دراسات سياسية

الشرق الاوسط وسيناريو الانسحاب الأمريكي من المنطقة :نظرة استطلاعية

وليد عبد الحي

لم تكن الهواجس التي عبر عنها تامير باردو رئيس الموساد من عام 2011 الى عام 2016 مع الجروزلم بوست في 17 من الشهر الحالي منفصلة عن سلسلة تقارير ودراسات أكاديمية وتصريحات سياسية عن تراجع تدريجي ومبرمج في مكانة الشرق الاوسط في الاستراتيجية الأمريكية، وهو ما قد يغير المشهد الاقليمي في حالة تحققه.
وثمة مؤشرات متضاربة على مدى احتفاظ الشرق الاوسط بمكانته الاستراتيجية والتي جعلت منه مركزا للتنافس الدولي في اغلب مراحل التاريخ القديم والحديث والمعاصر، وبالمقارنة التاريخية يتبين ان الشرق الاوسط ومركزه الوطن العربي-من المحيط الى الخليج- يُجدد من عوامل أهميته مرة بفعل المصادفة التاريخية ومرة بفعل “الاصرار والترصد ” الدولي ، لكن متغيرين مركزيين يتسللا الى كل هذه العوامل ليضعفها واحدا تلو الآخر، مما سيجعل من ” إرث المكانة الاستراتيجية التاريخية” أمرا فيه مساحة كافية للشكوك في ديمومة هذه المكانة، ويتحدد هذان المتغيران في أولا ” المتغير التكنولوجي” بمعناه الواسع أي التطور التقني(مقاسا بالآلة) والمعرفي( مقاسا بحجم المعلومات الجديدة) والمنهجي( مقاسا بتقنيات التفكير والتحليل) وثانيا المتغير الاقتصادي غير المفصول عن المتغير التكنولوجي.
أولا: البعد الاقتصادي والتجاري:
تبلغ القيمة الاجمالية للتجارة الامريكية مع العالم حوالي 3,9 تريليون دولار منها حوالي 105 مليار دولار أي ما يعادل 2.7 % من اجمالي التجارة الامريكية مع العالم العربي، وهو ما يعني نسبة لا تقارن مع حجم تجارتها مع اقاليم اخرى مثل الصين او الاتحاد الاوروبي او كندا او امريكا اللاتينية.
ولكن بالمقابل من الضرورة التنبه لحجم الودائع العربية في البنوك الامريكية والتي تقارب حوالي 700 مليار دولار، وهي ودائع قد تكون عرضة للتجميد مع اية تطورات سياسية عربية غير مواتية للسياسة الامريكية على غرار ما وقع مع الودائع الإيرانية وغيرها. وهو ما ينطبق ايضا على الاستثمارات العربية في الولايات المتحدة والتي تقدر بحوالي 266 مليار دولار معظمها في سوق السندات الامريكي وتشكل 13% من اجمالي الاستثمارات العربية في العالم.ومن الضروري تذكر ان اعلى نسبة نزوح للمال العربي من الاسواق الامريكية كانت مع واقعة 11 سيبتمبر المشهورة.
وعند النظر في مشكلة التجارة الامريكية بخاصة موضوع العجز المتزايد في ميزانها التجاري (عام 2017) والذي بلغ 566 مليار وهو الاعلى منذ 2008(ازمة الرهن العقاري) يتبين انها ستضطر الى التنبه لمعالجة ذلك بخاصة مع دول مثل الصين التي وصل العجز الامريكي معها حوالي 375 مليار مع الصين .
فإذا ربطنا العجز التجاري بالعبء الدفاعي عن المصالح الأمريكية المنتشرة في اغلب بقاع العالم وتحميها حوالي 761 منشأة عسكرية امريكية في 72 دولة وتصل تكلفتها وصيانتها وخدماتها حوالي 95 مليار سنويا ويرتفع الى 180 مليار دولار سنوبا بحساب العمليات الحربية في المناطق التي تشارك فيها الولايات المتحدة في نزاعاتها العسكرية.
ذلك يعني اننا امام دولة –عظمى بلا شك- لكنها تعاني من عجز تجاري كبير ، وتتحمل اعباء دفاعية (الاولى في الانفاق الدفاعي عالميا) تجبرها على ” لملمة نفسها لمواجهة ما اسماه بول كيندي ” استراتيجية التمدد الزائد”، وعليه قد يكون الشرق احد أقاليم ” الملمة”، وهو ما يعني ان سياسة ترامب بتحميل شركاءه في الاطلسي مزيدا من الأعباء وانتهاجه سياسة ميركنتيلية واضحة مؤشر على طبيعة المنظور الاستراتيجي القادم مستقبلا.
من زاوية ثانية فإن المنطقة العربية تمثل أحد اهم زبائن سوق السلاح الامريكي، فخلال الفترة من2013 الى 2018 ارتفعت مشتريات السلاح العربي بمعدل 32 % ، وبلغت مبيعات السلاح الامريكي للدول العربية 50% تقريبا من مبيعات السلاح الامريكي للعالم،ورغم النسبة العالية ، لكن تحويل النسبة لرقم مباشر يشير الى ان ذلك لا يعوض أكثر من نسبة متواضعة للغاية من العجز التجاري.
ثانيا: تراجع الاهمية الطاقوية للشرق الاوسط للولايات المتحدة،
مع 2017 اصبحت الولايات مكتفية من حاجاتها الطاقوية بنسبة 91%، وتستورد ما تبقى من دول العالم المختلفة ، لكن نصيب الشرق الاوسط عام 2017 هو 17% فقط من هذه الواردات، وهي نسبة تتأكل تدريجيا سواء على الصعيد العالمي او على صعيد الشرق الاوسط، ناهيك ما قد تنطوي عليه جهود البحث العلمي في التوجه نحو بدائل الطاقة الاخرى( الشمسية والنووية والمياه والحرارة الجوفية …الخ).
ذلك يعني ان العطش الأمريكي للبترول لم يعد بتلك الاهمية مما يجعل القيمة الاستراتيجية للمنطقة أقل ، وهو ما يستوجب التنبه له لا سيما ان بعض الدول العربية بخاصة في الشمال الفريقي ذات مخزون احتياطي نفطي ضئيل.
ثالثا: الموقع الاستراتيجي للشرق الاوسط لم يعد بتلك الاهمية من المنظور الجيواستراتيجي، فلم يعد القرب والبعد مع تطور الصواريخ بعيدة المدى او الموجهة أمرا له شأن كبير، وفي ظل دولة تلملم نفسها من الانتشار الواسع، فإن وجودها في 72 دولة كما اشرت سيجعلها ترتب تواجدها طبقا لاهمية الاقليم على حساب اقاليم غيرها، وعند حساب حجم تنامي المصالح في شرق آسيا او الاتحاد الاوروبي تتبين لنا هامشية الشرق الاوسط ” مستقبلا” وليس في هذه اللحظة الآنية.
ومع ادراك الولايات المتحدة ” حيوية” النشاط الصيني والروسي في المنطقة ، تدرك ان تكاليف المماحكة مع هاتين الدولتين في المنطقة لا تتوازى مع مردودها البراغماتي.
من جانب آخر ، فإن مشروع الطريق والحزام الصيني( يعبر اراضي 68 دولة فيها 65% من سكان العالم و40% من اجمالي الناتج العالمي) قد يمتص بعضا من اهمية الممرات البحرية العربية بخاصة باب المندب وقناة السويس، ورغم ان الطريق البحري قد يخالف هذا الاستنتاج الا ان الطريق البري الذي سيعبر من اطراف المنطقة العربية شمال العراق وسوريا سيؤثر على كثافة النقل البحري بخاصة انه اسرع واكثر أمنا وأقل عراقيل دبلوماسية بفعل خريطة العلاقات الصينية مع دول الطريقين.
رابعا: التحولات في الثقافة السياسية في المنطقة:
نبهت نشرات الويكيليكس واوراق بنما واختراق البريد الالكتروني للسفراء والرؤساء ظاهرة تشير الى ان التفاعلات السياسية تميل لقدر اكبر نحو الشفافية، وهو ما يعني ان ” نهار ” التكنولوجيا سيفقد ” دبلوماسية الليل” التي كثيرا ما نسجت خيوط العلاقات الدولية قدرا كبيرا من دورها، فإذا ترافق ذلك مع ارتفاع في نسب التعليم ، واستمرار الصورة الامريكية السلبية( طبقا لكل استطلاعات الرأي الغربية والعربية) في الذهن العربي ، سيجعل احتمالات التوافق العربي مع السياسة الامريكية اقل نسبة مما هو عليه الحال الآن.
من المؤكد ان لكل نقطة مما سبق ثغراتها وبدائلها، لكن ذلك لا ينفي ضرورة ان يأخذ المخطط الاستراتيجي العربي – إن وُجِدَ- ذلك في الاعتبار كما هو حال الاهتمام الصهيوني بها…فهل ننتبه ..ربما.

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى