دراسات سياسية

تاريخ الفكر السياسي : من المعرفة السياسية الى علم السياسة

ليس ثمة اليوم علم واحد فقط يدرس المجتمع والحياة الاجتماعية وظواهرها، بل ثمة علوم عديدة تقوم بهذه المهمة، تسمى العلوم الاجتماعية و/أو الانسانية؛ مثل علم الاقتصاد وعلم السياسة وعلم النفس وعلم الاخلاق (أي علم تقييم سلوك الانسان وقيمه في المجتمع) وكذا الفلسفة والسوسيولوجيا (أي علم الاجتماع بالمعنى الضيق والحديث للكلمة) …الخ. فبماذا يتميز علم السياسة عن باقي العلوم الانسانية الأخرى التي تدرس المجتمع ؟، وما علاقته بتاريخ الفكر السياسي والمعرفة السياسية عموما ؟، وقبل ذلك ما علاقته بتاريخ الفكر الاجتماعي والمعرفة الاجتماعية أيضا ؟.

وفي هذا الخصوص يجدر بنا القول: إن كل علم من العلوم تسبقه معرفة عامة بموضوع ذلك العلم؛ تتراكم تدريجيا وتتطور نوعيا، عبر السنين، تزداد من خلالها وعبرها إلماما بظواهر الموضوع، وتزداد قدرة على تفسير اسبابها وتحديد مكوناتها عبر السنين ايضا، بل وحتى عبر العصور.

وإذا ما تجاوزنا تفاصيل وحيثيات ظهور المعرفة السياسية وبدايات توظيفها مجتمعيا في التاريخ، يمكن القول: إن حاجة الانسان الى السياسة كانت ضرورة فرضتها حاجته الى الاجتماع الانساني.

لذلك، فنحن نعتقد ان تقديم لمحة عن تاريخ المعرفة الاجتماعية والسياسية؛ او ما صار يسمى علوما اجتماعية، لا يسهل علينا معرفة المقصود بالفكر السياسي ونشأته؛ وبكل فكر اجتماعي ذو صلة موضوعية بالأفكار السياسية ونشأتها الاولى فحسب، بل تفرضه علينا ايضا مبررات منطقية ومنهجية، تلزمنا بها حقائق تاريخية، اجتماعية وسياسية، معروفة،كما سنرى لاحقا؛ مبررات منطقية ومنهجية غايتنا منها هنا، التمييز بين علم السياسة وتاريخ الفكر السياسي والمعرفة السياسية عموما.

ولما نقول علاقة الفكر السياسي بالفكر الاجتماعي، يعني اساسا علاقته بالفكر الديني؛ فالفكر الديني والاجتماعي كانا، كما هو معلوم عند جميع مؤرخي الفكر، متداخلين يتعذر الفصل بينها في معظم القضايا، وفي كل مراحل التاريخ القديم والوسيط، وذلك منذ نشاة الفكر السياسي في احضان الفكر الاجتماعي والديني في اليونان القديمة، كما سنرى في دروسنا اللاحقة.

1 – الفكر الاجتماعي والسياسي السابق على علم الاجتماع وعلم السياسة

آ – العصر القديم:

ظهرت البذور الاولى للتفكير الاجتماعي منذ أقدم الازمان، في الاساطير والاديان والفلسفات القديمة. الامر الذي جعل مؤرخي هذا الفكر يقرون: أن في كل مجتمع سوسيولوجيا (أو معرفة اجتماعية) مضمرة، نادرا ما تظهر، أو ما يُعبَّر عنها، في صورة معرفة متسقة (أي في صيغة نظريات متكاملة). فالافكار الاجتماعية البسيطة التي عرفتها مجتمعات الشرق القديم وحضاراته، قد اتصفت بالطابع العملي المنفعي الاخلاقي، وبالنظرة الاسطورية الدينية الى الحياة الاجتماعية. ولم تظهر الافكار الاجتماعية والسياسية المتماسكة، نظريا، إلا في العصر اليوناني. ففي القرنين السابع والسادس قبل الميلاد (700/600 ق م) حدث انعطاف تاريخي كبير في بلاد اليونا، أدى الى ولادة العلم النظري، وذلك في مدن آسيا الصغرى الأيونية اليونانية (آسيا الصغرى ذلك الوقت هي هضبة الأناضول اليوم؛ أي الجزء الأكبر من تركيا اليوم)

وإذا ما قورن التفكير الاجتماعي اليوناني بالافكار المأثورة أو بالأحرى المعروفة عن حضارات الشرق القديم (يقصد يحضارات الشرق القديم حضارات كل من: مصر الفرعونية، وبلاد ما بين النهرين – أي العراق وسوريا وفلسطين ولبنان اليوم المعروفة بحضارت سومر وأكاد وبابل وأشور وكلدان – إضافة الى حضارات فارس والهند والصين). نقول إذا ما قورن هاذ التفكر الاجتماعي اليوناني، بتفكر هذه الحضارات السابقة عليه، أمكننا القول: إن نمطا جديدا من التفكير الاجتماعي والسياسي أرقى نوعيا من سابقه قد رأى النور في اليونان.

ففي هذه الفترة بالذات (أي، القرنين السابع والسادس قبل الميلاد) نشأت بدايات التفكير العلمي المقصود لذاته (أي المتجرد من المنفعة العملية المباشرة)، وطرحت مسائل نظرية جديدة غير معهودة، تصدى اليونانيون اليها بحثا عن الاجابة عنها باستخدام وسائل عقلية وطرق تفكير لم تكن معروفة قبل ذلك، الا بصورة بدائية أولية (غالبا ما كانت أسطورية).

أما شروط نمو هذا العلم النظري (العلم الذي صار يسمى فلسفة) وازدهاره، فيردها المختصون بتلك المرحلة وبذلك العلم، إلى خصوصية علاقات الملكية الناشئة، القائمة على أساس نظام العبودية، الذي تمكن اليونانيون من خلاله من تطوير قوى الانتاج وتنويعه في مجتمعهم، ومن ثم الدفع بمجتمعهم الى الازدهار والرخاء الاجتماعي النسبي في مدنهم الاساسية؛ وبشكل خاص مدينة اثينا.

فقد ادى الانتقال من نظام الانتاج البدائي إلى نظام الانتاج العبودي إلى فصل النشاط العملي عن النشاط الفكري، حيث ظهرت فئات اجتماعية جديدة، مكنها رخاؤها الاجتماعي، المتولد عن فائض الانتاج وتعاظمه، من ترك النشاط العملي والانصراف إلى النشاط الفكري (أي التأمل في مسائل الوجود والحياة والانسان، و في النظم المثلى لشؤونه العامة، وفي طرق البحث العلمي والتعليم…الخ)

لقد أدى التطور الاقتصادي الكبير، والخالي من الازمات نسبيا، (تجارة، حرفة، عمل العبيد المنتج…الخ)، وتراجع السلطات التقليدية أمام صعود السلط الجديدة، الناتجة عن ظهور أشكال سياسية جديدة، موافقة لهذا التطور الاقتصادي، التجاري والحرفي منه خصوصا. لقد ادى كل ذلك إلى تكوين نظرة عقلية إلى العالم والانسان، تجلت صورتها بشكل واضح في ما صار يسمى منذ ذلك الوقت بالفلسفة اليونانية، المتحررة من بقايا النظرة الاسطورية للعالم والانسان والمجتمع.

فلسفة عقلية متحررة، ارتقت تدريجيا من مستوى النظر الاختباري الحسي المباشر للاشياء، (أي المعرفة الحسية المباشرة للاشياء)، إلى مستوى النظر العقلي المجرد للاشياء (أي المفاهيم والتصورات المجردة)ومحبة الحقيقة والحكمة لذاتهما.

ومما هو جدير بالذكر هنا، ان هذه الفلسفة الناشئة في بلاد اليونان، قد اتجهت في البداية إلى دراسة الطبيعة. أما التفكير في العلاقات الاجتماعية فظل مشتتا غير منظم، لمدة ليست قصيرة، مقتصرا على مجال الاخلاق والسياسية العملية. الا أن هذه الفلسفة الطبيعة قد تميزت بالثقة بالعقل والنظرة المتفائلة بالمستقبل. الامر الذي جعلها تؤمن بقدرتها على تفسير كل شيء، بما فيها الانسان نفسه، بالسببية الطبيعة الخالصة، التي تستغني عن أشكال الوعي الاسطوري والديني السابق.

لكن هذه الروح العقلية، التي اتسمت بها هذه الفلسفة الجديدة، المؤمنة بالتقدم، ظلت مع ذلك تفتقد الى رؤية نظرية متمايزة ومعمقة عن الانسان والمجتمع. فقد بقت الافكار التي تدور على مسائل العلاقات الاجتماعية وسياستها غير منظمة، تراوح مكانها تقريبا كما كانت في البداية، قليلة ومشتته وغير منفصلة تماما عن التفكير الاسطوري والديني، حوالي قرنين من الزمن (القرنين السادس والخامس قبل الميلاد).

فما هي خصائص هذا التفكير الاجتماعي والسياسي المبكر في اليونان، وأين ظهر بالذات وكيف، وما هي حيثيات كل ذلك؟

ب – نشأة الفكر السياسي في اليونان القديمة

يطرح علينا الحديث عن نشأة الفكر السياسي في اليونان القديمة مجموعة من التساؤلات، تفرض نفسها على الباحث في تاريخ الفكر السياسي عموما، وعلى طالب العلوم السياسية خصوصا، الذي هو بصدد بداية تكوينه في هذا العلم. واهم هذه التساؤلات هي:

آ – لماذا اتخذ الفكر السياسي الاغريقي (اليوناني) بالذات أساسا للفكر السياسي الحديث ؟

ب – هل يعني هذا الاختيار عدم وجود فكر سياسي سابق عليه؟

ج – وإذا سلمنا بوجود فكر سياسي شرقي سابق على هذا الفكر السياسي الاغريقي فلماذا لم نتخذه منطلقا للبحث في تاريخ الفكر السياسي عموما؟

يجمع معظم مؤرخي الفكر السياسي على اعتبار العصر الاغريقي بداية للتاريخ السياسي بصورة عامة، الا انهم لا ينفون وجود تراث سياسي سابق عليه، بل يؤكدون وجوده في مجتمعات الشرق القديم – وهذا امر طبيعي، فكل مجتمع انساني، توجد فيه ضمنيا، كما سبق واشرنا، افكار اجتماعية وسياسية مناسبة – فالشرق القديم كان يعمر بالفكر السياسي، الا أن ذلك لا يعني انه ترك لليونانيين بعده، نظريات سياسية متكاملة. فالفكر السياسي المتكامل في صيغة نظريات سياسية لم يظهر الا في اليونان، بدأ من القرن الخامس قبل الميلاد، كما سنرى لاحقا.

وترتبط هذه النشأة (نشأة الفكر السياسي في اليونان)، كما يؤكد معظم مؤرخي هذا الفكر، إضافة إلى ما سبق ذكره، بما صارت تتميز به العقلية اليونانية من تحكيم العقل في الشأن السياسي العام. فبدلا من ان يظل اليونانيون في مجالات الدين كما ظل من سبقهم، وبدلا من ان يبقوا مسلمين بأوضاع هذه الدنيا على علاتها وينظروا اليها بعين الايمان، فانهم صاروا يتخذون لانفسهم موقف المفكر المتسائل بجرأة عما يدور حولهم من مشاهدات(1). ويحاولون النظر الى العالم بمنظور العقل، ومن ثم التسليم بطبيعية الاوضاع التي يعيشوها الناس في تجاربهم……

الخلفية التاريخية لنشأة الفكر السياسي اليوناني

…….ويحاولون النظر الى العالم بمنظور العقل، ومن ثم التسليم بطبيعية الاوضاع التي يعيشها الناس في تجاربهم بوصفها غريزة طبيعية، في نظرهم.

فإذا كان من السهل على الانسان، ان يتقبل العالم الطبيعي الذي يحيط به كما هو، دون أن يتساءل عن مصدره وعن سبب وجوده وعن غاية وجوده…الخ؛ كما يكون من السهل عليه ايضا، أن يتقبل الانظمة التي اوجدها البشر على انها اشياء محتومة دون أن يسأل عن مصدر وجودها؛ فمن المنتظر ان لا يتساءل عن معنى علاقات الإنسان بالطبيعة، أو علاقات الفرد بنظم مجتمعية كالاسرة والدولة.

وإذا ما برزت أسئلة من هذا القبيل، كما حدث في بلاد اليونان لأول مرة، فمن السهل أن تسارع إلى رفضها، على الفور، إجابات يأتي بها “الفكر التقليدي” المضطرب من مثل هذه الاسئلة؛ إجابات كان مضمونها عموما هو رفض الجديد، رفض يصاغ في صيغة تساؤل عام هو: من انت ايها المعترض على العزة الالهية؟

إن هذا التسليم برد كل الامور الى الله؛ (التسليم الذي كان أمرا طبيعيا بالنسبة الى العقلية الدينية في العصور السابقة على هذا العصر الاغريقي (اليوناني) الجديد)، لم يعد كذلك، في هذه اللحظة التاريخية الجديدة، بالنسبة إلى العقل اليوناني، بل صار التسليم بمثل هذه الامور، دون التساؤل عن مصدرها وسبب وجودها والغاية من كل ذلك أمرا مستحيلا بالنسبة أليه. حيث لم يعد لديه ذلك الايمان الذي يجعله يقنع بقبول الاشياء المحيطة به بمجرد إرجاعها الى الله.

وسواء كان السبب في ظهور هذه العقلية اليونانية الجديدة، هو ما احدثته هجرات اليونانيين الأولى(1)، من قلاقل فكرية، كما يرى بعض المؤرخين؛ أو كان السبب هو ذلك التنظيم المدني، الذي أدى إلى وجود دويلات يونانية كثيرة، حالت نتيجته دون قيام كنيسة كبرى عامة، كما يعتقد بعض آخر من المؤرخين. نقول سواء كان هذا السبب أو ذاك: فإن الحقيقة التاريخية، المؤكدة من قبلهم جميعا، هي أن الوازع الديني لم يعد له أثر كبير لدى الرجل اليوناني، كما كان من قبل.

وهكذا، لم يعد الرجل اليوناني ينجذب لأي فكر انساني، يدفعه الى اعتبار نفسه، (كإنسان)، مجرد نقطة في اللانهائي، لا استقلال لها، بل إنه على عكس ذلك، بدأ يحاول النظر إلى نفسه كشيء (أي كائن انساني) له وجود مستقل. وهكذا، استطاع الرجل اليوناني ان ينتزع نفسه، تدريجيا، من تجربته الحياتية التي مر بها عبر العصور، ويتحرّر، في الوقت نفسه، من أفكارها وتصورها للإنسان والعالم؛ واقفا بذلك موقف الناقد لها، المعارض لاستمرارها.

ومن المتوقع ان يبدو هذا التحول للبعض، أمرا قليل الأهمية، بل ربما تحولا دون أثر. لكن الواقع انه تحول له تأثيره الكبير؛ إذا اعتُبر هذا التحول وقُيِّم بقيم التحرّر والمعارضة. أي من منظور إدراك التناقض بين التصورات التقليدية للاشياء والرؤى الجديدة لها. خاصة إذا اعتبرنا التاريخ، كما يقول الفيلسوف الالماني الكبير “فريديرك هيغل – Friedrich Hegel– 1770/1831″، هو تاريخ صراع الأضداد الفكرية.

وتبرز لنا أهمية هذا التحول أكثر، إذا نظرنا إليه من منظور الفكر السياسي، الذي نحن بصدد تلمس بداياته الأولى، فهذا التحول قد تجلى، سياسيا، في التناقض (تضاد) بين الفرد والدولة. والوعي بهذا التناقض أدى الى السعي إلى تجاوزه بالتحرر والمعارضة. ذلك ان الشرط الذي يجب ان يسبق كل تفكير سياسي، في أي عصر، هو إدراك التناقض الذي يحصل بين الفرد والدولة. وأن عمل كل مفكر سياسي هو ايجاد التوافق بين الإثنين، واستعادة التوازن من جديد، وذلك بازالة أي تعارض بينهما يرى ان له خطورة. مادامت غاية الفكر السياسي النهائية هو استقرار الدولة وتوازنها. وهذا ما حصل فعلا في أول تشريع حقوقي وسياسي في اليونان القديمة، كما سوف نرى لاحقا،

فبدون تفهم هذا التعارض، لن يصبح هناك معنى لأي مسألة من مسائل علم السياسة ومشاكلها؛ أي المسائل التي تتناول أساس سلطة الدولة ومصدر قوانينها. فالنتيجة الطبيعة للإخفاق في ايجاد توافق بين مصلحة الفرد ومصلحة الدولة هو، بكل بساطة، العجز عن ايجاد حل لمسائل علم السياسة ومشاكلها.

وتجدر الإشارة هنا، إلى أن أول من أبرز هذا التعارض للناس، وتناولوه بالمعالجة، في اليونان، وأزالوه في وقتهم، هم السفسطائيون (Les Sophistes)، في القرن الخامس قبل الميلاد (1)، الذين سوف نقف عند فكرهم السياسي في درس لاحق؛ سابقين بذلك “أفلاطون – Platon- 427/347 ق م” و”أرسطو- Aristote- 384/322 ق م” اللذان تناولاه بدورهما بعد ذلك.

وهكذا، نرى أن الشعور بقيمة الفرد، كان الشرط الأول لبداية تبلور الفكر السياسي ونموه في بلاد اليونان. وهو شعور كانت له مظاهره العملبة، بقدر ما كانت له مظاهره النظرية أيضا. وقد اتخذت مظاهره العملية صورة المفهوم العملي لحقوق المواطن الحر في مجتمع يتمتع بالاستقلال. وهو مفهوم شكل ركنا أساسيا، بل جوهريا في مفهوم أو فكرة الدولة المدينة في اليونان، أو “دولة – المدينة اليونانية Cité-Etat Grecque”(1)، نموذج التنظيم السياسي في اليونان القديمة.

ومهما قيل عن التضحية بالفرد في سبيل الدولة في السياسة الاغريقية، أو في النظريات السياسية الاغريقية القديمة، مقارنة بنظيراتها في العالم القديم، فإن الحقيقة التي لا جدال فيها، هي أن التضحية بالإنسان الفرد في بلاد اليونان في سبيل الكل الذي ينتمي إليه كانت، على خلاف بقية العالم القديم، تضحية أقل منها في أي مكان آخر من ذلك العالم. فاليونانيون لم يتوقفوا عن الاشادة بأنفسهم، والحديث بفخر عن أن كل انسان في مجتمعاتهم، كان يُقَيَّم بقدر ما يستحق من قيمة في مجتمعه، وكان يمارس نصيبه من النفوذ في الحياة العامة كمواطن حر. (اسهامه في الشأن العام بوصفه مواطنا حرا).

على خلاف، يكاد يكون كُليّا، عن نظيره في حكومات الشرق المطلقة؛ حيث لم يكن لأي فرد من المجتمع وزن، أو نفوذ يذكر، إلا للحاكم المطلق؛ إذ لم تكن هناك مصلحة مشتركة على الاطلاق. عكس ما كان في اليونان تماما، التي كانت فيها الرابطة الوحيدة التي تربط دويلاتها هي القانون وليس الرابطة الشخصية المتمثلة في الخضوع المشترك لإرادة سياسية متقلبة، يمليها فرد حاكم واحد.

فقد كانت تلك الدويلات اليونانية تشكل حكومات أو هيئات في كيان عام واحد، تضبطه أخلاق اجتماعية ورأي اجتماعي مشترك، وليس مجرد اتحادات بين سادة وعبيد لا مصلحة مشتركة بينهم.

ففي هذه الدول، حيث وجد “تماثل” بين الناس؛ دون مساواة اجتماعية طبعا، وحيث كان الناس جميعهم ينشدون هدفا واحدا مشتركا (أي حيث كان يوجد شأن عام )، مشكلين بذلك خيوطا في نسيج واحد. نقول: في هذه الدول أو الدويلات اليونانية، وفي دول كهذه، نشأ الفكر السياسي ووجد تربته الطبيعية للتطور.

فكيف كانت، إذن، ولادة الفكر السياسي اليوناني ونشأته، ومتى كان ذلك تحديدا ؟

الدرس الثالث

كيف، أين ومتى نشأ الفكر السياسي، في اليونان القديمة ؟

يختلف المؤرخون فيما يقيمونه من مقارنات، بين مراحل تطور الفكر السياسي في العصر اليوناني وعصرنا الحديث. فبينما نجد من يقارن كل العصور اليونانية القديمة إلى فترة القرن الخامس، بما نسميه بالعصور الوسطى من تاريخ أوروبا الوسيط، على أساس أن الفترتين بدأتا بهجرات للقبائل وانتهيتا باكتشاف لـ “العالم والإنسان“، إذ بنا نجد من المؤرخين من يقارن الفترة الأولى من تاريخ اليونان، قبل نهضتهم أيام “سولون – Solon – حوالي 640/558 ق م “، بفترة العصور الوسطى من تاريخ أوروبا. ويضع فترة “الإصلاح” و”عصر النهضة”، في القرن السادس.

فإذا أخذنا بالمقارنة الثانية، أمكننا القول: إن الفكر السياس في العصور الوسطى اليونانية، يتمثل في كتابات كل من الشاعران الكبيران “هوميروس -Homèros أو Homère بالفرنسية – نهاية القرن الثامن قبل الميلد” و “هسيودوس – Hesiodos-” تاريخ ميلاده غير معروف، ولكنه معاصر لهوميروس.

وهما الشاعران الوحيدان في ذلك العصر. وقد ورد في أشعارهما أفكار ذات طابع سياسي، تتعلق بشؤون الحرب و وأحادية القيادة، والانضباط والطاعة، وحق الملكية الالهي، والحكم، ودور القبيلة…الخ خاصة في أشعار هوميروس الواردة في “الإلياذة – L’Iliade”، التي تضمن موضوعها قصة حرب طروادة، وبشكل أقل في”الأوديسة – L’Odyssée”، التي تركز موضوعها على قصة نهاية حصار مدينة طروادة، وبدء عودة المحاربين إلى ديارهم.

كل ذلك جاء في أشعار هوميروس، في وقت كان يطلق فيه على “الملك” لقب حاكم المجتمع، كما كان كل زعماء القبيلة يحملون اسم “أمير”، ويدعون جميعهم شرف انتسابهم إلى سلالة الألهة. ولا يختلف الملك الفعلي عن ذلك، إذ كل ما يميزه عنهم، سوى كونه الشخص الذي اختاره المجتمع كله، وعينه حاكما له.

وهكذا نرى، من خلال أشعار هوميروس، أن القبيلة في أيامه – القرن الثامن قبل الميلاد – كانت ذات سيادة على نفسها. وان حاكمها الاعلى يتولى منصبه كممثل لها وناطق باسمها(1). ولأن ما يعنينا، في سياق درسنا هذا، ليس هو موضوع دور القبيلة السياسي في العهد اليوناني الوسيط، ولا رأي الشاعران هوميروس وهسيودس في ذلك أيضا، بل موضوع الملك والحكم بشكل خاص؛ باعتباره محور التفكير السياسي وتنظيره، في كل العهود، فإنه من الضروري الإشارة إلى موقفهما من ذلك، ولكن تمهيدا فقط لآراء من أتى بعدهما.

فبينما يعترف هوميروس بهذا النوع من الملكية؛ الملكية المستمدة أصلا من الحق الالهي، حيث ينتسب الملك وامراء القبيلة، كما سبقت الإشارة، الى سلالته. فإن هسيودوس لا يعرف إلا زعامة (قيادة) واحدة، وهي الزعامة التي يتولها عدد من الامراء(2).

وهو الرأي الذي ناقضه السفسطائيون بعد ذلك بثلاث قرون، كما سنرى في درس قادم، بالرأي الذي كان يعتنقه الأمراء في عهده.

ولكن ما يهمنا أكثر في سياق هذا الدرس أيضا، هو أنه في القرن السادس قبل الميلاد (بين 600/500 ق م)؛ أي بعد قرنين من الزمن من بروز أفكار هوميروس وهسيودوس السياسية، ظهر فجر سياسي جديد في اليونان، إرتبط أساسا بأفكار الشاعر والمشرع الكبير “سولون – solon”.

ففي القرن السابع قبل الميلاد (بين 700/600 ق م)، كانت قد اجتاحت اليونان أزمة اقتصادية(1)؛ إذ ابتلعت عمليات رهن أراضي الفقراء لدى الاغنياء أرضهم، فضَمَّ الأغنياء، جراء ذلك، أرض جيرانهم الفقراء إلى ملكياتهم. ولأن النتيجة الطبيعية لذلك؛ أي لهذه الازمة الاقتصادية، هي الفوضى، فقد كان من الضروري ظهور عقلية جديدة وقوانين جديدة في اليونان، غايتها تجنب الفوضى وتجاوزها.

أما هذه العقلية الجدية فيرَدّ المؤرخون منبعها إلى معبد مدينة “دلفي – Delphes”(1) اليونانية، وأما القوانين الجديدة فقد شرّعها مُقنِّنون، كان أبرزهم المشرع سولون. الأمر الذي جعل المؤرخين يجمعون على أن تعاليم معبد ديلفي كانت مصدر إلهام ما سُميَّ بـ “حركة الاصلاح اليونانية”، حوالي 600 قبل الميلاد.

فقد انفصلت مدينة دلفي عن قبيلة “الفوكسيين”، ولم تعد تستمد هويتها منها، بل صارت دولة كنسية (أي، دينية)، وكان لمعبد دلفي شهرته، حيث كان كهنته ، وفي طليعتهم الكاهنة “بيثيا – Pythia”(2)، يعتقدون بأسطورة قديمة، مفادها أن إلههم “أبولون – Apollon”، هو مبتدع التطهير، (Purification)، تطهير المذنبين من ذنوبهم والمجرمين من جرائمهم؛ بما فيها جريمة القتل. وقد توسع كهنة هذا المعبد في تفسير هذه الرواية (الاسطورة)، وتأويلها تأويلا شاملا، إلى الحد الذي جعلهم يعتقدون أن الإله أبولون (إلههم) هو مفسر الأخلاق اليونانية وواضعها، والمعبر عن قوانينها.

وكان جوهر تعاليم هذا المعبد الأخلاقية (أي، فلسفته الاخلاقية) هو حاجة الانسان والاجتماع الانساني عموما، إلى الاعتدال. ولذلك فإن دروسه الوعظية كانت تدور حول جمال الاعتدال، وحاجة الانسان المستمرة الى تذكر أن لكل شيء حدود لا ينبغي ان يتخطاها. ولذلك كانت هذه التعاليم تردد ان حب الكسب وشهوته، التي كانت سبب كل المتاعب السابقة، يجب ان يكبح جماحها، ليصبح شعار الحياة مستقبلا، ومبدأها، كما يُردّد كهنة معبد دلفي، هو: “لا للمغالاة، في أي شيء كان“.

وهكذ، انتشر هذا التقليد الجديد في التفكير، وتغلغل في الحياة اليونانية، ويعمر طويلا فيها؛ بعد أن تعزز بفلسفات أخرى، جاءت بعد ذلك، كان أهمها فلسفة العالم والرياضي الكبير “فيثاغورس – Pythagore – حوالي 580/497 ق م” القائمة على مبدأ “الحد “، ومبدأ ارسطو الكلاسيكي المعروف بـ “الوسط الذهبي”. فهذان المبدآن يعبران بكل وضوح على فلسفة الاعتدال، ويلتقيان بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مع تعاليم معبد دلفي الدينية، حول الاعتدال.

ولكن، “أبولون” لم يكن مفسر الاخلاق اليونانية فحسب، بل هو أيضا المعبر عن القانون ومصدره. ولذلك كان هم المشرعين، الذين اقترنت حركة “الاصلاح اليوناني”، التي سبق ذكرها، بنشاطهم التشريعي، هو ايجاد الصيغ التشريعية لتطبيق الدروس (الأفكار)، التي انبعثت من معبد دلفي عن القانون وغايته. والتي تنحصر في الاعتدال والوقوف عند الحدود المطلوب احترامها.

وفي هذا السياق، ظهرت رواية تتحدث عن سبعة حكماء، لا يذكر لنا التاريخ منهم، كأثر باق، سوى واحد هو “سولون”. وينسب المؤرخون إلى هؤلاء الحكماء السبع، نشاطا سياسيا كبيرا؛ حيث يذكرون أن فلسفتهم السياسية قد صاغوها على شكل أقوال وحكم معروفة (Citations célèbres)؛ أي في قالب أمثال- Proverbes؛ قال عنه أفلاطون، في وقته (القرن الخامس ق م): إنها كانت تتضمن بعض أحكام صادقة استمدوها من التجربة، أو استخلصوها من ملاحظات عيونهم الفاحصة.

والواقع أن “أقوال الحكماء السبع” هذه، كانت، في أساسها، أحكام أخلاقية إلى حد كبير. ولكنها تضمنت في ثناياها حقائق سياسية؛ مثل الحقيقة القائلة: “إن المنصب كفيل بأن يظهر المعدن الذي صنع منه الانسان”. ويضيف أفلاطون أيضا، أن هؤلاء الحكماء السبع أهدوا، جميعهم، ثمار حكمتهم إلى معبد أبولون في دلفي؛ مؤكدين بذلك ارتباطهم بالتعاليم الالهية (تعاليم الاله أبولون).

ومما يؤكده المؤرخون أن الامفكتيين – amphictyons (1)، ناقشوا أقوالهم داخل معبد دلفي، بعد أن وضعوها على جدرانه، وذلك حتى يعطوها شيئا من قدسية الوحي الإلهي.

أما جورج غروت(2) فيعتبر هذه الاسماء الشهيرة؛ اسماء الحكماء السبعة، مهد الفلسفة الاجتماعية، في عصورها الأولى، كما كانت دلفي مصدر إلهام النشاط السياسي، الذي قام به المقنّنون ومنبع فكر هذا النشاط، في عصر سولون؛ شأنه في ذلك شأن الفلسفة الاجتماعية. وكان هذف هؤلاء المقنّنين، حسب ما سمحت لنا به أعمال سولون المدونة من حكم، هو أن يجسدوا دروس “الاعتدال” و”الحد”، أو التحديد، في مجال الحياة الاجتماعية والسياسية. و أن يعيدوا بذلك للدولة وحدتها الاجتماعية، وذلك بتقييد استعمال الثروة. والاعتدال في ذلك.

وهكذ، سعى سولون إلى إدخال المثل الأعلى للمساواة الاجتماعية، في دولة مزقتها النزاعات بين الأغنياء والفقراء؛ محاولا كبح جماح الأقوياء ومنعهم من استغلال ثرائهم دون قيد، باذلا ما بوسعه لرفع شأن الفقراء. فمن ناحية ألغى الدُّيون التي تراكمت على فقراء الفلاحين، نتيجة لعمليات الرهن، التي سبق ذكرها أول هذا الدرس، واضعا حدا أعلى(1) لملكية الأرض. وإصدار قوانين ضد الترف، قيد بها حق الأثرياء في بعثرة أموالهم بصورة تثير الحقد (حقد الفقراء والضعفاء).

هذا من جهة، ومن جهة أخرى حاول، في المقابل، ان يجعل من الفلاحين ملاكا لمزارعهم. وتدعيما لرؤيته المتكاملة للأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي في المجتمع، وضع قوانين تسهل للأجانب الإقامة في مقاطعة “أتيكا – Attique”(2) ومدنها، وفي مقدمتها مدينة “أثينا – Athènes”. حتى يمارسون بعض الحرف والمهن، التي تتطلب المهارة العالية. وبذلك شجع اقامة الصناعات التقليدية التي ثبت، أنها أعطت، مع مرور الوقت، خلاصا للفقراء وأنقذتهم من البؤس وعدم الاستقلال اللذين يولدهما دوما النشاط الزراعي المحض، التابع هو بدوره لتقلبات الطقس الطبيعية وعدم استقرارها.

فبهذه الاجراءات وبغيرها أيضا، سعى “سولون” إلى تكريس مبدأ العدالة الاجتماعية. ولقد قيل إن إنسانية قانون مقاطعة “اتيكا” (تشكل مقاطعة أتيكا شبه جزيرة)، كانت تعبيرا عن خلق سولون واعتداله هو نفسه. فهو الذي خوَّل لأي مواطن أثيني، ، أن يقيم الدعوى بالنيابة عن شخص آخر، دون التعرض لأي خطر على نفسه، إذا علم أن جرما ما قد ارتكب في حق هذا الشخص؛ وذلك بهدف حماية الضعيف والمحتاج. (بمعنى ينوب عنه ويكفله قانونيا).

وبهذا خطا سولون خطوة كبيرة نحو إقامة عدالة منصفة لا تحابي أحدا. كما أصدر “قانونا للجمعيات“، جدير بالملاحظة والذكر هو أيضا. قانون يقول عنه الكاتب الالماني “أورليخ فون فيلاموفتز”: لقد وضع سولون قانونا ينص على مبدأ ان الحماعة التي لها عبادة مشتركة، لها الحق في أن تصوغ لنفسها قوانين تعترف الدولة بصلاحيتها، بالنسبة لأعضاء الجماعة؛ مادامت لا تتعارض مع قوانينها……وهكذا، أقيم مبدأ حرية الجمعيات في اليونان القديمة.

ومما له دلالته هنا التذكير أيضا، أن روح مدونة القانون الروماني نفسها تعود إلى قانون سولون وتشريعاته.

“الفكر السياسي اليوناني من السفسطايين إلى أفلاطون”

الدرس الرابع ​

تبلور الفكر السياسي اليوناني (1)

من سولون إلى الفيثاغوريين

نستأنف درسنا هذا، حول مبدأ العدالة ومفهومها عند سولون، وكذلك عند الفيثاغوريين، وذلك تمهيدا لآراء السوفسطائيين فيها، إضافة إلى رؤية أفلاطون الناقدة لأفكارهم السياسية والمناقضة لفلسفتها؛ وذلك ليس من أجل اقامة مقارنة مجردة صماء بينهم(1)، بل من اجل رصد تطور الأفكار السياسية عند اليونانيين وتحول غاياتها، وفق مبدأ القطيعة والاستمرار التاريخي للأفكار وتطورها.

وأول ملاحظة يمكن تسجيلها، في هذا الخصوص، هي أن تواصل الافكار، عبر مبادئها، ظل قائما في اليونان القديمة ومتواصلا لقرون عديدة، كما سنرى، باعتبارها مبادئ تعكس حاجات الانسان الطبيعية ومطالبه التاريخية؛ كمبدأ العدل والحق والمساواة والحرية…الخ(2)، وكذالك شروط لاجتماع الانساني و ضروراته، كالأمن الفردي والسلم الجماعي والتعاون الاجتماعي….وغيرها من دواعي انتظام المجتمع واستقراره. فهذه الشروط تعكس حاجة الانسان الطبيعية للاجتماع الانساني. ولكن بروز حاجة الانسان الى مبادئ هذا الاجتماع الانساني (كمبدأ العدل والحق والحرية ..الخ) تفرضها الضرورة التاريخية، وليس الطبيعية؛ أي حاجة الانسان التاريخية اليها. وبروز هذه الجاجة التاريخية هو نفسه وليد توفر ظروفه الموضوعية في المجموعات البشرية، عبر مراحل التاريخ الانساني.

ولذلك فإن حدود هذه الحاجة و مدى تطلعات الانسان الي مبادئها، هو نفسه من متطلبات تطور المجتمع التاريخية، وتطور وعي الانسان هو نفسه بحاجته اليها.

ولهذا فإن أصالة عمل سولون الإصلاحي، قد تمثلت في الإضافة التي قدمها لمفهوم العدالة والمساواة. فقد تجاوزت رؤيته لها رؤية الشاعران هوميروس وهسيودوس؛ فقد جاءت إضافته استجابة لحاجة المجتمع إليها، في الظرف التاريخي الذي فرضته الأزمة الاقتصادية، التي عصفت باستقرار مقاطعة “أتيكا – Attique” ومدنها (كدلفي وأثينا بشكل خاص)، كما ذكرنا في درسنا الماضي.

الأمر الذي جعله يضع تصورا أوسع وأعمق لفكرة العدالة، يستجيب لمتطلبات معالجة تلك الأزمة وتجاوز أسبابها؛ تصور تمثل هدفه، كما يقر هو في اشعاره الممهدة لعمله التشريعي، في وضع قاعدة عامة للمساواة المتوازنة، يتعذر بمقتضاها على أية طبقة من الناس، إدعاؤها حق التفوق الاجتماعي على غيرها من طبقات الناس الأخرى، أو ‘دعاؤها التمتع بميزة سياسية دون حق. فهو القائل: “لقد منحت الناس قوة كافية، فلم انتقصهم شرفا يستحقونه أو أعطيتهم أكثر مما يستحقون. بل وقفت رافعا درعي، أحمي به الأغنياء والفقراء على السواء، فلم أسمح لهؤلاء أو هؤلائك ان يفوزوا ويتفوقوا دون حق”.

ولذلك، لو حاول مُشرَّع عصرنا هذا، قراءة حديثة لتشريعات سولون، لأمكنه القول: إن سولون كان مصلحا قانونيا وواضعا لدستور. ولكن لما نقول كان مصلحا، فهذا كافيا للقول أيضا: إنه لم يضع قانونا دستوريا منفصلا (أي من عدم)، بل إن كل ما فعله هو أنه سنَّ مجموعة القواعد التي سبق ذكرها؛ معتبرا أياها بمثابة إرشادات لموظفي الدولة لضبط أعمالهم الإدارية.

وبما أن الموظفين كانوا، في نظره، خداما للقانون، فقط رأى ضرورة تدوين القانون كتابة، حتى يصبح لائحة مسطورة (مكتوبة)، ويحل بذلك محل ما كن عرفا غير مسطور عند اليونانيين(1). وهو بكل ذلك يكون قد أقام، ضمنا، أساس مشروع للدستور، يرتكز على سيادة هذا القانون المدون. ووضع الموظفين فيه في مكانهم الطبيعي، أي خداما للقانون.

ولكي يضمن التزامهم بذلك؛ أي يضمن انهم يعملون وفق هذا القانون، جعلهم مسؤولين أمام محاكم شعبية، ابتكر لها هو نفسه نظامها، بفطنة نادرة. حيث جعلها تضم بضعة ألوف من القضاة، يستطيع أفقر المواطنين أن يأخذ مكانه فيها كقاض. وكان من حق هذه المحاكم؛ إلى جانب حقها نظر الاستئناف في القضايا، مراجعة سلوك أي موظف في نهاية مدة خدمته.

وبهذا النظام وضع سولون سيادة “حكم القضاء” بيد الشعب. دون منحه طبعا حق الاشراف على السياسة العامة؛ أي “سيادة الحكم السياسي“. ومع ذلك فنحن إذا ما أخذنا برأي أرسطو، الذي صاغه بعد ذلك بأكثر من قرنين من الزمن، والقائل: “إن صاحب السيادة على الحكم القضائي هو صاحب السيادة على الدستور” يكون سولون، وفق هذا الرأي، قد اقام، ضمنا، أساس صرح السيادة الشعبية؛ أي نواة أسس اليموقراطية اليونانية.

لكن، لا ينبغي ان يأخذنا رأي أرسطو بعيدا في هذا الأمر، فنحن إذا ما أخذنا بحدود العمل الذي قام به فعلا سولون فإنه لا يمكننا القول أكثر من أنه أقام أسس الديموقراطية اليونانية في المجال القضائي فقط، وليس في مجالها السياسي. إي أنه لم يضمن بإصلاحاته القانونية للشعب اليوناني أكثر من الحكم بالقانون وفق قواعد مدونة معروفة للجميع . ومع ذلك فإن ما أتاحه مشروعه الاصلاحي لدخول فقراء الأثينيين الجمعية، وإعطاؤهم بذلك حق صوتهم في انتخاب الموظفين (موظفو الدولة)، لم يكن إنجازا سياسيا هينا.

لهذا، يجدر بنا الاكتفاء بهذه الخلاصة حول إسهام سولون الأساسي، في تطور الفكر السياسي في اليونان القدية، وفي تطوير الحياة السياسية فيها. أما تفاصيل أعماله الكاملة، فتخرج عن نطاق دروسنا. وهي تفاصيل مازالت موضع جدل، بين الباحثين في تراث الفكر السياسي اليوناني. بل إن كثيرا من الجدل حولها، كان قائما بين الأثينيين (مواطنو أثينا) أنفسهم، في نهاية القرن الحامس قبل الميلاد؛ خاصة الجدل حول معنى ما قام به سولون ومدى تأثيره في الحياة السياسية اليونانية. ولم يكن هذا الجدل ذو طابع أكاديمي بل كان ذو طابع عملي يعكس مواقف القوى السياسية المتنافسة(1)، المؤثرة في الحياة السياسية في اليونان؛ وخاصة في أثينا.

ولأن فكرة الدولة والحكم والعدالة والقانون، كانت أهم شواغل الفكر السياسي اليوني،كما رأينا؛ خاصة مع سولون ومع الشاعران هوميروس وهسيودوس من قبله، فإن فكرة العدالة كانت أهم هذه الشواغل؛ وهي فكرة كانت تعني في أساسها عدالة فئات الناس الأحرار وطبقاتهم، لا المواطنين الأفراد.

نقول، ولأن فكرة العدالة كانت من اهم شواغل الفكر السياسي اليوناني، فإن هاجس البحث عن نظرية فيها وتبرير دواعي تجسيدها، قد شغل اهتمام العلماء أيضا بها، وتبرير فضائلها علميا؛ مثلما هو الحال عند العالم الرياضي اليوناني الكبير “فيثاغورس“، الذي سبقت الإشارة إليه؛ حيث قدم أتباعه لمواطنيهم نظرية في العدالة مستوحاة، كما سنرى، من نظرية العدد الرياضيه عنده.

فقد كان هذا العالم مواطنا أيُّونيا (نسبة إلى مدينة أيونيا – Ionie) اليونانية، هاجر إلى جنوب إيطاليا واستوطن فيه، فأسس مدرسة هناك في مدينة “كروتون – Crotone”(1)، صار له منها اتباع سُمّيوا بإسمه (الفيثاغوريون Les pythagoriciens)، كما سميت المدرسة باسمه (أي، المدرسة الفيثاغورية – Ecole pythagoricienne).

ومن المعروف أن مدينة أيونيا كانت، كما سبقت الإشارة في درس ماض، منشأ الفلسفة الطبيعية الأيونية، فقد انطلق منها النقاش الحر حول أصل الأشياء المادية الطبيعية المحيطة بهم؛ حيث انصرف هؤلاء إلى العلوم الطبيعية، وكان أشهرهم “طاليس – Thales – حوالي 585 ق م”(2). وكان أكثر ما حير هؤلاء في هذا العالم الطبيعي هو تعدد عناصره وكثرتها، وتغير حالاتها وتحولها من حال إلى حال، أو من عنصر على آخر. ولذلك، فقد تركز اهتمامهم في البحث عن “الجوهر الواحد“؛ أي الجوهر الذي يختزل هذا التعدد، والعودة إليه لفهم طبيعة عناصر الطبيعة كلها. نعني البحث عن المادة الأصلية الوحيدة التي كانت أصلا لعناصر الطبيعة المتعددة على اختلافها. والتي نشأت منها جميع هذه العناصر المرأية. وقد اوصلتهم مناقشاتهم الحرة لهذه القضية، في أيونيا، إلى استنتاجات أوسع مما كانوا ينشدون، حيث قادتهم إلى الاقتناع بأن حلول لغز هذا العالم الطبيعي، التي توصلوا اليها آنذاك، تنطبق أيضا على حياة الإنسان، بقدر انطباقها على حياة الطبيعة (أي الأرض). كما أن النتائج الخاصة بعناصر الطبيعة المادية والعلاقات المتبادلة بين هذه العناصر، كانت تتضمن بالنسبة إليهم، نتائج مماثلة لعناصر الطبيعة الأخلاقية للإنسان وما بينها من صلات.

صحيح، إن الإنسان لم يكن محور اهتمام المدرسة الطبيعية الأيونية الأساسي، قبل سقراط، ولا كانت الدولة وشؤونها شاغلهم أيضا. إلا ان قناعاتهم بنتائج مناقشاتهم قادتهم إلى الاقتناع بمماثلة مكونات الطبيعة بمكونات الانسان الاخلاقية وعلاقاتها وكذلك مكونات الدولة والكيفية التي تم بها اتحاد عناصرها. وأول من خطا هذه الخطوة، وانتقل من الحقيقة المفترضة انها حقيقة طبيعية إلى الحقيقة الاخلاقية المقابلة لها ثم حقيقة الدولة، هم الفيثاغوريون.

فقد مكنتهم نظرية العدد الرياضية الفيثاغورية، من التعامل مع عناصر الطبيعة المادية بعناصر العدد الرياضية غير المادية (أي المجردة)، مما سهل لهذه النظرية الامتداد إلى عالم الانسان وسلوكه الاخلاقي (أي ظهور امكانية تعميم نظرية العدد المجردة، على عالم سلوك الانسان الاخلاقي المتعدد والمتحول)؛ حيث يمكن القول: إن المبدأ الأساس في هذا العالم الاخلاقي هو أيضا مبدأ العدد أو بالتحديد القاعدة العددية.(1)

وعلى هذا الأساس توصل الفيثاغريون المحدثون إلى فكرة العدالة، ذلك أن العدالة في نظرهم (العدالة في عالم العدد)، هي عدد من الأعداد مضروب في نفسه. أي أنه عدد مربع؛ والعدد المربع ينسجم انسجاما كاملا مع نفسه، لأنه يتكون من أجزاء متساوية عددها يساوي القيمة العددية لكل جزء على حدة. فإذا عرفت العدالة (بالمقارنة)بأنها عدد مربع ترتب على ذلك أنها تقوم على فكرة أن الدولة تتكون من أجزاء متساوية، أو ينبغي ان تكون كذلك. وكما أن العدد يبقى عددا مربعا، طالما بقي التساوي بين أجزائه. كذلك فإن الدولة تظل عادلة طالما تميزت بالمساواة بين أجزائها. والعدالة في جوهرها، ليست إذن سوى المحافظة على هذه المساواة.

ولكن السؤال الذي فرض نفسه بعد ذلك، هو كيف يمكن المحافظة على هذه المساواة ؟ وقد أجاب الفيثاغوريون عليه بإمكانية المحافظة على هذه المساواة بإنصاف المظلوم (المعتدى عليه). وذلك بأن نأخذ من المعتدي، الذي زاد نفسه ضخامة وقوة (أو غنى)، ما أخذه أو ربحه ظلما من ضحيته التي زادها ضآلة وضعفا (أو فقرا)، ونعيده كاملا إلى صاحبه الذي خسره. ومن هنا جاء التعريف الآخر الذي عرَّفَ به الفيثاغوريون العدالة بأنها مقابلة المثل بالمثل: وهو التنعبير الذي عبرت عنه الحكمة القائلة “بالكيل الذي تكيلون به يكال لكم”.

ومن المعروف أن فكرة العدالة الفيثاغورية هذه، كان لها تأثيرها في رسم الاتجاه الذي اخذه الفكر السياسي الإغريقي بعد ذلك؛ مثلها في ذلك مثل فكرة العدالة التي جاء بها سولون من قبله. فكما أثرت فكرة سولون في فكر أفلاطون وأرسطو، كما سوف نرى في درس قادم، كذلك أثرت فكرة الفيثاغوريين في فكرهما السياسي. وليس أدل على ذلك من أن مفاد فكرتهم الذاهبة إلى أن الدولة هي مجموع أعداد متساوية، وأن هدف الدولة هو تحقيق الانسجام أو التوازن الذي سموه العدالة. وهو الذي يحافظ على اتساق أعضائها. هي الفكرة التي سيأخذ بها أفلاطون، بعدذلك، في كتابه “الجمهورية” فكرته عن العدالة.

ولكن تتبع تفاصيل أثر أفكار سولون والفيثاغوريين على أفكار من تلاهم السياسية لا يدخل في نطاق هذا الدرس؛ فهو موضوع متشعب كثيرا، يتعذر الالمام به في متطلبات مقياسنا هذا البيداغوجية، المتمثلة، في محوره الأول، في تحديد أهم شواغل الفكر السياسي الاغريقي القديم، ورسم معالم تطوره الكبرى، من خلال الإشارة الموجزة لأهم المعالجات التي قدمت حلولا نظرية لتلك الشواغل العملية.

لذلك، يجدر بنا الاكتفاء هنا بما تقدم من دروس كقسم أول في هذا المحور، لننتقل في درسنا القادم إلى القسم الثاني منه؛ والمتمثل في المعالجات النظرية المقدمة إجابة، لشواغل المواطن اليوناني الحر السياسية، في عهد الديموقراطية الأثينية؛ بدء بالسوفسطائيين وانتهاء بأرسطو مرورا بأفلاطون……

تبلور الفكر السياسي اليوناني (2)

من السفسطائيين إلى أفلاطون

(1) في سياق هذا المعنى قال افلاطون قولة مشهورة: “عن الفلسفة وليدة حب الاستطلاع”، وكانت هذه الصفة احدى عوائد الاغريق ومواهبهم الذهنية، وهي انهم كانوا يميلون الى حب الاستطلاع، وكان من الطبيعي ان تقودهم ان تدفعهم هذه الموهبة الى التساؤل عن حقيقة الاشياء التي أثارت دهشتهم. وهكذا، ساءلوا عقولهم عن خصائص الكلام فانتجوا من ذلك علم المنطق، وساءلوا عقولهم عن خصائص المادة في الفضاء فانتجوا لنا جراء هذا السؤال علم الهندسة. وبالروح نفسها ساءلوا عقولهم عن تكون الدولة وخواصها، حيث لا نجد في النظرية السياسية عند الاغريق شيئا عن “الق الالهي”أو عن وجود قوة فوق الطبيعة، من حقها التدخل في الاوضاع القائمة واقرارها أو تغييرها؛ باستثناء ما جاء في بعض آراء الفيثاغوريين، في وقت لاحق.

(1) يشير المؤرخون إلى أن الأثر الظاهر لهذه الهجرات، كان عند الايونيين (أي سكان مدينة أيونيا (Ionie) اليونانية، التي شهدت ميلاد الفلسفة اليونانية. المدينة الواقعة على الساحل الغربي لأسيا الصغرى على البحر المتوسط؛ بالقرب من مدينة أزمير التركية الحالية)، فهؤلاء الأيونيون بدأوا هجراتهم من اليونان – منذ حوالي القرن العاشر قبل الميلاد – واقاموا مدنا جديدة في آسيا الصغرى.

(1) السفسطائية، حركة فلسفية، تشكلت في عهد أثينا الديموقراطي، والسوفسطائيون هم اخر فلاسفة ما قبل سقراط حسب التقسيم المتعارف عليه في تاريخ الفلسفة. ومع ظهور هذه الحركة الفلسفية تحول اهتما الفلسفي في اليونان من الطبيعة إلى الإنسان. وقد شكلت مقولة “بروتاغوراس – Protagoras- 481/411 ق م”، كبير الفلاسفة السفسطائيين، الشهيرة هذا التحول؛ حيث قال: ” ان “الانسان مقياس الاشياء جميعا ما يوجد منها وما لا يوجد”.
ذلك ان الانسان، في رأيه، هو الذي يحدد وجود الاشياء من عدهما, اي ان الموجود بدون انسان لا يمكن ان يوجد لان الانسان هو مقياس كل شئ. وهذا ما سنتوقف عنده بتفصيل أكثر في درس قادم.

(1) وتعني “دولة المدينة” في اليونان القديمة، فضاء جغرافيا محددا يكون تحت سلطة ومراقبة مدينة من المدن اليونانية ذات سيادة في الغالب، ومن حالات هذه المدن المعروفة في اليونان، “أثينا – Athènes”، “اسبرطا – Sparte”، “مقدونيا – Macédoine” وغيرها. وهو مفهوم قديم يعود إلى حضارات ما بين النهرين القديمة، ولكنه مصطلح استخدم في كل مرحلة من مراحل التاريخ الكبرى وحضاراتها استعمالا محددا، فأطلق على مدن معروفة مثل قرطاج وروما…الخ

ولكن، بما انا سياق الحديث هنا هو نشأة الفكر السياسي اليوناني، فمن المفيد، إذن، حصر الحديث عن المدينة اليونانية، باعتبارها فضاء للنشاط السياسي. فالمدينة الإغريقية هي دويلة نواتها المدينة بالمعنى المتداول حاليا، والمدن الصغيرة المجاورة لها وقراها التابعة لها. فدولة المدينة هي، كما عرفها “جان توشار” “تنظيما سياسيا واجتماعيا موحدا لإقليم محدد يشمل مدينة أو أكثر”، ولذلك فإن دولة المدينة هي عيارة عن وحدة سياسية، وليست مجرد تجمع سكاني عمراني.
وقد كانت شبه جزيرة اليونان تضم عدة “مدن – دول”، أهمها كما سبقت الإشارة: أثينا،إسبرطة ومقدونيا. و كانت هذه المدن متكونة من مجموعة من المساكن والبنايات، تتبعها أراضي فلاحية ورعوية؛ وتحميها
أسوار.

وقد حدد فلاسفة اليونان وفي مقدمتهم أرسط، أهم شروط قيام هذه الدول في: وجود بعض قيم خاصة بالمدينة، مؤسسات، وسائل عيش كافية، قوة عسكرية للدفاع عن الدولة، أما سياسيا فكان لكل مدينة – دولة دستورها وقوانينها، بل وآلهتها الخاصة؛ مع اشتراكهم طبعا في قيم اليونان الاخلاقية والحضارية العامة.

(1) كانت هذه الخصائص هي تقريبا ذاتها خصائص القبيلة العربية، قبل الاسلام.

(2) وفي هذا الخصوص نقرأ له، وهو يخاطب أخيه برسيس، الذي ظلمه كما يقال: بما يلي: “….أي، برسيس، اتبع العدل واهجر التعدي، فالتقوى شر وبيل على الرجل الفقير، أما الغني فلن يستطيع في النهاية احتمال عاقبته، فالسماء تبعث الرخاء إلى الاخيار، أما الظالمون فلهم ولمدنهم الخراب والدمار، فالعدالة تحرز السبق في النهاية. ……..” ثم اضاف مخاطا أياه عن لاعدالة الملوك بالقول: ” ……أي برسيس، هناك نوعان من النزاع، لا نوع واحد. هناك نزاع محمود يحفز المرء إلى الكد والعمل ومنافسة أقرانه، وهناك نزاع كريه يدفع إلى الحرب وإلى الدمار. ابتعد عن دور القضاء وتذكر ما اغتصبت مني وما قدمت من رشوة إلى ملوكنا الذين لا يحكمون بين الناس بالعدل. (محمد سليم سالم، قصيدة الأعمال والأيام لهسيودوس، مجلة تراث الإنسانية – 1964. ص 492 )

(1) يمكن تبين مؤشرات بداية هذه الازمة في أشعار هسيودوس نفسه، أي أن مؤشراتها بدأت بالظهور في القرن الثامن قبل الميلاد، حيث أشار إلى حالات الفقر، وإلى فساد الملوك ولا عدلهم؛ محذرا الأمراء من كل ذلك. وذلك في انجياز واضح له إلى الفقراء والمظلومين، خاصة في قصيدته المعروفة “الأعمال والأيام”؛ حيث نقرأ له فيها مقطعين معبّرين عن ذلك. فهو القائل: “….فالعمل شرف، والبطالة عار. والبطال كذكر النحل يأكل ولا يعمل. والعمل مصدر الثراء، والثراء أساس المجد والشهرة. ومهما كان حظك في الحياة، فعليك بالعمل، فهو أفضل لك…. والثقة بالنفس تلازم الغني، ولكن ينبغي ألا يغتصب الثراء، فكل مال أُخذ عنوة او خداعا فهو إلى زوال….”. وهو القائل أيضا، في مقطع سابق عن هذا المقطع لنفس القصيدة: “… أيها الأمراء، الحذر، الحذر ! فالآلهة ترى جميع من يظلم البشر ويحكم بغير الحق ولا يخشى الآلهة. ولزوس ألوف من الأرواح ترصد أعمال الناس في أطراف المعمورة. والعدالة ابنة الإله زوس تشكو إلى ابيها قلوب البشر العاتية، حتى يدفه الأهليون ثمن ما ارتكب أمراؤهم من الآثام….إن من يرتكب إثما ضد إنسان ما يرتكب إثما ضد نفسه…”. راجع محمد سليم سالم، المرجع السابق. ص 488

(1) مدينة اغريقية قديمة، تقع في سفح “جبل البارناس” الشهير”mont Parnasse“، وهي موطن معبد الاله ابولو، معبد مختلف الهلينيين (سكان اليونان الأوائل الأصليون) – sanctuaire panhellénique– هو معبد مدينة دلفي ذو الشهرة التاريخية المعروفة. إضافة إلى معابد أخرى، مختلفة الأحجام والأشكال الهندسية، تجمع روحيا مختلف الهلينيين أيضا (sanctuaires panhelléniques). وقد شملت تعاليم هذه المعابد الدينية كل سكان اليونان القديمة، بل وحتى بعض المجموعات البشرية من غير اليونانيين، أي من البرابرة كما كانوا يسمونهم.

(2) كانت أكثر كهنة معبد “أبولون” بدلفي، تأثيرا وقداسة في المعبد؛ فهي كما جاء في اسطورة الإله “أبولون” الوسيط الروحي بينه وبين الكهنة. وهي كاهنته وملتقطة وحيه.

(1) الامفكتيون هم، كما يقال في اللغة العربية “سدنة المعبد”، وفي المعنى الاغريقي القديم، هم اعضاء رابطة دينية مقدسة، تسهر على إدارة معبد ما وحراسته، والحفاظ على تعاليمه الدينية؛ ومن مهامهم الأساسية أيضا، إحياء المناسبات الدينية واحتفالياتها وضبط طقوصها. ويَتشكّلُ أعضاؤها، عادة، من “ممثلين – Députés” عن كل شعب من الشعوب اليونانية المنتمية دينيا إلى هذا المعبد.

(2) جورج غروت George Grote – 1794/1871، مؤرخ انجليزي متخصص في التاريخ القديم، عرف بمألفه الشهير “تاريخ اليونان – Histoire de La Grèce”

(1) لنتذكر فلسفة كهنة معبد دلفي وحكمتهم الدينية، القائمة على مبدأ الاعتدال والحد . أي وضع حد لكل تطرف. فها هو سولون يشرع مجسدا هذا المبدأ في تشريعاته القانونية المقترحة لحل احدى أكبر المشكلات الاجتماعية السياسية التي عصفت باستقرار المدينة وسلمها الاجتماعي؛ مقترحا لذلك وضع حد أعلى للملكية يكبح به جماح الاغنياء وجشعهم اللامحدود للتملك (ملكية الارض خصوصا باعتبارها مصدر الثراء).

(2) هي مقاطعة إدارية من مقاطعات اليونان التاريخية، ولكنها اخذت اهمية خاصة، بالنسبة للمقاطعات اليونانية الأخرى، من كونها تضم دولة -مدينة “أثينا” الشهيرة. إضافة إلى انها تشكل شبه جزيرة في بحر ايجا.

(1) مثل هذه المقارنة غير موضوعية وغير تاريخية. لأنها تعقد بين مطالب مرحلتين سياسيتين مختلفتين، مرحلة ما قبل الديموقراطية الآثينية، ومرحلة سيادة نظام الحكم الديموقراطي في أثينا، ما بين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.

(2) فمطلب الحرية السياسية الفردية مثلا، لم يكن من أولويات المواطن اليوناني الحرّ، قياسا بمطلب العدالة الفئوية والطبقية، حتى في عز الديموقراطية الآثينية؛ عدا الأولوية التي اعطتها الحركة السوفسطائية لحرية المواطن الفرد في أداء دوره في الدولة وممارسة حقوقه فيها.

(1) وهذا الانتقال من العرف غير المدون إلى القانون المكتوب، يعد أهم مؤشر على وجود الدولة نفسه؛ إذ لا وجود لدولة بدون قانون، ولا وجود لقانون بدون دولة. فالقانون هو رمز وجود الدولة.

(1) فقد كان الحزب الديموقراطي يرى فيه أبا للديموقراطية، التي ازدهرت في أثينا أيام حاكمها الشهير “بركليس. – Périclès – حوالي 495/429 ق م”. أما المعتدلون، وهم أصحاب نزعة أوليغارشية (Oligarchie) محافظة. (وهي نوع من أنواع الحكومات ظهر في اليونان القديمة، تكون السلطة فيه محصورة بيد مجموعة ضيقة من الناس يشكلون طبقة مهيمنة)، فقد كانوا يعتبرونه أبا لدستور معتدل خلف أرضيته الأجداد. ولذلك ينبغي، في نظرهم، عودة أثينا أليه.

(1) مدينة تقع على الساحل الغربي لخليج ثارونث – Tarente، في جنوب ايطاليا، على رأس أرضية ممتدة في بحر ايونيا؛ تأسست حوالي 710 ق م، من قبل الآشيون – Achéens. شعب من أصول هندو-أوروبية، استوطن الساحل الشمالي لليونان القديمة، في الألفية الثانية قبل الميلاد.

(2) هو الفيلسوف الذي تعود أليه بداية الفلسفة الطبيعية الأيونية، في اليونان القديمة.

(1) وفكرة الامتداد هذه؛ أي الانتقال في تطبيق نظرية العدد الرياضية، من المبدأ الرياضي إلى مبدأ السلوك الاخلاقي عند الانسان، يمكن مقارنتها، كما سنرى في درس قادم، بما جاء في محاورة أفلاطون للسفسطائي الشهير “غورغياس – Gorgias”؛ حيث يقول إن حُبَّ الذات يتناقض مع فكرة الزمالة والصداقة الطبيعية….ويتعارض مع نظرية المساواة الهندسية. ويقدم مثالا لذلك بنظام سير الكواكب وانسجامه. لأن كل منها يحافظ على مكانه المعين، ولا يخرق المساواة بالتدخل في شؤون غيره. وقياسا على هذا النحو، أي على نظام الكواكب المنسجم، يجب على الناس أن يحافظوا على ما بينهم من علاقات (زمالة وصداقة…الخ)، وذلك بأن يبقى كل واحد منهم في مكانه المعين (يقصد مكانته في المجتمع)، ولا يخرق المساواة بالتدخل في شؤون غيره، للحصول على المزيد ….

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى