دراسات أسيوية

معضلات تحول الصين إلى قطب دولي

حفز الصعود الصيني السريع في العديد من هياكل القوة الدولية، خاصة منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، توقعات عديدة بتحول الصين إلى قطب دولي خلال المدى القريب، وربما أن تصبح قائدا دوليا في المدى البعيد، وبما لا يتجاوز نهاية القرن الحالي. بل ذهب البعض إلى افتراض أنه في ظل صعود القوة الصينية ونزعات المراجعة الدولية والإقليمية لدى العديد من القوى الرئيسية، وإخفاق القيادة الأمريكية للنظام العالمي أو على الأقل هشاشتها، فإن العالم بات يشهد بالفعل إرهاصات حقبة تعددية قطبية لا تتحلى فقط في المجال الاقتصادي بل تمتد كذلك إلى الفضاءين السياسي/العسكري والمعرفي.
ويعني “القطب” الدولي بحسب ما تجسد في التاريخ الاستراتيجي للعالم أن تضحي “دولة” ما مركز الثقل والجاذبية والهيمنة الرئيسي والمرجعي بالنسبة لتكتل معين من الدول في إطار نظام دولي معين، سواء أكان هذا النظام عالمي النطاق أو مجرد نظام إقليمي. ويفترض هذا النمط التاريخي لمفهوم القطبية، إضافة إلى توافر الرغبة لدى الدولة القطب في حيازة هذه المكانة والإرادة للعب الأدوار التي تستلزمها ونحمل الأعباء ذات الطابع الشمولي واللا انتقائي التي تفرضها، أن تتمتع مقومات القوة التي تمتلكها هذه الدولة/القطب بسمتين أساسيتين:
• درجة مرتفعة من الاستقلالية في مواجهة القوى الدولية الكبرى الأخرى، بما يحد من قدرة هذه الأخيرة على التأثير في المجال القطبي للدولة القطب، وكذلك في مواجهة الدول التي يضمها هذا المجال القطبي بما يحول دون إمكانية انتهاج هذه الدول سياسات تساومية أو مقوضة في مواجهة سياسات الدولة القطب؛
• طابع شمولي في تركز مقومات القوة المختلفة من اقتصادية وعسكرية ومعرفية وسياسية وأيديولوجية/قيمية لدى الدولة القطب بما يحول دون اضطرار الدول المنخرطة في مجال قطبي معين إلى الاعتماد على أطراف دولية أخرى بصدد الوصول إلى أي من هذه المقومات.
وقد بات جليا أن أيا من هاتين السمتين لم تعد متوافرة بذاتها، فضلا عن توافرهما مجتمعتين، لدى أي من القوى الدولية الرئيسية في النظام العالمي الراهن. ويرتبط هذا التراجع في توافر المقومات التاريخية للقطبية بأربعة عوامل رئيسية:
1- تزايد درجة الاعتماد المتبادل بين مختلف دول العالم في بناء مقومات القوة حول العالم مع ترسخ ركائز العولمة؛
2- انتشار موارد بناء القوة عالميا ما أتاح بروز العديد من القوى المتوسطة التي لديها تطلعات مراجعة واسعة النطاق وباتت تتمتع بدرجة مرتفعة من الاستقلالية والقدرة على التأثير والمقاومة؛
3- تعقد المشكلات والتحديات الدولية وتداخل أنماطها المختلفة وانتشارها والاتساع السريع وغير القابل للضبط في نطاقها، ما بات يحول ليس فقط دون بروز قائد دولي منفرد على نطاق عالمي، مثلما تجلى في الحالة الأمريكية عقب انتهاء الحرب الباردة، ولكن أيضا بما يحول دون قدرة دولة على فرض هيمنتها المنفردة القطبية في مجال معين؛
4- وأخيرا، بانتهاء أحادية الدولة كمقوم لبناء النظام العالمي وفاعل وحيد منتج لتفاعلاته مع بروز العديد من الفاعلين الدوليين في مستويات متعددة سواء ما فوق الدولة أو العابرين لحدودها أو حتى في داخل بناء الدولة ذاتها. وبقدر ما بات يمتلك هؤلاء الفاعلون من قدرة على التأثير تراجعت نسبيا استقلالية الدولة والطبيعة المطلقة لسيادتها، وتراجعت بالتالي قدرتها القطبية.
في ظل هذه المعطيات بات المنطق القطبي ذاته موضع تساؤل وشك كبيرين، ما دفع الدبلوماسي الأمريكي المخضرم لكتابة مقال في مجلة Foreign Affairs الأمريكية في عام 2008 حمل عنوان “عصر اللاقطبية”. ويواجه صعود الصين وإمكانية تحولها إلى وضع قطبي هذه التحديات الأربع السالف بيانها، بل وتزداد حدة هذا التحدي في الحالة الصينية بسبب التدخل واسع النطاق من قبل العديد من القوى الدولية الرئيسية في المجال الحيوي الصيني، وقدرة هذه القوى على بناء نطاقات قوة منافسة ومقوضة لأي هيمنة قد تخطط لها الصين في محيطها الإقليمي في المديين القريب والمتوسط. ويعزز من قيود تحول الصين إلى قطب دولي إقليميا أو عالميا الهشاشة الداخلية التي لا يزال يعاني منها المجتمع الصيني، ليس فقط نتيجة بعض النزعات القومية الانفصالية في شمال غرب الصين، ولكن أيضا بسبب عدم توازن توزيع عوائد التنمية طبقيا ومناطقيا ما يهدد بحدوث اضطراب اجتماعي وسياسي قد تستغله القوى الدولية المنافسة. ودفعت عوامل الهشاشة تلك القيادة الصينية إلى تعديل بوصلتها التنموية بعض الشيء لتصبح أكثر تركيزا على الداخل وإصلاح عوامل هشاشته وعدم توازنه.
وإلى ذلك، يفرض أي صعود قطبي للصين ضرورة حسم خياراتها تجاه معضلتين أساسيتين باتا يتحديان أي إمكانية لتعزيز نفوذ الصين الخارجي إقليميا أو عالميا، وهما:
1- معضلة اللاتدخل: وتنبع هذه المعضلة من صعوبة مواصلة الصين سياستها اللاتدخلية والتي يعتمد عليها جانب مهم من تصاعد مكانتها الاقتصادية العالمية. وإذا كانت مكانة الصين الاقتصادية العالمية تعززت بفضل سياسة اللاتدخل والحيدة تلك، فإن سياسة اللاتدخل تلك باتت قيدا على قدرة الصين على مواجهة أي تحديات مفوضة لمصالحها المتنامية تلك، فضلا عن القدرة على تحويل نفوذ الصين الاقتصادي إلى مقدرة سياسية إقليمية وعالمية.
في ظل تلك المعضلة حاولت الدبلوماسية الصينية تبني نهج الوساطة والمساعي الحميدة لخفض حدة التوتر والصراع في المناطق التي تمس مصالحها، مثلما حدث حين استضافت مباحثات سلام بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان. لكن دبلوماسية الوساطة السلمية تلك لا يمكنها أن تجدي في كل الصراعات فضلا عن أنها بذاتها قد تثير قلق أطراف دولية أخرى تخشى تعاظم دور الصين، ما يدفعها لتعقيد تلك الصراعات لإعاقة الدور الصيني. وفي هذا السياق وجدت الصين نفسها مضطرة لتبني مواقف حدية وحاسمة في مواجهة المسألة السورية على سبيل المثال، بما يمثل تخليا حقيقيا عن سياسة الحياد، وبدرجة ما عن سياسة اللاتدخل.
2- معضلة الاستنزاف: يرتبط بالمعضلة السابقة معضلة مدى ما يمكن أن تتخذه الصين من سياسات وإجراءات ذات طبيعة تدخلية. فبينما قد يفترض البعض بشكل قاصر أن تراجع القيادة الأمريكية للنظام الدولي قد يمثل مصلحة لـ “قطب صيني” صاعد، فإن الفراغ الأمني والسياسي الناتج عن هذا التراجع الأمريكي سبفرض مزيدا من الأعباء على السياسة الصينية لتأمين مصالحها الحيوية المتعاظمة حول العالم. ويبدو أن التصور الصيني المبدئي في هذا الصدد ينصرف من جهة إلى تعزيز قدراتها البحرية لتأمين ممرات التجارة الدولية إضافة إلى تعزيز حضورها ومطالبها الإقليمية في منطقة بحر الصين الجنوبي، ومن جهة أخرى إلى بناء شراكات أمنية دولية من جهة أخرى، مثلما ورد في الورقة البيضاء الأولى في التاريخ التي أصدرتها الصين بشأن استراتيجيتها العسكرية في شهر مايو من عام 2015. لكن وبغض النظر عن مدى فاعلية وكفاءة تلك الإجراءات، فإن السياسة الصينية أضحت تدرج معاملات الاستنزاف المحتملة نتيجة أي تحول قطبي عالمي ضمن بناء سياستها الخارجية.
يمكن إجمالا القول إن بنية النظام العالمي الراهنة، والتحديات التي تواجهها الصين داخليا وخارجيا ستدفعان السياسة الخارجية الصينية للانخراط بدرجة أكبر في شبكة تفاعلات لاقطبية، تتضمن قدرا من التشاركية سواء مع قوى متوسطة أو حتى كبرى، لأكثر مما تتضمن نزوعا للهيمنة القطبية، وذلك في الأمدين القريب والمتوسط على أقل تقدير. وسيبقى أي طموح صيني للارتقاء إلى مرتب القطب الدولي رهنا بمآلات صعود القوى الدولية الأخرى في النظام الدولي خاصة روسيا، واكتمال تأسيس ركائز الحضور الصيني في العالم القديم في إطار مشروع إعادة إحياء طريق الحرير القديم، وهي ركائز تتجاوز حدود الاقتصاد بكثير.

بقلم مالك عوني – الأهرام المسائي – الأحد ١٧ نوفمبر ٢٠١٩

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى