دراسات شرق أوسطيةدراسات مغاربية

خمسون عامًا بين انقلاب القذافي وحفتر

د.محمد عبدالرحمن عريف

هي ذات البدايات نحو انقلاب 1969 في ليبيا، تم تصنيفه على أنه أحد أهم أحداث ما يعرف بـ(ثورة الفاتح)، فهو عبارة عن انقلاب عسكري جرى في 1 أيلول/ سبتمبر عام 1969، لينهي حكم المملكة الليبية ويعلن نشوء الجمهورية العربية الليبية، حيث تشكلت حركة الضباط الوحدويين الأحرار في الجيش الليبي بقيادة الملازم أول معمر القذافي وقامت بالزحف على مدينة بنغازي لتحتل مبنى الإذاعة وتحاصر القصر الملكي بقيادة الضابط الخويلدي محمد الحميدي لتستولي على السلطة في الأول من أيلول/ سبتمبر عام 1969، وسارع ولي العهد وممثل الملك بالتنازل عن الحكم حيث كان الملك محمد إدريس السنوسي خارج البلاد في رحلة لتلقي العلاج في تركيا.

يحكي قائد الانقلاب معمّر القذافي، في كتابِهِ (قِصَّة الثورة)، “أنهُ من المستحيل تحديد يوم بعينِهِ لبدايةِ الثورةِ، كما هو الحال في أيَّة ثورة، لا يمكن تحديد بداية لها؛ عكس الانقلاب، الذي هو “خاطِرة طارئة، تطرأ على خاطر القادة الكبار”. لقد استُهِلَّت الاجتماعات لوضع منهج يُغطى جميع عناصر، وأدوات (الثورة) على الحكم السنوسي في ليبيا، في مدينة سبها؛ حيث تكوَّنت أول لجنة قياديَّة في المدرسة الثانوية، حيث ازداد عدد المشاركين للقيام بـ(الثورة) تشعباً داخل صفوف الشباب.

   لقد تم تجهيز أول تظاهُرة وحدويَّة في سبها، 5 كانون الأول/ أكتوبر من العام 1961، قادها القذافي، ومعهُ عدد من العناصر التي آمنت بفكرة الانقلاب على الملك السنوسي. كانت أجواء التظاهرة عروبيَّة خالِصة، حيث طالبت بالوحدة العربية بعد انفصال سوريا عن الوحدة مع مصر. من هُنا انطلقت تظاهرة شعبيَّة عارِمة، لا تنادى بالوحدة والتحرير فقط، بل وتندِّد بالحُكم الرجعي، وتوقَّع الكثيرون أنها مجرَّد عمليَّة عفويَّة، أو حركة عابِرة؛ لكن الحقيقة أن تظاهُرة سبها كانت بداية الاصطدام بالسُلطات القمعيَّة حينها.

    عندها انتقل القذافي بعد هذه التظاهرة -التي تعرَّض خلالها للمساءلة من قبل السلطات في ولاية فزان- إلى مدينة مصراته للدراسة بها، وليعمل على إنشاء المزيد من المجموعات الثوريَّة. والتحق بالقذافي بعد العام 1963، مجموعات كثيرة بالكليَّة العسكريَّة، كان من ضمنهم بعض أفراد الخليَّة الأولى؛ وواصلت هذه المجموعة عملها من داخل الكلية العسكرية.

   تطورت الأحداث ففي العام 1964، تقرَّر إعادة تنظيم الحركة الثورية؛ حيث قُسِّمت إلى حركة عسكريَّة وأخرى مدنيَّة؛ وأصبحت المجموعة العسكريَّة هي الأهم، وقامت المجموعة الأخيرة بتشكيل لجنة مركزيَّة تتكوَّن من العسكريّين فقط. أما المجموعة المدنية؛ فقد شَكِّلَت لجنة شعبيَّة، تعمل بصفة مُستقلَّة بشكل كُلِّي من الناحية التنظيميَّة عن اللجنة المركزية للضباط الوحدويّين الأحرار.

   لقد تعرَّض العمل الشعبي من الناحية الشعبيَّة للعرقلة، نتيجة للمطاردة الذي كانت سائدة في العهد الملكي؛ إلا أنهُ سرعان ما استطاع أن يخلق وسطًا له مناعة ضد الحزبيَّة والانقسام؛ فتمكَّن بذلك من أن يَحول بين الشباب والحركات الهدّامة الأخرى. وشاركت اللجنة المركزيَّة لتنظيم الضباط الوحدويّين الأحرار بكافة الأنشطة في سريَّة تامة؛ حيث كانت السرية ضرورة ملحة وكانت اللجنة المركزيَّة مسئولة عن كافة المسائل التنظيميَّة.

  عقدت اللجنة المركزيَّة أول اجتماع لها، بعد إعادة تنظيمها، في بلدة طلميثة التي تقع على ساحل البحر المتوسط، وتبعد عن مدينة بنغازي بـ(110) كيلو متر تقريبًا من ناحية الشرق، وبعد ذلك توالت اجتماعات اللجنة المركزيَّة للضباط الوحدويّين الأحرار، التي كانت تتم بالسرِّية التامة، وكانت هذه الاجتماعات تعقد بصفة دوريَّة في اجتماعات مطولة مرهقة خارج المدن الرئيسية، كما كانت هذه الاجتماعات تتم أيام العطلات الرسمية والأعياد رغبة في عدم إثارة الانتباه إلى تغيب أعضاء اللجنة المركزيَّة في الأيام العادية. كما فرضت اللجنة المركزيَّة على أعضائها قيوداً حادة، حيث فرضت على أعضائها الضباط الوحدويّين الأحرار شروطاً مُلزِمة تجاه الالتزام الأخلاقي والديني، إضافة إلى انه ضمن خطط اللجنة المركزيَّة انتساب أعضائها إلى الجامعة ليتخصَّص كل منهم في علم معين، حيث شهدت كليات الجامعة الليبية في ذلك الوقت إقبالاً غير معهود لانتساب العسكريّين إليها.

  في الاجتماع الثاني الذي عقدته اللجنة المركزيَّة بمنطقة سيدي خليفة، التي تقع على بعد 20 كيلو متراً إلى الشرق من مدينة بنغازي، تقرَّر إنشاء صندوق توفير للصرف على نشاط الحركة وانتقالات أعضاء اللجنة المركزية، وقد تم الاتفاق على أن يؤجَّل إقرار هذا الأمر إلى اجتماع آخر. وعقب الاجتماع الثاني قام أعضاء اللجنة بجس نبض التشكيلات فوجدوا استعدادها للبذل دون حساب، تقرر في اجتماع آخر عقد بنفس المكان أن تكون رواتب جميع الضباط الوحدويين الأحرار، وفى مقدمتها رواتب أعضاء اللجنة المركزية رصيدًا للحركة، تؤخذ في أي وقت وبدون تحديد للمقدار، وذلك للإنفاق منها على تذاكر سفر الضباط وعائلات أعضاء التنظيم في النواحي المختلفة.

  في الاجتماع الثالث الذي عقد بأحد الفنادق الصغيرة في مدينة بنغازي، تقرَّر أن يقدم كل عضو من أعضاء اللجنة المركزيَّة للضباط الوحدويّين الأحرار تقريرًا شهريًا، عن الضباط غير المنضمين للحركة خاصة من ذوى الرتب الكبيرة، وذلك لمعرفة استعدادهم للانضمام للحركة، حتى لا يشعروا بالظلم عند الحكم عليهم بالتقاعس أو الخيانة بعد  تنفيذ الانقلاب، ولقد كان معظم الضباط من ذوى الرتب الكبيرة متردِّدين ويملأهم اليأس. أما قوات الأمن فقد كانت هناك تشكيلات منها داخل الحركة، فكانوا مغلوبين على أمرهم. وتوالت بعد ذلك اجتماعات اللجنة المركزيَّة لحركة الضباط الوحدويّين الأحرار، التي كانت تنعقد في أماكن متفرقة من أنحاء ليبيا، وكلما سمحت الظروف في أوقات الأعياد والعطلات.

   صدر المنشور السري الأول للانقلاب على الملك السنوسي، في كانون الثاني/ يناير من العام 1969، وقد كتبه القذافي في معسكر قار يونس بمدينة بنغازي، لمعرفة ما إذا كان الضباط الوحدويّون الأحرار يستطيعون السيطرة على جميع وحدات القوات المسلَّحة والقيام بعملية مسح للقوات والأفراد والذخيرة الواجب توافرها لتنفيذ الانقلاب. وعقد الاتفاق على أن يكون يوم 24 آذار/ مارس في العام 1969، موعدًا للتنفيذ، لكن قرار سفر الملك المفاجى إلى مقر إقامته في طبرق دفع الضباط الوحدويّين إلى تغيير خطَّطهم، على الرغم من أن بعض الوحدات بدأت تستعد للتحرُّك. وهنا تم تأجيل الموعد إلى أجل غير مُسمّى؛ تقرَّر بعدها القبض على قائد الانقلاب من قِبل السلطات، لكن الأوضاع حالت دون تنفيذه.

     فى 13 آب/ أغسطس عام 1969 قرَّرت قيادة الجيش عقد اجتماع عسكري تحضره كل القيادات الكبيرة، ومعظم ضباط وحدات الجيش في منطقة بنغازي، ليشرح مدير التدريب آنذاك لهؤلاء الضباط الوحدويّين الأحرار أهمية نظام الدفاع الجوى الذي صمَّمه الإنجليز، ووافق عملائهم في ليبيا على شرائه. وكان هذا الاجتماع في مسرح الكليَّة العسكريَّة في بنغازي، وعقدت اللجنة المركزيَّة لحركة الضباط الوحدويّين اجتماعًا قرَّرت فيه تنفيذ الانقلاب يوم 13 آب/ أغسطس، بأن يتم اعتقال كافة الضباط ذوى الرتب الكبيرة. ونظرًا لأن بعض أعضاء التنظيم، وخاصة مجموعة طرابلس لم يتمكَّنوا في هذا الوقت القصير من تبين صورة الوضع الذي هم فيه من حيث السيطرة وعدمها على وحدات طرابلس؛ لذا تقرَّر تأجيل الحركة إلى موعد آخر في الساعات الأخيرة، وقد حدَّدت اللجنة المركزيَّة موعد آخر للتنفيذ، هو الفاتح من أيلول/ سبتمبر 1969، لأن قيادة الجيش كانت على وشك إرسال دفعات أخرى من الضباط من بينهم ضباط وحدويّين أحرار للتدريب في الخارج.

   تم وضع الخطة على أساس الاستيلاء على الإذاعة، وعلى معسكرات الجيش، والقوة المتحرِّكة، ومحاصرة القواعد الأجنبية الجاثمة فوق الأرض الليبية، والقبض على كبار المسئولين السابقين من العهد الملكي، والسيطرة على بقية المدن المهمة. وكانت كلمة السر لتنفيذ الانقلاب هي “القدس”؛ ما له بالغ الدلالة على اعتبار قائد الانقلاب، وكل الضباط الوحدويّين القضية الفلسطينية هي محض تركيزهم واهتمامهم وولائهم.

  في اليوم الأول من أيلول/ سبتمبر عام 1969 تم السيطرة التامة على كافة شؤون البلاد، ونجح النقلاب، ذاع قائد الانقلاب، معمر القذافي البيان الأول للانقلاب. ومما جنتهُ الأوضاع الجديدة أيضًا أنها قد طرحت تصفية الألغام المزروعة في أرجاء الأرض الليبية، والتي كانت تعوق طموحات التنمية لعدم وجود الخرائط بالمواقع لإزالتها، وقد أكدت على هذا الحق قرارات الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة وقرارات القمم ووزراء الخارجية للمؤتمرات الإفريقية والآسيوية والعربية، وبذلك أرست الدولة الليبية قاعدة جديدة في العلاقات الدولية وهي أن المستعمر عليه أن يدفع ثمن عدوانه مهما طال الزمن، وان ضحايا جرائمه لا تسقط بالتقادم.

   لقد دعم جمال عبد الناصر الانقلاب الليبي، بعد اطلاعه على اتجاهه الوحدوي، ثم دعمته سورية، والعراق، والسودان، والجزائر. وكان ملك ليبيا إدريس السنوسي خارج ليبيا عند قيام الانقلاب، ولذا تم كل شيء بهدوء وبلا صعوبات أو مقاومة حقيقية. وجرى تنظيم العمل وقيام المؤسسات، خلال شهر بعد قيام الانقلاب، وتشكَّلت حكومة ومجلس (ثورة) ومجلس وزراء ومخابرات عامة، واستبدل فيما بعد أسماء الوزارات بأسماء أمانات شعبية عامة كون الذين يديرون البلد ليسوا حكومة (تقليدية)، واتخذ الانقلاب مدينة بنغازي، التي لُقبت بمدينة “البيان الأول”، مقراً له، وتمَّ إعلان الدستور. لقد راقبَ جمال عبد الناصر ورجاله تطوُّر الوضع في ليبيا باهتمام، حفاظاً عليها، وقبل القذافي اقتراح جمال عبد الناصر، بخصوص إقامة الملك السابق إدريس السنوسي في القاهرة، حتى لا يصبح عرضة للتأثير الأمريكي في أثينا؛ وركَّز مجلس قيادة (الثورة) كلَّ السلطات بيده، ووزَّعت داخلهُ الاختصاصات، بمساعدة على الخبرة المصرية.

   الحقيقة أنه حاول بعض قادة الجيش في ذات عام الانقلاب القيام بانقلابات عسكرية عليه، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1969 ، وحزيران/ يونيو 1970، وكذلك في أيار/ مايو 1970، ولكنها أخفقت وقُبض على منظميها؛ كما تعرض الانقلاب فيما بعد أيضاً لمحاولات انقلابية عليه، وإن كانت فاشلة.

   جاء القذافي ليعلن قيام سلطة الشعب ما بين 13-14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1976، وتمثَّلت في كون الاسم الرسمي لليبيا «الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية»، ثمَّ أُضيف إليها «العظمى». والقرآن الكريم شريعة المجتمع. والسلطة الشعبية المباشرة هي أساس النظام السياسي، فالسلطة للشعب يمارسها عن طريق المؤتمرات الشعبية وصولاً إلى المؤتمر الشعبي العام. والدفاع عن الوطن مسؤولية كل مواطن، وعلى المواطنين ممارسة التدريب العسكري وإعداد الأطر اللازمة لذلك.  

  أدخل القذافي أسلوباً جديداً في الحكم، وكان بحسب رأيه، لا يخصُّ ليبيا وحدها ولا العرب أو المسلمين، وإنَّما هو نظام عالمي جديد، قائم على نظرية شاملة تبناها ورآها حلاً لمشكلات العالم أجمع، وسُمِّيت “النظرية العالمية الثالثة” إذ إنَّ النظرية الأولى تخصُّ الرأسمالية والنظرية الثانية تخصُّ الشيوعية والاشتراكية، أمَّا النظرية الثالثة، فتقوم على الإسلام والاشتراكية والإنسانية والتقدُّم، وهي أُسُس المجتمع الجديد للتحرُّر من أدوات الحُكم القديمة.، ودُوِّنتْ هذه النظرية في “الكتاب الأخضر”. وأعلن القدافي بعد العام 1977، ما أسماهُ “قيام سلطة الشعب ومولد أول جماهيرية في التاريخ”، كمفهوم لأول نظام سياسي بعد الجمهورية، وتخلى معمر القذافي رسميًا عن رئاسة مجلس قيادة الثورة، وأصبح قائدًا للثورة، واكتفى القذافي بدوره التحريضي والترشيدي الذي قام به. رغم أن إرشاداته وآرائه مجبر الأخذ بها وتطبيقها. وهنا قام القذافي بتأسيس حركة اللجان الثورية في العام 1977.

   لقد دوَّن القذافي “النظرية العالمية الثالثة” في “الكتاب الأخضر”، في العام 1977، وهو كتاب صغير مُؤلَّف من ثلاثة فصول، شرحت ما معنى سلطة الشعب، وكيف يمكن تطبيقها كحل نهائي لمفهوم الديمقراطية؛ كما طرحت وشرحت حلول نهائية للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية. ولقد اعتبر الكتاب الأخضر الإطار والمنهج السياسي في ليبيا، وجرم الأحزاب ومنعها. وفيه الحل للمشكلة الديمقراطية، ويسميها بسلطة الشعب، وينص على رفض أدوات الحكم التقليدية كالمجالس النيابية والأحزاب والطبقات والانتخابات، والاعتماد على المؤتمرات الشعبية التي تُصعِّد لجاناً شعبية، وتشكِّل في مجموعها المؤتمر الشعبي العام، مع التأكيد على أن شريعة المجتمع هي العرف والدين وما عداهما باطل. وفيه كذلك حلُّ المشكلة الاقتصادية، وينصُّ على تحرير العمال من عبودية العمل، ووجوب مشاركتهم في إدارة العمل وإنتاجه، وينصُّ على أنَّ الحاجة تكمن في الحرية، والبيت لساكنه، والأرض ليست ملكاً لأحد، والمنزل يخدمه أهله، ولا أُجَرَاءَ في المجتمع الاشتراكي. وفيه حلُّ المشكلة الاجتماعية، ووجوب اعتماد الأسرة والقبيلة والأمة والمرأة والأقليات والتعليم والفنون والرياضة.

  في وسط هذه الأحداث كان مازال لبريطانيا قاعدتان عسكريتان في ليبيا، جويَّة وبحريَّة، وكان للولايات المتحدة الأمريكية قاعدة جوية في الملاحة (ويلز)، واتصلت الدولتان مع قيادة الثورة بشأن القواعد، وأعلنت الحكومة الأمريكية اعترافها بـ(الثورة) مقابل احتفاظها بقواعدها في ليبيا بحسب الاتفاقيات السابقة واستمرار التعاون بين البلدين. وتقدَّمت بريطانيا بطلب مماثل، لكنَّ قيادة الثورة طلبت الجلاء عن القواعد، وتمَّ الاتفاق على ذلك بلا معوقات فعليَّة، أو مقاومة عسكريَّة، وتمَّ جلاء البريطانيين باحتفالات شعبية عظيمة في 30 آذار/ مارس 1970، كما جلت القوات الأمريكيَّة عن قاعدتها في 5 أيار/ مايو من العام نفسه، وتحرَّرَت ليبيا من القواعد الاستعمارية.

   على الصعيد الدولي تدخل القذافي في الشؤون الداخلية لعدة دول فساند “ثورة المسلمين” في تشاد ضد حكم الأقلية المسيحية التي أقامها الفرنسيون بزعامة فرنسوا تومبالباي، وساند المسلمين في جنوب الفليبين مساندة قوية، وكانت طرابلس مقراً للمفاوضات التي دارت بين الحكومة الفليبينية والمسلمين عام 1976، والتي انتهت بإعطاء ولايات الجنوب حكماً ذاتياً، وساند الديكتاتور عيدي أمين في أوغندا، وأيد باكستان في نزاعها ضد الهند سنة 1971، كما كان رافضاً لاستقلال بنغلاديش. وثق القذافي علاقاته بالاتحاد السوفيتي في عام 1974، بعد زيارة عبد السلام جلود الرجل الثاني في النظام الليبي لموسكو وتوقيعه اتفاقيات صداقة وتسليح، وفي 2 آزار/ مارس عام 1977 “استقال” القذافي من كل مناصبه الرسمية وتفرغ “لقيادة الثورة في ليبيا”.

 ركَّز القذافي على الوحدة العربية الشكلية، ولم يترك فرصةً أو مناسبةً إلا وعقد اتفاق وحدة مع دولة عربية، وأهمُّ هذه الاتفاقيات: ميثاق طرابلس بين ليبيا ومصر والسودان في 6 حزيران/ يونيو 1970 لإقامة اتحاد بين الدول الثلاثة، ثمَّ الاتفاق على قيام اتحاد الجمهوريات العربية الثلاث ما بين ليبيا ومصر وسورية في 17 نيسان/ أبريل 1971، الذي بقي قائماً بين الأقطار الثلاثة حتى زيارة السادات للقدس وسيره في طريق الصلح المنفرد مع الكيان الصهيوني. ووقَّع القذافي “اتفاق وجدة” مع تونس لقيام اتحاد بين الدولتين في 12 كانون الثاني/ يناير 1974، لكنه تعثَّر ولم يستمر أيضاً، كما قام اتحاد دول المغرب العربي بين ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا في 17 كانون الأول/ ديسمبر 1989، وهو مُعطَّل منذ مدة طويلة، بسبب الخلافات السياسية والحدودية. ومع أن القذافي قد أعلن أنَّه لا ييأس من تحقيق الوحدة العربية، فقد حول جهوده نحو الوحدة الإفريقية، وكان له دور مهم في توقيع ميثاق الاتحاد الإفريقي عام 2002.

  لقد كان البعد القومي الوحدوي الشكلي، ظل يشكل بعداً مهماً في توجهات القذافي وسعيه ونضاله الدؤوب في سبيل تحقيق الوحدة العربية الشاملة بين جماهير الأمة، التي تجمعهم عمق الروابط الاجتماعية والتاريخية، بما يكفل تحطيم البوابات الإقليمية والقطرية المصطنعة، والحواجز الوهمية، وإزالة الحدود التي كرسها الاستعمار بين أبناء الأمة العربية الواحدة. ولقد قدمت ليبيا نموذجاً للروح الوحدوية، بأن جعلت من أراضيها أرضًا لكل العرب، وأرست مبدأ المساواة بين المواطن الليبي والعربي، في كل الحقوق والواجبات. وإن كانت مواقف ليبيا تجاه القضايا العربية ومنها قضية فلسطين والقضايا الأخرى، وكذا تجاه القضايا الإسلامية والإقليمية والدولية، مواقف راقية وشجاعة للغاية، بما يضع ليبيا في الريادة خدمة لقضايا الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم، وخدمة لمصالح الأمة العربية والإنسانية.

   بات خلاف بين ليبيا وتشاد على منطقة أوزو الحدوديَّة، وقامت حروب متتالية بين الطرفين، ثم استعادتها تشاد سنة 1994. وكانت المشكلة الأخرى هي قضية الغارة الأمريكية على ليبيا مستهدفة بيت القذافي في طرابلس في 15 نيسان/ أبريل 1986، بأمر الرئيس الأمريكي ريغان، والسبب هو موقف الثورة المعادي لأمريكا كدولة امبريالية خطيرة على العرب والعالم. وهنا يمكن القول إن الخبرة الليبية في حقل السياسة الخارجية تمثل معضلة حقيقية؛ فظهر أن القذافي هو من الذي يخطط للسياسات في ليبيا، وهو الذي يتخذ القرار في السياسة الخارجية الليبية، ويمتلك وصف المصلحة الوطنية التي تنطلق منها هذه السياسة، وهو الذي يغير ذلك الوصف في أي وقت شاء وكيفما شاء.

   من ثَمَّ فقد رفعت ليبيا القذافي أهدافاً ثورية شعاراتية لسياستها الخارجية خلال الفترة من 1969 وحتى 1992، لعل أهمها: العمل على تحقيق حلم الوحدة العربية، ومقاومة الإمبريالية الغربية بكافة أشكالها، وملاحقة التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا، ودعم النُّظُم والحركات الثورية في العالم الثالث. ثم انقلب الحال في أهداف السياسة الخارجية الليبية مع نهايات القرن الفائت عبر تفكُّك الاتحاد السوفييتي الذي كان يدعم ما يسمى بالنُّظُم الثورية في العالم الثالث وعلى رأسها نظام العقيد القذافي، وما تبعه من هيمنة القطب الأمريكي الأوحد على رأس النظام الدولي، ثم ضلوع ليبيا «الثورية» في تفجير طائرة بان أميركان فوق بلدة لوكربي باسكتلندا عام 1988م، وما أعقبه من فرض عقوبات دولية على ليبيا عام 1992، ومن ثَمَّ فقد توجهت بوصلة القذافي منذ ذلك الحين باتجاه مغازلة الغرب (الإمبريالي)؛ فبدأ في الانفتاح التدريجي على القوى الغربية، التي طالما وصفها بالإمبريالية والاستعمارية، وصولاً إلى الانفتاح على الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وتخليه طواعيةً عن برنامجه النووي الوليد وكافة برامج أسلحة الدمار الشامل، وتأكيده عبر تصريحات لابنه سيف الإسلام، أن بلاده لم تعد ترى في وجود إسرائيل دولةً تهديداً لأمنها، وأنها لم تعد تعتبر نفسها فى مواجهة مع إسرائيل.

   كل هذه التحولات الجذرية لسياسة ليبيا الخارجية، تؤكد لنا حقيقة مفادها أنه كلما اتسعت دائرة المشاركين في صنع القرار السياسي للدولة من حيث عدد الأفراد، ومن حيث أدوار المؤسسات الدستورية الفاعلة، كان ذلك دالة على تطور حقيقي في أداء النظام السياسي لتلك الدولة، ومن ثَمَّ فإن احتمالية النجاح للإستراتيجيات والأهداف السياسية تصبح أكبر من احتمالات الفشل والعكس بالعكس.

  فبعد الانبهار والتأثر إلى حد المحاكاة والتقليد لنموذج عبد الناصر في مصر، تجد العداء والكراهية بل والشروع في عمل عسكري ضد خَلَفه الرئيس أنور السادات، ومِن تذبذب وعدم ثبات في العلاقات مع مصر في حقبة مبارك إلى دعمه، ومع شعارات الوحدة العربية ومحاولات الاندماج في أطر وكيانات عربية جامعة كالاتحاد المغاربي، فإنك تجد انحرافاً عن هذه البوصلة بدعم جبهة البوليساريو الانفصالية، ومن ثَمَّ معاداة المملكة المغربية الأمر الذي جمّد من فاعلية الاتحاد المغاربي على مدى سنوات، وبعد صراع عسكري ممتد مع الجارة الجنوبية الإفريقية تشاد انتهى إلى تنفيذ حكم دولي بأحقية تشاد في إقليم (تيزى أوزو) المتنازع عليه، تتحول بوصلة القذافي مجدداً نحو الدعوة إلى إقامة الولايات المتحدة الإفريقية على غرار نموذج الولايات المتحدة الأمريكية، والسعي نحو تحويل منظمة الوحدة الإفريقية إلى الاتحاد الإفريقي ليكون نواة لذلك.

   نعم حينما تختزل الدولة -أي دولة- في شخص واحد، تصبح دراسة هذا الشخص هي مفتاح الفهم لسياسات وسلوكيات هذه الدولة (الشخص) في مجال السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، وهو ما يعرف في أدبيات السياسة الخارجية بأثر ودور القائد السياسي؛ لا سيما مع وصول هذا القائد السياسي إلى سدة الحكم في بلاده بأسلوب يحمل طابعاً دراماتيكياً؛ مثل انقلاب عسكري، أو ثورة شعبية، أو نصر انتخابي ساحق… الأمر الذي يجعل من هيمنة القائد السياسي على مجريات صنع القرار في دولته أمراً محتملاً بشكل كبير حتى في النظم الديمقراطية العريقة نفسها. وهذا ما حدث مع القذافي الذي وصل إلى سدة الحكم في بلاده بانقلاب عسكري على الملك إدريس السنوسي عام 1969م، سمَّاه بـ(ثورة) الفاتح من سبتمبر العظيم، متأثراً بتجربة انقلاب الضباط الأحرار في مصر، ومتخذاً من جمال عبد الناصر قدوة وأسوة ونموذجاً للحكم؛ حيث كان القذافي ينظر إلى نفسه ويروج لحكمه داخلياً وخارجياً باعتباره زعامة كاريزمية تاريخية مستلهماً خطاب عبد الناصر الشعبي في معاداة الإمبريالية الغربية ورفض ممارسات الهيمنة على مقدَّرات الشعوب واستعمارها لبلدانهم بشتى السبل.

   يبقى أن توجهات وسياسات ليبيا القذافي كانت وَفْق ما يتفتق عنه ذهن وقريحة الزعيم الفرد من أهواء، وما يراه من مواقف، وما يعتقده من مدركات تتسق ورؤيته للعالم، فقد ظلت السياسة الخارجية لليبيا دائماً خارج نطاق التاريخ، بل وخارج نطاق الجغرافيا أيضاً. ومن ثَمَّ فإنه يمكن القول: إن سياسة القذافي الخارجية تجاه المحيط الإقليمي لليبيا، إنما تندرج تحت النمط الأكثر راديكالية وهو التغير التوجُّهي، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على تقلُّب المزاج العام للقذافي، وتأثُّر السياسة الخارجية لليبيا بهذا المزاج الحَدِّي الذي ينتقل من النقيض للنقيض بلا أية مبررات منطقية، ما بين السلم والحرب، والصداقة والعداء، والانفتاح والانغلاق… وهكذا. فهل الثورات تأتي بحكم الفرد الواحد لعشرات السنوات؟، أم أنها الانقلابات العسكرية، كما وردت في ادبيات العلوم السياسية؟، لنعيد الأمور إلى نصابها الحقيقي بكل موضوعية وحيادية.. فيبقى أنه إنقلاب العقيد معمر القذافي على الملك إدريس السنوسي في الفاتح من أيلول/ سبتمبر 1969.

   مرت السنوات حتى بعد العام الأربعين لحركة القذافي.. لتكون ولادة جديدة في ليبيا وإن لم يكتب لها النجاح….. في العام 2011.. تطورت بين الحين والحين.. لتأتي الأخبار بتواصل قوات “شرق ليبيا”، بقيادة خليفة حفتر، سيرها نحو العاصمة الليبية طرابلس، وتتعدد لديه الدوافع والعوامل لعمليته العسكرية في محاولة للسيطرة على العاصمة. فبعد ما يزيد على سبع سنوات من سقوط نظام معمر القذافي، لا تزال ليبيا منقسمة، وتوجد حالياً جبهتان تتنفاسان على السلطة في البلد الغني بالنفط، هما حكومة “الوفاق الوطني” في طرابلس، بقيادة فايز السراج، وحكومة أخرى موازية في شرق ليبيا بالتحالف مع “الجيش الوطني الليبي” بقيادة حفتر. هنا قد يتلقى حفتر دعماً من عدد من الدول، التي تلعب دوراً في تشجيع العملية العسكرية الحالية. هذا فضلاً عن عوامل دولية وإقليمية أخرى وفَّرت لحفتر فرصة يستغلها في بعض الأحيان للمضي قدما نحو طرابلس.

  نعم هو تحرك عسكري لحفتر من بنغازي نحو طرابلس “بداية لتحرك” يُعيد للأذهان زحف القذافي قديماً من طرابلس نحو بنغازي، مع اختلاف اساسي وهو “تناقض وضبابية الموقف الأوروبي الحالي”. فالوصول إلى طرابلس والسيطرة على جنوب وغرب ليبيا يتطلب المرور على مدينة الوسلة معقل قبيلة بني وليد، أكبر قبائل ليبيا، والتي رفض أعيانها وأفرادها رفضاً قاطعاً أن تمر قوات حفتر عبر مناطقهم. ففي حالة مقاومة الأهالي في ليبيا لهذا الزحف العسكري يمكن أن يغير المجتمع الدولي والغرب موقفهما بين عشية وضحاها، فيقرر حفتر حينئذ وقف العملية العسكرية والاكتفاء بما حققه من مكاسب ميدانية يمكنه استغلالها تفاوضياً.

  وسط ذلك تلعب عدد من الدول دوراً أساسياً في ما يقع في ليبيا من تطورات، حيث يتلقى حفتر الدعم الأكبر له من جانب عديد الدول، فحفتر لم يكن بإمكانه إتخاذ قراره الخطير بالتحرك العسكري نحو غرب ليبيا دون موافقة ضمنية من عدة دول، فالدعم مهم جداً بالنسبة له بعد تأكده من الموقف شبه العربي الداعم له، وجولته الأخيرة كانت لإعلام القيادات بما تم الاتفاق عليه ولتستخدم الدول ما لها من نفوذ على بعض الدول العربية الأخرى لإلزامها بالصمت وطمأنتها بشأن توابع التحرك العسكري في ليبيا.

  على المستوى الدولي، سبق أن أصدرت حكومات كلا من الولايات المتحدة وإيطاليا والإمارات وفرنسا وبريطانيا بياناً مشتركاً دعت فيه إلى وقف التصعيد الحالي مؤكدة على عدم رؤيتها لحل عسكري للصراع؛ خوفاً من إمكانية تسبب ذلك في “جر ليبيا نحو الفوضى”. لكن عديد التحليلات تصف هذا التحرك بأنه مجرد تحرك دبلوماسي ولا يعكس الموقف الحقيقي لتلك الدول، التي ترغب في الظهور بمظهر الراغب في الحوار السلمي. وهنا يأتي الحديث حول قطر وتركيا، حيث يرى البعض في الأزمة الليبية جبهة أخرى للخلاف، ولهذا تسعى تلك الدول للتأثير على سير الأحداث وفرض نفوذها في ليبيا.

  لقد تعدد هجوم حفتر والمتحدث باسم قواته العسكرية على قطر وتركيا بدعوى “دعمهما الجماعات الإرهابية”، فمن المؤكد أن واحداً من أهداف حفتر هو إنهاء أو إضعاف العلاقة التي تربط قطر وتركيا بالأحزاب والحركات السياسية في طرابلس وغيرها من الأطراف الداخلية في ليبيا. وقد أضحى الدور القطري والتركي ليس بنفس أهمية وقوة الدور الذي تقوم به مصر والإمارات في الشرق الليبي، الذي يرغب في تغيير الخارطة السياسية داخل ليبيا.

  نعم هي مخاطر على دول الجوار الليبي واحد من العوامل، التي يستغلها حفتر في عمليته العسكرية الحالية هو انشغال الجيش الجزائري بترتيب الأوضاع الداخلية في بلاده. فالجزائر من أكبر معارضي الخيار العسكري لحل الأزمة الليبية؛ خوفاً من تداعيات هذا على الأمن القومي الجزائري، وخصوصاً فيما يتعلق بتسلل عناصر إرهابية لها عبر حدودها مع ليبيا. فالجزائر كانت تعيق تحرك حفتر قبل ذلك، وبانشغال حكومتها بالوضع الداخلي سنحت له الفرصة الآن.

   هنا يبدي البعض قلقه من عواقب استهداف طرابلس عسكرياً على الدول المجاورة، فطرابلس قريبة جداً من تونس ولدى ليبيا حدود مع الجزائر، وبالتالي ستكون التداعيات الأمنية والإنسانية على الدول المجاورة خطيرة جداً، فالإرهاب الذي يريد حفتر أن يقاومه سيكون أقوى، فضلاً عن أزمة لاجئين ستترتب على هروب المدنيين من العمليات العسكرية بحثاً عن النجاة”.

  إنه تطور مفصلي تشهده ليبيا. يثير قلقاً بالغاً لجهة مستقبل الدولة الليبية، ووضعيتها في المحيط الإقليمي، خصوصاً نطاق الجوار المباشر. فسبق أن فاجأت محافظة برقة (شرق ليبيا) الليبيين والعالم، بإعلان نيتها التحول إلى إقليم مستقل. ورغم أن المشكلة تصاعدت بشكل مفاجئ في السنوات الأخيرة، إلا أن بذورها كانت قائمة في الوضع الليبي قبل ذلك، الأمر الذي يجعل التعامل معها أمراً معقداً وملحاً في ذات الوقت. بيد أن الظاهر حتى الآن من المعالجة الرسمية لذلك التطور، لا ينم عن إدراك لحجم الخطر الكامن فيه، أو ربما يعكس العجز عن التعامل معه كما ينبغي.

  لا شك أن الجميع بحاجة ماسة إلى عقد جلسة حوار وطني حول التوزيع العادل للإيرادات النفطية في ليبيا، لأن هذه المسألة تمثل أحد العوامل الرئيسية للأزمة، والحل الوحيد لمعالجتها هو الالتزام بالشفافية، ويجب الدعوة مجددًا كل السلطات المسؤولة ووزارة المالية والمصرف المركزي لنشر الميزانيات والنفقات العامة بالتفصيل، حتى يتمكن كل الليبيين من رصد كل دينار يتم إنفاقه من ثروتهم النفطية. والعمل مع الجهات الوطنية المعنية الأخرى لتعزيز الشفافية وحل هذه الأزمة – وذلك خدمة لمصالح جميع المواطنين.

  يبقى إنه وفي ظل عجز الطرفين عن تحقيق نتيجة عسكرية حاسمة، انتقلت المواجهة العسكرية بينهما إلى تبادل ضرب القواعد الخلفية بينهما لعرقلة خطوط التموين والإمداد، فالوقائع العسكرية في الميدان تدل على أن قوات حفتر لا تزال تحافظ على مواقعها جنوب العاصمة لكنها تفشل في إحراز تقدم ملموس، في حين فشلت قوات حكومة الوفاق في استعادة ما خسرته لصالح قوات حفتر، لكنها منعت سقوط العاصمة.

   يبقى في النهاية أنه حينما تختزل الدولة -أي دولة- في شخص واحد، تصبح دراسة هذا الشخص هي مفتاح الفهم لسياسات وسلوكيات هذه الدولة (الشخص) في مجال السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، وهو ما يعرف في أدبيات السياسة الخارجية بأثر ودور القائد السياسي؛ لا سيما مع وصول هذا القائد السياسي إلى سدة الحكم في بلاده بأسلوب يحمل طابعاً دراماتيكياً؛ مثل انقلاب عسكري، أو ثورة شعبية، أو نصر انتخابي ساحق… الأمر الذي يجعل من هيمنة القائد السياسي على مجريات صنع القرار في دولته أمراً محتملاً بشكل كبير حتى في النظم الديمقراطية العريقة نفسها.

   بعض من هذا حدث مع القذافي الذي وصل إلى سدة الحكم في بلاده بانقلاب عسكري على الملك إدريس السنوسي عام 1969م، سمَّاه بـ(ثورة) الفاتح من سبتمبر العظيم، متأثراً بتجربة انقلاب الضباط الأحرار في مصر، ومتخذاً من جمال عبد الناصر قدوة وأسوة ونموذجاً للحكم؛ حيث كان القذافي ينظر إلى نفسه ويروج لحكمه داخلياً وخارجياً باعتباره زعامة كاريزمية تاريخية مستلهماً خطاب عبد الناصر الشعبي في معاداة الإمبريالية الغربية ورفض ممارسات الهيمنة على مقدَّرات الشعوب واستعمارها لبلدانهم بشتى السبل.

   هنا يبقى أن توجهات وسياسات ليبيا القذافي كانت وَفْق ما يتفتق عنه ذهن وقريحة الزعيم الفرد من أهواء، وما يراه من مواقف، وما يعتقده من مدركات تتسق ورؤيته للعالم، فقد ظلت السياسة الخارجية لليبيا دائماً خارج نطاق التاريخ، بل وخارج نطاق الجغرافيا أيضاً. ومن ثَمَّ فإنه يمكن القول: إن سياسة القذافي الخارجية تجاه المحيط الإقليمي لليبيا، إنما تندرج تحت النمط الأكثر راديكالية وهو التغير التوجُّهي، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على تقلُّب المزاج العام للقذافي، وتأثُّر السياسة الخارجية لليبيا بهذا المزاج الحَدِّي الذي ينتقل من النقيض للنقيض بلا أية مبررات منطقية، ما بين السلم والحرب، والصداقة والعداء، والانفتاح والانغلاق… وهكذا. فهل الثورات تأتي بحكم الفرد الواحد لعشرات السنوات؟، أم أنها الانقلابات العسكرية، كما وردت في ادبيات العلوم السياسية؟، لنعيد الأمور إلى نصابها الحقيقي بكل موضوعية وحيادية.. فيبقى أنه إنقلاب العقيد معمر القذافي على الملك إدريس السنوسي في الفاتح من أيلول/ سبتمبر 1969.. كذلك هو ذات السيناريو يحاكيه خليفة حفتر بعد مرور خمسين عامًا.. فهل يكتب له النجاح؟؟ لننتظر…

 

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى