دراسات سياسية

هونج كونج وفخ الاستقلال

قبل ما يقرب من أربعين عاما، عندما زرت موسكو للمرة الأولى، كانت ردة فعلي الأولية الدهشة والذهول. إذ كانت الفنادق والمطاعم تُدار بطريقة في غاية الرداءة حتى أنه بدا من الصعب للغاية أن نتصور أن المؤسسة العسكرية السوفييتية قد تُدار بالقدر الكافي من الكفاءة لكي يتسنى لها أن تشكل أي تهديد حقيقي لخصوم الاتحاد السوفييتي. ورغم هذا، كان الغرب يخشى الجيش الأحمر ــ ولسبب وجيه.

الآن تبعث مدينتي المفضلة هونج كونج برسالة معاكسة. إذ أن مطاعمها تُدار بدقة، وهي تتباهى ببعض من أفضل الفنادق في العالم. من المؤكد أن أي مدينة يمكنها أن تعتني بزائريها بهذا القدر من الامتياز لا ينبغي لها أن تقلق من أي شيء، ربما باستثناء كيف تستخدم على أفضل نحو العائدات التي تجنيها من كفاءتها وما تتمتع به من عبقرية في ريادة الأعمال. ولكن مرة أخرى، قد لا تكون حقيقة الأمور كما تبدو عليه.

يعكس نجاح هونج كونج جزئيا الاعتدال الجوهري في الثقافة، ذلك القدر من الأهلية والعقلانية الذي يمكن المدينة ــ وهي منطقة صينية تتمتع بالحكم الذاتي ــ من الازدهار في بيئة معقدة. ولكن عندما زرت هونج كونج الشهر الماضي ــ وهي زيارتي الأولى منذ مظاهرات الديمقراطية العظيمة التي أجهِضَت في عام 2014 ــ بدا الناس أكثر عصبية مما كانوا لفترة طويلة.

والسبب هو أن حركة الاستقلال الوليدة تزلزل الأوضاع في هونج كونج. بدأ الأمر بدعوات ذات طبيعة معتدلة تنادي بقدر أكبر من الديمقراطية. ولكن الضوضاء المهدِّدة المتوعِدة القادمة من الصين، جنبا إلى جنب مع فشل حكومة هونج كونج في محاولة إدارة حوار معقول مع منتقديها بشأن المخاوف المتعلقة بالحكم أو التحديات الاقتصادية، دفعت العديد من الناشطين الديمقراطيين إلى التطرف. وهذا ليس من الحكمة في شيء.

حقيقة الأمر هي أن هونج كونج ليست دولة قومية وليدة، ولن تصبح دولة قومية. فسوف تعارض الصين هذه الفكرة إلى النهاية. وهي ليست معركة قد تخرج منها هونج كونج منتصرة.

الواقع أن هونج كونج مدينة صينية تتمتع بحس قوي بهويتها كمجتمع حر، وتعددي، ومفتوح يخضع لحكم القانون. وهذا هو ما ينبغي للناشطين من دعاة الديمقراطية أن يناقشوه. فهنا يصبحون على مسار سليم يسمح لهم بتحقيق أهداف إيجابية.

ولكن بمجرد أن يبدأ هؤلاء الناشطون بالمطالبة بالاستقلال، فإنهم يجازفون بإحداث انشقاقات بين صفوف أنصارهم وخسارة الأرضية الأخلاقية العالية التي اكتسبوها بحملتهم في عام 2014. ويصب هذا في مصلحة الحزب الشيوعي الصيني وعملائه في هونج كونج.

وكما لو كانت المطالبة بالاستقلال غير ضارة بالقدر الكافي بقضية أنصار الديمقراطية، فإذا ببعض مؤيدي الاستقلال يستخدمون تكتيكات طائشة متهورة تضمن تحقيق نتائج عكسية. وكان الحدث الأخطر في هذا الاتجاه أن يختار شابان من أنصار الاستقلال انتُخِبا للمجلس التشريعي ــ ياو واي تشينج وسيكستوس ليونج ــ السخرية من قَسَم تنصيبهما في سبتمبر/أيلول الماضي.

هذا القَسَم شائع في المجالس التشريعية. ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال، لا يمكنك أن تتولى مهام منصبك كممثل منتخب دون الإدلاء بالقسم. ولكن ياو وليونج كانا يريدان الفوز بالدعاية لقضيتهما. ولهذا فقد تعمدا تبديل كلمات القسم؛ وعرضا لافتة تقول إن “هونج كونج ليست الصين”؛ وأشارا إلى الصين بما يعتبره كثيرون سبا وقذفا.

وسرعان ما جلب ياو وليونج على نفسيهما غضب الحكومة المركزية في الصين. ورغم أن محاكم هونج كونج كان بوسعها أن تتعامل مع القضية بكل تأكيد ــ ضمن إطار “دولة واحدة ونظامان” ــ فإن هونج كونج تتمتع بنظام محاكم مستقل، فضلا عن الحق في انتخاب برلمانها الخاص ــ وهو ما تدخلت فيه الصين الغاضبة. فضبط النفس ليس فضيلة لينينية على أية حال.

في خطوة غير عادية، تدخلت اللجنة الدائمة في مجلس الشعب الصيني “لتوضيح” المادة 104 من القانون الأساسي، معلنة أن كل أشكال القسم التي يدلي بها شاغلو المناصب لابد أن تكون “رصينة، ودقيقة، وكاملة، وصادقة”. وقد مُنِع ياو وليونج من شغل مقعديهما في المجلس التشريعي.

لا يرى أغلب المحامين في هونج كونج أن استعراض السلطة السياسية على هذا النحو يمثل ببساطة إعادة تفسير لقواعد قديمة، بل هو تحرك نحو وضع قواعد جديدة. والواقع أن حكومة هونج كونج تعكف الآن على إصدار طعون قانونية ضد أربعة مشرعين آخرين ــ جميعهم من الناشطين المؤيدين للديمقراطية المعتدلين نسبيا ــ بحجة أن قَسَمَهم لتولي المنصب كان غير صالح أيضا. باختصار ربما تصبح الديمقراطية في هونج كونج الآن أكثر تقييدا مما كانت عليه من قبل.

وإنه لأمر محبط أن نرى هونج كونج مرة أخرى محرومة من القيادة الشمولية وغارقة في مناورات سياسية مبتذلة. وإذا استمر هذا الوضع، فإن تحركات الصين لترسيخ المزيد من سلطتها في هونج كونج ربما تصبح حتى أكثر جرأة. ومن الأهمية بمكان لهذا السبب أن يضمن أهل هونج كونج تطهير رؤيتهم من التطرف، وأن يحرصوا على حماية الفضائل التي تشكل هويتهم الفريدة.

من حسن الحظ أن كثيرين في هونج كونج يفعلون هذا على وجه التحديد. وتواصل مهنة المحاماة على وجه الخصوص إظهار الزعامة الشجاعة في الدفاع عن حكم القانون، هدف الانتقادات المنتظمة من قِبَل مسؤولي الحزب الشيوعي الذين إما لا يفهمون معنى حكم القانون أو يعلمون كل شيء عنه على خير وجه.

على نحو مماثل، تلتزم منظمات المجتمع المدني مثل “مؤسسة المشروع مواطنون” بتثقيف جماهير الناس حول القواعد والحقوق في هونج كونج. وبفضل جهودها جزئيا، يميل عامة الناس إلى امتلاك الدراية بالتعديات على الحريات في هونج كونج واليقظة في رصدها، كما حدث عندما قام عملاء من البر الرئيسي باختطاف خمسة من ناشري الكتب.

الحق أن هونج كونج تعيش أوقاتا عصيبة. ولكن المشكلة ليست متأصلة إلى الحد الذي يستحيل معه حلها من خلال محاولة جريئة لصياغة الإجماع بين الحكومة وأولئك الذين يفترض أن تخدمهم. وبالاستعانة بالإرادة السياسية الواجبة ــ والعقول الرصينة ــ يُصبِح بوسع هونج كونج أن تعود إلى مسار يقودها إلى ديمقراطية أكثر حرية وانفتاحا.

مقال مترجم من طرف : إبراهيم محمد علي        

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى