دراسات أمنية

مجموعة فاغنر: البداية والنهاية

بقلم/التجاني صلاح عبدالله المبارك

على مدى ثلاثة عقود تقريباً من إنهيار الإتحاد السوفياتي في عام 1991 تراجع النفوذ الروسي بشكل كبير في إفريقيا، وبحلول عام2006  اتجهت الإستراتيجية السوفياتية وقتذاك لتأكيد نفوذها وتجديده في القارة السمراء، ونتج عن تلك الإستراتيجية توقيع 19  إتفاقية عسكرية مع الأنظمة الحاكمة الإفريقية، كان الجزء الأكبر منها في مبيعات السلاح والذخائر، والتوسع في إستخدام شركات الأمن الخاصة؛ مثل مجموعة فاغنر  لتقديم الأمن للرؤساء الأفارقة ولتدريب القوات الحكومية، وسحق أي محاولات عسكرية تحاول الإستيلاء على السلطة.

 مجموعة فاغنر (بالروسية: Группа Вагнера) هي منظمة روسية شبه عسكرية، وصفها البعض بأنها شركة عسكرية خاصة (أو وكالة خاصة للتعاقد العسكري) وقيل إن مقاوليها شاركوا في صراعات مختلفة، بما في ذلك العمليات في الحرب الأهلية السورية على جانب الحكومة السورية، وكذلك في الفترة من 2014 إلى 2015 في الحرب في دونباس في أوكرانيا لمساعدة القوات الانفصالية التابعة للجمهوريات الشعبية دونيتسك ولوهانسك المعلن عنها ذاتيا. يرى آخرون بما في ذلك التقارير الواردة في صحيفة نيويورك تايمز أن فاغنر هي حقًا وحدة تتمع بالاستقلالية تابعة لوزارة الدفاع الروسية و/أو مديرية المخابرات الرئيسية متخفية، والتي تستخدمها الحكومة الروسية في النزاعات التي تتطلب الإنكار، حيث يتم تدريب قواتها على منشآت وزارة الدفاع. ويعتقد أنها مملوكة لرجل الأعمال “يفغيني بريغوجين” الذي له صلات وثيقة بالرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”.[1]

 مجموعة فاغنر غالبا ما تصف نفسها في وسائل الإعلام الغربية بأنها “مرتزقة” وهي تتألف من قدماء المحاربين المتقاعدين من خدمات أمن الدولة، الذين تتراوح أعمارهم بين 35 و55 عاما، بالإضافة إلى مقاتلين موالين لموسكو من دول الاتحاد السوفياتي السابق وكذلك من حليفتها صربيا.وبحلول ديسمبر/كانون الأول 2017، أضحى عدد عناصر مجموعة فاغنر حوالي 6 آلاف مقاتل، مقارنة بألف مقاتل بداية 2016.وتتراوح الرواتب الشهرية لأعضاء المجموعة بين 1200 و4 آلاف دولار، ويتقاضى كبار موظفيها والعاملون في الخارج بشكل عام أجورا أعلى.[2]

مع ذلك فإن مجموعة فاغنر رغم احتراف مقاتليها، لا تحظى بشرعية قانونية رسمية من روسيا لاحتكار إستخدام العنف، إذ ترى روسيا في ذلك إنتهاكا واضحا للدستور الروسي، ومخالفة لأحكام المادة 359 من قانونها الجنائي التي تجرم وتحظر الارتزاق.

حاول عدد من أعضاء مجلس النواب الروسي بداية من عام 2009 تمرير تشريعات تقنن عمل الشركات العسكرية الروسية لكنها لم تحظ بالموافقة. وفي مارس 2018 رفض مجلس الوزراء الروسي (بما في ذلك وزارات الدفاع والعدل والمالية، الحرس الوطني، وجهاز الأمن الفيدرالي، وجهاز الاستخبارات الخارجية، والمدعي العام) النظر في إضفاء الشرعية على فاغنر أو الشركات العسكرية الخاصة الأخرى، بحجة أن سلوك “المرتزقة” ينتهك الدستور الروسي وأن الدولة وحدها هي المسؤولة عن الدفاع والأمن. ويعزى عدم تقنين نشاط تلك الشركات إلى عقبات ببيروقراطية من طرف جهات نافذة في مقدمتها الجيش الروسي ترى ضرورة احتفاظ الدولة باحتكار استخدام العنف، فضلا عن وجود تضارب في المصالح بين وكالة الأمن الفيدرالي (FSB) وجهاز الاستخبارات العسكرية (GRU) فيمن يخص من له حق الإشراف على نشاط تلك الشركات.وأخيرا، تعتبر موسكو أن الشركات العسكرية والأمنية الخاصة أكثر فائدة طالما أنها غير مقننة. فبهذه الطريقة، يسهل على السلطات الروسية التنصل من المسؤولية عن أنشطتها[3]

وفي مقابل الخدمات الأمنية التي تقدمها فاغنر لأنظمة الحكم الديكتاتورية والهشة في إفريقيا مثل حماية النظام الحاكم وسحق أي محاولات للإستيلاء على السلطة، فإن الإستراتيجية  الروسية لا يغيب عنها المصالح والثروات التي تذخر بها القارة السمراء، مثل النفط والذهب واليورانيوم والليثيوم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى والسودان، فضلا عن صد تمدد الدول الغربية والولايات المتحدة.

على صعيد التنافس بين موسكو وواشنطن على الموارد الأفريقية، تقول دراسة بمعهد بروكنغز الأميركي، إن روسيا تستهدف عبر الدور الذي تلعبه مجموعة “فاغنر” في السودان وأفريقيا ضرب النفوذَين الأوروبي والأميركي في القارة الأفريقية. ومعروف أن “فاغنر” تعرقل نجاح الثورات والتحول الديمقراطي وبسط سيادة القانون في أفريقيا والمحيط العربي، كما هي الحال في السودان وليبيا.وفي استراتيجيته الأفريقية، وحسب معهد بروكنغز، تسعى موسكو إلى محاصرة النفوذَين الأميركي والأوروبي في أفريقيا وتضع ذلك على جدول “أولويات السياسة الخارجية لروسيا”. ولتحقيق هذا الهدف، تسعى موسكو إلى إنشاء أنظمة عسكرية تديرها مليشيات أو سلطات عسكرية أفريقية تعتمد على حماية مجموعة “فاغنر” أمنياً للنظم العسكرية، مقابل الحصول على عقود مناجم الذهب واليورانيوم والمعادن الرئيسية الأخرى التي تخدم مصالح روسيا في السباق على النفوذ العالمي.[4]

ولأن دول غرب إفريقيا يتواجد بها مخزون ضخم من المعادن النفيسة والمهمة، مثل اليوارنيوم  في النيجر والذهب في السودان  ومالي، فقد وظفت روسيا مجموعة فاغنر للاستيلاء على تلك المعادن بموجب تعاقدات واتفاقيات مع السلطات الحاكمة.

 تعد مالي رابع أكبر مصدر للذهب في أفريقيا، كما تمتلك احتياطيات كبيرة من النفط والمنغنيز واليورانيوم والليثيوم، وهو معدن يستخدم في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، وذلك وفقا لوزارة التجارة الأميركية وهيئة المسح الجيولوجي الأميركية.[5]

وفي مقابل حماية الأنظمة الإفريقية من أي عدوان أو محاولات انقلابية قد تتعرض لها، فإن بعض الحكومات الإفريقية كانت تلجأ لهذه الميلشيات المتخصصة في الحروب وتوفير الحماية اللازمة، غير مراعية لثروات ومعادن البلاد والمحافظة عليها باعتبارها أمنا قوميا وحقا أصيلا لكافة الشعب!  

 لاحظت دراسات غربية أن روسيا وبعض الدول المتنافسة على الموارد الطبيعية في أفريقيا، عمدت إلى إنشاء المليشيات العسكرية لخدمة مصالحها في أفريقيا، وجرى ذلك عبر دعم هذه المليشيات الانقلابات العسكرية والحكومات الديكتاتورية الهشة، التي هي بحاجة للحماية من الجماهير الغاضبة من حكامها الطغاة.وعادة ما تمنح الحكومات الغربية هذه المليشيات والمرتزقة عقودًا لحيازة التنقيب عن المعادن الاستراتيجية شبه مجانية، ولا تراعي مصالح شعوبها، في مقابل الحصول على صفقات السلاح وعقود الحماية الأمنية.[6]

لذا فقد كان من مهام فاغنر الأساسية تأمين مناطق التعدين والمناجم التي تضم الثروات الطبيعية  مثل الذهب والماس واليورانيوم وحقول النفط،  ويستدعي ذلك التأمين إستخدام العنف والقوة المفرطة وربما تطهيرا من السكان إن إقتضى الأمر، من أجل تعزيز النفوذ الجيوسياسي ل-روسيا، إلى جانب توفير الحماية وتدريب الحرس الرئاسي كما في إفريقيا الوسطى الغارقة في الفوضى.

تقوم مجموعة فاغنر بالعديد من المهام العسكرية والسياسية والإعلامية أيضًا، فإلى جانب مشاركتها الميدانية في عمليات القتال، توفر المجموعة التدريب للأجهزة الأمنية والوحدات الخاصة المكلفة بحماية كبار الشخصيات، كما تحرس أيضًا المنشآت ومناجم الذهب والألماس وآبار النفط والموانئ كما هو الحال في ليبيا وإفريقيا الوسطى، وتشترط لذلك الانتفاع بنسبة مئوية مهمة من أرباح هذه المنشآت التي تحلم الشعوب الإفريقية بالتمتع بخيراتها.[7]

الولايات المتحدة من جانبها فرضت عقوبات على مجموعة  فاغنر ومؤسسها، حيث فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات مالية على”دميتري أوتكين” المؤسس الأول للمجموعة،  كما اتهم مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق “روبرت مول” 2018 “بريغوجين” بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016 وصنفت الولايات المتحدة أيضا فاغنر  باعتبارها منظمة إجرامية عابرة للحدود، ويرجع ذلك إلى دورها المتعاظم في الغزو الروسي لأوكرانيا.

 يمكن القول أن عدة عوامل ساهمت في البداية على نجاح مجموعة فاغنر في إفريقيا،  منها ضعف الأنظمة والديكتاتوريات الحاكمة ورغبتها في السلطة بأية وسيلة كانت حتى لو أدى ذلك إلى إفقار شعوبها، التي تعاني ظروف الفقر والمجاعات، وانتشار الأمراض وضعف البنية التحتية، والإنفجار السكاني وتردي الأوضاع الأمنية وانتشار الجريمة.

إذا كانت بدايات فاغنر تمثل انعكاساً فريداً من نوعه لروسيا بوتين، فإن نجاحها في الخارج تَحقّق بفضل ظروف عالمية محددة. فقد استغلت مجموعة فاغنر عدةٍ عوامل منها التوجه العالمي لخصخصة الحرب، والأزمة الوجودية التي تعانيها قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وفشل التدخلات الغربية في إفريقيا. ولا تمثل فاغنر حالةً شاذة في السياسة الإفريقية، لكنها تمثل -على حد وصف الباحث غراهام هاريسون- “جزءاً من ذخيرة الآليات”، التي يستخدمها الزعماء الأفارقة لإدارة غياب الاستقرار المستمر.[8]

إلا أنه من ناحية ثانية فقد مثلت ليست الحرب الروسية_الأوكرانية عاملا من عوامل عدم استقرار المجموعة في إفريقيا وحدها، لكن أيضا المقاومة التي وجدتها من الشعوب الإفريقية التي ترفض وتستنكر سرقة ثرواتها وأمنها القومي.

وعلى سبيل المثال، فإن تمرد مليشيا فاغنر وانشغالها بالحرب الروسية في أوكرانيا أضعف نفوذها في أفريقيا، حيث تمكن الجيش السوداني من ضرب قوات الدعم السريع “مليشيا حميدتي”، الذراع الأفريقية القوية للمجموعة الروسية في أفريقيا، وبالتالي خسرت روسيا تدريجياً مناجم للذهب في أفريقيا الوسطى لصالح الشركات الفرنسية.ويبدو أن موسكو في طريقها لخسارة منجم جبل عامر للذهب في السودان، وربما في المستقبل خسارة حقول النفط في شرق ليبيا، التي تسيطر عليها قوات الجنرال المتقاعد” خليفة حفتر”، التي تعتمد على دعم مجموعة فاغنر ودولة إقليمية أخرى.[9]

مع ذلك وبعد إعلان مقتل زعيم فاغنر  “يفغيني بريغوجين”   الأيام الماضية، فإن المجموعة قد تتأثر تأثرا بالغا بذلك الحدث لأن أول ما يتبادر إلى الذهن أن مصرع “بريغوجين” دبر بليل، مع الأخذ في الاعتبار محاولته التمرد في الأشهر الأخيرة، وربما دفع به “بوتين” إلى تلك النهاية، فعلى مستوى القيادة الروسية، لا تريد روسيا من ينازعها حتى وإن كانت الخدمات الأمنية والعسكرية التي تقدمها مجموعة فاغنر هي من اصعب وأخطر المهام في إفريقيا، وبما تمثله تلك المجموعة من صعود حقيقي للنفوذ الروسي موصدة الباب أمام الفواعل الأخرى، وعلى مستوى المجموعة، فإن غياب وتصفية قائدها (إذا ثبت ذلك بالفعل) ربما يؤدي إلى مزيد من الإنشقاقات والتشظي بها وربما النهاية.

المصادر:

[1]_ الموسوعة الحرة ويكيبيديا، مجموعة فاغنر، (تاريخ الدخول: 25اغسطس/آب 2023): https://tinyurl.com/2799tnm2

[2]_جنود للإيجار.. التاريخ السري لعلاقات مرتزقة فاغنر وروسيا، موقع الجزيرة نت، 24 اكتوبر/تشرين الأول 2020،(تاريخ الدخول: 25 اغسطس/آب 2023):https://tinyurl.com/2p8bs238

[3]_أحمد فريد مولانا، شركة فاغنر الروسية النشأة والدور والتأثير، المعهد المصري للدراسات، 3فبراير/شباط2021،(تاريخ الدخول: 25 اغسطس/آب 2023):https://tinyurl.com/5n6wxxzd

[4]_هكذا تسرق “فاغنر” الروسية ثروات أفريقيا وتحاصر النفوذَين الأميركي والأوروبي فيها، صحيفة العربي الجديد،4مايو/ايار،2023،(تاريخ الدخول: 25 اغسطس/آب 2023):https://tinyurl.com/yxksuwms

[5]_وول ستريت جورنال: فاغنر ترسل جيولوجيين لاستكشاف مناطق غنية بالموارد في مالي قبل التمدد إليها وطرد سكانها منها، موقع الجزيرة نت، 22 اغسطس/آب2022،(تاريخ الدخول: 25 اغسطس/آب 2023):https://tinyurl.com/5c58hz5u

[6]_هكذا يخدم تمرد فاغنر نفوذ فرنسا في أفريقيا، صحيفة العربي الجديد،26يونيو/حزيران،2023،(تاريخ الدخول: 25 اغسطس/آب 2023): https://tinyurl.com/5eerv4w2

[7]_عائد عميرة، مرتزقة فاغنر”.. سلاح روسيا لبسط نفوذها في إفريقيا، صحيفة نون بوست، 15سبتمبر/ايلول2020،(تاريخ الدخول: 25 اغسطس/آب 2023):https://www.noonpost.com/content/38300

[8]_فاغنر في إفريقيا.. هل أصبح عمر الذراع الطويلة لروسيا قصيراً؟ كلا، وهذه هي الأسباب، صحيفة عربي بوست، 10اغسطس/آب2023، (تاريخ الدخول: 25اغسطس/آب 2023):https://tinyurl.com/25ydput8

[9]_هكذا يخدم تمرد فاغنر نفوذ فرنسا في أفريقيا،مصدر سابق

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى