ( 361 الجزء الاول و 277 الجزء الثاني)، ويتوزع الأول على ثلاثة ابواب يضم كل منها ثلاثة فصول بينما توزع الجزء الثاني على أربعة ابواب ضم كل منها فصلين. يشير الباحث في مقدمته(الجزء الاول) الى انه يهدف الى ” البحث عن قيمة غير دينية في الاسلام” من خلال اعادة بناء لمفهوم الايمان الاسلامي على اسس تاريخية، وذلك من خلال كشف الصعود العربي عبر التراكم التاريخي للمعرفة ونقد العقل التأويلي الذي كان سبب التراجع.اما منطلقات العقل التاريخي فهي سيطرة العقل على العالم ، والايمان بالله دون التسليم بالأديان،مع التأكيد على محدودية هذا العقل وضرورة تواضعه ، ثم تجاوز الرؤية الاسطورية التي تعتقد بوجود إله يتكلم بلغة بشرية ويرسل ملائكة ينقلون النص لنبي. اما العقل التأويلي فهو معني بالنصوص واخضاع العلم للمقدس، فالمواجهة هي بين التغير وبين نص يتعالى على التغير. ويناقش الفرق بين دراسته والدراسات العربية الاخرى التي يستعرضها. وفي الفصل الأول من الباب الاول، يفند بعض مسلمات الفكر الاسلامي، مثل الفكرة السائدة عن الجاهلية، وزمزم، وفقر الرسول( يتشكك فيها بقوة) وشخصية عبد المطلب، ويتناول في الفصل الثاني خريطة الأديان في الجزيرة قبل الاسلام، ويرى ان محمد ” ابتدع بدعة واجتهد ليحول بدعته الى دين(صفحة 68)، ويرى ان العلاقة بين قريش واليهود والنصارى اوسع كثيرا مما قدمه العقل التأويلي، كما ان المعارضة لمحمد كانت دينية واجتماعية لانه قدم منظومة قيمية تحث على المساواة ورفض العبودية، كما ان تيار التوحيد لا الوثنية كان سابقا على محمد، ويميز بين القران(خطاب محمد الشفوي) والمصحف( كتاب عثمان)(هامش صفحة 73)، ويعقد مقارنات بين النص المسيحي والاسلامي ليدلل على تأثير المسيحية(النسطورية بخاصة) على الاسلام لا سيما في طبيعة المسيح وبعض المفردات واسماء الملائكة، اما الفصل الثالث، فيوجه الباحث فيه نقدا لما روي من الشعر الجاهلي، ويرى ان ما روي هو ما نجا من الرقابة الاسلامية، ويؤكد غياب الوثنية في الشعر الجاهلي، وقدم نماذج للتناص- كما يعتقد- بين ايات قرآنية وأشعار جاهلية ، ويتناول في الفصل الاول من الباب الثاني تطور الأديان عبر قاعدة “التراكم والتبدل” ” فالتوراة ” صُبح الشريعة والإنجيل طلوع شمسها والقرآن اكتمال يومها “، فالاديان لا تعرف القطيعة الابستمولوجية كالعلوم الطبيعية،وانتقال القرآن ليصبح مصحفا تعبير عن تراكم تاريخي. ويسهب الكاتب في اقتباس نصوص عن ملابسات نقل القران وتدوينه ليستنتج من ذلك وجود فرق بين القرآن والمصحف.ويحاول عبر منهج كمي تأكيد فكرة النزعة العقلانية، ويرى ان فكرة خاتم الانبياء تعبير عن انتهاء المرحلة الدينية للدخول في المعرفة الانسانية,ويناقش (في الباب الثاني الفصل الثاني) المواجهة بين ممثلي العقل التاريخي وممثلي العقل التأويلي في الادب وعلم الكلام مركزا على سيطرة الفقه وتحديد العلاقة بين الاستبداد وسيطرة العقل التأويليي في السنة والشيعة والصوفية، ويتناول في هذه المواجهات الفكرية الجاحظ والغزالي وابن رشد وحي بن يقظان وشهداء العقل التاريخي ، مع تقديم نماذج للمناظرات بين ممثلي التيارين، والتي كثيرا ما انتهت الى القتل (غيلان الدمشقي والجعد بن درهم وغيرهم) او العزلة( ابو ذر الغفاري) او حرق الكتب (ابن رشد) او اتلافها وتشويهها(ابن الراوندي). ويصل في نهاية الجزء الثاني الى التأكيد على توظيف العلوم الانسانية لتعزيز العقل التاريخي والتصدي للعقل التأويلي الذي افرز كل مظاهر الارهاب والتخلف. في الجزء الثاني( الباب الاول والثاني ) فينتقد في الفصل الاول الفكر التأويلي استنادا للعقل التاريخي،فيربط بين الردة ودور العقل التاويلي في تبرير العصبية والتحول نحو الوراثة بدلا من الشورى، ويميز في الفصل الثاني بين الردة الدينية والردة الثقافية وسيطرة الفقه على الفلسفة ، مما اسس للاستبداد، ويقدم دلائله على ذلك في الباب الثاني(الفصلين الاول والثاني) في التجربة الفقهية والسنية مستندا على ابن رشد، وفي الباب الثالث(الفصلين الاول والثاني) على التجربة الصوفية والشيعية مستندا الى الغزالي وابن طفيل، لينتهي في بابه الرابع (الفصل الاول عن تنافر الادب والدين(يقدم نماذج لذلك) ثم الفصل الثاني ويطالب فيه باستراتيجية نقدية توظف العلوم الانسانية والاجتماعية لان هذا هو ما ينشط العقل التاريخي بمضمونه التطوري حسب رأيه.

اما البعد المنهجي في الدراسة، يمكن القول بان التكامل المنهجي واضح في هذه الدراسة، فالباحث وظف المنهج التفكيكي لتحليل الخطاب(وهو ما يتضح في تحليل تكرار ومعاني ودلالات مفردات معينة لتحليل البنية الداخلية للقرآن( انظر الصفحات 163-186 و من 188 الى 201 ومن 205 الى 206 ومن 210 الى 211) كما استخدم المنهج المقارن بين النصوص( نصوص مسيحية واسلامية وقليل من النصوص اليهودية ، او مقارنة آيات قرآنية وابيات شعرية و مقارنة بين العصور جاهلي- نبوي- راشدي- اموي- عباسي او بين المفكرين من مذاهب مختلفة، او مقارنات بين الآيات نفسها كما فعل مع مقارنة الايات الخاصة بالقدرية والجبرية وهو ما يسمى بتوتر النص والقراءة المزدوجة في المدرسة التفكيكية) كما وظف علم النفس (تفسير فكرة الوحي وتفسير ان السور القصيرة اغلبها نزلت قبل الهجرة بينما اغلب السور الطويلة نزلت بعد الهجرة) الى جانب التفكير النقدي وبديهيات علم المنطق…الخ. ويحاول الباحث ان يتجاوز الحذر الذي اشرنا له لدى الكتاب العرب والمسلمين بشكل عام عند تناول شخصية الرسول مدعيا ان بعض تصرفاته كانت ” ميكيافيلية” كما ورد في تحليل سلوكه مع اليهود في الفصل الثاني من الباب الثاني، بل يرفض الباحث محاولات أسطرة شخصية محمد.

لكن البحث فيه اشكالية منهجية وهي التكرار والاطناب، قمثلا ما ورد عن غيلان الدمشقي في الجزء الأول( الباب الثاني-الفصل الثالث) تكرر في الجزء الثاني في الصفحة 93، والفقرة الثانية صفحة 98 من الجزء الثاني مكررة في الجزء الأول، كما ان تحديد سمات كل من العقل التاريخي والعقل التأويلي تكررت بشكل كبير في مواضع كثيرة من الدراسة.

من جانب آخر ، اعتمد الباحث في كثير من الوقائع والنصوص على الطبري، ومعلوم ان الطبري موضع تحوط من قبل كثير من الدارسين للتاريخ، كما ان اعتماد الباحث على باحثين معاصرين لنقل نصوص تراثية تبدو لي موضع نقد، لان الباحث المعاصر ينقل النصوص دون ربطها مع سياقها الذي وردت فيه بل يربطها مع سياق ما يكتبه هو، فعند الحديث عن مصاحف الشيعة لم يفسر لنا لماذا عادت هذه المصاحف لتصبح حاليا هي ذاتها المعتمدة لدى السنة.كما ان مقارنته لبعض الاشعار( امية ابن ابي الصلت او امرؤ القيس) مع بعض الآيات لا يتعامل معها بحذر، بينما هناك جدل كبير حول هذه الاشعار ونسبتها وتاريخها وانتحالها. لكن تفسير الباحث لفكرة خاتم النبيين تستحق التأمل، فهو في الفصل الاول من الباب الثاني(الجزء الاول)(في صفحة 207) يرى ان مفهوم الخاتم هو ” اكتمال البناء” والانتقال لعصر جديد، اي انه تعبير عن العقل التاريخي ،أي عن التطور والاستمرارية ، فمحمد “اكمل” اليهودية والمسيحية ، وهو بذلك تطوير لهما، وبالتالي انهى المرحلة الدينية ليفتح الباب على مصراعيه للدولة المدنية الجديدة التي بدأت ملامحها الاولى في دولة المدينة، وتظهر هذه الفكرة من بداية الكتاب، ففي صفحة 16 يقول ان ختم النبوة هو ختم مرحلة معرفية تقوم على الوحي. كما ان مناقشته لتغليب التأريخ على يد عمر بن الخطاب على اساس الهجرة وليس على اساس البعثة ونزول الوحي مؤشر على أن الهجرة كانت تاكيد لفكرة التأريخ لبداية الحياة المدنية وانتهاء الحياة الدينية. من جانب آخر، ارى ان عنوان الجزء الاول”العقل التاريخي العربي، بينما الجزء الثاني العقل التأويلي الاسلامي، يخلق التباسا لدى القارئ، فالعرب (النبي والفترات الراشدة والأموية والعباسية) هم من يتناولهم الجزء الاول، والثاني الاسلامي كل مادته عن العرب من حيث الجوهر، وتخيلت ان الاسلامي سيتناول المسلمين غير العرب(الى جانب العرب) ، فقادة العقل التاريخي – حسب وا ورد في الكتاب- هم من العرب وقادة العقل التأويلي هم العرب ايضا(حسب الكتاب)، لذا ارى العنوانين- في الجزء الاول: العربي وفي الجزء الثاني: الاسلامي- يخلقا التباسا بخاصة ان التركيز كله في الكتابين على العرب المسلمين دون غيرهم، بينما الدائرة الاسلامية اوسع كثيرا من الدائرة العربية. ومن ناحية اخرى ، يبدو بعض التضارب في بعض ما اورده الباحث حول بنية الثقافة العربية الاسلامية، فهو يرى ان الثقافة كانت مبنية بعد القرن الثاني وبداية الثالث على نظام النثر بعد ان كانت مبنية على الشعر، لكنه في صفحة 60 من الجزء الثاني يقول في الفقرة الثانية( ان النثر منذ الجاهلية كان يسير بخط مواز بازاء الشعر) وهو ما بدا لي تناقضا.

انه كتاب يستحق القراءة ، لكن تقييم الكتاب واستنتاجاته امر متروك لك قارئ…

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى