دراسات اقتصاديةدراسات مغاربية

الجزائر: المديونية الخارجية…متى يسقط هذا ” الطابو”؟

بقلم ح. سليمان – جريدة الخبر

يردد الخطاب الرسمي بنوع من ” الانتصار” عدم اللجوء الى المديونية الخارجية، لتمويل الاقتصاد الوطني والاكتفاء بالموارد الذاتية، وكان يمكن تفهم هذا التوجه من باب ما حدث في منتصف التسعينات في عملية اعادة الجدولة التي أغلقت مئات المؤسسات وتسريح نصف مليون عامل، وبالتالي فان التخوف يندرج ضمن “لي شاف الموت يقنع بالحمة” ، لكن إذا كانت المديونية بمثل كل هذه الشرور ” ، فلماذا تتصدر اليابان وايطاليا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وانجلترا قائمة الدول الأكثر مديونية في العالم ولكنها في نفس الوقت من أهم الاقتصاديات تطورا في العالم ؟.

ثبت العديد من الدراسات والبحوث أن الدول التي تعرضت لأزمات مديونية حادة، كانت بفعل توجيه الأموال المقترضة من قبل حكومات تلك الدول لتمويل الاستهلاك وأيضا نحو الاستثمارات الغير منتجة، ولم توجه قط الى تطوير المشاريع الاستثمارية المنتجة للثروة والمولدة للنمو، ولذلك هناك دول تمول اقتصادها دوما باللجوء الى القروض، خصوصا لما تكون مستويات الفائدة متدنية، ومع ذلك نجحت في تطوير اقتصادها، رغم شح مواردها الذاتية، في حين هناك حكومات أخرى أغرقت بلدانها بالديون وجعلتها عاجزة عن التسديد، لكون تلك القروض اتجهت لتمويل الاستهلاك الداخلي من خلال استيراد الموز والكيوي والكافيار، اعتقادا منها بأنه يمكن من خلال مثل هذه القرارات الشعبوية، شراء السلم الاجتماعي والاستمرار في السلطة، قبل أن تجد نفسها تطرق أبواب الأفامي والبنك الدولي وناديي باريس ولندن، طلبا لإعادة الجدولة مع ما ينجر عنه من شروط قاسية نظير حصولها على تأجيل فترة التسديد وما الى ذلك.

بالنسبة للجزائر، وفي ظل تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة، لعدم جاذبية الاقتصاد الوطني بفعل البيروقراطية وقاعدة 51 و49 بالمائة وضعف البنية التحتية والحوكمة، هل يجب انتظار الى غاية عودة الانتعاش لأسعار البترول لتوجيه الفائض منها للاستثمار، او يجب الاستمرار في تحريك مطبعة النقود لتغطية النفقات العمومية، أو اسقاط “طابو” المديونية الخارجية والتعامل معها كضرورة اقتصادية بحتة، على غرار الكثير من الدول التي نجحت في تطوير اقتصادها بواسطة القروض الخارجية، من خلال تشكيل لجان مستقلة لمتابعة أين تم توجيهها وبالتالي تفادي ذهابها لتمويل مشتريات “البانان” و”البيرة” و” قش بختة وفناجل مريم” ، كما يقول المثل الشعبي.

ان تمسك الخطاب الرسمي بعدم الذهاب الى المديونية، لا يمكن تفسيره فقط بالتخوف من تكرار سيناريو التسعينات، حيث كادت الجزائر التوقف عن التسديد لوارداتها الخارجية، ما تولد عنه  ندرة حادة في السوق للمواد الاستهلاكية أدت الى احتجاجات 5 أكتوبر 1988 التي اضطرت النظام إلى تقديم تنازلات سياسية لم يكن يرغب فيها، بل هناك تفسيرات أخرى، ومنها  ما نوعية وحقيقة المشاريع التي يراد تمويلها باللجوء إلى القروض الخارجية، وهل نملك الكفاءة التي تمكننا من إدارة أموال تلك المشاريع الممولة بالقروض الخارجية دون أن يكون مصيرها شبيه بالمشاريع العمومية القطاعية الأخرى التي تضطر الوزارات كل سنة لإعادة تقييمها المالي، مما جعلها تتحول إلى مشاريع لعلف الأموال ليس إلا دون مردودية . وهل تملك الجزائر الآليات التي تحول دون تحويل أموال المخصصة للاستثمار لفائدة تغطية فاتورة الاستهلاك؟.

حدثني رئيس حكومة أسبق عن لقاء مغلق عقده مع مديري البنوك والمؤسسات المالية، لبحث كيفية تحريك الاستثمار وتسهيل الحصول على القروض البنكية التي ظل يشتكي منها المستثمرون الحقيقيون . ومن بين القضايا التي طرحت حسب محدثي، تخص القروض الممنوحة لفائدة مشاريع شباب “لونساج” ، بحيث فاجئني أحد المدراء بالقول ” أفضل منح كل تلك القروض لشخص واحد، عوض منها للمشاريع العديدة لشباب أونساج” ، وبرر هذا المدير ذلك ” حتى اشتغل على ملف قرض واحد طيلة السنة وليس على ألاف الملفات”، وهو ما يفسر جزء فقط من عدم نجاح الاستثمار في الجزائر، ولماذا حتى مع توفر الأموال المحلية لا تساهم القروض البنكية في تطوير الاقتصاد الوطني، وهي المهمة الأساسية المنوطة بالبنوك ؟. ومرد ذلك لذهنيات هؤلاء المسيرين الذين لا يريدون لا “المخاطرة” ولا “العمل” ، طالما أن البنوك غير معنية بالنجاعة، لأن الحكومة في نهاية المطاف تقوم برفع رأسمالها ومواردها من سنة لأخرى.

يمكن فهم من هذه الزاوية لماذا تمت “شيطنة” القروض الخارجية وصنفت المديونية الخارجية وكأنها “شر من الشرور” ، رغم ان اقتصاديات دول عديدة استفادت منها وحققت قفزة نوعية في ظرف قياسي . وبما ان المؤسسات الدولية المانحة للقروض لا تمنح أموالها هكذا وتذهب لتنام دون أن تسهر عليها دوريا من أجل ضمان استردادها، على اعتبار أنها أموال خاصة لمساهمين فيها يحاسبونها عن كل كبيرة وصغيرة، وهو أحد الأسباب التي جعلت اللجوء الى المديونية ينظر اليها كأنها من “المحرمات” في الجزائر، ليس كقناعة اقتصادية، بقدر ما هو سلوك مرتبط بالرغبة في تفادى المراقبة والحساب من قبل الجهات المقرضة . وأمام وضع خط أحمر لتمويل الاقتصاد بالقروض الخارجية دون مبررات مقنعة، يتم الاكتفاء فقط بمتابعة أسعار البرميل في البورصات الدولية وصرف أموال الريع البترولي التي قيل للجزائريين غداة الحراك الشعبي، أنها نهبت من قبل “العصابة ” وهربت للخارج وليس بالمقدور استردادها في المدى المنظور.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى