مستقبل الدولة القومية: دراسة تحليلية في اطار تطورات البيئة الدولية منذ بداية القرن الحادي والعشرين
شهد التاريخ السياسي تطور مهما للدولة بمراحل تاريخية مختلفة فالدولة ككيان سياسي جيوبولتيكي تطورت من (دولة المدينة ) التي تشير إلى وحدة سياسية مستقلة او ذاتية الحكم تقتصر سلطتها على المدينة ، الى الدولة الإمبراطورية التي تمتد سلطتها ذات الصبغة العسكرية على قاعدة سكانية متنوعة في منظومتها الثقافية و العرقية . لقد شهدت أوروبا بالذات تطورات مهمة أدت إلى انتشار انواع من الدول و نظم الحكم كالشكل أو النظام الامبراطوري ، وقبل هذا النوع من النظم اتنثرت الدولة المدينة و هي اشكال اولية للدولة في العالم القديم، بعد انتهاء عصر الامبراطورية القديمة ظهرت الدولة القومية التي تفاعلت مع الأوضاع السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية التي تعيشها ، فكان نواة الدولة القومية في القرن السادس عشر في أوروبا و تطورت لتصبح نموذج انتشر خارج أوروبا و هي كشكل سیاسی و قانوني مميز عن بقية اشكال التنظيمات السياسية الأخرى .
أن الدولة القومية ظهرت بعد معاهدة ويستفاليا 1648م التي أنهت حروبة دينية طويلة استمرت مئة عام و وفقا لهذه المعاهدة قسمت اوروبا الى دول طبقا لديانة كل حاكم ، و اقر مبدأ تبعية الرعاية لديانة حاكمها او ملكها من اجل انهاء حالة الفوضى و الاقتتال و الفتن الدينية التي كانت سببا للحروب و الصراعات بين الملوك و الكنيسة ، حيث أن كل ملك سعى الى انتزاع حق السيادة من الكنيسة و الاستقلال عنها ، وفرض المذهب الديني الذي ينتمي الية على رعيته ، وهو ما حققته معاهدة ويستفاليا ، وبهذا انتهت الفكرة الماضية بتوحيد العالم المسيحي تحت رعاية الكنيسة وحلت محلها الدولة القومية ذات السيادة .
وقد شهدت أوروبا تحولات اقتصادية كبيرة ادت الى انتهاء الأرستقراطية و ظهور البرجوازية ، تلك التطورات الاقتصادية ادت الى تبلور الدولة القومية في أوروبا وتوطيد سيادتها و نجاحها في تحقيق الاندماج القومي للسكان ، هذه المرحلة لعبت قوة الشركات التجارية (الماركتينية) دورا رئيسا في الداخل لمواجهة البنى الاقطاعية ، و في الخارج لمواجهة المنافسين لها ، فضلا عن هدفها في حماية و تحقيق مصالحها التجارية الرأسمالية ،أي أن (الماركتينية) خلال القرنين السادس عشر و السابع عشر تزامن ظهورها مع ظهور دولة اقليمية ذات سيادة و تسعى الى حماية مصالح الرأسمالية التجارية من خلال السعي لتوحيد السوق القومية و الغاء الحواجز بين المقاطعات و الاقاليم .
ان ظهور الرغبة بالتجانس الثقافي والاجتماعي بين الشعوب سهل بناء الدولة القومية و تطورها ، فقد نزعت كل قومية او ثقافة الى تقارب من بعضها و التجانس محاولة لتعبير عن هوية قومية لها قبرزت الدولة القومية ، أما في المجال السياسي آن تطور الدولة القومية مرتبطة بالمشاركة السياسية التي ولدت نتيجة التطور الاقتصادي ، ان هذا التطور السياسي الاقتصادي حمل الدولة مسؤوليات خمية اساسية للأفراد و تحولت النظم السياسية من معيار القوة المطلقة او الاستبدادية الى نظم ديمقراطية انتخابية ,
تلك التحولات افضت إلى ظهور مبدأ السيادة و الذي غد من ابرز سمات الدولة القومية و هي سمة ميزت الدولة عن أي تنظيم سياسي اخر ، فهذه الأخيرة تميزت بوجود اقليم جغرافي محدد المعالم تمارس الدولة داخلة نظامها القانوني و كافة سلطاتها في مواجهة كافة الأشخاص الذين يعيشون على اقليمها و في داخل نطاقها الجغرافي الخاضع السيطرتها وهو ما شكل مبدأ و مضمون السيادة ، فقد ارتبط مبدأ السيادة منذ ظهوره ونشأته بالدولة القومية والسيادة تشير الى السلطة العليا للدولة لإدارة شؤئها . الدولة القومية لم تعد فقط کیان سیاسی جيوبولتيكي بل اصبحت تستمد شرعيتها من تمثيلها للامة او للقومية ، فالدولة القومية كيان جيوپولتیکی مستقل ذات سيادة و ثقافة و انتية متميزة ، فالدولة القومية ولدت من توافق بين المكون الجيوبولتيكي و الثقافي و الاثني ، و علية فان ظهور الدولة القومية يمكن أن يحدث في أي وقت و أي مكان في العالم ان ظهر هذا التشكيل الوجود .
الدولة القومية بهذا المفهوم و الاتراك ظهرت قبل أربعة قرون و قد شهد القرن العشرين نموا و انتشارا لهذا النوع من التشكيل الجيوسياسي للدولة ، الا ان التحولات التي شهدها العالم منذ بداية القرن الحادي و العشرين كظهور کيانات من غير الدول و التغييرات الهائلة في تكنولوجيا الاتصالات العالمية و تزايد الاعتمادية المتبادلة ،كلها يمكن أن تؤدي الى التأثير في الحدود القومية و تأكلها ، و تجاوز الترابط العالمي السيادة في ظل العولمة الاقتصادية فتقلصت المساحة التفاوضية للدول . ان تلك التطورات اقضت الى تنامي التفاعلات الدولية و التعاملات المتبادلة و اتساعها و تسارعها ، والى مجموعة من العمليات الاقتصادية و الثقافية و التكنولوجية التي تقلل من اهمية الحدود الاقليمية ، والى اعادة تشكيل لظروف حياة الافراد و المجتمعات فالفضاء العالمي و فعل الأسواق وراس المال واندماج منظومات الانتاج و الاستهلاك العالمية ، وتدفق المعلومات و الممارسات الثقافية العالمية عبر شبكة الاتصالات و تقنيات الاعلام الدولية كلها تؤدي الى ربط الافراد و المجتمعات بقوى عمليات تعمل باهتمام اقل بالحدود الاقليمية للدول، فهل كان لتلك التحولات العالمية و الدولية تأثيرا في الدولة القومية ؟
أن الاندماج بين تكنولوجيا المعلومات و الوسائط الإعلامية و الاتصالية يهب المعرفة و المعلومات قدرات و امكانات غير محدودة على اختراق الحدود و الزمان و ينعكس على الاقتصاد و السياسية و القيم نتيجة لاستخدام و استهلاك وتلقي منتجات هذه الثورة ، فالدولة القومية اصبحت معرضة و مكشوفه النتائج هذه الثورة التي تخترق المجتمعات المحلية و تحاول تغيير نمط قيمها واخلاقها فضلا عن منظومتها السياسية و الاقتصادية و الثقافية و على المستويين الفردي و الجماعي ، أن تدفق المعلومات بسهولة و بتكلفة زهيدة عبر الحدود الدولية بفضل تكنولوجيا المعلومات ابطل أهمية الموقع الجغرافي فلم يعد يشكل جزء من القيود مفروضة على التفاعلات بين المجتمعات و الأفراد ، و قد يؤدي ذلك إلى زعزعة الاستقرار في مراكز السلطة القائمة و في مقدمتها الدولة القومية التي وجدت نفسها بين العديد من مراكز القوة الآخذة في الظهور و على مختلف المستويات ، فما هي التحديات التي تواجهها داخليا وخارجيا كنتيجة و تأثيرا لهذه التطورات العالمية ؟ وهل سيؤدي الى اضعاف قدرة الدولة القومية في المحافظة على الهوية القومية ؟ وهل هناك احتمالية للانتقال إلى ما بعد القومية في ظل العولمة ؟ وهل ستتمكن الدولة القومية من الحفاظ على الاندماج و التكامل الاجتماعي الداخلي ام انها ستواجه ضغوط و تحدي وصعود لدعوات أحياء التيات ما قبل القومية ؟ و الذي قد يؤدي الى زعزعة بنية الدولة القومية ؟ وهل ان استمرار تلك التحديات و الضغوط قد يؤثر في مصير و مستقبل الدولة القومية؟ في الحقيقة أن مستقبل الدولة القومية في اطار هذه التحولات أصبح موضع جدل ونقاش حاد بين علماء السياسية ، ولهذا قدمت الاطاريح و النظريات و اعيد صياغة بعض الأطاريح و النظريات التقليدية للبحث في مستقبل الدولة القومية فما الذي افضت الية هذه الحركة العلمية الناحية العلمية يمكن لهذه الدراسة تقديم تصور و ادراك عربي لتحولات و تطورات البيئة الدولية و الدولة القومية ، وما يشكله ذلك من تحديات الدول الجنوب و قد يشكل ذلك عونا لمواجهة تلك التحديات و التكيف مع تحولاتها و مؤسساتها الجديدة .
للإجابة على هذه المسائل و معالجة الإشكالية المطروحة سابقة ستنطلق دراستنا من الفكرة المحورية الاتية : ” أن الدولة القومية وليدة واقع اقتصادي و سياسي و اجتماعی و تطوراته فهي حصيلة صيرورة تاريخية طويلة و في طور تشكل دائم ، و ان تطورات و مستجدات البيئة الدولية و النظام الدولي التي يشهدها العالم منذ بداية القرن الحادي والعشرين لا بد وأن تترك تأثيراتها في الدولة القومية كمفهوم ووظائف و سيادة ، فالدولة تبقى خاضعة لصيرورة التحول و لهذا أصبحت طبيعتها ووظائفها و مستقبلها موضع جدل بين اتجاهات فكرية مختلفة افضت الى رؤى مختلفة المستقبل الدولة القومية معتمدين على مدخل التحليل النظمي الدراسة و تحلیل عوامل وتحولات البيئة الدولية و مستجداتها منذ مطلع القرن الحادي و العشرين و تفاعلاتها مع المؤسسات الدولية و الدولة القومية و تأثيراتها في شكل و وظائف الدولة القومية .
و لمعالجة مسائل الإشكالية و الفكرة المحورية اللبحث تم وضع الهيكلية الاتية :
الفصل الأول كان تمهيدا لموضوع البحث ، حيث يقدم الإطار النظري لمفهوم الدولة القومية و القومية و الامة ، و نشأت الدولة و ارگانها ، والبحث في اهم النظريات التي طرحت لنشوء و تطور الدولة القومية .
أما الفصل الثاني فقد تناول دراسة و تحليل لأبرز التحولات العالمية منذ نهاية الحرب الباردة و اهمها : التحولات الاقتصادية في عصر العولمة و ما افضت الية من تأثيرات في ادارة الاقتصاد العالمي و في الوظيفة الاقتصادية للدولة القومية ، و الثورة التكنولوجية و بالذات في
جانبها المعلوماتی و نتائجها الاجتماعية و السياسية و تأثيرها في الدولة القومية لا سيما عندما وظفت المعلوماتية لنشر نمط ثقافي معين في العالم سيشكل تحدي ثقافي و اجتماعی و سیاسی الدولة .
اما الفصل الثالث فقد تناول ابرز الاشكاليات التي تواجهها الدولة القومية بفعل تحديات و ضغوطات تحولات و مستجدات البيئة الدولية لاسيما اشكالية التحول الى ما بعد القومية ، و طرح مصير الدولة القومية للطعن احيانا و للجدل في غالب الأحيان في عصر برز فيه فاعلون جدد منافسون للدولة في وظائفها المتنوعة ووظفت الولايات المتحدة تلك التحولات العالمية و التكنولوجية من اجل بسط هيمنتها و فرض نمطها الثقافي في العالم .
أما الفصل الرابع ففيه يطرح أهم الأطاريح التي تناولت مستقبل الدولة القومية بتحليل وظائفها وطبيعتها و تحولاتها للتكيف و الاستجابة للبيئة الدولية الجديدة من المشكلات التي واجهت الباحث في دراسته هذه كان أبرزها ترجمة مصطلح ( NATION STATE) فقد ترجم الى اكثر من معنى فهناك مراجع تعتمد الدولة الامة وهناك مراجع اخر تترجمة الى الدولة القومية وقد اعتمدنا في البحث على معنى الدولة القومية، و من المشاكل التي واجهت الباحث ندرة الدراسات و البحوث العلمية المتخصصة بموضوع الدولة القومية باللغة العربية، وعلية فقد واجه الباحث صعوبة في ترجمة المصادر الانكليزية التي اعتمد عليها في كتابة الأطروحة.