دراسات جيوسياسية

الحكمة في زمن التعقيدات الجيواستراتيجية

بقلم الدكتور ماهر خضر / رئيس الهيئة العليا لإستشراف الاستراتيجي ..

ظهرت مفاهيم كل من الجغرافيا السياسية والجيوبولوتيك Geopolitics مع أرسطو(383-322 ق.م) و عبد الرحمن ابن خلدون (1342-1405م) و مونتسكيو (1689-1755) و الألماني فردريك راتزل (1844-1904)، مؤلف كتاب ”الجغرافيا السياسية” في عام 1897م.

وإذا كانت الجغرافيا السياسية تنظر إلى الدولة كوحدة إستاتيكية فإن الجيوبوليتيك Geopolitics تعدها كائناً عضويا في حركة متطورة.

لكن مع تطور وتبدل مفهوم التَّوَسُّع ، من التَّوَسُّع الجغرافي إلى التَّوَسُّع التجاري والفكري والإفتراضي، فإن المفاهيم التقليدية حول الجيوبوليتيك والتي طُرِحَت في السابق بدءا من أرسطو وصولًا إلى راتزال تعتبر لاغية الآن، حيث لا يمكن الحديث عن شيخوخة الدول واندثارها كما قال إبن خلدون، أو أن نُشَبِّه الدول بالإنسان الذي ينمو فتضيق عليه ملابسه كما شبَّهها راتزل .

كما أن العالم اليوم، مع كل أجهزته الدولية، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يسمح لأي دولة كانت بالتَّوَسُّع الجغرافي على حساب دولة أو دُول أخرى. هذا الأمر إنتهى مع حقبة الاستعمار المقيتة. لكن اليوم كلنا نسمع عن غزو أسواق جديدة وفتح مسالك تجارية خارجية، ونعتبر ذلك أمرا عاديا في إطار التعاون والتفاعل بين الدول.

لذلك على الدول الآن البحث في آليات التوسع المشروعة والنظر إلى النماذج الناجحة التي يكون في توَسِّعها فائدة محلية وعالمية، فيكون توسعها مُرَحَّبٌ به (نموذج كوريا الجنوبية التي تصل منتجاتها إلى كل الدول تقريبا) . ولعل هذا النموذج ظهر أول ما ظهر مع اليابان كخيار إستراتيجي في الرد على التعدي العسكري الأمريكي في ناكازاكي وهيروشيما، فكان الغزو الياباني لأمريكا في بِضْعِ سنين لكن عن طريق التقنية التي فيها إفادة وإستفادة.

وهو ما يُؤَكِّد أن المساحة لم تعد هي المسرح والرهان لأشكال المزاحمة، حيث ظهرت أبعاد أخرى للرهانات الدولية، ربما تلعب فيها التقنية والإبداعات والمستوى الفكري الأدوار الرئيسية في التَّوَسُّع.

وعندما نتحدث اليوم عن جيوبوليتيك الحكمة Wise Geopolitics ، نستحضر بالضرورة الجهود المحمودة التي تقوم بها الأمم المتحدة United Nations ، وخاصة في علاقة بأهداف التنمية المستدامة SDGs أو ما يعرف بأجندة 2030 ، والتي تغطي أغلب المكونات الرئيسية للجغرافيا السياسية الدولية، مثل الطاقة، والتعليم، والصحة والأوبئة، والفقر، والشّراكة.

مع العلم أن كل هذه المرتكزات للجغرافيا السياسية الدولية تنطوي على نسب متصاعدة من المخاطر ascending risks ، لا تخص دولة المنشأ أو المنبع فقط، ولكن تهدِّدُ العالم بأسره. وكلنا نتذكر وباء إنفونزا الطيور والخنازير H1N1 ، و مرض جنون البقر وغيرها.

بعد هذا التحليل الاستراتيجي، أعتقد أنه من الواجب علينا إعادة النظر في عديد المفاهيم مثل مصطلحات ”القوى العظمى Super Powers “، و”الإحتياطيات الإستراتيجية Strategic Reserves “، و”الدبلوماسية الدولية “، و”الدولة الوطنية “ …

اليوم وفي عالم يزداد تَشَابُكِيَّة وتَرَابُطِيّة كل يوم بفعل التقنية، يجب أن نتحدث عن المواطنة العالمية Global Citizenship، والحكومة الكونية One World Government ، وعن الإنسان في بعده الكوني بمقاييس تفترض المساواة وحِفظ كرامته أينما حلَّ وأينما هاجر وارتحل.

اليوم وبحكم المناخات الكونية وتداخل الـــ Macro بالـــ Micro ، لا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن لعبة صفرية Zero-Sum Game ، بل سيتحول العالم من حالة الصراع إلى حالة التعاون From Zero-Sum Games to Non Zero-Sum Games .

كما ستتبدل عوامل تحديد القوة الإستراتيجية أو الجيوبوليتيك بصفة عامة لتصبح كالتالي:
– المعالم الدينية، حيث سيكون إرتباط الإنسان بالدين أكثر من الدولة.
– القيمة المضافة Value Added في المجالات النادرة، حيث سيكون الطلب عليها أكثر مهما كانت الأسعار.
– جودة التعليم التي هي أساس كل قيمة مضافة Value Added.
– مستوى الوعي بالتحديات الكونية لدى الشعوب ومدى مساهمتها وانخراطها في المجهود الأممي للتقليص من المخاطر (على غرار الـــ SDGs ).
– مستوى الذكاء الحكيم Wisdom Intelligence لدى الشعوب.

لذلك فإن أي دولة تريد أن تكون في المقدمة، لابد أن تعمل على تحقيق نسب عالية في كل هذه المجالات.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى