نظرية العلاقات الدولية

فهم النظام الدولي الحالي

عَقِبَ نهاية الحرب العالميّة الثانية عام 1945، اتّجهت الولايات المُتّحدة الأمريكيّة لتحقيق منافعها على الصّعيد الدّولي عن طريقين؛ الأوّل من خلال إنشاء المُؤسسات الاقتصاديّة وضمان ديمومة نُفوذها ونماء سلطانها، والثاني من باب نشر المؤسسات الأمنيّة وإرساء قواعد السياسة الليبرالية عالمياً بين الأقطار والدول، وهذه الآليات الثلاث غالبًا ما يُشار إليها باصطلاح “النظام العالمي“.

في العقود الأخيرة، شَرَعت بعضُ القُوى الصّاعدة في تحدّي بعض مفاهيم هذا النظام والخروج عليها، وهذا التقرير هو جزءٌ مِن مشروعٍ كبير غايتُه “بناء نظام عالمي مُستمر ومُستقر” ولهذا الغرض فإنّ هذا التّقرير سيتطرّق إلى محاور عديدة منها:

شَرح النظام العالميّ القائم ببُعديه السياسيّ والاقتصاديّ.

حَصر الصِّعاب التي تعترض طريق هذا النظام إقليميًا وعالميًا.

الإعلان عن أطروحات للسياسة الأمريكيّة لضمان استمرار هيمنة هذا النظام.

إنّ هذا التّقرير بوجهٍ عام يعكس توجّهات القائمين عليه، الرامية إلى فهم النّظام العالميّ الآن وشرح أبعاده، بما في ذلك تعريف القائمين على صناعة القرار بأمريكا للنظام، وكيفيّة استفادتهم منه في بسط سياستهم الخارجيّة، وإملاء أوامرهم للعالم، بالإضافة إلى تحديد هؤلاء المُختصّين للمؤثرات التي يُخلّفها هذا النظام على السياسة الأمريكية في الداخل قبل الخارج.

إنّ الهدف الرئيس الذي ينبغي أن يدفعنا لمحاولة فهم النظام العالمي حاليًا لأنّه يواجه خطراً مُحدقًا، وبالتّالي تواجه المصالح الأمريكيّة المُترتبة عليه والمُتحققة به الخطر عَينه، ما يدفعنا للتّحرك وبسرعة.

** وبعد تحليل وتفنيد لجسد هذا النّظام والتحوّلات التي طرأت عليه مُنذُ خروجه إلى الدنيا فيما عقب الحرب العالمية الثانية، تَمَكّن السّاسة من تحديد ثلاثة أنواع من الأخطار التي تُهدد كَينُونة النّظام، وهي كالتالي:

الدول الكُبرى التي ترى في بعض مُكوّنات النّظام تقييدًا لها وتكريسًا للهيمنة الأمريكيّة.

سقوط بعض الدول في أُتون الفوضى والأزمات الاقتصاديّة الطّاحنة التي تضرب بأنيابها في ربوع العالم.

تغيّر السياسات الدبلوماسيّة في عصر النمو البطيء الغير متساوي للدول.

إنّ مشروعيّة النظام العالمي تظلّ على كواهل الدول التي تعتقد في استمراريته مَنفعةً لها، إنّ هذا الاعتقاد الآن يتزعزع اليقين به في النّفوس بفعل الحركات الاجتماعيّة والسياسيّة في دولٍ كثيرة ومتى صَرَفت هذه الدول النظر عنه، انهار نظامُ ما بعد الحرب الذي عهدناه وتمكّنت الفوضى من العالم من جديد.

يُمثّل هذا التّقرير مُحصلَة عامين من المُدارسة والمُطالعة لمستقبل نظام ما بعد الحرب الليبرالي ويتعرّض هذا البحث بالتّحليل والتمحيص لمحاور ثلاثة هي:

طبيعة النظام العالمي وقوانينه تفصيلًا.

المخاطر التي تتهدّده.

الخيارات المُتاحة للاستراتيجيّة الأمريكيّة للسير قُدمًا.

بالرغم من مركزيّة النّظام حول فكر الولايات المُتّحدة ومؤسساتها الاقتصادية النيوليبرالية، فإنّ اصطلاح “النظام” شَاع استخدامه بين المُراقبين السياسيين بتعريفاتٍ عِدّة، غير أنّه يُمكننا التأكيد على عدم وجود تعريف لكافّة قواعد النظام الليبراليّ الذي يحكم عالم اليوم.

وعليه فإنّ هذا التّقرير يستقي مِن منابع معلوماتيّة مُتعدّدة وهي:

النظريّة العَامّة للعلاقات الدولية، والتي تذكر في متنها مزاعم بعينها وتعريفات مُتعددة الأشكال لمُصطلح “النظام”.

وقائع التاريخ والمُعاهدات التي أفضَت إلى إنشاء هذا النظام عالميًا أثناء الحرب العالميّة الثانية وبعدها.

الأصول النظريّة لـ “الليبرالية” والسيناريوهات المُستقبليّة لنُظمها.

أدبيّات منطق النّظام وسِماته كنظريّة الاقتصاد الاتكائي (المُتبادل الذي بمُقتضاه تُقسّم دول إقليم ما الصناعات فيما بينها، وتتخصّص كل واحدة في صناعة وتوجّه اقتصادها بأكمله في تلك الصّناعة وتعتمد على جاراتها في الصناعات الأخرى) وتأثيره على سياسات الدول.

تناول مفهوم “النظام” من وجهة توسعيّة تفصيليّة، تُفرّق بين فكرتي النظام العالمي والمُجتمع العالمي (معرفيًا، وثقافيًا، واقتصاديًا وسياسيًا)

البحث يطرحُ مُذكّرة للعناصر الأوليّة التي بُنيَ عليها هذا النظام.

يتولّى البحث أيضًا بالشرح والإسهاب الأسباب الداعية لإنشاء النظام من قِبَل الولايات المُتحدة واعتمادها له.

بالإضافة لما سَلَف ذكره فالتقرير يُقارن بين مفهوم النظام بشكل عام، ومفهوم النظام الليبرالي القائم الآن. وهو بالتّحديد يتولّى بالتّفصيل فكرة أنّ النظام له عمدٌ يستوي عليها بنيانه من الأنظمة الفرعية السياسية، الاقتصادية والأمنية، والتي تضمّ قطاعات واسعة من دول العالم.

وانطلاقًا مِن هذه التّعدُّديّة، يُفنّد التقرير الحلول الاستراتيجيّة التي ينبغي العملَ بها لحلّ كافّة المشاكل المطروحة في أيّ من هذه النُظم الفرعيّة.

مثلما تتطلّع الولايات المُتحدة إلى وضع سياسات وخُطط مستقبليّة للنظام يجب عليها أيضاً معيّة آليات النظام وكيفيّة عملها في الماضي.

ويناقش التقرير أوجه التقارب الأمريكي مع هذا النظام في مرحلة ما بهد الحرب وهي:

التجارة الحُرّة المُقنّنة.

الأحلاف العسكريّة القويّة والآلات العسكريّة الباطشة لأغراض الردع والمنع.

الشركات الدوليّة.

التشريعات الدوليّة واللوائح العالميّة المُنظمة للعلاقات بين الدول وأهمها اتفاقيّة الحَدّ من استخدام أسلحة الدمار الشامل ونزع الرؤوس النوويّة.

نشر القيم الديمقراطيّة في كافّة أرجاء الأرض.

بينما تقف الولايات المُتحدة الآن تتفكّر في سياساتها المُستقبليّة، ينبغي عليها أن تضع في الحسبان أنه لأي مَدَى ستفيد البلاد من التقارب التاريخيّ مع النظام العالميّ وما سيترتّب على ذلك من دعم وتعزيز المصالح الأمريكية مُستقبلًا.

أولاً: حجم ودور النظام العالمي في الاستراتيجيّة الأمريكيّة

في ذروة تفاقم الحرب الباردة، كشفت وثائق أمنيّة أمريكيّة، أنّ واشنطن ينبغي عليها أن تظلّ أكثر ثباتاً في ميلها نحو تحقيق نظام عالمي أكثر ثباتاً ووحدة (نظام القُطب الواحد) حتى وإن تطلّب الأمر وقوفًا صريحًا بوجه السوفييت.

فالولايات المُتحدة ستفيدُ حتمًا من خَلق مؤسسات عالميّة (الأمم المُتّحدة، البنك الدولي وغيرها) وترسيخ قيم ومبادئ ليبراليّة من شأنها تثبيت السياسة العالمية، وبناءً عليها حماية المصالح الأمريكيّة حول العالم حتى “لو لم يعد هناك اتحاد سوفيتي”، فإنّ الحاجة إلى وجود نظام عالمي يُنظم أوضاع الدول وعلاقاتها على الخريطة الجيوسياسيّة باتت أمرًا مُلحًا.

ظهرت هذه الوثيقة المُعرّفة لحدود السياسة العالميّة الأمريكيّة، والرامية لتطويق الاتّحاد السوفيتي وتقويض نفوذه، في وقت انقسمت فيه الأرض إلى مُعسكرين مُعاديين تَترّسا بالأسلحة الفتَّاكة والأفكار شرقًا وغربًا، وهنا نبعت الحاجة إلى “نظام” من القوانين، والمعايير، والمعاهد العلميّة، والشركات الكبرى ذات القوة الاقتصاديّة الضاربة؛ بُغية بناء قوّة أمريكية من شأنها أن تنزع أنياب الاتّحاد السوفيتي وتفكك أجزائه، لكن الدعوة ظهرت آنذاك شاملة نظام يضمّ الجميع، وهنا أيضًا ظهر جلياً للمُشرّعين الأمريكان أنّ مصالح النّظام العالمي ومصلحة أمريكا يُمكنهما أن يتواجدا جنبًا إلى جنب، وأن تصبح المنافع بينهما مُتبادلة.

وباتت مُقوّمات الجَدل في إمكانيّة خلق نظام يتواجد جنبًا إلى جنب مع المصالح الأمريكيّة، ويرعاها بينما هو ذا وجودٍ مُستقلٌّ بذاته، وهذا ما ارتكزت عليه استراتيجية الولايات المُتحدة الأمريكيّة وقتما وضعت الحرب أوزارها.

واليوم تظهرُ دلائل عِدّة، أنّ النّظام بذاته أمسى في خطر، وأنّه صار لا يُمكنه احتمال ثِقل الحِمل الذي ناء برفعه كاهله، ووضعته على كتفيه الاستراتيجيّة الأمريكيّة لعقود.

بعض المُراقبين السياسيين يتساءل والخوفُ يملأُ نفسه، حول ما إذا ستتمكَّن القيم الليبرالية -ومنها نشر الديمقراطية، حماية حقوق الإنسان ومنع الإبادة بأنواعها، من عرقيةٍ ودينيةٍ وقوميّة- من الحياة في نظامٍ يتّجه لتعدُّديّة الأقطاب من جديد.

ويظلّ السؤال الأهمّ هو هل سيظلّ نظام ما بعد الحرب واجهة قويّة للاستراتيجيّة الأمريكيّة وسياستها العالميّة؟ وإنّ الإجابة على هذا التساؤل لهي أدعى للباحث ورجل السياسة على السواء.

المخاطر التي تتهدّد النظام الحالي

كما ذكرنا سلفًا، فإنّ الأخطار التي تُهدد النّظام العالميّ تضرّ بالمصالح الأمريكيّة المُلازمة لوجوده، والناجمة عن مؤسساته، وهذه هي القاعدة المنطقيّة التي تدفع الجهات الحكوميّة والباحثين على السّواء إلى أهميّة تحديد هذه الأخطار من ناحية، ومن أخرى إلى تحليل مُقومات النظام العالميّ، وفحص آلياته عن قرب، وإنّ طبيعة الأخطار وضدتها لها آثار جانبيّة بالغة الأهميّة على السياسة الأمريكيّة، وطبيعة الاستجابة الاستراتيجيّة للتحوّلات الحاصلة إقليميًا وعالميًا.

في الأوان الأخيرة، رصدت تحليلات كثيرة ازديادًا في مجال الأخطار المُهدّدة لنظام ما بعد الحرب مثل صعود القوى الأُصولية (التي تُلبس الماضي رداء الحاضر، سواءً حُكم أيديولوجيّة، سياسيّة أو دينية)، التّقلبات داخل الإقليم الواحد، اتّجاه العالم مرة أخرى للفكر القومي، والتحديات التي تواجها الحكومات كل على حدى، وتغيّر موازين القوى العالمية (مثل سقوط الاتّحاد السوفيتي وصعود الصين كلاعب جديد على الساحة العالمية).

وفى هذا الصدد، كَتَب ريتشارد هآس يقول (في 2014): “إنّ كَفّة الميزان قد رجحت تّجاه عدم النظام هذه الأيام، وعليه يحمل لنا المُستقبل عالمًا فوضويًا، تتصرّف فيه مراكز القوى وفق أهواءها وأجنداتها الخاصّة، في استقلاليّة تامّة دون النظر إلى سياسات الولايات المُتحدة ولا منافعها الاستراتيجية”.

على صعيدٍ آخر يذهب راندال شويلر (أستاذ العلوم السياسية بجامعة أوهايو)، إلى أنّ “العالم يتّجه الآن إلى فتَّ عضد القوى والسلطات والمسؤوليات، وبطبيعة الحال نحو نظام عالميّ أكثر عشوائية وأشدّ ترنحًا من ذي قبل، وبالأخصّ، فإنّ التحليل القريب والتفنيد لعالم ما بعد الحرب يلمح إلى ثلاثة أخطار (كما بيّنا آنفًا):

دول كُبرى ترى في مقوّمات النّظام العالمي تلجيمًا لقوّتها، وحصرًا لسيادتها، وتكريسًا للهيمنة الأمريكيّة، وإعلاءً لسيادتها.

سقوط بعض الدول في أتون الفوضى والأزمات الاقتصاديّة الطّاحنة التي تضربُ بأنيابها في ربوع العالم.

تغيّر السياسات الدبلوماسية في عصر النمو البطيء الغير متساوي للدول.

إنّ مشروعيّة النظام العالميّ تظلّ على كواهل الدول التي تعتقد في استمراريته منفعةً لها.

إنّ هذا الاعتقاد الآن يتزعزع اليقين به في النفوس، بفعل الحركات الاجتماعيّة والسياسيّة في دولٍ كثيرة، ومتى صرفت هذه الدول النظر عنه، إنهار نظام ما بعد الحرب الذي عهدناه وتمكّنت الفوضى مِن العالم من جديد.

إلا أنّ هؤلاء القلقين على عدم ثبات النّظام العالمي، أضحوا يدركون استناده على قوى صلبة وأرض متينة من الدول الرائدة ذات الاقتصاد الاتكائي (المُتبادل)، الذي يدفعهم إليه توافق مصالحهم ولو بنسبةٍ بسيطة، فإنّ الدول الديمقراطية التي تُمثّل نواة هذا النظام ما تزال مُتعاونة فيما بينها في القضايا العالميّة، والملفات الشائكة (كملف إيران وملف سوريا والعراق).

وإذا لم يستدعى توافق مصالحهم هذا تعاونًا، فإنّه يُلزمهم بالتنسيق فيما بينهم لمواجهة البلايا الكامنة في عالمنا، بدءاً من مُعضلة “الإرهاب” وحتى مُشكلات المناخ.

تقول روز: ” ظلّت الولايات المُتّحدة لثلاثة أرباع القرن هي مركز النظام الليبرالي الذي تفوَّق بدهائه، ودحر بقوَّته كُلّ من جابهه”، ويُضيف كروكر أنّه رغم ما يساوره من شكّ، لكنّه يعتقد أنّ الصورة الأقرب للذهن هي صورة اتّحاد الدول القائم على منافعها التبادلية.

إنّه إذاً لا يبعث على الاندهاش، كون السياسة العامّة والاستراتيجيّة الأمريكيّة للعام 2015 تتلخص في ” إضفاء قوة وثبات على القيادة الأمريكية التي بموجبها يتوفّر نظام عالميّ قائم على اللوائح والقوانين ينشرُ الأمن العام والرّخاء، ويُبشّر بالكرامة الإنسانية، ويكفَلُ حُقوق الإنسان، ويُروّج للمُساواة بين الناس أجمعين”.

غير أنّه في الوقت الذي تُناصب فيه الدول الأصولية العَدَاء لأجزاء من هذا النظام، فإنّ الهَيمنة الأمريكيّة يُدرَكُ تضاؤلها، ويُرى انحسارُها، وتُعاني المؤسسات في تحديد ردود فعلها تِجاه الأفراد، لذا يحتاج دور النّظام العالميّ في استراتيجيات الأمن القومي الأمريكية إلى إعادة تقييم وترسيم؛ حتّى تكون مواجهة الولايات المُتّحدة للتّحديات الأمنية على قَدرِ المُستوى…

 

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى