ماهية الاقتصاد السياسي
من الواضح أن هذا الواقع الملحوظ غير قابل للتفسير، إلا إذا اقرينا بأن ثمة بين ألمانيا والبلدان الأخرى، علاقات اقتصادية معقدة ومتنامية، وتقسيم للعمل غزير التشعبات والاتجاهات، يمكن ضمنه، بالنسبة لبعض السلع والمواد أن تطلب من ألمانيا للخارج، وتطلب من الخارج لألمانيا، مما يؤدي إلى عملية «مجيء وذهاب» يومية، لا يكون فيها كل بلد سوى عنصر عضوي من عناصر كل شامل أكثر اتساعا.
في البيان المذكور أعلاه، ثمة عامل آخر من شأنه أن يبعث على الدهشة: فالتصدير والاستيراد لا يظهران فيه بوصفهما ظاهرتين منفصلتين يمكن تفسيرهما عن طريق «العجز» بالنسبة إلى «هنا»، وعن طريق «الفائض» بالنسبة إلى هناك، بل هما ظاهرتان مرتبطتان ببعضهما البعض، عن طريق روابط السبب والنتيجة. فمن الواضح أنه من غير الممكن تفسير واردات ألمانيا الهائلة من القطن، بالتحدث عن الحاجات الخاصة للسكان الألمان، وذلك لأن هذه الواردات هي التي تتيح لألمانيا أن تكون لها صادرات ضخمة من الأقمشة والملابس القطنية. وثمة علاقة مشابهة قائمة بين الواردات الصوفية، والصادرات الصوفية المصنعة، وبين واردات الفلزات من الخارج، وصادرات البضائع الفولاذية من كافة الأنواع إلى الخارج… ومثل هذه الظواهر، ثمة الكثير الذي نصادفه في كل خطوة. فألمانيا تستورد إذن، لكي تتمكن من التصدير. أي أنها تخلق لنفسها، بشكل مصطنع، «بعض مجالات العجز»، لكي تتمكن بعد ذاك من تحويل هذا العجز إلى فائض. إذن، نرى من كل هذا أن «العالم الألماني الصغير» إنما هو في حقيقته جزء من كل شامل أكبر منه بكثير، أو بالأحرى مشغل في هذا العالم الواسع.
والآن لنتفحص عن كثب هذا «العالم الصغير» في استقلاليته «الأكثر اكتمالا». ولنتصور أن كارثة اجتماعية أو سياسية قد أدت، حقا، إلى فصل «الاقتصاد القومي» الألماني عن بقية العالم، مما أدى بهذا الاقتصاد إلى أن يعيش بعزلة… فما هي الصورة التي ستراها آنئذ؟
لنبدأ أولا، بالخبز اليومي: إن إنتاجية الأرض في ألمانيا تبلغ ضعفي إنتاجية الأرض في الولايات المتحدة، ولا يفوق إنتاجيتها في العالم سوى بلجيكا وايرلندا وهولندا. منذ خمسين عام، وباقتصاد أقل تطورا، كانت ألمانيا تشكل جزءا من خزانات القمح الأوربية الرئيسية، بحيث كانت تغذي، بفائضها، بقية الدول. اليوم أصبحت الأرض الألمانية، بالرغم من إنتاجيتها، أعجز من أن تكتفي لتغذية سكانها وماشيتها، لذا على ألمانيا أن تستورد نحو سدس حاجتها من المواد الغذائية، أي أن ألمانيا، إذا فصلت، اقتصاديا، عن بقية إنحاء العالم، ستشهد حرمان سدس سكانها من الغذاء، وسدس سكانها معناه 11 مليون ألماني.
يستهلك الشعب الألماني، سنويا، ما قيمته 220 مليون مارك من البن. و67 مليون مارك من الكاكاو، و8 مليون مارك من الشاي، و61 مليون مارك من الأرز، ويمتص نحو 12 مليون مارك ثمنا للتوابل المختلفة، 134 مليون مارك ثمنا لأوراق التبغ… وكلها مواد يستوردها من الخارج. وهذه المواد كلها باتت ضرورية بحيث أن أفقر فقير ألماني لم يعد بوسعه العيش دونها، إذ تشكل جزءا من عادتنا اليومية، ومن مستوى حياتنا، وهي مواد لا تنتج في ألمانيا (باستثناء التبغ جزئيا) وذلك لأسباب تتعلق بالمناخ. فلنفصل ألماني عن بقية العالم… فماذا يحصل؟ سيتهاوى المستوى الحياتي للشعب الألماني، وهذا المستوى يعادل مستوى الحضارة الألمانية… التي ستتهاوى كذلك.
بعد الغذاء تأتي الثياب. إن البياضات، بل ومجمل الثياب التي ترتديها جماهير الشعب، تصنع اليوم، كليا، من القطن… تقريبا، أما بياضات البرجوازيين المرفهين فتصنع من الكتان، أما ثيابهم فتصنع من الجوخ والحرير. بيد أن ألمانيا لا تنتج لا القطن ولا الحرير، كما أنها لا تنتج الجوت (الخيش) ذلك النسيج الهام، ولا الجوخ الذي تحتكره الهند عالميا، وألمانيا تعاني نقصا كبيرا في الكتان والقنب. فإذا فصلنا ألمانيا عن بقية العالم، سنحرمها من المواد الأولية ومن الأسواق الأجنبية، بحيث نحرم فئات بأسرها من الشعب الألماني من ثيابها الضرورية. إن صناعة النسيج الألمانية التي تغذي الآن، مع صناعة الثياب1400000 عامل وعاملة، من الصغار والبالغين، ستصاب بالدمار، إن حدث هذا.
والآن، لنسر إلى أبعد من هذا. إن ما يسمى بـ«الصناعة الثقيلة»، أي إنتاج الآلات وتحويل المعادن، يشكل بنية الصناعة العصرية الكبيرة، غير أن أساس هذه الصناعة الثقيلة، هو الفلزات. وألمانيا تستهلك سنويا (عام 1913) نحو 17 مليون طن من الحديد المصبوب. وهي نفسها تنتج 17 مليون طن من هذه المادة. للوهلة الأولى، قد نعتقد بأن «الاقتصاد القومي» الألماني يغطي على هذا النحو، حاجاته الخاصة من الحديد. غير أن الحديد المصبوب إنما يصنع من فلزات الحديد. لكن ألمانيا لا تستخرج من هذه الفلزات سوى نحو 27 مليون طن قيمتها الإجمالية 110 مليون مارك، بينما ثمة 12 مليون طن من أجود أنواع الفلزات، والتي تمثل أكثر من 200 مليون مارك وهي ضرورية للغاية بالنسبة إلى صناعة الحديد الألمانية، إنما تأتي من السويد وفرنسا واسبانيا.
والوضع هو نفسه تقريبا، بالنسبة إلى المعادن الأخرى. فألمانيا تستهلك سنويا 220 ألف طن من الزنك، وهي تنتج 270 ألف طن من هذه المادة تصدر منها 100 ألف طن، بينما يأتيها من الخارج 50 ألف طن من الزنك بدورها لا تستخرج في ألمانيا إلا جزئيا: نصف مليون طن، قيمتها نحو 50 مليون مارك، لذا تستورد ألمانيا 300 ألف طن من أجود أنواع فلزات الزنك، قيمتها نحو 40 مليون مارك. وألمانيا تستورد 94 ألف طن من الرصاص المصفى، و123 ألف طن من فلزات الرصاص، أما بالنسبة لإلى النحاس، فتستورد ألمانيا 206 آلاف طن سنويا. إذ أنها تستهلك 241 ألف طن. فإذا فصلنا ألمانيا عن بقية العالم، وحرمناها من واردتها المعدنية ذات النوعية الجيدة، ومن أسواقها الخارجية حيث تصرف المنتجات الفولاذية والآلات الألمانية، لا شك ستختفي صناعة الآلات التحويلية المعدنية الألمانية التي تستخدم 662 ألف عامل، كما ستختفي صناعة الآلات التي تعيل 1130 ألف عامل وعاملة. وكذلك سوف تختفي فروع صناعية أخرى تجد موادها الأولية وآلاتها لدى الصناعة الأخرى، كما ستختفي المؤسسات التي تزود هذه الأخيرة بالمواد الأولية والمواد الملحقة، ولاسيما المناجم، وأخيرا ستختفي تلك الصناعات التي تنتج مواد العيش لجيوش العمال الجرارة.
ولنذكر أيضا الصناعة الكيميائية التي تشغل 168 ألف عامل، وتزود العالم بأسره بمنتوجاتها. ولنذكر صناعة الخشب التي تشغل اليوم 450 ألف عامل، والتي دون استيراد الأخشاب الأجنبية ستضطر إلى وقف إنتاجها. ولنذكر صناعة الجلود التي تشغل 117 ألف عامل، والتي ستشل إن لم تتوفر لها الجلود الأجنبية والأسواق الخارجية الهائلة. ولنذكر الذهب والفضة، المادتين اللتين تصك منهما النقود المعتبرة قاعدة أساسية لكل حياة اقتصادية راهنة، وهما مادتان لا يتم إنتاجهما داخل ألمانيا. والآن، إذ ننتهي من التحدث عن كل هذه الصناعات بهذا الشكل الحي، ينبغي علينا أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي:
ما هو «الاقتصاد القومي» الألماني؟
بكلمات أخرى، إذا افترضنا أن ألمانيا مقطوعة، حقا باستمرار، عن بقية العالم وأن على اقتصادها أن يكفيها، فما الذي سيكون عليه شأن الحياة الاقتصادية الراهنة، وما الذي ستكون عليها الحضارة الألمانية الراهنة بأسرها؟ لسوف يتدهور الإنتاج، قطاعا بعد الآخر، وستتوقف عن العمل جماهير هائلة من البروليتاريا، ولسوف تحرم من الغذاء الضروري والملبس، قطاعات بأسرها من السكان، والتجارة سوف تحرم من قاعدتها: المعادن الثمينة، أما «الاقتصاد القومي» كله فلن يعود أكثر من ركام من الأطلال. ذلكم ما يسميه البعض «بعض النقص الحاصل في الحياة الاقتصادية الألمانية»، وذلكم ما يزعمون أنه «عالم صغير شديد الاكتمال»… هذا الزعم الذي يخط بماء الأثير اللازوردي على الأوراق التي تضم فحوى النظرية الأستاذية.
قفوا أيها السادة فماذا عن حرب 1914 العالمية، هذا المحك الذي وضع عليه «الاقتصاد القومي»؟ أوتراها لم تعط، وبكل أبهة، الحق لأمثال بوخر وأمثال سومبارت؟ أوتراها لم تبرهن للعالم بأن «العالم الألماني الصغير» يمكنه أن يعيش عيشة متكاملة، قويا وصلبا، في عزلته النسوكية بعيدا عن التجارة العالمية، وبفضل تنظيمه الدولتي الحازم، وبأقوى ما يمكنه من ردود؟ وتغذية السكان أو لم تتم يا ترى بشكل مثالي، دون أي لجوء إلى الزراعة الأجنبية؟ وعجلات الصناعة أو تراها لم تستمر في الدوران الجذل، دون مواد أولية أو أسواق خارجية؟
لنستعرض الآن بعض الوقائع. هناك أولا مسألة التموين، لقد عجزت الزراعة الألمانية عن توفير كل التموين اللازم، بمفردها. وهكذا رأينا كيف أن بضعة ملايين من الشبان البالغين، المنتمين إلى الجيش الألماني، قد أكلوا طوال الحرب، بفضل الطعام الذي حصلت عليه ألمانيا من الخارج، من بلجيكا، وشمال فرنسا، ولاسيما من بولونيا وليتوانيا. إذن، وجد «الاقتصاد القومي» نفسه، وفي سبيل تموين الشعب الألماني، متسعا ليشمل كل المساحة المحتلة من بلجيكا وشمال فرنسا، كما وجد نفسه يتسع خلال العام الثاني للحرب، ليشمل الجزء الغربي من الإمبراطورية الروسية التي غطت منتجاتها الزراعية جزءا كبيرا من النقص الحاصل في الواردات. وكانت نتيجة هذا كله إصابة سكان كل المناطق المحتلة بسوء التغذية، مما جعلهم يتهافتون بدورهم –كما حدث بالنسبة إلى بلجيكا مثلا- للحصول على المساعدات الأمريكية من المواد الزراعية. أما السمة الثانية المكملة لهذا كله، فكانت في ألمانيا عبارة عن زيادة في سعر المواد الغذائية تتراوح بين 100 و200%، مما أدى، كذلك، إلى سوء تغذية أصاب قطاعات عريضة من السكان.
وماذا عن عجلات الصناعة؟ كيف تراها بقيت على حركتها، دون مساندة المواد الأولية ووسائل الإنتاج الأخرى الآتية من الخارج، والتي رأينا أعلاه أهمية حجمها، كيف قيض لمثل هذه المعجزة أن تحدث؟ هذا السر كله، بالامكان تفسيره بأبسط الطرق، ودون أثر لأية معجزة كانت. فالصناعة الألمانية لم تتمكن من البقاء على نشاطها إلا لأنها ظلت تغذي بالمواد الأولية الأجنبية الضرورية، ولقد تم هذا عبر ثلاث طرق:
أولا، عن طريق مخزونات القطن والصوف والنحاس الهائلة التي كانت ألمانيا تملكها على عدة أشكال، بحيث لم يكن عليها، لاستخدامها، إلا أن تعمد إلى إخراجها من المخابئ، ثانيا، عن طريق المخزونات التي صادرتها في البلدان المحتلة، في بلجيكا وشمال فرنسا، وجزئيا في ليتوانيا وبولونيا، ومن ثم استخدمتها لصناعتها الخاصة، وثالثا عن طريق الواردات التي لم تكف عن الوصول إلى ألمانيا طوال زمن الحرب، وذلك بواسطة بلدان حيادية مثل اللوكسمبورغ. فإذا أضفنا إلى هذا كله، أن المصارف الألمانية كانت متخمة بكميات هائلة من المعادن الثمينة الأجنبية، وهي الشرط الأساسي لكل «اقتصاد حربي»، سيبدو لنا سريعا أن العزلة النسوكية للصناعة والتجارة الألمانيتين، ليست سوى خرافة، تماما مثلما هي خرافة فكرة تغذية الشعب الألماني كله، بطريقة كافية، بفضل زراعة ألمانيا، ومثلما يمكننا التأكيد على أن الاكتفاء الذاتي للعالم الألماني الصغير، خلال الحرب العالمية، هو أشبه بالطرف التي ترويها النساء الطيبات في ليالي الشتاء.
أما بالنسبة إلى أسواق تصريف الصناعة الألمانية، المنتشرة في كافة أرجاء المعمورة، كما لاحظنا أعلاه، فلقد استبدلت خلال الحرب، بالدولة الألمانية نفسها، إذ أن هذه الدولة امتصت معظم الصناعة الألمانية بسبب مسلتزمات الحرب. أي أن فروع الصناعة الأكثر أهمية: الصناعات المعدنية، النسيجية، الجلدية، والكيميائية، سرعان ما تحولت لتنتج مستلزمات الحرب، ولا شيء غيرها. وبما أن تكاليف الحرب كانت على عاتق دافع الضرائب الألماني، كما معنى تحويل هذه الصناعة إلى صناعة حربية، أن «الاقتصاد القومي» الألماني، بدلا من أن يبعث بجزء كبير من إنتاجه إلى الخارج لكي يبادله، تركه عرضة للدمار المستديم، غير أن هذه الخسائر حددت، وعلى مدى عقود طويلة من السنين المقبلة، نتائج هذا الاقتصاد المستقبلية، وذلك بسبب نظام القرض العام.
إذا لخصنا هذا كله، سيكون من الواضح أن الازدهار الهائل الذي عرفته ألمانيا «بعالمها المغلق الصغير» خلال الحرب، إنما يقدم –وعلى كافة الأصعدة- تجربة يصح معها مجرد التساؤل عن مقدار الزمن الذي يمكنها أن تشغله أيضا، قبل أن يتهاوى البنيان المصطنع على نفسه، تماما مثلما تتهاوى القصور المصنوعة من ورق اللعب.
ولنلق الآن نظرة على ظاهرة ملفتة للنظر. إذا أخذنا بعين الاعتبار، الأرقام الإجمالية للتجارة الخارجية الألمانية، سوف ندهش من جراء التفوق الواضح لحجم الواردات على حجم الصادرات، إذ بينما تصل واردات ألمانيا عام 1913 إلى 11,6 مليار مارك، لا تصل الصادرات في نفس ذلك العام إلى أكثر من 10,9 مليار. بيد أن عام 1913 لا يشكل استثناء، إذ بامكان أن نتأكد من وجود نسبة التفاوت نفسها، على مدى سنوات طويلة، والشيء نفسه يقال عن بريطانيا العظمى التي استوردت عام 1913 بما قيمته 13 مليار مارك، بينما لم تصدر إلا بما قيمته 10 مليارت. والوضع هو نفسه بالنسبة إلى فرنسا، وبلجيكا وهولندا. فكيف يمكن لمثل هذه الظاهرة أن تتحقق؟ أو ترى الأستاذ بوخر غير راغب في منحنا هنا الضوء الكاشف المتمخض عن نظريته. نظرية «الفائض عن الحاجات الخاصة» و«بعض العجز الحاصل… الخ»؟
إذا تقلصت العلاقات الاقتصادية بين مختلف «الاقتصادات القومية»، لتصبح، كما يعلمن الأستاذ المذكور، مجرد تخلي هذه «الاقتصادات القومية» عن الفائض عن حاجتها، كما كان الحال أيام الملك نبوخذ نصر، وإذا كان التبادل البسيط للبضائع هو الجسر الوحيد الذي يعبر الأثير اللازوردي الذي يفصل كل «عالم منغلق» عن الآخر، سيكون من الواضح أن ما من بلد بامكانه أن يستورد أكثر مما يصدر. وذلك لأن التبادل السلعي البسيط يعتبر العملة النقدية مجرد وسيط، بحيث أن كل بلد يدفع، في نهاية التحليل، ثمن مشترياته من السلع الأجنبية، سلعا محلية. فكيف يمكن، والوضع على هذا الحال، لاقتصاد قومي أن يحقق كل هذا القدر من الاستيراد الدائم الذي يفوق حجمه حجم ما يصدره من «فائضه» الخاص؟ ربما سيصرخ الأستاذ الآن ساخرا منا بقوله: إن حل هذه المسألة لهو أسهل حل في العالم! فالبلد المستورد ليس عليه إلا أن يغطي ما زاد من وارداته على صادراته، بالعملة السائلة. عفوا أيها الأستاذ! إن رمي مثل هذه الكمية الهامة من المال السائل في حفرة التجارة الخارجية، يعتبر ترفا لا يمكن أن يسمح به لنفسه سوى بلد غني متخم بالذهب والفضة، وليس هذا حال ألمانيا أو فرنسا أو بلجيكا أو هولندا. أضف على هذا أن لدينا هنا –ويا للمعجزة- مفاجأة أخرى: إن ألمانيا لا تستورد فقط، مزيدا من البضائع عما تصدر، بل تستورد أيضا من المال أكثر مما تتصدر! أي أن واردات ألمانيا من الذهب والفضة قد ارتفعت عام 1913 إلى 441,3 مليون مارك، بينما لم تزد صادراتها من هاتين المادتين عن 102,8 مليون مارك في العام نفسه… ونسبة التفاوت هذه، هي كذلك نفسها، منذ سنوات عديدة. فما رأي أستاذنا الجليل بوخر بهذا السر، بل ما رأي «فائضه» و«عجزه» الشهيرين؟
ها هو المصباح السحري الرائع يهتز ويرتجف بحزن!
لقد بدأنا الآن نشعر بأن ثمة خلف أسرار التجارة الدولية هذه، واقعا يقول بأنه لا بد من وجود علاقات اقتصادية مختلفة تماما عن المبادلات السلعية المجردة، بين مختلف «الاقتصادات القومية». ومن البديهي أن بلدا له على البلدان الأخرى حقوق اقتصادية، هو وحده القادر على أن يتلقى من هذه البلدان، وبشكل دائم، قدرا من المنتجات يزيد عما يبعث إليها. وهذه الحقوق ليست على أدنى علاقة بالمبادلات التي تحصل بين شركاء متساوين. وبديهي أن لمثل هذه الحقوق والعلاقات التبعية بين البلدان، وجودا حقيقيا، رغم أنف كل النظريات الأستاذية التي تتجاهل هذه الحقيقة. وتمثل العلاقات بين ما يدعى بالمركز Metropole والمستعمرات، نموذجا لعلاقات التبعية هذه، تبعا لشكلها الأكثر بساطة. فبريطانيا العظمى تنتزع سنويا، وبمختلف الأشكال، أتاوة تفرضها على الهند البريطانية، يزيد مقدارها عن مليار مارك. ونلاحظ بأن صادرات الهند تتجاوز وارداتها السنوية بنحو 1,2 مليار مارك. وهذا «الفائض» ليس سوى التعبير الاقتصادي عن عملية النهب الاستعماري التي تمارسها الرأسمالية الإنكليزية على الهند: وهذا يحدث عن طريقين، فأما أن تتجه البضائع الهندية مباشرة إلى بريطانيا العظمى، وأما أن تصدرها الهند إلى مكان آخر لكي تتمكن من دفع الأتاوة إلى المستعمر الإنكليزي. وهناك أيضا علاقات تبعية أخرى، ليست قائمة على القمع السياسي [18].
فالصادرات السنوية لروسيا تزيد عن وارداتها من البضائع بنحو مليار مارك. فهل هو «الفائض» الهائل من البضائع إلى خارج الإمبراطورية الروسية؟ إننا نعلم جيدا أن «الموجيك» الروسي، الذي يصدر قمحه إلى الخارج، يعاني من فقر دائم بسبب سوء التغذية الذي يدفعه إلى تناول خبز أضيف قشر الشجر إلى الحبوب التي يصنع منها. الحال أن التصدير المكثف للحبوب، هذا التصدير الذي يفرضه نظام مالي وضرائبي داخلي، يعتبر ضرورة حيوية لبقاء الدولة الروسية، ولكي تتمكن من الوفاء بتعهداتها والتزاماتها الناتجة عن قروضها الخارجية.
والواقع أن جهاز الدولة الروسية لا يتمكن على الوقوف على قدميه، جزئيا، منذ أزمة حرب القرم ومنذ تحديث هذا الجهاز عن طريق الإصلاحات، إلا بفضل الرساميل الأجنبية، ولاسيما الفرنسية. وينبغي على روسيا، لكي تتمكن من دفع فوائد هذه الرساميل الفرنسية، أن تبيع سنويا كميات هائلة من الخشب والكتان والقنب والماشية وغيرها، لإنكلترا وألمانيا وهولندا. وبهذا نرى أن الفائض العظيم في الصادرات الروسية، إنما يشكل الأتاوة التي يدفعها المدين إلى الدائن، وهو وضع يقابله، بالنسبة إلى فرنسا، فائض كبير في الواردات. بيد أن ترابط العلاقات الاقتصادية، داخل روسيا نفسها، يصل إلى أبعد من هذا. فالرساميل الفرنسية تستخدم، في روسيا، منذ عشرات السنين، لهدفين اثنين: أولا، لإنشاء السكك الحديدية بضمان من الدولة، وثانيا لسد نفقات الجيش. وعلى سبيل الاستجابة إلى هذين الهدفين، ولدت في روسيا في السبعينات، صناعة ضخمة هامة –وجدت حماية لها في نظام الحماية الجمركية. أي أن الرأسمال الفرنسي أبرز في روسيا رأسمالية شابة باتت بحاجة، بدورها، إلى تعزيز نفسها عبر استيراد كميات هائلة من الآلات والمعدات ووسائل الإنتاج الأخرى الآتية من البلدان الصناعية الرائدة كألمانيا وإنكلترا. وهكذا نسجت، بين روسيا وفرنسا وألمانيا وإنكلترا، علاقات اقتصادية، لم يكن تبادل السلع سوى نتيجتها المنطقية.
غير أن هذا الكلام لا يعني عدم وجود تنوع في العلاقات الاقتصادية بين البلدان. فالواقع أن بلدا مثل تركيا أو مثل الصين، يقيم لغزا جديدا في وجه المخطط الأستاذي: فهذه البلدان تستورد، على عكس روسيا، ومثل ألمانيا وفرنسا، أكثر بكثير مما تصدر. بل أن وارداتها تبلغ في بعض السنوات نحو ضعفي صادراتها. فكيف يمكن لتركيا أو للصين أن تسمحا لأنفسهما بمثل هذا الترف، أي بترف سد «النواقص» في «اقتصادها القومي»، في الوقت الذي لا تقدران فيه على تقديم «فوائض» مناسبة بالمقابل؟ فهل تقدم دول أوربا الغربية القوية، على سبيل الهدية أو الإحسان، إلى العثمانيين أو إلى شعب إمبراطورية السماء، بضعة ملايين من الماركات، هي قيمة البضائع المختلفة التي تشتريها هاتان الدولتان؟ على عكس، أن العالم بأسره يعرف بأن تركيا والصين واقعتان في حبائل المرابي الأوربي، بحيث أن عليهما أن تدفعا، على سبيل الفوائد، أتاوات ضخمة للمصارف الإنكليزية والفرنسية والألمانية. تبعا للنموذج الروسي، سيكون على تركيا والصين أن يكون لديهما فائض في الصادرات الزراعية لكي تتمكن من دفع الفوائد لمدينيها الأوربيين الغربيين. بيد أن «الاقتصاد القومي» في تركيا كما في الصين، يختلف جذريا عنه في روسيا. صحيح أن القروض الأجنبية تستخدم في الصين وتركيا كذلك، وبشكل أساسي، لإنشاء السكك الحديدية، والمنشآت المرفئية، والنفقات العسكرية. غير أنه ليست لتركيا صناعة ما، كما لا يمكنها أن تخلق مثل هذه الصناعة بغتة، انطلاقا من اقتصاد فلاحي أو قروسطي (نسبة إلى القرون الوسطى)، وعن طريق مناهج زراعية بدائية أو نظام الخراج والعشور. والوضع مشابه تقريبا في الصين، وإن يكن مختلف الأساليب. وهذا هو السبب في أن هذين البلدين لا يكتفيان فقط باستيراد حاجات سكانهما من المواد المصنعة من أوربا الغربية، بل يستوردان أيضا ما يلزمهما من وسائل المواصلات والمعدات العسكرية والأساطيل. أما عملية إنجاز كل هذا فينبغي أن تجري محليا عن طريق مقاولين وتقنيين ومهندسين أوربيين.
بل وغالبا ما تستنكف دول أوربا عن تقديم القروض، إلا إذا صاحبتها اتفاقيات تنص على مثل هذه المشتروات والمساهمات التقنية. فمثلا نجد أن الرأسمال المصرفي الألماني النمسوي، يمتنع عن تقديم أي قرض للصين، إلا بشرط أن تشتري هذه الأخيرة كميات محددة من السلاح، من مصانع «سكودا» و«كروب»، كما أن هناك قروضا أخرى تقدم بالارتباط مع امتيازات تحصل عليها الشركات الغربية، لإقامة السكك الحديدية. وبهذا نرى كيف أن الرساميل الأوربية لا تذهب إلى تركيا والصين، على الغالب، إلا على شكل بضائع (أسلحة وعتاد) أو على شكل رأسمال صناعي، على شكل آلات ومعدات وكميات من الفولاذ… الخ. وهذه البضائع لا تتجه إلى البلدان المتخلفة صناعيا لكي تكون عنصرا في مبادلة معينة، بل لكي تحقق أرباحا. وما فوائد هذه الرساميل والأرباح الأخرى، سوى مقادير منهوبة من تعب الفلاحين والأتراك أو الصينيين، من قبل الرأسماليين الأوربيين، بمساعدة نظام ضرائبي يخضع بدوره لسيطرة مالية أوربية. إذن تحتفي خلف الأرقام المجردة التي تعكس الواردات التركية أو الصينية الفائضة، والصادرات الأوربية المقابلة، علاقات فريدة من نوعها بين الغرب الرأسمالي الغني، والشرق الفقير المتأخر، حيث يدفع الأول الثاني إلى التزود بأحدث واهم وسائل المواصلات والمنشآت العسكرية، في نفس الوقت الذي يعمد فيه إلى هدم «الاقتصاد القومي» الفلاحي العتيق في الشرق الفقير.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، نجد أنفسنا أمام حالة أخرى. فهنا، كما في روسيا، تزيد الصادرات كثيرا عن الواردات: ففي عام 1913 بلغت صادرات الولايات المتحدة 10,2 مليار مارك، بينما لم تزد الواردات عن 7,4 مليار مارك. غير أن أسباب هذه الظاهرة ليست في الولايات المتحدة تمتص كذلك كميات هائلة من الرساميل الأوربية. ومنذ بداية القرن التاسع عشر، تكوم بورصة لندن كميات هائلة من الأسهم ومن سندات الإقراض الأمريكية. ولقد أشارت المضاربات الحاصلة على السندات والأسهم الأمريكية، وحتى سنوات الستين (في القرن التاسع عشر)، على دنو الأزمات التجارية والصناعية الكبرى التي أصابت الصناعة البريطانية فيما بعد. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف تدفق الرساميل الإنكليزية المتجهة إلى الولايات المتحدة وترحل هذه الرساميل على شكل قروض تمنح للمدن وللشركات الخاصة، ولاسيما على شكل رساميل صناعية: إما عن طريق شراء أسهم سكك الحديد أو المصانع الأمريكية مباشرة في بورصة لندن، وإما عن كطريق الكارتلات الصناعية الإنكليزية التي تنشئ في الولايات المتحدة فروعا لها، لتتمكن بهذا من اختراق الحواجز الجمركية، أو تشتري مؤسسات أمريكية (عبر اقتناء أسهمها) لكي تتلخص من منافسة هذه الأخيرة لهال في السوق العالمية. وما هذا إلا لأن الولايات المتحدة تمتلك اليوم صناعة كبيرة متطورة بشكل هائل، وتتقدم بسرعة وتعمد بدورها على تصدير كميات متعاظمة من الرأسمال الصناعي –آلات، فحم… الخ- إلى كندا والمكسيك وإلى بقية دول أمريكا الوسطى والجنوبية، في نفس الوقت الذي يتابع فيه الرأسمال المالي الأوربي تدفقه على الولايات المتحدة. وبهذا تحقق هذه الأخيرة صادرات هائلة من المواد الخام –قطن، نحاس، حبوب، خشب، بترول- ترسلها إلى البلدان الرأسمالية القديمة، إلى جانب صادرات صناعية متعاظمة تذهب باتجاه البلدان الفتية السائرة على طريق التصنيع. وما ينعكس في الفائض الكبير الذي تعرفه صادرات الولايات المتحدة، ما هو سوى هذه المرحلة الطريفة التي تشهد انتقال بلد يتلقى الرساميل، إلى بلد صناعي يصدر الرساميل، وما هذا سوى الدور الوسيط الذي تلعبه الولايات المتحدة بين أوربا العجوز الرأسمالية، والقارة الأمريكية الفتية المتخلفة.
والآن إذا تفحصنا مجمل هذه الهجرة التي تعرفها الرساميل الذاهبة من البلدان الصناعية القديمة باتجاه البلدان الصناعية الفتية، والعودة المقابلة لعائدات هذه الرساميل التي تتدفق سنويا وكأنها أتاوات تدفعها البلدان الفتية للبلدان العجوز، سنجد أمامنا ثلاثة تيارات رئيسية. فتبعا لتقديرات عام 1906، نجد أن إنكلترا كانت قد وظفت في مستعمراتها وفي الخارج، في تلك الفترة نفسها، 54 مليار مارك، مدخولها السنوي 2,8 مليار مارك على شكل فوائد. في الوقت نفسه وصل حجم الرأسمال الفرنسي في الخارج إلى 32 مليون مارك مدخولها السنوي لا يقل عن 1,3 مليار مارك. وأخيرا، كانت ألمانيا قد استثمرت في الخارج، منذ عشر سنوات 26 مليار مارك مدخولها السنوي يصل إلى نحو 1,24 مليار مارك. ولقد تزايدت هذه التوظيفات وعائداتها، بعد ذلك، بشكل متسارع. وفي الوقت نفسه انقسمت التيارات الرئيسية الثلاثة إلى تيارات أكثر عددا وأقل حجما. وتماما كما أن الولايات المتحدة تنشر الرأسمالية في طول القارة الأمريكية وعرضها، ها هي روسيا – بالرغم من أنها مازالت تغذي عن طريق الرساميل الفرنسية، والصناعة الإنكليزية والألمانية –تعمل على إدخال الرساميل والمواد المصنعة إلى المناطق التي تقع وراءها: الصين، فارس (إيران)، وآسيا الوسطى، كما أنها تشارك في إنشاء خطوط السكك الحديدية في الصين… الخ.
إننا نكتشف، خلف الهيروغليفيات الخاوية ذات العلاقة بالتجارة العالمية، شبكة كاملة من الترابطات الاقتصادية التي ليست لها أدنى علاقة بالتبادل البسيط للسلع، هذا التبادل الذي يرى الأساتذة الجامعيون الكرام، أنه الحقيقة الوحيدة الفريدة.
إننا نكتشف أن التمييز الذي يقيمه العالم بوخر، بين البلدان ذات الاقتصاد الصناعي، والبلدان المنتجة للمواد الخام، ليس سوى النتاج البكر للتبسيطات الأستاذية الساذجة. إن العطور، والمواد القطنية، والآلات، كلها منتجات مصنعة. وتبرهن لنا صادرات فرنسا من العطور على أن فرنسا بلد ينتج المواد الكمالية التي تستهلكها فئة من البرجوازية الثرية في العالم، وصادرات اليابان من المواد القطنية تبرهن على أن اليابان تنافس أوربا الغربية في عملية تدمير الإنتاج الفلاحي والحرفية التقليدية في الشرق الأقصى بأسره، لإبدالهما بتجارة السلع المصنعة، أما الصادرات الإنكليزية والألمانية والأمريكية من الآلات والعدد، فتبرهن لنا على أن هذه الدول الثلاث تعمل لإدخال الصناعة الكبرى إلى كافة أرجاء المعمورة.
إننا نكتشف أن ثمة تصديرا واستيرادا، اليوم، لـ«سلعة» لم تكن معروفة أيام الملك نبوخذ نصر، وكذلك إبان كل الفترة التاريخية التي تمتد من سحيق العصور إلى القرون الوسطى، هذه السلعة اسمها «رأس المال». وهي لا تستخدم لسد «بعض النقص» في «الاقتصادات القومية» الأجنبية، بل بالعكس، لغلق ثغرات جديدة وأخاديد وحفر في بنيان «الاقتصادات القومية» العجوزة، وذلك لكي تتمكن من التسلل إليها، والتحرك فيها كما لو كانت براميل من البارود تهدف إلى تغيير «الاقتصادات القومية» على المديين القصير والطويل، ومن ثم تحويلها إلى مجرد ركام من الأطلال. ومع هذه «السلعة» ثمة كذلك «سلع» أخرى عديدة، أكثر إلفاتا للنظر، تنتشر بكميات هائلة في العالم أجمع، بعد أن تأتي من بضعة بلدان يقال أنها بلدان متمدنة، وهذه السلع هي: وسائل مواصلات حديثة، عمليات إبادة شاملة للسكان المحليين، اقتصاد نقدي وديون تغرق جماهير الفلاحين، ثراء وفقر، بروليتاريا واستغلال، عدم أمان وأزمات، فوضى وثورات. إن «الاقتصادات القومية» الأوربية تمد خثورها باتجاه بلدان وشعوب الكرة الأرضية لكي تمزقها داخل شبكة الاستغلال الرأسمالي الهائلة.
أترى الأستاذ بوخر ما يزال حتى الآن غير مؤمن باقتصاد سياسي عالمي؟ أجل… ما يزال على عناده، فهذا العالم يصرح، حتى بعد أن يتفحص بانتباه أحوال كل مناطق العالم، دون أن يكتشف من جراء هذا التفحص شيئا، بقوله: لا يمكنني أن افعل شيئا بهذا الصدد، وأنا لا أرى أبدا أية «ظواهر خاصة» «مختلفة بشكل جذري» عن ظواهر «الاقتصاد القومي» و«بوسع المرء أن يبدي ريبته من إمكانية ظهور مثل هذه الظواهر في المستقبل المنظور».
حسنا! فلنترك الآن التجارة والإحصائيات التجارية، ولنيمم وجوهنا، مباشرة، شطر الحياة، نحو تاريخ العلاقات الاقتصادية الحديثة. ولنوجه اهتمامنا ناحية قطعة صغيرة من هذه اللوحة الهائلة الفسيفسائية.
في عام 1768، أنشأ كارترايت في ناتنغهام بإنكلترا، أولى المنشآت الميكانيكية لصناعة القطن، وفي عام 1785، ابتكر مهنة الحياكة الميكانيكية. وكانت النتيجة الأولية لهذا، في إنكلترا، اختفاء الحياكة اليدوية من جهة، والانتشار السريع للصناعة الآلية من جهة ثانية. وفي أوائل القرن التاسع عشر كان ثمة في إنكلترا، وحسب التقديرات السائدة آنذاك، نحو نصف مليون حرفي يعمل في الحياكة، وهؤلاء في طريقهم الآن إلى الانقراض، أما في ستينات القرن التاسع عشر، فلم يكن قد بقي منهم في طول المملكة المتحدة وعرضها سوى بضعة آلاف حرفي يحيكون الأقمشة حياكة يدوية، بالمقابل استقبلت صناعة القطن، في الفترة، نفسها، نصف مليون عامل صناعي. في عام 1863، تكلم غلادستون –رئيس وزراء بريطانيا آنذاك – في مجلس الوزراء عن «تعاظم مبهر للثروة والجاه» اللذين هبطا على البرجوازية الإنكليزية، دون أن تنال الطبقة العاملة، منها، أي نصيب.
تستقدم صناعة القطن الإنكليزية موادها الأولية من أمريكا الشمالية. وكان تطور المصانع في لانكشاير قد أدى إلى خلق مزارع هائلة للقطن من جنوب الولايات المتحدة. ولقد استقدمت أمريكا أيضا، من أفريقيا السوداء، أيد عاملة رخيصة الأجر تقوم بالإعمال الصعبة والمميتة في مزارع القطن، وقصب السكر والرز والتبغ. وفي أفريقيا عرفت تجارة الرقيق ازدهارا لا مثيل له، حيث طوردت جماهير السكان داخل «القارة السوداء» بعد أن بيعت قبل زعمائها، وألقي القبض عليها وسيقت برا وبحرا عبر مسافات شاسعة، لكي تباع مجددا في أمريكا. لقد كان هذا عبارة عن «هجرة حقيقة» أرغمت الشعوب السوداء على القيام بها. بحيث أنه كان ثمة، في نهاية القرن الثامن عشر، نحو 297 ألف زنجي في أمريكا… ولقد ارتفع هذا العدد بشكل مذهل ليصل إلى نحو أربعة ملايين عام 1861.
لقد أدى هذا الازدهار المذهل لاستعباد السود وإجبارهم على العمل في جنوب الاتحاد الأمريكي، إلى حملة عنيفة قامت بها ولايات الشمال، ضد هذه «الإساءة الدنيئة، إلى المبادئ المسيحية». والحال، أن تدفق الرساميل الإنكليزية بكثرة، بين عامي 1825 و1860، كان قد استثار نشاطا هائلا في شمال الولايات المتحدة، سواء في إنشاء خطوط السكك الحديدية، أو في إقامة الصناعة الحديثة، مما أدى إلى خلق برجوازية متأقلمة عن اقتناع، مع أحدث أشكال الاستغلال: الاستعباد الرأسمالي المأجور. ولقد أثارت الأعمال المربحة بشكل خيالي، التي كان يمارسها مزارعو الجنوب –حيث كان العبد يموت بعد ست أو سبع سنوات من العمل الشاق- أثارت استنكارا لدى طهرانيي الشمال، كان كبير الحجم، سيما وأن المناخ الشمالي ما كان يسمح لهم أن يقيموا في ولاياتهم الشمالية، جنة شبيهة بتلك التي قامت في الجنوب. وهذا ما جعلهم يمنعون الرق رسميا في عام 1861، في كافة أنحاء الاتحاد الأمريكي. فما كان من أصحاب المزارع الجنوبيين إلا أن أعلنوا الثورة، بعد أن مسهم هذا الإجراء في صلب مصالحهم. وانشقت الولايات الجنوبية، واندلعت الحرب الأهلية.
كانت أولى نتائج هذه الحرب، دمارا وخرابا اقتصاديا أصابا الولايات الجنوبية. فتوقفت التجارة والإنتاج، كما توقف تصدير القطن، وبهذا حرمت الصناعة الإنكليزية من المواد الأولية، واندلعت في إنكلترا عام 1863، تلك الأزمة الهائلة التي سميت بـ«مجاعة القطن». وبهذا وجد 250 ألف عامل في لانكشاير أنفسهم عاطلين تماما عن العمل، كما تعطل عن العمل جزئيا 160 ألف عامل آخر… بينما لم يستمر في العمل، بوقت كامل، سوى 120 ألف عامل، خفضت أجورهم بنسبة تتراوح بين 10 و20% وهيمنت بين سكان المقاطعة حالة بؤس رهيبة، أدت بخمسين ألف عامل إلى توجيه عريضة إلى البرلمان طلبوا فيها من الدولة أن تمدهم بمساعدات تمكنهم من الهجرة مع عائلاتهم وأطفالهم. في ذلك الوقت نفسه كانت الرأسمالية حديثة الولادة في الدول الأسترالية، وبحاجة إلى يد عاملة جمة –بعد أن عمل المهاجرون الأوربيون على إبادة السكان المحليين إبادة شبه تامة-، وهكذا أعلنت استراليا عن ترحيبها باستقبال البروليتاريين الإنكليز العاطلين عن العمل. هنا احتج الصناعيون الإنكليز ضد هذا التسرب الكثيف للآلات «البشرية» الذين قد تعود الحاجة إليهم مجددا، حين تستأنف الصناعة انطلاقتها. وهكذا تمنعت السلطة عن مد العمال بما يمكنهم من الهجرة.. فاضطروا لتحمل أهوال الأزمة حتى الثمالة.
لقد جف النبع الأمريكي، فبدأت الصناعة الإنكليزية تسعى للحصول على حاجتها من المواد الأولية من أماكن أخرى، فوجهت أنظارها نحو الهند الشرقية، حيث بدأت بتسوية مزارع القطن، مما دفع بزراعة المواد الغذائية التي تغذي السكان منذ قرون طويلة، وتشكل قاعدة وجودهم، إلى التخلي عن مساحات شاسعة من الأرض، أمام آمال ومطامح المضاربين، بالحصول على الأرباح من جراء الوضع الجديد. وهكذا تقلصت زراعة الأرز، مما أدى بعد ذلك بأعوام قليلة –أي عام 1866- إلى تضخم غريب من نوعه نتجت عنه زيادة في الأسعار، ومن ثم مجاعة فتكت بنحو مليون شخص في مقاطعة أوربا، شمالي البنغال.
كانت التجربة الثانية في مصر، حيث عمد خديوي مصر (نائب الملك في النص الأصلي) إسماعيل باشا، إلى التشجيع على إقامة مزارع القطن بسرعة، للاستفادة من حرب الانفصال الأمريكية. ولقد أدى هذا إلى حدوث ثورة حقيقية في علاقات الملكية في الريف المصري. لقد سرق من الفلاحين، جزء كبير من أراضيهم وأعلنت الأراضي المسروقة ملكا للخديوي، وحولت إلى مزارع قطن فسيحة. ثم جيء بألوف الفلاحين، بالقوة، ليعملوا، في المزارع، على إقامة السدود وحفر الأقنية ودفع المحاريث. بيد أن إسماعيل باشا عمد إلى استدانة المال من المصارف الإنكليزية والفرنسية لكي يتمكن من الحصول على المحاريث البخارية وعلى غيرها من الآلات الحديثة المستوردة من بريطانيا. ولقد انتهى الأمر بهذه المضاربة الهائلة إلى الإفلاس بعد عام واحد، حين عقدت اتفاقية الصلح في الولايات المتحدة، وهبطت أسعار القطن خلال بضعة أيام إلى ربع ما كانت عليه قبلا. وكانت نتيجة عهد القطن هذا بالنسبة إلى مصر، دمارا متسارعا للاقتصاد الفلاحي، وتدهورا مذهلا للأوضاع المالية، ومن ثم احتلال سريعا لمصر من قبل الجيش الإنكليزي.
في تلك الأثناء كانت صناعة القطن تسجل مكاسب جديدة. فحرب القرم التي أوقفت عام 1855 صادرات روسيا من القنب والكتان، سببت في أوربا الغربية، أزمة خطيرة في عالم الصناعة النسيجية، وبهذا أخذت صناعة القطن تزدهر أكثر فأكثر على حساب الكتان. وفي ذلك الوقت نفسه حدث في روسيا انقلاب سياسي هام، إثر تدهور النظام القديم خلال حرب القرم: لقد ألغي الرق، وبدأت تطبق إصلاحات ليبرالية، وادخل نظام التبادل الحر Libre-Echange ، كما أخذت خطوط السكك الحديدية تتطور سريعا. وبهذا انفتحت أسواق جديدة وواسعة، في وجه المنتوجات الصناعية، في كافة أرجاء الإمبراطورية الروسية، وكان القطن الإنكليزي أول بضاعة تدخل السوق الروسية. وفي سنوات الستين كذلك فتحت عدة حروب دموية، الصين بأسرها في وجه التجارة الإنكليزية. وهكذا أضحت إنكلترا مسيطرة على السوق العالمية، حيث شكلت صناعة القطن قرابة نصف الصادرات الإنكليزية إلى هذه السوق. وكانت ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر، سنوات ازدهار الأعمال الأكثر نجاحا بالنسبة إلى الرأسماليين الإنكليز، ولقد كان ذلك العهد أيضا هو العهد الذي نحا فيه أولئك الرأسماليون، باتجاه التنازل بعض الشيء للعمال، مقابل ضمان الحصول على «قوة اذرعتهم» وتوطيد «السلام الصناعي». وفي تلك الفترة بالذات عرف «التريديونيون» الإنكليز، وعلى رأسهم عمال نسج وحياكة القطن، أهم نجاحاتهم، في نفس الوقت الذي بدأت تنطفئ فيه، شعلة التقاليد الثورية الشارتية، وأفكار أوين الاشتراكية، في نفوس البروليتاريا الإنكليزية التي أضحت ذات ذهنية نقابية محافظة.
ومع هذا، سرعان ما تغيرت الأوضاع. ففي أرجاء القارة الأوربية، حيثما كانت انجلترا تصدر مصنوعتها القطنية، بدأت مصانع القطن تنهض هنا وهناك بدورها. ومنذ 1844، أخذت ثورات الجوع التي قام بها عمال النسيج في سيليسيا وبوهيميا، تعطي الإشارات الأولى لثورة آذار 1848. هذا بينما بدأت الصناعة تزدهر وتتطور، حتى في المستعمرات الإنكليزية نفسها، بحيث أن مصانع القطن في بومباي (الهند) شرعت بسرعة في منافسة المصانع الإنكليزية، وساهمت –في سنوات الثمانين- بتحطيم احتكار إنكلترا للسوق العالمية.
وأخيرا، في روسيا، افتتحت انطلاقة صناعة القطن، في السبعينات، عهد الصناعة الكبرى، وعهد الحواجز الجمركية في آن معا. وللتغلب على هذه الحواجز، نقلت مصانع بأكملها مع عمالها وموظفيها، من ساكس وفوغتلاند، إلى بولونيا الروسية حيث أخذت تقوم مراكز صناعية جديدة في لودز وفي سغيرز، انبثقت بشكل مباغت وسريع يشبه ما حدث في كاليفورنيا إثر اكتشاف ذهبها. وبعيد عام 1880 بقليل، أدت التحركات العمالية في منطقة صناعية القطن (موسكو-فلادمير)، إلى دفع السلطة لسن أولى قوانين الحماية العمالية في تاريخ الإمبراطورية الروسية. وفي عام 1896، نظم ستون ألفا من عمال مصانع القطن في بطرسبرغ، أول إضراب جماهيري في روسيا. وبعد ذلك بتسع سنوات فقط، في شهر تموز 1905، أقام 100 ألف عامل، على رأسهم عمال ألمان، في لودز ثالث مركز لصناعة القطن، أولى متاريس الثورة الروسية الكبرى.
لقد تتبعنا أعلاه، الخطوط الكبرى لـ140 سنة من تاريخ الصناعة الحديثة، وهو تاريخ دارت أحداثه على مدى القارات الخمس، وطال حياة ملايين البشر، وتمخض هنا عن أزمة، وهناك عن مجاعة، وتحول أحيانا إلى حرب، وأحيانا إلى ثورة، وفي كل مكان على طريقه ترك جبالا من الثراء، ووهادا من البؤس- ترك أنهارا واسعة من عرق العمل البشري ودمائه.
إنها انتفاضات الحياة، والآثار الموقوتة التي تطال الشعوب في صميمها، بيد أن إحصائيات التجارة العالمية الجرداء، لا تعطي عن هذا الواقع أقل فكرة.
خلال قرن ونصف من الزمان، أي منذ ظهرت الصناعة الحديثة في إنكلترا، نهض الاقتصاد الرأسمالي العالمي، حقا، فوق آلام وتشجنات البشرية جمعاء. لقد طال كل قطاع إنتاجي بعد الآخر، واستولى على بلد اثر بلد. لقد اسقط هذا الاقتصاد، بواسطة البخار والكهرباء، بواسطة النار والسيف، أسوار الصين، وتسلل حتى إلى أبعد زوايا الأرض وأكثرها تخلفا، ثم خلق –عبر الأزمات العالمي، وعبر الكوارث الجماعية الدورية –تضامنا اقتصاديا بين البشرية البروليتارية المعاصرة. إن البروليتاريا الإيطالية التي طردتها رأسمالية بلادها من ديارها، تهاجر إلى الأرجنتين وكندا، حيث تجد طغمة رأسمالية جديدة مستعدة تمام الاستعداد، مستوردة من الولايات المتحدة أو من إنكلترا.
والبروليتاري الألماني الذي يبقى في بلده راغبا في أن يقتات ويعيش بشكل شريف، إنما هو مرتبط خطوة خطوة، وفي السراء والضراء بتطور الإنتاج والتجارة في العالم بأسره. هل تراه سيعثر على عمل أم لا؟ أو ترى أجره سيكفيه لإعالة زوجته وأطفاله؟ أتراه سيكون محكوما عليه بالفراغ القسري بضعة أيام كل أسبوع، أم سيدخل حجم العمل الإضافي ليعمل ليل نهار؟ إنه اضطراب دائم يعيش فيه تبعا لمحصول القطن في الولايات المتحدة، تبعا لمحصول القمح في روسيا، تبعا لاكتشاف مناجم ذهب أو ماس جديدة في أفريقيا، تبعا للاضطرابات الثورية في البرازيل، وللصراعات الجمركية، وللقلاقل الدبلوماسية، وتبعا للحروب ذات الرحى الدائرة في أرجاء قارات العالم الخمس. إن لاشيء ادعى إلى الدهشة اليوم، ولا شيء أكثر أهمية وحسما بالنسبة إلى الحياة السياسية والاجتماعية الراهنة، من التناقض بين القاعدة الاقتصادية المشتركة، التي توحد يوميا، وبشكل أكثر صلابة وصميمية، كل الشعوب في شمولية كبيرة، وبين البنية الفوقية السياسية للدول التي تسعى إلى فصل الشعوب بشكل مصطنع بواسطة الحدود المصطنعة، والحواجز الجمركية والمذهبية العسكرية، واعتبارها –أي الشعوب- قطاعات غريبة عن بعضها البعض، ومعادية لبعضها البعض.
غير أن هذا كله ليس ذا وجود بالنسبة إلى بوخر وسومبارت وشركائهما! فهم لا يرون سوى «الاقتصاد القومي». ماذا.. هل هو لغز؟ وهل لأحد أن يفهم، في مجال آخر غير مجال الاقتصاد السياسي، كل هذا العمى الذي يبديه الممثلون الرسميون للعلم، تلقاء ظواهر تلسع كثرتها ووضوحها أعين كل مراقب؟ على كل حال، وفي مجال العلوم الطبيعية، إذا حدث لعالم ذي شهرة، أن وقف يدافع اليوم علنا عن النظرية التي تقول بأن الأرض ليست هي التي تدور حول الشمس، بل الشمس وكل الكواكب والنجوم تدور حول الأرض، وإذا قال بأنه «لا يعرف ظواهر» تناقض نظريته «جوهريا»، لا شك سيضمن لنفسه استثارة ضحك العالم كله عليه… مما يؤدي به أخيرا إلى عيادة طبيب نفساني يتولى فحصه، أمام أنظار أسرته القلقة!
يقينا، منذ أربعة قرون، كانت مثل هذه الأفكار والنظريات سائدة ومنتشرة، بحيث أن مجرد تنطح شخص ما لتبيان خطئها كان يودي به إلى المحرقة أو المقصلة. في ذلك الحين كانت مصلحة الكنيسة الكاثوليكية تكمن في الزعم بأن الأرض هي مركز العالم ضمن حركة النجوم، بحيث أي مس بشريعة هيمنة الكوكب الأرضي على الكون، كان يعتبر مسا بالجبروت الروحي للكنيسة، وبمصالحها المنتشرة فوق الأرض. في ذلك الحين كانت علوم الطبيعة هي المركز العصبي للنظام الاجتماعي المهيمن، وكان التضليل في مجال العلوم لطبيعية، أداة لاستعباد البشر لا غنى عنها. أما اليوم، في عهد سيطرة رأس المال، لم يعد المركز العصبي للنظام الاجتماعي كامنا في الاعتقاد برسالة الأرض الإلهية وسط الزرقة السماوية، بل في الإيمان برسالة الدولة البرجوازية فوق الأرض. وبما أن هناك اليوم قلاقل كثيرة بدأت تبرز لتعيق مقدرات هيمنة الرأسمال على الاقتصاد العالمي، وبما أن العواصف بدأت تستعد لكنس كل «العوالم الصغيرة» التي تخلقها الدول البرجوازية فوق سطح الأرض، ها هي المبررات العلمية للهيمنة الرأسمالية تبرز في رحى «الدولة القومية» لكي تدافع عن هذه الدولة حتى الرمق الأخير. إن الأساس الذي يرتكز عليه الاقتصاد السياسي اليوم، ما هو سوى تضليل علمي يعمل لصالح البرجوازية.
أحيانا يعطي، وبكل بساطة، للاقتصاد السياسي، التعريف التالي: إنه «علم العلاقات الاقتصادية بين البشر». والواقع أن أولئك الذين يستخدمون مثل هذه المعادلة، يعتقدون أنهم بهذا إنما يتفادون عقبات إدراج «الاقتصاد القومي» داخل الاقتصاد العالمي، وذلك عبر تعميم المشكلة بشكل مبهم، وعبر التحدث عن اقتصاد «البشر». والحقيقة أن الضياع في لج الأمواج على هذا النحو، لا يساعد أبدا على توضيح الأمور، بل يجعلها أكثر تشوشا، هذا إذا كان ممكنا، وذلك لأن السؤال الذي يطرح عند ذاك سيكون التالي: هل ثمة حاجة، ولماذا حاجة، إلى علم للعلاقات الاقتصادية «بين البشر» أي بين كافة البشر، في كل الأزمان، وفي كافة الظروف؟
فلنأخذ أي نموذج للعلاقات الاقتصادية البشرية، يكون بسيطا وواضحا قدر الامكان. ولننتقل بأنفسنا إلى الفترة التي لم يكن الاقتصاد العالمي الراهن قد وجد فيها بعد، حيث لم تكن التجارة السلعية مزدهرة إلا في المدن، فيما كان الاقتصاد الطبيعي، في الأرياف، أي الإنتاج لمجرد سد الحاجات المباشرة، يهيمن سواء في الإقطاعيات العقارية الكبيرة، أو في الاستغلاليات الفلاحية الصغيرة. ولنأخذ مثلا، وضع ايكوسيا العليا (اسكتلندا ) خلال خمسينات القرن الماضي (التاسع عشر) كما يصفه دوغالد ستيوارت حيث يقول:
«جاء في «ستاتيستكال آكاونت»، أن المرء كان يشاهد في الماضي، في بعض أنحاء ايكوسيا العليا، عددا كبيرا من الرعاة والفلاحين يأتون مع النساء والأطفال. وهم منتعلون صنادل صنعوها بأنفسهم بواسطة جلود جففوها بأنفسهم أيضا، ومرتدون ثيابا لم تمسها أيد غير أيديهم، أتى بموادها الأولية من الصوف الذي غزلوه بأنفسهم بعد أن جزوه من أجسام ماشيتهم، أو من الكتان الذي زرعوه بأنفسهم. وفي مجال صناعة هذه الثياب، بالكاد يلمح المرء أثرا لمادة مشتراة من الخارج، باستثناء الأزرار والإبر وغيرها من المواد الحديدية التي تستخدم في عملية الحياكة نفسها. أما الألوان فالنساء هن اللواتي يستخرجنها من عصارة بعض الحشائش والمواد المحلية… الخ» [19].
أو لنأخذ نموذجا آخر من روسيا، حيث كان يهيمن، منذ بعض الوقت، أي في نهاية سبعينات القرن التاسع عشر، اقتصاد فلاحي على نفس النمط، وعن هذا يقول البروفسور نيكولاي سيبر:
«إن الأرض التي يزرعها فلاح مقاطعة فيازما في إقليم سمولنسك، توفر له الغذاء والملبس وتقريبا كل ما هو ضروري لمعيشته: الخبز، البطاطا، الحليب، اللحوم، البيض، القماش المصنوع من الكتان، الأغطية، جلود الماشية والصوف الذي تصنع منه ثياب الشتاء… وهذا الفلاح لا يشتري مقابل النقود سوى الأحذية وبعض المواد الثانوية مثل الأحزمة والقبعات والقفازات، بالإضافة إلى بعض الأدوات المنزلية التي لا غنى عنها مثل: آنية المائدة المصنوعة من الصلصال أو الخشب، والمسطام (آلة تحرك بها النار) والقدر… وغيرها من الأدوات المشابهة» [20].
وحتى الآن ما تزال ثمة كذلك، اقتصادات من هذا الطراز الفلاحي في بوسنيا وهرزغوفيا وصربيا ودالماسيا. فإذا ما رغبنا في أن نطرح على فلاح من ايكوسيا العليا أو روسيا، من بوسنيا أو صربيا، تلك المسائل الأستاذية المعتادة بالاقتصاد السياسي، وبـ«هدف الاقتصاد» و«خلق وتوزيع الثروات»، لا شك سيفتح شدقيه على أوسعهما مذهولا… لماذا، ولأي هدف، أعمل وتعمل عائلتي، أو بكلمات أكثر علمية، ما هي «الدوافع» التي تحثنا على الاهتمام بـ«الاقتصاد»؟ سوف يصرخ فلاحنا بنا متسائلا. حسنا! حسنا! ينبغي علينا أن نعيش، وصحيح أن الفراريج لا تهبط علينا مشوية من علياء السماء. فإذا لم نعمل، سنموت جوعا. إننا نعمل إذن لكي ننجح في إعالة أنفسنا، ولكي نأكل ونطرد جوعنا. ولكي نلبس ثيابا نظيفة، ونحصل على سقف يظلل رؤوسنا. ولكن ماذا عن الشيء الذي ننتجه. ما هو «الاتجاه» الذي نوجه ضمنه عملنا؟ سؤال ساذج آخر! إننا ننتج ما نحن بحاجة إليه، وما تحتاجه أسرتنا الفلاحية لكي تعيش، إننا نزرع القمح والسّلت ، نزرع الشوفان والشعير، نزرع البطاطا. ونقوم بتربية الأبقار والخراف والدجاج والعصافير. في الشتاء نحيك الصوف، وهو عمل النساء، أما نحن معشر الرجال فنرتب الأمور بواسطة المنشار والمطرقة، ونصلح من شأن البيت وأدواته. سم الأمر، إذا شئت، «اقتصادا زراعيا» أو «حرفيا»، لا يهم… المهم أنه ينبغي علينا أن نشتغل كل شيء، ونصنع كل ما نحتاجه في المنزل وفي الحقل. كيف «نقسم» هذه الأعمال؟ ذلكم سؤال غريب آخر! الرجال يشتغلون، بالطبع، في كل ما يحتاج منهم إلى قوة عضلية رجالية، أما النساء فيعملن لإنجاز شؤون المنزل والأبقار وقن الدجاج… حيث يقدم الصغار المساعدة هنا وهناك. أو هل تعتقدون بأن على أن أرسل زوجتي لتقطع الحطب، بينما أتولى بنفسي سوق البقرة؟ (إن هذا الرجل الحاذق لا يعرف –وهذا شيء نضيقه من عندنا- بأن المرأة هي التي، عند كثير من الشعوب البدائية، ومثلا عند هنود البرازيل، تذهب إلى الغابة لجمع الحطب، وهي التي تغرز الجذور. وتلتقط الثمار، بينما لا يكتفي الرجال، في مجتمعات الرعاة في أفريقيا وآسيا، بحراسة الماشية، بل ويحلبونها أيضا، وبوسعنا حتى اليوم أن نشاهد المرأة في دالماسيا تحمل أثقل الأحمال على ظهرها، بينما يرافقها الرجل باختيال راكبا فوق حماره، وهو يدخن غليونه بكل برودة وهدوء. إن «تقسيم العمل» هذا يبدو طبيعيا هنا، تماما مثلما يبدو طبيعيا بالنسبة إلى الفلاح عندنا، انصرافه إلى قطع الحطب، فيما تتولى زوجته حلب الأبقار) بعد هذا يتساءل الفلاح: ما هو الشيء الذي اسميه ثروتي؟ إن أي طفل في القرية يعرف هذا الأمر: فالفلاح الغني هو الفلاح الذي يتمكن من ملئ مخازنه، وإسطبله، وتكون ماشيته على أحسن حال، وقن دجاجاته كبير الحجم، أما الفلاح الفقير فهو ذاك الذي يفتقر إلى الطحين في أعياد المرفع، وتتسرب المياه من سقف بيته حين تمطر السماء. بماذا ترتبط «زيادة ثروتي»؟ لم هذا السؤال؟ لو كانت لدي قطعة أرض أكبر، كنت أضحيت أكثر ثراء، أما إذا شاء الله إسقاط ثلوجه الكثيفة فوق رؤوسنا في عز الصيف، سنصبح كلنا فقراء بين ليلة وضحاها.
لقد عرضنا أعلاه ما من شأن فلاح أن يجيب به، وبكل صبر وأناة، على أسئلة الاقتصاد السياسي الحاذقة، غير أننا واثقون من أن الأستاذ الذي يأتي إلى مزرعة في ايكوسيا العليا أو بوسينا، حاملا ورقه وقلمه، سيضطر إلى أن يولي الأدبار، قبل أن يصل إلى نصف أسئلته المتعلقة بعملية البحث العلمي. فالحقيقة أن كافة شروط مثل هذا الاقتصاد الفلاحي بسيطة هنا وواضحة، بحيث أن تحليلها تبعا لمخططات الاقتصاد السياسي، سيكون أشبه بممارسة لعبة عقيمة لا جدوى منها.
قد يكون بالامكان معارضتنا هنا، والقول بأننا اخترنا نموذجا سيئا، حين اتجهنا شطر اقتصاد فلاحي صغير يكفي نفسه بنفسه، وتنتج ببساطته المتناهية عن فقر وسائله وحجمه الصغير. إذن، لنأخذ مثلا آخر: فلنترك المزرعة الصغيرة القابعة في زاوية منسية من العالم، ولنتجه بأنظارنا نحو قمم إمبراطورية هائلة هي إمبراطورية شارلمان. هذا الإمبراطور الذي جعل من الإمبراطورية الألمانية، في بداية القرن التاسع، أقوى إمبراطورية في أوربا، والذي، لكي يوسع إمبراطوريته ويعززها، لم يرسل أقل من ثلاثة وخمسين حملة عسكرية، أدت به إلى أن يضم إلى تاجه، عدا عن ألمانيا الراهنة، كلا من فرنسا وايطاليا وسويسرا وشمالي اسبانيا وهولندا وبلجيكا. لقد عني هذا الإمبراطور عناية فائقة بالوضع الاقتصادي في أملاكه ومزارعه. بحيث أنه كتب، بخط يده، نص قانون يتألف من سبعين فقرة تتحدث عن القواعد الاقتصادية المتعلقة بمزارعه، هذا القانون هو «قانون المزارع»capitular de Villis الشهير، المتضمن في وثيقة حفظت حتى أيامنا كحلية نادرة، ونقلها إلينا التاريخ عبر غبار وتفتت الأرشيفات. إن هذه الوثيقة جديرة باهتمامنا لسببين: أولا، لأن معظم مزارع شارلمان سرعان ما تحولت إلى مدن إمبراطورية قوية… مثل إيكس، وكولونيا وميونيخ وبال وستراسبورغ وغيرها من المدن الكبرى التي كانت أصلا، مزارع تخص الإمبراطور شارل. وثانيا، لأن مؤسسات شارلمان ودساتيره الاقتصادية استخدمت كنموذج صيغت بناء عليه كل المؤسسات والدساتير العلمانية والدينية الكبرى، في بداية العصر الوسيط، والواقع أن مزارع شارلمان كانت تستعيد تقاليد روما القديمة، وتقاليد الحياة الرفيعة التي كان يعيشها نبلاؤها، ناقلة إياها إلى البيئة الخشنة التي كانت الوسط الطبيعي للنبالة الألمانية الفتية المحاربة. وعلينا أن نلاحظ أن منصوصات هذا القانون حول زراعة العنب والثمار والخضار، والبستنة، وتربية المواشي… الخ. كانت عبارة عن انعطافة تاريخية للحضارة.
والآن، لننظر إلى هذه الوثيقة عن كثب. قبل كل شيء يصر الإمبراطور على ضرورة خدمته بشكل نزيه، وعلى ضرورة العناية برعاياه لكي يتجنب هؤلاء مكاره البؤس والفاقة، فيجب عدم إرهاقهم بعمل يفوق قدرتهم، فإذا اضطروا للعمل ليلا، ينبغي التعويض عليهم. بيد أن على الرعايا، من جهتهم، أن يعنوا، بإخلاص وولاء، بالعنب، وبوضع النبيذ المضغوط في الزجاجات لكيلا يفسد. فإذا ما أخلوا بالوفاء بواجباتهم، ينبغي معاقبتهم بضربهم «على ظهورهم أو على أجزاء أخرى من أجسادهم». وينص الإمبراطور أيضا في قانونه على ضرورة تربية النحل والأرز في أملاكه، وعلى ضرورة إبقاء الماشية في أحسن حال لتتمكن من الإنجاب، وكذلك يجب أن توجه عناية فائقة لزيادة عدد الأبقار، والخراف، والأفراس وغيرها من الحيوانات الأليفة.
ويضيف الإمبراطور: أننا نود أن نستغل غاباتنا بشكل معقول، وألا يكون هناك جث وإتلاف للحراج، وأن لا يعمد أحد إلى قتل الصقور والباز. ويجب أن تربى الإوزات السمينة والدجاجات وتكون تحت تصرفنا، ويجب أن يباع في الأسواق بيض غير مستهلك بعد. وفي كل واحدة من مزارعنا ينبغي أن يكون ثمة احتياطي من الأغطية والمرتبات والأدوات، لكيلا يضطر أحد إلى الاقتراض من الآخر. ويطلب الإمبراطور أيضا مده بالحسابات الصحيحة حول عائدات أملاكه، وحول كمية ما ينتج من كل مادة، وسمى تلك المواد على النحو التالي: خضار، زبدة، جبنة، عسل، زيت، خل، لفت (وغيرها من الأشياء الصغيرة). عدا هذا ينص الإمبراطور على أن يكون ثمة في كل مزرعة عدد كاف من مختلف الحرفيين المتخصصين في كافة الأمور الفنية، ويعدد بعد هذا، بالتفصيل، مختلف أنواع الحرف. ثم يحدد يوم «الميلاد» بأنه آخر موعد ينبغي أن تقدم له قبله، بشكل سنوي، حسابات ثروته (بشكل يبدو معه أن كل فلاح ولو كان فقيرا، عليه أن يكون عارفا ومدركا للعدد الصحيح لما عنده من ماشية وبيض، وكذلك حال الإمبراطور). وتؤكد المادة الثانية والستين من الوثيقة على أنه «ينبغي علينا أن نعرف ما، وكم لدينا من كل مادة» ويعدد الإمبراطور من جديد: بيض، طواحين، أخشاب، مراكب، غرسات عنب، خضار، صوف، كتان، قنب، فواكه، نحل، أسماك، جلود، شمع وعسل، وخمور عتيقة وجديدة… وكافة أصناف المواد الأخرى. ثم يضيف، على سبيل مسايرة أتباعه ورعاياه الأعزاء الذين يتوجب عليهم تزويده بكل هذه المواد: «أننا نأمل ألا يبدو لكم كل هذا قاسيا، إذ أن بامكان كل واحد منكم أن يصر على الحصول عليه بوصفه سيدا داخل أملاكه.» وكذلك نجد في الوثيقة وصفا دقيقا لكيفية جمع ونقل الخمور التي تشكل، كما يبدو، مركزا لاهتمام حكومي خاص، إذ يقول الإمبراطور «يجب أن تنقل الخمور في براميل محاطة بحزامات حديدية. لا في قرب أو مطرات. وبالنسبة إلى الطحين، ينبغي نقله في عربات مزدوجة ومغطاة بالجلد، بشكل يمكنها معه أن تعبر الأنهار دون أن تفسد الطحين. وأود كذلك لو يقدم لي حساب كامل عن عدد قرون التيوس والماعز التي أملكها، وكذلك عن عدد ما يتم الحصول عليه من جلد الذئاب التي يتم قتلها سنويا. ويجب ألا ننسى ضرورة شن حرب لا رحمة فيها، خلال شهر أيار كل عام، ضد الذئاب الصغيرة». وأخيرا في الفقرة الأخيرة. يعدد شارلمان كافة الأزهار وكافة الأشجار والأعشاب التي ينبغي أن تزرع في أملاكه، كالورود والليلك، والبصل والخيار…الخ… وتنتهي الوثيقة الشهيرة بتعداد مختلف أنواع التفاح.
تلكم هي صورة الاقتصاد الإمبراطوري في القرن التاسع، التي، بالرغم من أنها تتعلق باقتصاد دولة من أغنى وأقوى إمبراطوريات القرون الوسطى، علينا أن نقر بأنها إنما تذكرنا، باقتصادها ومبادئه، بتلك الاستغلالية الزراعية التي تحدثنا عنها أعلاه. هنا أيضا، إذا شئنا أن نطرح على الإمبراطور أسئلة تتعلق بالاقتصاد السياسي، وبجوهر الثروة، وبهدف الإنتاج، وبتقسيم العمل… الخ. وسوف يحيلنا بإشارة من يده إلى جبال الحبوب والصوف والقنب، وأطنان الخمر والزيت والخل، والإسطبلات المليئة بالأبقار والعجول والخراف. بحيث أننا لكي نعرف المزيد المتعلق بأية «قوانين» سرية لعلم الاقتصاد السياسي، علينا أن ندرس ونحلل ضمن الاقتصاد حيث كل الروابط، كل الأسباب والنتائج، وحيث العمل ونتائجه أمور كلها واضحة أمام أعيننا وضوح الشمس.
هنا قد يقول القارئ بأننا أسأنا، من جدي، اختيار المثال الذي نطرح. على أي حال، يمكننا أن نستخلص من وثيقة شارلمان أن المسألة لا تتعلق هنا بالاقتصاد السياسي للإمبراطورية الألمانية، بل بالاقتصاد الإمبراطوري الخاص. بيد أننا حين نقيم تعارضنا بين هذين المفهومين، نرتكب خطأ تاريخيا بالنسبة إلى القرون الوسطى. صحيح أن شرائع الإمبراطور المذكورة تتعلق باقتصاد مزارع وأملاك الإمبراطور نفسه، غير أن الإمبراطور كان يمتلك هذه المزارع والأملاك بوصفه إمبراطورا، وليس بوصفه فردا من البشر، لقد كان الإمبراطور مالكا عقاريا لأراضيه، غير أن كل مالك كبير نبيل للأرض في القرون الوسطى، وخاصة أيام شرلمان، إنما كان إمبراطورا صغيرا، أي كان من حقه، بفضل ملكيته الحرة والنبيلة (من نبالة وليس من نبل) للأرض، أن يضع الشرائع، ويفرض الأتاوات ويقيم العدالة والقضاء بين كل القاطنين في أملاكه. إن النصوص الاقتصادية التي يذكرها شارلمان، كانت عمليا، مراسيم حكومية، كما تؤكد على هذا قوتها الذاتية: فهي تشكل واحدة من أصل 65 «مادة» وضعها الإمبراطور نفسه، وكان ينشرها بمناسبة الاجتماعات السنوية التي كان يحضرها كبار أعيان الإمبراطورية. والواقع أن النصوص المتعلقة بالفجل وبالبراميل المحاطة بالأحزمة الحديدية، إنما كانت تقوم بناء على نفس السلطة، ومكتوبة بنفس الأسلوب الذي كانت به تكتب «الشريعة الكنسية» Capitual Espiscoprum، حيث كان يحق لشرلمان أن يشد أذن عبيده طالبا منهم ألا يقسموا وألا يثملوا وألا يرتادوا أمكنة السوء، وألا يعاشروا النسوة، وألا يبيعوا القرابين المقدسة بأسعار غالية. إن بامكاننا أن نبحث أنى شئنا في زحمة القرون الوسطى، ولكن عبثا، لأننا لن نلمح أثرا لمؤسسة اقتصادية لا تكون مؤسسة شارلمان هي قدوتها ونموذجها، سواء أفي أملاك النبلاء، أم في الاستغلاليات الفلاحية الصغيرة، كتلك التي وصفناها أعلاه، والتي تعيش فيها أسر فلاحية معزولة، تعمل لنفسها بنفسها، أو جماعات تعاونية.
المدهش في النموذجين الواردين أعلاه، هو أن حاجات الوجود البشري هي التي تقود وتملي، بشكل مباشر، نمط العمل، بحيث أن النتيجة تتلاءم تماما مع النوايا والاحتياجات، وتجري الأمور ضمن شروط ذات بساطة ووضوح مذهلين. فالفلاح الصغير في مزرعته، تماما مثل العاهل الكبير في أملاكه، يعملان تماما ما يودان الحصول عليه عن طريق الإنتاج. غير أنه ليس في الأمر من سحر: فالاثنان إنما يريدان سد حاجات الإنسان الطبيعية من الغذاء والشراب والثياب، وبعض شؤون الحياة الأخرى. أما الفارق الوحيد فهو أن الفلاح ينام، دون أي ريب، على القش، بينما الملاك العقاري الكبير فوق فراش من ريش النعام، والفلاح يشرب إلى المائدة بيرة أو شيئا يشبهها، بينما يشرب الملاك الكبير، خمورا ثمينة. إن الفارق الوحيد يكمن في كمية ونوعية المواد المنتجة. بيد أن أساس الاقتصاد وغرضه الذي هو سد الحاجات البشرية، يظلان أنفسهما. مقابل العمل، الذي ينطلق من هذا الهدف الطبيعي، هناك نتيجته الواضحة. وهنا، مجددا، في عملية العمل نفسها، ثمة فوارق عديدة: فالفلاح يشتغل بنفسه. برفقة أفراد أسرته، ولا يحصل من ثمار العمل إلا على ما توفره له قطعة الأرض التي يملكها. أو حصته من الأرض المشاعية، أو بالاحرى –وبما أننا نتحدث عن فلاح القرون الوسطى المعرض لعمل السخرة والاستغلال- ما يتركه له السيد والكنيسة بعد حسم الضرائب والأتاوات والعمل المجاني. ولكن سواء أعمل كل فلاح لنفسه برفقة عائلته، أم عمل الجميع معا لحساب السيد الإقطاعي بقيادة العمدة أو المشرف الملكي، ليست نتيجة هذا العمل سوى كمية معينة من وسائل العيش بالمعنى الواسع للكلمة، أي بالضبط ما يحتاجه الفلاح للعيش، أو تقريبا، بمقدار ما يحتاج لهذا العيش.
بامكاننا، طبعا، أن ندير مثل هذا الاقتصاد في كل الاتجاهات، وأن ننظر إليه من كل جانب، وسنجد أن لا سر فيه، ولفهمه، نحن لا نحتاج لأي علم خاص، ولا لأبحاث عميقة. فالفلاح الأكثر بلادة، كان يعرف في العصر الوسيط، بم يتعلق ثراؤه، أو فقره إن كان فقيرا، وذلك خارج الكوارث الطبيعية التي كانت بين وقت وآخر، تضرب أرضه تماما كما تضرب أراضي السادة. وكان يعرف تمام المعرفة أن لبؤسه سببا بسيطا ومباشرا: فأولا، هناك ما يمتصه منه، وبدون حدود، السادة الإقطاعيون على شكل أتاوات وضرائب، وهناك ثانيا، سرقة نفس هؤلاء السادة للأراضي المشاعية والغابات والمراعي والمياه. وهذا الشيء الذي كان الفلاح يعرفه، سبق له أن قاله بصوت عال، عبر العالم بأسره، وذلك من خلال الحروب الفلاحية، كما عن طريق إشعاله للهب القاتل فوق سقوف بيوت الذين كانوا يمتصون دماءه. إن ما تكشف عنه الدراسة العلمية في هذا المجال، إن هو إلا الأصل التاريخي لهذا الوضع وسيرورة تطوره، أي أن هذه الدراسة العلمية ما هي سوى عملية البحث عن الأسباب التي أدت إلى تحول الملكيات الريفية الفلاحية الحرة القديمة، في أوربا كلها، إلى ملكيات تخص السادة النبلاء، الذين يحصلون بفضل ملكيتهم لها على الأرباح والضرائب، كما أدت إلى تحول الفلاحين القدماء، إلى جمهرة من الأتباع دافعي الضرائب، ثم بعد ذلك إلى أقنان.
غير أن الأمور تبدو مختلفة تمام الاختلاف إن نحن أمعنا النظر في أية ظاهرة من ظواهر الحياة المعاصرة. ولنأخذ، على سبيل المثال، واحدة من الظواهر الأكثر إثارة للاهتمام والدهشة، أعني الأزمة التجارية. لقد سبق لنا جميعا أن عايشنا أزمات تجارية وصناعية كبيرة، بحيث بتنا نعرف، عن طريق التجربة، وتيرة تلاحقها، التي وصفها فرديرك انجلز، وصفا كلاسيكيا. إذ قال:
«تتوقف التجارة، وتزدحم الأسواق، وتتراكم البضائع بكميات هائلة لا طريق لبيعها، ويختفي النقد السائل، كما يختفي التسليف، ثم تتوقف المصانع، وتفقد جماهير العمال وسائل عيشها. لمجرد أنها كانت قد أنتجت الكثير من هذه الوسائل، بعد هذا تتالى التفليسات اثر التفلسيات، كما تتالى عمليات البيع القسري. ويستمر هذا الانسداد القاسي سنوات طويلة، حيث تتدمر القوى المنتجة والمنتجات بشكل إجمالي، حتى الوقت الذي تمتص فيه السوق فائض البضائع المتراكمة، أي حتى الوقت الذي يستعيد فيه الإنتاج والتبادل مسيرتهما، قليلا فقليلا. وبالتدريج، تتسارع الوتيرة، تصبح خببا، والخبب الصناعي يتحول إلى قفز، وهذا القفز يتزايد بدوره ليتحول إلى طراد بين الصناعة والتجارة والتسليف والمضاربة، لينتهي بعد قفزات خطيرة للغاية… ومن جديد في حفرة يكبو فيها» [21].
نحن نعلم جميعا أن مثل هذه الأزمة هي الرعب الذي يستشعره كل بلد حديث، والواقع أن للطريقة التي بها تعلن الأزمة عن قدومها، معنى ودلالة. إن بعد عدة أعوام من الازدهار والصفقات الجيدة، تبدأ الهمسات هنا وهناك: في الصحف والبورصة، حيث تسري بعض إشاعات الإفلاس المقلقة، إثر هذا يصبح لإشارات الصحف معنى واضح ومحدد، وتضحي البورصة أكثر قلقا، فيما يزيد مصرف الدولة نسبة الحسم، أي أنه يجعل من التسليف أمرا أكثر صعوبة ويحدده حتى الوقت الذي تبدأ فيه أخبار الإفلاس تهطل كالمطر الغزير. ثم ما أن تندلع الأزمة حتى يبدأ النقاش والنزاع لمعرفة المسؤول عنها. فرجال الأعمال يقولون أن المصارف هي المسؤولة بسبب رفضها القاطع لتقديم القروض، ويشاركها في المسؤولية رجال البورصة بسبب تكالبهم على المضاربة، أما رجال البورصة فيحملون المسؤولية للصناعيين، وهؤلاء بدورهم يرجعون السبب إلى شح النقد المتداول في البلد.. وهكذا دواليك.
أخيرا، تستعيد الأعمال أنفاسها، وتهرع البورصة والصحف لتسجل، بارتياح، أولى إشارات التحسن الطارئ، ويستعيد الأمل رونقه، كما يهيمن الهدوء والأمان، من جديد لفترة قادمة من الزمن. إن الملفت للنظر حقا في هذا كله هو أن كافة المعنيين، والمجتمع بأسره، ينظرون إلى الأزمة ويعالجونها بوصفها شيئا يخرج عن إرادة البشر، والحسابات البشرية، أي بوصفها ضربة قدر توجهها إلينا قوة غير مرئية، كامتحان تجريه لنا السماء، تماما مثل العواصف وهزات الأرض والأعاصير. والواقع أن نفس التعابير التي تستخدمها الصحف الاقتصادية للتحدث عن أزمة ما، تكون عادة مستعارة من هذا المجال، إذ تقول: «إن السماء التي كانت حتى الآن رحومة مع عالم الأعمال، بدأت تلبد أفقه بأسود الغيوم» أو تقول، حين يتعلق الأمر بالإعلان عن ارتفاع مفاجئ في نسبة الحسم: «أنها إشارات تنذر بهبوب العاصفة»، وبعد هذا يمكننا، حين تنجلي الأمور أن نقرأ في هذه الصحف أن «العاصفة ولت» وأن «الأفق قد أضحى وضاء». والحقيقة أن أسلوب التعبير هذا، إنما يعكس شيئا آخر عدا الافتقار إلى المخيلة لدى كتاب عالم الأعمال، بل هو نموذجي في التعبير عن الأثر الغريب، أو الطبيعي، الذي تسفر عنه الأزمة. فالمجتمع الحديث ينظر برعب إلى دنو الأزمة، وهو يحني الجباه مرتجفا تحت لسع ضرباتها، ثم ينتظر انتهاء التجربة، ليرفع بعدها رأسه، أولا بتردد وشك، ومن ثم بيقين ليعود إليه هدوؤه.
لقد كان موقف الشعب، هو نفسه ودون أي ريب، في العصر الوسيط تجاه المجاعة أو الطاعون، ونفس هذا الموقف كذلك هو الذي يقفه الفلاح، اليوم، تجاه العاصفة أو هطول الثلوج في غير أوانها: إنه يشعر بنفس الارتباك، وبنفس العجز في مواجهة التجربة القاسية. ولكن، وبالرغم من أن المجاعة والطاعون يعتبران، في التحليل الأخير، ظاهرتين اجتماعيتين، هما أولا، وبشكل مباشر، نتيجتان لظواهر طبيعية معينة: محصول سيء، انتشار الميكروبات المعدية… الخ. إن العاصفة حدث بديهي تنتجه الطبيعة، بحيث لا يمكن لأحد أن يثير عاصفة أو يمنعها، وعلى الأقل ضمن الوضع الراهن لعلوم الطبيعة والتقنيات. ولكن، في المقابل، ما هي الأزمة الحديثة؟ تتقوم الأزمة الحديثة كما نعرف، في أن بضائع كثيرة تنتج دون أن تجد لها أسواقا، مما يؤدي إلى انسداد التجارة ومن ثم الصناعة. غير أن إنتاج البضائع وبيعها، التجارة والصناعة.. كلها علاقات بشرية صرفة. فالبشر أنفسهم هم الذين ينتجون، وهم أنفسهم الذين يشترون، أي أن التجارة تمارس بين إنسان وآخر، بحيث أننا لا نجد، ضمن الظروف التي تؤدي إلى الأزمة الحديثة، أي عنصر يكون خارج نطاق النشاط البشري. إذن، فإن العامل الذي يؤدي إلى حدوث الأزمات بشكل دوري. ما هو سوى المجتمع البشري.
ومع هذا، نحن نعلم في الوقت نفسه بأن الأزمة تعتبر آفة حقيقية بالنسبة إلى المجتمع الحديث، ينتظرها ذوو العلاقة برعب، ويتحملونها بيأس، بحيث أن ما من شخص يردها أو يتمنى حصولها. فالأزمة تشكل خطرا وإرباكا للعالم بأسره بحيث لا يستفيد منها أحد، اللهم إلا بعض مضاربي البورصة الذين يحاولون الاستفادة من الأزمات لكي يثروا سريعا على حساب الآخرين، لكنهم غالبا ما يقعون في الفخ الذي ينصبونه.
إذن، لا أحد يريد الأزمة… لكنها تحدث مع هذا.
الناس هم الذين يخلقونها بأنفسهم، لكنهم مع هذا لا يريدونها على الإطلاق.
ها نحن إذن أمام لغز حقيقي من ألغاز الحياة الاقتصادية، لا يمكن لأي واحد من المعنيين بالأمر أن يفسره لنا. ففلاح العصر الوسيط، في قطعة أرضه الصغيرة، كان ينتج، من جهة، ما كان يبتغيه وما كان يحتاج إليه سيده الإقطاعي، من جهة أخرى ما كان يبتغيه وما كان يحتاج إليه هو نفسه: من الحبوب ومن لماشية، ومن المؤن له ولعائلته. والملاك الكبير في العصر الوسيط كان يرغم الفلاحين على أن ينتجوا له ما يريده وما يحتاج إليه من الحبوب ومن الماشية، ومن أفضل الخمور والألبسة، ومن المؤن والكماليات له ولقصره. أما المجتمع الحديث فهو ينتج ما لا يحتاجه وما لا يريده: إنه ينتج الأزمات، وهو ينتج، بين وقت وآخر، وسائل عيش لا يستخدمها، في نفس الوقت الذي يقاسي فيه من مجاعات دورية، وفي نفس الوقت الذي تكون ثمة فيه مخازين هائلة من المنتجات غير المباعة. إن الحاجة وسد الحاجة، هدف العمل ونتيجته، لم يعودا واردان هنا على هذا النحو، إذ بات ثمة بينهما شيء ما غامض، سري.
فلنأخذ مثالا آخر معروفا عالميا، بل ومعروفا كثيرا من قبل عمال كافة البلدان: البطالة.
لم تعد البطالة، كالأزمة، إعصارا يهبط من وقت لآخر فوق هامة المجتمع: لقد أضحت اليوم، كثيرا أو قليلا، ظاهرة دائمة من ظواهر الحياة الاقتصادية. ففئات العمال الأفضل تنظيما والأحسن أجرا، والتي تحتفظ على الدوام بلوائح تضم أسماء وأعدادا العاطلين عن العمل، تلاحظ حلقة لا تنتهي من الأرقام السنوية والشهرية بل الأسبوعية، صحيح أن هذه الأرقام كثيرة التنوع، غير أنها لا تختفي أبدا اختفاء تاما. فالواقع أن عجز المجتمع الحديث أمام البطالة، هذه الآفة الهائلة التي تصيب الطبقة العاملة، يظهر كل مرة كيف أن حجم هذا الشر يصل إلى أبعاد تضطر معها الأجهزة والهيئات التشريعية إلى الاهتمام الجدي بالمسألة. غير أن هذا ينتهي –على الدوام- بعد مناقشات طويلة، إلى اتخاذ قرار يقضي بالقيام ببحث حول عدد العاطلين عن العمل. أي أنه يكتفي، جوهريا، بقياس المستوى الذي بلغه هذا الشر –تماما كما يقاس مستوى منسوب المياه أثناء حدوث العصارات!-، وفي أفضل الحالات يصار على التخفيف من آثار هذا الشر، بعض الشيء، عن طريق بعض المساعدات الخاصة التي تقدمها الدولة للعمال العاطلين –وغالبا ما تكون على حساب العمال غير العاطلين عن العمل-، دون أن تجري أية محاولة لإزالة الشر نفسه.
في بداية القرن التاسع عشر، كان الراهب الانغليكاني «مالتوس»، نبي البرجوازية الإنكليزية الكبير، قد أعلن بقسوة أن «أي شخص يولد في مجتمع يعرف فائضا في السكان، لا يحق له الحصول على أي مقدار من الغذاء، إذا لم تكن أسرته قادرة على تزويده بوسائل العيش التي يطلبها منها، وفي حال كون المجتمع بغير ما حاجة إلى عمله، بحيث لا يكون له –في النهاية- أي شأن مع هذا العالم. فعلى مائدة الطبيعة، لا مكان له خاليا ليجلس فيه. بحيث أن الطبيعة نفسها تشير عليه بضرورة… الانسحاب، وبل وتعمل على تنفيذ حكم الضرورة هذا». إن المجتمع الرسمي الراهن، بنفاقه الساعي وراء «الإصلاحات الاجتماعية»، يرفض الآن مثل هذه الصراحة، غير أنه، في الواقع، يرغم البروليتاري العاطل عن العمل، أخيرا على «الانسحاب» من هذا العالم، إذا لم يكن –أي المجتمع- بحاجة «إلى عمله»، وهذا الانسحاب يكون بطريقة أو بأخرى، بشكل سريع أو بطيء، وهذا ما تشهد عليه، إبان الأزمات الكبيرة، الأرقام المتحدثة عن زيادة عدد المرضى، وارتفاع معدل الوفيات بين الأطفال، والجرائم التي تقترف ضد الملكيات الخاصة.
ترينا المقارنة التي لجأنا إليها أعلاه، بين البطالة والإعصار، أننا أقل عجزا في مواجهة أحداث الطبيعة العضوية، منا في مواجهة قضايانا الاجتماعية… البشرية! فالواقع أن الاعصارات الدورية التي تصيب، في فصل الربيع، شرق ألمانيا، ليست –في التحليل الأخير- سوى نتيجة حتمية لقصورنا وعجزنا في مجال «الهيدروغرافيا» -علم المياه-. والتقنية الحديثة، باتت تعطينا من الوسائل ما يكفي لحماية زراعتنا من جبروت المياه المتدفقة، بل ما يمكننا من الاستفادة من هذا الجبروت، كل ما في الأمر أن هذه الوسائل لا يمكن تطبيقها إلا على مستوى عريض، عن طريق تنظيم عقلاني ومتماسك ينبغي عليه أن يبدل حال المنطقة المصابة بأسرها، وأن يعدل –بالنتيجة- من توزيع الأراضي المشجرة والمراعي، وأن يبني السدود والهويسات والأقنية، وأن يعمد أخيرا إلى تعديل مجرى الأنهار. غير أنه من الواضح أن مثل هذا الإصلاح الهائل لن يتم، جزئيا لان الرأسماليين والدولة غير راغبين في توفير ما يلزم لمثل هذا المشروع، وجزئيا لأنه يصطدم بأكثر حقوق ملكية الأرض الخاصة تنوعا وتضاربا. غير أن لدى المجتمع الحديث من الوسائل ما يمكنه من مواجهة أخطار المياه وتدجينها، حتى ولو كان في وضع لا يؤهله لتطبيق هذه الوسائل. في المقابل، نجد أن هذا المجتمع الحديث نفسه، لم يبتكر بعد من الوسائل ما يمكنه من النضال ضد البطالة. ومع هذا ليست البطالة عنصرا، وليست ظاهرة طبيعية وليست قوة فوق-بشرية، بل هي مجرد إنتاج بشري خاضع لتقلبات الشروط الاقتصادية. وها نحن الآن، مجددا، في مواجهة لغز اقتصادي، في مواجهة ظاهرة لا يعيرها أحد اهتماما جديا، ولا يسعى أحد لاستثارتها، بوعي، ومع هذا نراها تتكرر بانتظام تكرار الظواهر الطبيعية، أي بالرغم عن كافة البشر؟
بيد أننا لسنا بحاجة إلى البحث عن ظواهر مدهشة في الحياة الحديثة، كالأزمات والبطالة، أي عن آفات أو حالات طبيعية استثنائية تشكل، كما هو الرأي السائد، استثناءات في المجرى الاعتيادي للأمور. لذا، ينبغي لنا أن نأخذ مثلا عاديا يتعلق بالحياة اليومية التي تتجدد ألوف المرات في كافة البلدان هذا المثل يتعلق بتقلبات أسعار السلع. إن أي طفل يعلم بأن أسعار كافة السلع ليست محددة وجامدة، بل هي تصعد وتهبط بين يوم ويوم، بل بين ساعة وساعة. فلنأخذ أي جريدة، ونفتحها على الصفحة التي ترد فيها أسعار المنتجات وتحركات هذه الأسعار خلال اليوم السابق، تقول الجريدة: تقلب سعر القمح عند الصباح، الحماس لشرائه ضعيف، نحو الظهر تحسن وضعه بعض الشيء، ثم عند الإقفال ارتفعت الأسعار… أو انخفضت. والشيء نفسه يقال بالنسبة إلى النحاس والحديد والسكر والزيت. كما يقال عن أسهم مختلف الشركات الصناعية، وعن سندات الدولة الخاصة، في بورصة السندات. إن تقلبات الأسعار ظاهرة متواصلة الحدوث، يومية، عادية، من ظواهر الحياة الاقتصادية المعاصرة. غير أن هذه التقلبات تؤدي يوميا، وفي كل ساعة، إلى تعديلات في وضع ثروات مالكي كل هذه المنتجات وتلك الأسهم. فليرتفع سعر القطن: على الفور ستزداد ثروة كافة تجار القطن وصانعيه الذين يحتفظون بمخزونات منه في مستودعاتهم. ولتخفض أسعاره: على الفور تخفض ثروات هؤلاء بنسبة مقابلة. أسعار النحاس ترتفع، بسرعة يزداد ثراء مالكي أسهم مناجم النحاس، تهبط أسعاره، فتهبط ثرواتهم…الخ.
وهكذا، كنتيجة لتقلبات بسيطة في الأسعار، وعلى أساس برقيات تصل إلى البورصة، يمكن لبعض الناس، أن يتحولوا إلى أثرياء كبار، خلال ساعات، أو أن يصبحوا متسولين، خلال ساعات كذلك، وفي هذه النقطة بالذات تكمن آلية المضاربة في البورصة، كما تكمن كافة الاحتيالات التي تصحبها. لقد كان بوسع مالك الأرض في العصر الوسيط أن يغتني أو يفقر، تبعا لموسم حصاد جيد أو سيء، وكذلك كان يثري، إذا كان فارسا جيدا، إن هو قطع الطريق على التجار المارين، وسلبهم ما يحملون، أو أيضا كان يثري إذا ما تمكن من أن ينهب رعاياه أكثر من المعتاد، عبر زيادة الأتاوات والضرائب… وكانت هذه الطريقة هي التي تلاقي أفضل الترحيب. اليوم، صار بوسع شخص ما أن يغتني أو يفقر دون أن يحرك اصبعا، ودون حدوث أي حادث طبيعي، ودون أن يهبه أي إنسان آخر شيئا، أو يسرق منه أي شيء. أن تقلبات الأسعار، أشبه بحركة غامضة تهيمن عليه، من وراء ظهور البشر، قوة خفية، تؤدي إلى حدوث تبدل مستمر وسريع في تقسيم الثروة الاجتماعية. وبامكاننا أن نلاحظ وتيرة هذه الحركة، تماما مثلما نلاحظ تقلبات الحرارة في ميزان الحرارة، أو حجم ضغط الهواء عن طريق البارومتر. ومع هذا نجد أن أسعار السلع وحركتها، قضية بشرية صرف، ولا تنتمي إلى السحر بأي حال من الأحوال. فما من كائن آخر غير البشر ينتج السلع بيده ويحدد لها سعرها، كل ما في الأمر أن هذه الحركة البشرية نفسهاـ تؤدي إلى ما ليس بحسبان احد، ولا يهدف إليه أحد. وكل ما يحدث أن الحاجات، هدف نشاط البشر الاقتصادي ونتيجته، لا يكونان متوافقين أحدهما مع الآخر.
مم يتأتى هذا؟
وما هي تلك القوانين الغامضة التي تتشابك من وراء ظهر البشر، بحيث تؤدي إلى نتائج غريبة تتمخض عنها حياة هؤلاء حياة البشر الاقتصادية؟
ليس بالوسع توضيح هذا كله، إلا عن طريق البحث العلمي. فنحن بحاجة، لكي نفك كل هذه الألغاز، ولكي نسبر غور العلاقات المخبوءة التي تجعل نتائج النشاط الاقتصادي للبشر لا تتطابق مع نواياهم ومع إرادتهم، أي مع وعيهم، بحاجة إلى بحث صارم وإلى أعمال الفكر، وخوض تحليلات ومقارنات معمقة. وتكمن مهمة البحث العلمي، في الكشف عن نقصان الوعي الذي يعاني اقتصاد المجتمع منه، ولسوف نحاول فيما يلي، أن نتلمس، بشكل مباشر، جذور الاقتصاد السياسي.
في رحلة حول العالم، حكى داروين عن عادات سكان «أرض النار» ما يلي:
«إنهم غالبا ما يقاسون المجاعات، ولقد سمعت قبطان السفينة التي تصطاد الفقم، المستر لوي، الذي يعرف الكثير عن سكان تلك المناطق، يعطي الوصف الرائع التالي عن أوضاع 150 واحدا من السكان المحليين، يعيشون عند الشاطئ الغربي، وهم كلهم ذوو أجسام هزيلة، وذوو عيون تنطق بالبؤس. لقد حالت سلسلة من العواصف بين نسائهم، والخروج لجمع الصدف عند الصخور، وكذلك لم يتمكنوا، رجالا ونساء من اعتلاء قواربهم للامساك بالفقم. ذات صباح اتجهت مجموعة منهم إلى حيث يبحثون عن الغذاء، خلال رحلة تستغرق أربعة أيام. لدى عودتهم. شاهدهم القبطان لوي، وكانوا منهمكين ومثخنين بالجراح، يحمل كل منهم قطعة كبيرة من لحم الحوت المقدد، أدخل في وسطها رأسه وحملها مثلما يحمل المكسيكي وشاحه حول رقبته. وما أن كومت القطع فوق بعضها حتى جاء كبير الفريق وقطعها إلى شرائح صغيرة ثم صلى عليها، وشواها خلال دقيقة، ثم وزعها على الجميع، الذين كانوا طوال هذا الوقت قد حافظوا على صمت غريب [22]».
تلكم هي حياة واحد من الشعوب الأكثر بؤسا في العالم، حيث نجد أن الحدود التي يمكن أن تمارس بينها لعبة الموازاة بين الإرادة، وبين التقسيم الواعي للاقتصاد، ضيقة للغاية. فهنا ما يزال البشر خاضعين تماما لهيمنة الطبيعة الخارجية، التي ترتبط بؤسهم أو حبورهم بها. ولكن، داخل هذه الحدود الضيقة، نجد أن التنظيم الإجمالي قائم لدى هذا المجتمع الصغير الذي لا يزيد تعداد أفراده عن 150 شخصا. فالتحسب للمستقبل وارد أولا، على شكل تقديد للحوم. وهذا القديد الممون سلفا يوزع بين الجميع حسب طقوس احتفالية معينة، حيث ينال كل واحد جزءا من عمل البحث عن الغذاء، تبعا لتخطيط معين.
والآن لنتجه شطر «الاويكوس» اليوناني، وهو نمط من الاقتصاد المنزلي العتيق، الذي يعتمد على عمل العبيد، ويشكل «عالما صغيرا» قائما بذاته. هنا في هذا المجتمع يهيمن أكبر تفاوت اجتماعي. فالشح البدائي أخلى مكانه لوفرة مربحة، ما هي سوى نتيجة للعمل البشري. غير أن العمل اليدوي، في هذا المجتمع، أضحى لعنة بالنسبة إلى البعض، بينما أضحى اللهو، امتيازا مقتصرا على البعض الآخر، والعمل نفسه تحول ليصبح ملكا للشخص الذي لا يعمل. ومع هذا، فإن علاقات السيطرة هذه، أدت بدورها إلى أكثر أنواع تخطيط وتنظيم الاقتصاد دقة وصرامة، شملت عملية العمل نفسها ومسألة توزيع المواد المنتجة. رغبة السيد هنا، هي القانون، وسوط مراقب العبيد، هو وسيلة العقاب.
في بلاط السيد الإقطاعي، في العصر الوسيط، اتخذ التنظيم الاستبدادي للاقتصاد، باكرا، سمة شريعة مفصلة وموضوعة سلفا، تحدد بوضوح وحزم، خطة العمل، وتقسيم العمل، ووظيفة وحقوق كل فرد في ذلك المجتمع. وعند عتبة تلك المرحلة التاريخية، هناك تلك الوثيقة الرائعة التي ذكرناها أعلاه (وثيقة شارلمان) والتي يهيمن عليها وضع وفرة الحاجات المادية، باعتبارها الهدف الوحيد للاقتصاد. وعند نهاية تلك المرحلة نفسها، هناك قانون الضرائب والأتاوات المظلم، الذي أملاه جشع السادة الإقطاعيين، هذا الجشع الذي أدى في القرن الخامس عشر إلى حرب الفلاحين الألمانية، والذي حول الفلاح الفرنسي، بعد ذلك بعدة قرون، إلى كائن بائس يعيش عيشة تقرب من عيشة الحيوان، لم تسحقها سوى «الثورة الكبرى» التي دعت هذا الفلاح إلى النضال في سبيل حقوقه كإنسان وكمواطن. ولكن بما أن الثورة لم تلغ البلاط الإقطاعي، كانت علاقة السيطرة المباشرة هي التي حددت بوضوح وبحزم، مجمل الاقتصاد الإقطاعي، كقدر لا يتبدل.
اليوم لا نعرف لا سادة ولا عبيدا، لا نعرف لا أسياد إقطاعيين ولا خدم. إذ أن الحرية والمساواة أمام القانون، ألغيا –شكليا- كافة العلاقات الاستبدادية، وعلى الأقل في الدول البرجوازية العتيقة، ومن المعروف أن هذه الدول هي غالبا أول من أدخل، إلى المستعمرات، نظام العبودية والرق. ولكن هنا، عندنا، حيث تعيش البرجوازية في موطنها، نجد أن القانون الوحيد المهيمن على العلاقات الاقتصادية، هو قانون التنافس الحر. ومن هنا، اختفى من حلقة الاقتصاد، كل تخطيط وتنظيم. يقينا، أننا إذا نظرنا إلى شركة خاصة منعزلة، إلى مصنع حديث أو إلى مجموعة من المصانع (مثل مجموعة كروب)، أو إلى منشأة زراعية كمنشآت أمريكا الشمالية، سنعثر على تنظيم صارم للغاية، وعلى تقسيم واضح للعمل، وعلى تخطيط مدروس قائم على الأسس والمعارف العلمية. إن كل شيء يسير هنا على ما يرام، تحت إدارة رغبة معينة، وتبعا لوعي معين. ولكن ما أن نجتاز أبواب المصنع أو المزرعة، حتى نجد أنفسنا غارقين في زحام الفوضى. فبينما نجد أن القطع العديدة المتفرقة –وكل شركة حديثة خاصة. حتى الأكثر ضخامة، ما هي سوى جزء من كل اقتصادي كبير يمتد في طول الأرض وعرضها –منظمة بشكل صارم، من المدهش أن ما يسمى بـ«الاقتصاد السياسي». أي الاقتصاد الرأسمالي العالمي، غير خاضع لأي تنظيم. ففي الكل الذي يغطي القارات والمحيطات، ليس ثمة أثر لتخطيط أو لوعي أو لتنظيم، فهنا تلعب قوى عمياء، مجهولة، متغطرسة، بمقدرات البشر الاقتصادية. إن في العالم اليوم سيدا واحدا يحكم البشرية العاملة، إنه الرأسمال. غير أن حكمه ليس أسلوب استبداد. بل أسلوب فوضى.
كان هذا هو الذي جعل الاقتصاد الاجتماعي يؤدي إلى نتائج غير متوقعة ومليئة بالألغاز في نظر المعنيين بالأمر أنفسهم، وهو الذي جعل الاقتصاد الاجتماعي يتحول، في نظرنا، إلى ظاهرة غريبة، بعيدة، مستقلة عنا، ينبغي علينا البحث عن قوانينها تماما مثلما ندرس ظواهر الطبيعة الخارجية، وتماما مثلما نبحث عن القوانين التي تحرك الحياة في المملكة النباتية وفي المملكة الحيوانية، وتؤدي إلى التغيرات التي تحصل في قشرة الأرض أو في حركة الأجسام الفضائية. إن على المعرفة العلمية أن تكشف الآن عن معنى وقواعد الاقتصاد الاجتماعي الذي لم تمل فيه سلفا أية مخططات واعية.
يمكننا أن نفهم الآن لم كان من غير الممكن، بالنسبة إلى الاقتصاديين البرجوازيين، أن يستخلصوا بشكل واضح ماهية علمهم، وأن يضعوا الاصبع على جوهر النظام الاجتماعي، نظامهم الاجتماعي، محددين انتهاءه وشيخوخته. إن إقرارهم بأن الفوضى هي العنصر الحيوي الكامن وراء هيمنة الرأسمال، معناه الإعلان القاطع عن توقف هذه الهيمنة وفنائها، ولو كان فناء مع وقف التنفيذ!
ويمكننا أن نفهم الآن لم يحاول المدافعون العلميون الرسميون عن الرأسمالية، إخفاء الحقيقية عن طريق سلسلة من الحذلقات اللفظية، عن طريق تحويل الأبصار عن لب المشكلة إلى قشرتها الخارجية، أي تحويل الأنظار من الاقتصاد العالمي إلى «الاقتصاد القومي». إن دروب المعرفة البرجوازية ودروب المعرفة البروليتارية، تختلف عن بعضها البعض منذ أول خطوة تخطى بعد عتبة المعرفة في مجال الاقتصاد السياسي، ومنذ أول سؤال جذري يطرح حول ماهية الاقتصاد السياسي، وماهية مشكلته الجذرية. وثمة علاقة خاصة تقوم بين الاقتصاد السياسي كعلم، والبروليتاريا الحديثة كطبقة ثورية، منذ أن يطرح السؤال الأول، بكل ما فيه من تجريد ولا مبالاة، حتى تخاض النضالات والصراعات الاجتماعية في عصرنا الحاضر.
ستتضح أمامنا، إذا انطلقنا من وجهة النظر التي توصلنا إليها، هذه، جملة من الأمور التي كانت تبدو إشكالية، وأول الأمور التي ستتضح تتعلق بعمر الاقتصاد السياسي، إذ يكف عن كونه مشكلة. وذلك لأن علما مهمته اكتشاف قوانين عالم الإنتاج الرأسمالي الفوضوي، لم يكن بوسعه أن ينشأ قبل ولادة نمط الإنتاج المذكور، أي قبل أن تجتمع الشروط التاريخية التي تؤدي إلى سيطرة الطبقة البرجوازية الحديثة، بشكل تدريجي وذلك عن طريق عملية تغيرات سياسية واقتصادية، تمتد على مد قرون طويلة.
من الواضح أن الأستاذ بوخر ينظر إلى ولادة النظام الاجتماعي الراهن بوصفها مسألة في منتهى البساطة، ومنفصلة عن التطور الاقتصادي السابق إلى حد بعيد. فهذه الولادة ليست، بنظر الأستاذ المذكور، سوى نتيجة لرغبة الملوك المستبدين، المنبثقة عن حكمتهم السامية، وعن هذا يقول بوخر «ليس تكون الاقتصاد السياسي، من الناحية الأساسية سوى ثمرة المركزية السياسية التي بدأت مع نهاية العصر الوسيط، مع ولادة البنى الدولتية الإقليمية، لتجد ذروتها في زمننا الراهن عبر قيام الدولة القومية الموحدة. والحقيقة أن التوحيد الاقتصادي يسير جنبا إلى جنب مع عملية إخضاع المصالح السياسية الخاصة لأهداف الجماعة. ولنلاحظ بأن الأمراء الإقليميين الأكثر قوة، هم الذين يسعون إلى التعبير عن فكرة الدولة الحديثة، بوقوفهم ضد نبلاء الريف والمدن». (وعلينا أن نلاحظ أولا أن مفهوم «الاقتصاد السياسي» حين يستعمل من قبل أستاذ برجوازي، يتحول إلى مجرد تضليل همه تغطية الإنتاج الرأسمالي-روزا لوكسمبورغ.)
ويتابع الأستاذ قائلا بأن سلطة الأمراء هي التي حققت نفس الانتصارات المذكورة في بقية أنحاء أوربا كذلك، في اسبانيا والبرتغال وإنكلترا وفرنسا وهولندا… «ويدور في كل هذه البلاد، وإن بشكل متفاوت الحجم والقوة، نفس النضال ضد قوى القرون الوسطى، ضد النبلاء الكبار في المدن والأرياف، وضد المؤسسات الدينية والعلمانية المنغلقة، إذ أن الأمر يتقوم أولا في العمل على تصفية الدوائر المستقلة التي تحول دون التوحيد السياسي. ولكن، في عمق أعماق هذه الحركة التي تؤدي إلى تشكل الحكم الأميري المطلق. يرقد المبدأ التاريخي الكوني القائل بأن ضخامة المهام التمدينية الجديدة المطروحة أمام الإنسانية، تتطلب تنظيما موحدا لكافة الشعوب، أي تتطلب جماعية للمصالح، حيوية وكبيرة، ولا يمكن لمثل هذه الجماعية أن تتطور وتنمو، إلا عبر قيام اقتصاد جماعي».
إن لدينا هنا أزهى مثال لتلك العبودية الفكر، التي تصادفها لدى أساتذة الاقتصاد السياسي الألمان. فالأستاذ شمولر ينبئنا بأن علم الاقتصاد السياسي، إنما ولد على يد الحكم المستبد الذي أصيب بغتة بمرض التنور. والأستاذ بوخر يقول بأن نمط الإنتاج الرأسمالي، كله، ليس سوى النتاج المباشر للرغبات الملكية، وللخطط الأميرية الطموحة. غير أنه من المبالغة في إسباغ الشرف على المستبدين الفرنسيين والاسبان الكبار. وعلى المستبدين الألمان الصغار، أن يخامرنا الاعتقاد للحظة، بأنهم إنما كانوا يوجهون اهتمامهم شطر «المبادئ التاريخية الكونية» التي لها علاقة بـ«مهام تمدينية للبشرية». سواء أكان ذلك في صراعهم ضد السادة الإقطاعيين عند نهاية القرون الوسطى، أم في حملاتهم الدامية المسعورة التي شنوها ضد البلاد الواطئة مثلا.
إن هذا معناه قلب الحقيقة التاريخية رأسا على عقب.
صحيح أن قيام الدول البيروقراطية المركزية الكبيرة، كان شرطا لا بد منه لقيام الإنتاج الرأسمالي، غير أن قيام هذه الدول نفسها لم يكن سوى النتيجة الحتمية لسلسلة من الحاجات الاقتصادية الجديدة، بحيث أننا لن نقترب من الحقيقة، في هذا الصدد، إلا إذا قلبنا جملة بوخر، وأوقفناها على قدميها، لنقول بأن المركزية السياسية هي، من الناحية الجوهرية، ثمرة نضوج «الاقتصاد السياسي» أي نمط الإنتاج الرأسمالي.
بالنظر إلى أن الاستبداد قد لعب دورا لا ينكر في سيرورة النضوج التاريخية تلك، لا مفر من القول بأنه إنما لعب هذا الدور، بوصفه أداة عمياء بيد الاتجاهات التاريخية، حين كان ثمة غياب شامل للأفكار التي دفعته إلى الوقف ضد هذه الاتجاهات، حين لاحت الفرصة. وكذلك مثلا حين كان المستبدون القروسطيون (نسبة إلى القرون الوسطى) يعاملون المدن، المتحالفة معهم ضد السادة الإقطاعيين، باعتبارها مجرد أدوات ضغط، سرعان ما يغدرون بها من جديد، عند أول فرصة، لما فيه فائدة الإقطاعيين. وكذلك أيضا حين كانوا يعتبرون القارة المكتشفة حديثا، بكل من وما عليها من شر وحضارات، مجرد ارض يمارسون عليها أقسى أنواع النهب والاستغلال، وذلك لهدف واحد وحيد يتقوم في ملء «خزائنهم الأميرية» بأسرع وقت ممكن. وكذلك أيضا وأيضا حين وقفوا بعد ذلك، وبشراسة، ضد وضع القانون البرلماني البرجوازي، الذي ينظم العلاقات بين السلطة «النابعة من الحق الإلهي»، وبين «الرعايا الأوفياء». بالرغم من أن هذا القانون كان لا بد منه لنمو السيطرة الرأسمالية، وضروريا ضرورة الوحدة السياسية والدول المركزية الكبيرة نفسها.
الحقيقة أن قوى أخرى، وانقلابات كبرى كانت تتحرك عند نهاية العصر الوسيط، في الحياة الاقتصادية للشعوب الأوربية، نازعة باتجاه إقامة نمط جديد للإنتاج. ولقد أدى اكتشاف أمريكا، والطرق البحرية التي توصل إلى الهند عبر جنوب أفريقيا، على اندفاعة لا شك فيها، وإلى تحول للتجارة عجلا من تحلل الإقطاع ونظام المنغلقات الحرفية في المدن. ولقد ولدت الغزوات والاستيلاء على الأراضي ونهب المناطق المكتشفة حديثا، والتدفق الفجائي للمعادن الثمينة القادمة من القارة الجديدة، وتجارة التوابل مع الهند، واسترقاق الزنوج الذين كانوا يرسلون للعمل في المزارع الأمريكية، ولد كل هذا، في أوربا وخلال وقت قصير، ثروات وحاجات جديدة. إذ سرعان ما تبدى أن المحترف الصغير (المشغل)، العضو في المنغلق الحرفي، عقبة في وجه التوسيع الضروري للإنتاج، وتطوره السريع. لذا وجد كبار التجار الحل في تجميع الحرفيين في مصانع كبيرة تقام خارج المدن، جاعلينهم بهذا ينتجون بشكل أسرع وأفضل، تبعا لأوامرهم، دون أي اهتمام بالنظم التي كان معمولا بها في المنغلقات الحرفية.
في إنكلترا، تسرب نمط الإنتاج الجديد، عن طريق ثورة في عالم الزراعة. كما أن انطلاقة صناعة الصوف في الفلاندر، أدت إلى تزاحم الطلب على الصوف، وحثت النبلاء الإنكليز الإقطاعيين على تحويل جزء كبير من أراضيهم المشجرة إلى مزارع للخراف، مما أدى بهم إلى طرد الفلاحين من مزارعهم ومن أراضيهم. وهكذا انوجدت جمهرة من العمال لا تملك شيئا، جمهرة من البروليتاريين، وضعت نفسها بتصرف الصناعة الرأسمالية في بدايتها. ولقد نحت الثورة الإصلاحية في نفس هذا المنحى، اذ صادرت ممتلكات الكنيسة التي أعطى جزء منها، وبيع جزء آخر، للنبلاء وللمضاربين، بحيث وجد فلاحوها أنفسهم كذلك مطرودين منها بأعداد كبيرة. وبهذا وجد الصناع (أصحاب المصانع) ومالكو الأرض الرأسماليون سكانا فقراء، مبلترين prolétarisés، عانوا الكثير من الاضطهاد والتشرد والسجن والتسول والسرقة والمطاردة البوليسية، قبل أن يجدوا ملجأ أمانهم كعبيد مأجورين في خدمة طبقة المستغِلين الجديدة. ثم إثر هذا، حلت في المانيفاكتورات (المصانع المعتمدة على العمل اليدوي) الثورات التقنية الكبرى ، التي أتاحت استخدام المزيد والمزيد من البروليتاريين المأجورين، غير المهرة والأخصائيين، إلى جانب أو بدلا عن، الحرفيين الماهرين.
لقد اصطدم ترسخ كل هذه الأوضاع الجديدة، ومن كل الجوانب، بالحواجز الإقطاعية، وبمجتمع يعيش بعض أكثر لحظاته تشوشا، وتمزقا. فالاقتصاد الطبيعي، المرتبط أساسا بالقطاع، وإفقار الجماهير الشعبية الخاضعة لاستغلال لا حدود له، قلصت السوق الداخلية في وجه البضائع الخارجة من المانيفاكتورات، فيما كانت المنغلقات الحرفية في المدن مستمرة في الإمساك بالعامل الأكثر أهمية للإنتاج: قوة العمل. أما جهاز الدولة فكان يلجم ويعيق كل خطوة من خطوات التجارة والإنتاج الجديدين.
بداهة، كان ينبغي على برجوازية أوربا الغربية الصاعدة، الناطق الرسمي باسم التجارة العالمية الحرة وباسم الصناعة، أن تتخلص، بطريقة أو بأخرى، من كل تلك العقبات، وإلا توجب عليها التخلي نهائيا عن مهمتها التاريخية. هذه البرجوازية، قبل أن تمزق الإقطاع خلال الثورة الفرنسية الكبرى، تعرضت له بالنقد، وانبثق العلم الجديد للاقتصاد السياسي ليصبح واحدا من الأسلحة الإيديولوجية الهامة بيد البرجوازية في نضالها ضد دولة العصور الوسطى الإقطاعية، وفي سبيل إقامة الدولة الرأسمالية الحديثة. أما النظام الاقتصادي الوليد، فلقد انعكس أول الأمر على شكل ثروة جديدة برزت بسرعة، لتغرق المجتمع الأوربي الغربي، قادمة من مختلف المصادر. لقد كانت هذه الثروة تبدو وكأنها لا تنفذ ووفيرة بشكل يفوق مناهج الإقطاع البطريركية التي تعتمد على عصر جهد الفلاحين، وهي على أي حال مناهج قد استنفذت كل مصادرها. والحقيقة أن الأصل الأكثر إدهاشا للثروة الجديدة، لم يكن نمط الإنتاج الجديد نفسه، بل الانطلاقة التجارية التي كانت قد مهدت له السبيل. وهذا ما نلحظه من خلال معرفتنا بأن الجمهوريات الإيطالية الواقعة عند شواطئ المتوسط، واسبانيا، وهي مناطق كانت أهم مراكز للتجارة العالمية عند نهاية العصر الوسيط، هي التي عرفت ظهور أولى المسائل المتعلقة بالاقتصاد السياسي، كما عرفت أولى محاولات الإجابة على هذه المسائل.
ما هي الثروة؟ من أين يتأتى ثراء الدول أو فقرها؟
تلك كانت المشكلة الجديدة، بعد أن فقدت مفاهيم المجتمع الإقطاعي القديمة، كل قيمتها التقليدية في إعصار العلاقات الجديدة. الثروة هي المال الذي به يمكن شراء كل شيء. التجارة هي التي تخلق الثروة. والدول القادرة على استيراد الكثير من الذهب. دون أن تدع شيئا منه يخرج منها، هي الدول التي تصبح أكثر ثراء. إذن على الدولة أن تشجع التجارة العالمية. والغزوات الاستعمارية، المانيفاكتورات التي تنتج المواد المصدرة، في نفس الوقت الذي ينبغي فيه عليها أن تمنع استيراد المواد الأجنبية التي تؤدي إلى خروج الذهب. تلك كانت النظرية الاقتصادية التي ظهرت في ايطاليا منذ نهاية القرن السادس عشر، وفرضت نفسها بشكل واسع في إنكلترا وفرنسا في القرن السابع عشر. ولكن مهما كانت فظة هذه النظرية، ومن الجلي أنها شكلت قطيعة عنيفة مع المفهوم الإقطاعي للاقتصاد الطبيعي، لقد كانت أول نقد جريء له، كما كانت أول محاولة لإضفاء طابع المثل الأعلى على التجارة والإنتاج السلعي والرأسمال –بشكله هذا-. لكنها كانت كذلك، أول برنامج ينظم تدخل الدولة السياسي، وينال رضى البرجوازية الفتية الصاعدة.
عما قريب تصبح الرأسمالية المنتجة للسلع، المركز العصبي والعمود الفقري للاقتصاد، حالة بهذا مكان التاجر، لكنها فعلت هذا بحذر وبطء، مرتدية مسوح المجد الأريب في دواوين السادة الإقطاعيين. لقد أعلن العقلانيون الفرنسيون في القرن الثامن عشر، بأن الذهب ليس هو الثرة، فالذهب ليس أكثر من وسيط في تجارة السلع. فبأي بلاهة وعمى يتحكمان بالناس ويجعلانهم يرون في هذا المعدن البراق أداة لسعادة الشعوب والدول! هل باماكن المعدن أن يشبعني حين أجوع، وهل بامكانه أن يقيني غائلة البرد حين أكون عاريا؟ والملك دارا، بكل خزائنه الذهبية وكنوزه، ألم يعاني يا ترى، خلال حملاته من كل ضائقات الظمأ، أو لم يعرض ذات مرة كل ذهبه، مقابل قطرة ماء واحدة؟ لا، الثروة الحقيقية هي كل حواضر الطبيعة التي تسد حاجات الكل، ملوكا كانوا أم عبيدا. وكلما كانا الشعب نائلا حاجاته، كلما أضحت الدولة أكثر غنى، إذ يكون بمقدورها فرض المزيد من الضرائب. فمن ياترى ينتزع من الطبيعة الحب الذي منه نصنع خبزنا، والخيط الذي به نحيك ثيابنا، والخشب والمعدن الذين بهما نصنع البيوت والأدوات، الزراعة! أجل… الزراعة هي مصدر الثروة الحقيقي، ليس التجارة. لذا يجب إنقاذ السكان المزارعين، الفلاحين الذين تنتج أيديهم ثروة الجميع، من البؤس، وحمايتهم من الاستغلال الإقطاعي، وإعطائهم حياة حقيقية سعيدة! (على أي حال قد يقول الرأسمالي الصناعي نفس هذا الكلام ثم يضيف: خاصة وأنهم هم الذين يشكلون مجموع مستهلكي ومشتري البضائع التي أصنعها!). ولذا يجب أن يكون كبار ملاكي الأراضي، والأسياد الإقطاعيين، هم الذين يدفعون الضرائب ويقيمون أود الدولة، خاصة وأنهم هم الذين يملكون بين أيديهم كل الثروات الزراعية! (وهنا مجددا، يهمس الرأسمالي لنفسه: أما أنا فلست بحاجة إلى دفع أية ضريبة، طالما أنني لا أنتج أية ثروة!)، حسبنا أن نحرر الزراعة، والعمل في حضن الطبيعة، حسبنا أن نزيل العقبات الإقطاعية، وعلى الفور تنبثق منابع الثروة في وفرتها الطبيعية لتكون في خدمة الشعب والدولة، وبهذا تنتشر السعادة من تلقائها في انسجام كوني أخاذ.
في هذه النظريات التي فاه بها عقلانيو القرن الثامن عشر، كان يسمع سلفا، وبكل وضوح، همس الاستيلاء على الباستيلBastille ، حيث شعرت البرجوازية الرأسمالية بنفسها ما يكفي من القوة، لإلقاء قناع المسكنة بعيدا، والبروز بعنف وقوة في مقدمة مسرح الأحداث، لتطلب من الدولة، ودون أية مواربة، أن تسير كليا وفقا لمشيئتها –أي مشيئة البرجوازية الرأسمالية-. غير أن آدم سميث، قام في إنكلترا في نهاية القرن الثامن عشر ليؤكد بأن الزراعة ليست المصدر الوحيد للثروة، بأي حال من الأحوال. فكل عمل مأجور، يمارس في إنتاج السلع، سواء في المجال الزراعي أم في المجال الصناعي، يتولى خلق الثروة! (كل عمل، قال آدم سميث في البداية، ولكن، بالنسبة إليه كما بالنسبة إلى خلفائه، الذين تحولوا ليصبحوا مجرد أبواق للبرجوازية الصاعدة، كان الإنسان الذي يعمل، هو الأجير الرأسمالي، بشكل طبيعي!) وذلك لأنه عدا عن الأجر الضروري لإعاشة العامل نفسه، لكل عامل مأجور يخلق ريعا ضروريا لإعاشة مالك الأرض، ولتزويد السيد بالربح، وهذا الربح هو ثروة مالك الرأسمال. والثروة تكون كبيرة كلما تضخمت جمهرة العمال العاملين في مشغل ما، تحت قيادة الرأسمال، والذين يكون تقسيم العمل فيما بينهم أكثر دقة وتحديدا. ذلكم هو التناسق الطبيعي الحقيقي، وتلك هي ثروة الأمم الحقيقية: فكل عمل يوفر، للعاملين، أجرا يعيشهم ويجبرهم على متابعة العمل المأجور، بالنسبة لملاكي الارض، ثمة ريع يسمح لهم بعيش هنيء، وبالنسبة لسيد المؤسسة، ثم ربح يعطيه الرغبة في متابعة مشروعه. وبهذا ينال كل واحد ما يكفيه دون اللجوء إلى الوسائل الإقطاعية القديمة. أما تشجيع «ثروة الأمم»، فيمكن في تشجيع ثروة صاحب المشروع الرأسمالي الذي يبقى كل شيء في حركة، ويستغل لنفسه ذهب الثروة، أو مصدر هذه الثروة الذي هو العمل المأجور. إذن، لتختف العقبات والحواجز البائدة المرتبطة بالأزمان القديمة! ولتقم بدلا منها المناهج السلطوية الجديدة التي تبتكرها الدولة لإسعاد الشعب: مناهج المنافسة الحرة، والنمو الحر للرأسمال الخاص، ووضع كل النظام الضرائبي وجهاز الدولة كله بخدمة المشروع الرأسمالي –عند هذا يكون كل شيء على ما يرام في أفضل العوالم الممكنة!
ذلكم هو انجيل البرجوازية الاقتصادي، بعد أن تخلت هذه البرجوازية عن أقنعتها، وعمد الاقتصاد السياسي نهائيا، بعد أن كشف عن وجهه الحقيقي. صحيح أن مقترحات الإصلاح العملية، والتحذيرات التي وجهتها البرجوازية للدولة الإقطاعية، فشلت تماما مثلما فشلت كافة المحاولات التاريخية التي قامت لسكب نبيذ جديد في قرب قديمة مثقوبة. لكن مطرقة الثروة أنجزت في أربع وعشرين ساعة، ما عجز نصف قرن من الدعوات الإصلاحية عن إنجازه. فالاستيلاء على السلطة السياسية هو الذي وفر للبرجوازية شروط سيطرتها. لقد كان الاقتصاد السياسي، جنبا على جنب مع النظريات الفلسفية والاجتماعية وقوانين الحق الطبيعي التي وضعت في عصر التنوير (الأنوار)، بل وفي الصف الأمامي من هذه النظريات، وسيلة اتخذت عبرها الطبقة البرجوازية وعيها، وكانت بهذا شرطا أساسيا لقيام التحرك الثوري. لقد تغذى الجهد الذي بذلته البرجوازية في سبيل تجديد العالم، حتى في تشعباته الأكثر دقة، عن طريق أفكار الاقتصاد القومي الكلاسيكي في أوربا. ففي إنكلترا عثرت البرجوازية على أسلحتها في ترسانة سميث-ريكاردو، لتخوض بواسطتها النضال في سبيل التبادل-الحر، الذي أعطى إشارة البدء لسيطرتها على السوق العالمية. بل وحتى إصلاحات شتاين، وهاردينرغ وشارنهورست في بروسيا، هذه الإصلاحات التي سعت لجعل الركام الإقطاعي أكثر حداثة وقابلية للبقاء بعد الضربات التي سددت إلى الإقطاعية في يينا، إنما استوحيت من نظريات الاقتصاديين الكلاسيكيين الإنكليز، بحيث كان بوسع الاقتصادي الألماني الشاب ماروتيز أن يكتب عام 1810: آدم سميث هو أقوى عاهل في أوربا، إلى جانب نابليون.
إذا نحن فهمنا الآن لم لم ير الاقتصاد السياسي النور إلا منذ نحو قرن ونصف، يصبح بالامكان الكشف عن مصيره اللاحق، انطلاقا من وجهة النظر نفسها: بما أن الاقتصاد السياسي هو علم القوانين الخاصة لنمط الإنتاج الرأسمالي، من البديهي أن وجوده ووظيفته يرتبطان بنمط الإنتاج هذا، بحيث يفقدان كل أساس لهما، ما أن يكف عن الوجود، أي أن دور الاقتصاد السياسي، بوصفه علما، سوف ينتهي حالما يخلي الاقتصاد الرأسمالي الفوضوي مكانه لنظام اقتصادي مخطط، ومنظم ومدار بشكل واع من قبل مجمل المجتمع العامل. ومن هنا يمكن القول بأن انتصار الطبقة العاملة المعاصرة وتحقيق الاشتراكية يعنيان نهاية الاقتصاد السياسي بوصفه علما. وهنا، في هذه النقطة بالذات، تقوم العلاقة بين الاقتصاد السياسي، والصراع الطبقي الذي تخوضه البروليتاريا الحديثة.
إذا كانت مهمة وغرض الاقتصاد السياسي، تفسير قوانين تكون وتطور وازدهار نمط الإنتاج الرأسمالي، فإن على الاقتصاد السياسي، بالنتيجة الحتمية، أن يسبر غور قوانين انهيار الرأسمالية، لأن هذه الأخيرة، مثلها مثل كافة الأشكال الاقتصادية السابقة عليها، ليست خالدة على الإطلاق، فكل ما في الأمر أنها تشكل مرحلة تاريخية عاربة، درجة واحدة من سلم لا ينتهي، هو سلم التطور الاجتماعي. وهنا من المنطقي أن نظرية صعود الرأسمالية، تتحول إلى نظرية لانهيارها، كما أن علم نمط الإنتاج الرأسمالي يتحول إلى أساس علمي للاشتراكية، بينما تتحول الأداة النظرية لسيطرة البرجوازية إلى سلاح في الصراع الطبقي الثوري الهادف إلى تحرير البروليتاريا.
من الواضح أن لا العلماء الفرنسيين ولا العلماء الألمان المنتمين إلى الطبقات البرجوازية قد حلوا هذا الجزء الثاني من المشكلة العامة للاقتصاد السياسي. غير أن هنالك رجلا واحدا فقط عرف كيف يستخلص النتائج الأخيرة لنظرية نمط الإنتاج الرأسمالي، ومن ثم يحدد موضعها انطلاقا من وجهة نظر البروليتاريا الثورية، وهذا الرجل هو كارل ماركس. فمع هذا المفكر الفذ، أخذت الاشتراكية والحركة العمالية الحديثة، مكانهما للمرة الأولى في ميدان المعرفة العلمية، الراسخ.
تعود الاشتراكية، بوصفها مثلا أعلى لنظام اجتماعي يرتكز على المساواة والأخوة بين البشر، وبوصفها مثلا أعلى لمجتمع شيوعي، تعود إلى ألوف السنين. فالفكرة الاشتراكية لم تكف عن الانبثاق، لدى رسل المسيحية الأوائل، كما لدى مختلف الشيع الدينية في العصر الوسيط، وإبان حرب الفلاحين ، بوصفها التعبير الأكثر جذرية عن الانتفاضة ضد النظام القائم. غير أنها –أي الاشتراكية- لم تكن، أكثر من مثل أعلى مطلوب في كافة الأزمان وفي كافة الأمكنة التاريخية، لم تكن سوى حلم جميل يراود أذهان بعض المأخوذين ذوي الحماس، كانت حلما مذهبا لا يمكن الوصول غليه، وكأنها قوس قزح الرائع المتعمشق قبة الغمام.
في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، ظهرت الفكرة الاشتراكية، لأول وهلة بقوة وإلحاح، وكانت قد تخلصت من أحلام الشيع الدينية، ظهرت هذه المرة كرد فعل للأهوال وللدمار الذي نتج عن استتباب الأمر للرأسمالية الصاعدة. بل وحتى في هذه اللحظة، لم تكن الاشتراكية بعد سوى حلم، سوى ابتكار أتت به بعض الأدمغة الجسورة. فإذا أصغينا إلى ما قاله أول رائد من رواد الانتفاضات الثورية للبروليتاريا «غراشوس بابوف»، الذي حاول، خلال الثورة الفرنسية الكبرى، أن يوطد المساواة الاجتماعية عن طريق العنف، سنجد أن العامل الوحيد الذي يركز مطامحه الشيوعية عليه، هو الظلم الصارخ الناتج عن النظام الاجتماعي القائم. وبابوف لم يسأم أبدا تصوير هذا المجتمع بأكثر الألوان قتامة، وذلك في المقالات والمنشورات المؤثرة التي كتبها، كما في مرافعته الشهيرة أمام المحكمة التي حكمت عليه بالموت. لقد كان انجيل اشتراكيته تكرارا رتيبا للاتهامات الموجهة ضد الظلم المهيمن، ضد الآلام والأهوال، وضد البؤس والضنى الذين يقاسي منهما العمال الذين تعيش على حسابهم ومن تعبهم حفنة من السادة الأثرياء المهيمنين. ويقول بابوف، أنه يكفي للمجتمع الراهن أن يستحق الضياع ويكون جديرا به، لكي يصبح بالامكان إسقاطه، شرط أن تتوفر مجموعة من الأشخاص الحازمين، الذين يستولون على السلطة ليقيموا نظام العدالة، مثلما فعل اليعاقبة Les Jacobins حين استولوا عام 1873، على السلطة السياسية وأقاموا النظام الجمهوري.
انطلاقا من مناهج أخرى، وبالرغم من أنها ترتكز –أساسا- إلى نفس الأسس، قامت الأفكار الاشتراكية التي دافع عنها بكثير من الذكاء والعبقرية، في ثلاثينات القرن الماضي، ثلاثة من كبار المفكرين: سان سيمون وفورييه، في فرنسا، وأوين في إنكلترا. صحيح أن ما من واحد من الثلاثة فكر بالاستيلاء على السلطة، ثوريا، لتوطيد الاشتراكية، بل العكس، فهم، تماما مثل كل الجيل الذي تلا الثورة الكبرى، ابتعدوا بأفكارهم عن أي انقلاب اجتماعي وعن أي عمل سياسي، وكانوا مجرد أنصار حازمين للدعوة السلمية البحتة. ومع هذا، كان أساس الفكرة الاشتراكية لدى الثلاثة، واحد، مشروع بسيط، يكون من ابتكار دماغ عبقري يطلب من الإنسانية المرعوبة إنجازه، لكي تنقذ من جحيم النظام الاجتماعي البرجوازي.
غير أن هذه النظريات الاشتراكية ظلت، بالرغم من حزم انتقاداتها للنظام القائم، وبالرغم من سحر مثلها العليا، ظلت عمليا دون تأثير على حركة التاريخ وصراعاته الحقيقية: فبابوف، ومجموعة أصدقائه الصغيرة، هلكوا في حمأة الثورة-المضادة، دون أن يتركوا أي أثر عدا بضعة سطور معينة في سجل التاريخ الثوري. وسان سيمون وفورييه لم يتمكنا إلا من جمع شيع من المناصرين المتحمسين المتفانين الذين سرعان ما تفرقوا مشتتين بعد أن زرعوا البذور الغنية والخصبة لأفكارهم وانتقاداتهم وتجاربهم الاجتماعية. صحيح أن أوين كان الأكثر تأثيرا على البروليتاريا، غير أن هذا التأثير سرعان متا اندثر دون أن يترك أي أثر، بعد أن أثار حماس نخبة من العمال الإنكليز في سنوات الثلاثين والأربعين.
في الأربعينات قام جيل جديد من القادة الاشتراكيين: ويتلنغ في ألمانيا، برودون ولوي بلان وبلانكي في فرنسا، وفي تلك الأثناء كانت الطبقة العاملة قد استأنفت، من جهتها، النضال ضد سيطرة الرأسمال. كانت الانتفاضات التي قام بها نساجو «ليون» في فرنسا، والشارتيون في إنكلترا، قد أعطت إشارة البدء للصراع الطبقي. ولكن، مع هذا لم تكن هناك أية علاقة مباشرة بين هذه النضالات التي تقوم بها الطبقة المستغَلة وبين مختلف النظريات الاشتراكية. إذ لم يكن لدى البروليتاريين الثائرين، أي هدف اشتراكي قائم نصب أعينهم، هذا بينما لم يكن المنظرون الاشتراكيون يسعون إلى ترسيخ أفكارهم، عن طريق النضال السياسي الذي تخوضه الطبقة العاملة.. كانوا يعتقدون بأن اشتراكيتهم سوف تتحقق عن طريق بعض المؤسسات الماهرة، مثل مصرف برودون الشعبي الهادف على إحداث تبادل عادل للسلع، ومثل جمعيات المنتجين التي نادى بها لوي بلان. أما الاشتراكي الوحيد الذي اعتمد النضال السياسي، كوسيلة لتحقيق الثروة الاجتماعية، فهو أوغست بلانكي: كان بلانكي المدافع الوحيد الحقيقي عن البروليتاريا ومصالحها الثورية الطبقية في تلك المرحلة. غير أن اشتراكيته لم تكن سوى مشروع لإقامة جمهورية اجتماعية، يمكن تحقيقه في «أية لحظة عن طريق الرغبة الحاسمة لأقلية ثورية».
إن عام 1848 هو الذي سيشهد ذروة، وكذلك أزمة، الاشتراكية القديمة بكافة تنويعاتها. في ذلك العام كانت البروليتاريا الباريسية، بتأثير من تقاليد الصراعات الثورية السابقة، وبدافع من بعض المنظومات الاشتراكية، كانت متعلقة بأفكار مشوشة تحكي عن العدالة الاجتماعية. وهكذا ما أن تم إسقاط الملك البرجوازي لوي فيليب، حتى استغل العمال الباريسيون، موقعهم القوي، ليطالبوا البرجوازية المرعوبة بتحقيق فكرة «الجمهورية الاجتماعية» وإقامة «تنظيم جديد للعمل». ولإنجاز هذا البرنامج، أعطت البروليتاريا الحكومة المؤقتة، مهلة الثلاثة أشهر الشهيرة. التي ذاق خلالها العمال مرارة الجوع في انتظارهم، فيما كانت البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، تنسلخان سرا، وتسعدان لسحق العمال. ولقد انتهت الأشهر الثلاثة بالمعارك الشهيرة التي سميت «معارك حزيران»، وأسفرت عن إغراق المثل العليا المتعلقة بـ«الجمهورية الاجتماعية الممكن في أي وقت تحقيقها»، في بحر تكون من دماء البروليتاريا الباريسية. وهكذا لم تؤد ثورة 1848 إلى توطيد العدالة الاجتماعية، بل أدت إلى سيطرة البرجوازية سياسيا، كما إلى انطلاقة عاشها الاستغلال الرأسمالي أيام الإمبراطورية الثانية، لم يكن التاريخ قد عرف لها مثيلا من قبل.
في نفس اللحظة التي بدأ فيها أن اشتراكية المدارس القديمة قد دفنت على الأبد تحت أنقاض متاريس حزيران، كن ماركس وانجلز يقيمان أساس الفكرة الاشتراكية فوق بنيان جديد كليا. فهما لم يبحثا عن نقاط إسناد للاشتراكية، لا في الإدانة الأخلاقية للنظام الاجتماعي القائم، ولا في اكتشاف مشاريع مبتكرة ومغرية، يهربا من خلالها العدالة الاجتماعية إلى داخل النظام الراهن. لقد يمم ماركس وانجلز أنظارهما شطر دراسة العلاقات الاقتصادية في المجتمع المعاصر. هنا، في قوانين الفوضى الرأسمالية اكتشف ماركس، المنطلق الحقيقي للطموحات الاشتراكية. وكان الكلاسيكيون الفرنسيون والإنكليز، في مجال الاقتصاد السياسي، قد اكتشفوا القوانين التي يحيا عليها الاقتصاد الرأسمالي، وبها يتطور، وبعدهم بنصف قرن، استأنف كارل ماركس أعمالهم، ابتداء من النقطة التي توقفوا عندها. لقد اكتشف بدوره أن قوانين النظام الاقتصادي المعاصر، تعمل باتجاه ضياع هذا النظام، عبر تهديدها المتزايد للمجتمع عن طريق نمو الفوضى، وعن طريق سلسلة مترابطة من الكوارث الاقتصادية والسياسية. إنها، كما يبرهن ماركس، الاتجاهات التطورية لسيطرة الرأسمال، وهي اتجاهات ما أن تصل إلى نقطة نضوج معينة، حتى تجعل من الضروري العبور إلى نمط اقتصاد مخطط بطريقة واعية، ومنظم من قبل مجموع المجتمع العامل، لكي لا يغرق المجتمع، ومعه الحضارة الإنسانية كلها في ترهات الفوضى. إن الرأسمال نفسه هو الذي يعجل من دنو أجله، عبر تجميعه، في تجمعات أكبر وأكبر، دافنيه القادمين: البروليتاريين، وعبر امتداده في كل بلدان الكوكب الأرضي، وعبر إقامة لاقتصاد عالمي تسوده الفوضى، وعبر خلقه –على هذا النحو- لأسس تجمع بروليتاريا كافة البلدان، في قوة ثورية عالمية، تعمل على كنس هيمنة الطبقة الرأسمالية. وبهذا تكف الاشتراكية عن كونها مشروعا، وحلما رائعا، أو تجربة يتم الوصول إلى تحقيقها عن طريق القوة، بواسطة بضع تجمعات عمالية معزولة هنا وهناك. إن الاشتراكية، أي البرنامج المشترك للعمل الثوري للبروليتاريا الأممية، هي ضرورة تاريخية، لأنها ثمرة الاتجاهات التطورية للاقتصاد الرأسمالي.
الآن بامكاننا فهم السبب الذي جعل ماركس يحدد موقع نظريته الاقتصادية، خارج الاقتصاد الرسمي ويطلق عليها اسم «نقد الاقتصاد السياسي». صحيح أن قواعد الفوضى الاقتصادية ودمارها، كما طورها ماركس، ليست سوى استمرار للاقتصاد السياسي الذي أنشأه العلماء البرجوازيون، غير أنها استمرار تتناقض نتائجه النهائية تمام التناقض مع نقاط الانطلاق التي انطلق هؤلاء منها. صحيح أن نظرية ماركس ابنة للنظرية الاقتصادية البرجوازية، غير أنها ابنة أدى مولدها إلى قتل أمها. لقد وجد الاقتصاد السياسي، لدى ماركس، إنجازه ونتيجته. أما التالي فلا يمكنه أن يكون –عدا بعض التطورات التفصيلية التي أحدثت على نظرية ماركس –سوى نقل هذه النظرية إلى مجال العمل، أي إلى ميدان النضال الذي تخوضه البروليتاريا العالمية في سبيل إنجاز النظام الاقتصادي الاشتراكي، إن نهاية الاقتصاد السياسي كعلم، هي عبارة عن عمل تاريخي ذي محمول عالمي: إنه الترجمة العملية، عن طريق الممارسة، لاقتصاد عالمي منظم تبعا لتخطيط معين. أما الفصل الأخير في نظرية الاقتصاد السياسي، فهو عبارة عن الثورة الاجتماعية التي تقوم بها البروليتاريا العالمية.
والعلاقة الخاصة بين الاقتصاد السياسي والطبقة العاملة المعاصرة، علاقة تقوم على التقابل. فإذا كان الاقتصاد السياسي، من جهة، كما طوره ماركس، يعتبر أكثر من أي علم آخر، الأساس الذي لا بديل له للتثقيف البروليتاري، فان البروليتاريا الواعية، تشكل، من جهة أخرى، المستمع الوحيد القادر على فهم النظرية الاقتصادية. كان كبزني وبواغيلير في فرنسا، وآدم سميث وريكاردو في إنكلترا، يتحدثون بفخر وحماس عن البرجوازية الفتية، وهم يراقبون بأعينهم طلل المجتمع الإقطاعي وهو على وشك التهاوي نهائيا، وانطلاقا من إيمانهم الصارم بديمومة هيمنة البرجوازية، وبتناسقها الاجتماعي «الطبيعي»، كانوا يحدقون بأبصارهم النسرية، دون خوف، في عمق أعماق القوانين الرأسمالية.
منذ ذلك الحين، تكثف وتصاعد صراع البروليتاريا الطبقي، أكثر وأكثر، وخاصة خلال انتفاضة حزيران 1848 التي قامت بها البروليتاريا الباريسية، مما أدى إلى انهيار ثقة المجتمع البرجوازي بطابعه الإلهي الخالد. فالمجتمع البرجوازي، منذ تلمس معرفة التناقضات الحديثة بين الطبقات، بات في خشية من العري الكلاسيكي الذي سبق لخالقي اقتصاده السياسي الخاص، إن أظهروه به أمام الكون قاطبة. أو ليس من الواضح اليوم، أن الناطقين الرسميين باسم البروليتاريا الحديثة إنما صاغوا أسلحتهم القاتلة انطلاقا من مكتشفات عليمة، كان دعاة الاقتصاد السياسي البرجوازيون قد توصلوا إليه بأنفسهم؟
ولهذا السبب، نجد اليوم ومنذ عقود من الزمن، أن الاقتصاد السياسي، وليس الاشتراكي فقط بل البرجوازي أيضا (إذا كان هذا الأخير علما… حقا) لا يلقي لدى الطبقات المالكة أية آذان مستعدة لسماع صوته. ودكاترتنا البرجوازيون، بسبب عجزهم عن فهم نظريات أسلافهم الكبار، أو فهم وقبول نظرية ماركس التي انطلقت من تلك النظريات لتقرع ناقوس الموت للمجتمع البرجوازي، يعرضون، تحت اسم الاقتصاد السياسي، خليطا عجيبا عبثيا مؤلفا من بقايا كافة أنواع الأفكار العلمية ملصوقة بها بعض التشويشات المغرضة، ثم لا يسعون أبدا لدراسة الأهداف الحقيقية للرأسمالية بل، بالعكس، يحاولون وضع الأقنعة فوق هذه الأهداف، لكي يدافعوا عن الرأسمالية، معتبرينها أفضل النظم الاجتماعية الممكنة، وأكثرها خلودا…
أما الاقتصاد السياسي العلمي، فلم يعد يسعى، بعد أن نسيه المجتمع البرجوازي وغدر به، للوصول إلى مستمعين آخرين عدا البروليتاريين الواعين، الذين يجد لديهم إنجازه العلمي، وليس فقط فهما نظريا له. وللاسال، أخيرا، عبارة تنطبق تماما على الاقتصاد السياسي إذ يقول: «عندما يتعانق العلم والعمال، قطبا المجتمع المتعارضان، يتمكنان من تحطيم وتمزيق كافة العقبات الواقفة في وجه الحضارة… بأيديهم…»