دراسات سياسية

السياسات العامة في ماليزيا: قراءة في أليات صنعها وخصائصها

تمثل ماليزيا واحدة من التجارب الناجحة والرائدة في مجال تصميم ، وإنجاز، وتنسيق السياسات الاجتماعية والاقتصادية بين الدول النامية ، وقد حققت تقدما ملحوظا في ميدان التنمية الاجتماعية والاقتصادية مما جعلها أي ماليزيا تلك الدولة التي تشكل الثقافة الإسلامية مورداَ أساسياً في تشكيل عقول أبناءها مسلمين وغير مسلمين أحد أبرز الدول التي صنعت نموذجها المتميز وفي خلال أقل من ثلاثة عقود تحولت من بلد زراعي فقير إلى نموذج دولة مصنعة ورغم التميز الذي تحمله التجربة الماليزية فإنها مازالت تحمل قيمها الإسلامية وأخلاقياتها الأصيلة لتجمع بين المعاصرة العلمية والأصالة الأخلاقية.

ونجاح التجربة الماليزية في مجال التنمية الشاملة يدفعنا الى التساؤل عن الأسباب التي تقف وراء ذلك النجاح بمعنى أخر أسرار النجاح الماليزي في تحقيق تقدم اقتصادي واجتماعي متميز اهلّها لأن تصبح في مصاف الدول المتطورة ، ويمكن القول هنا في هذا الجانب ان الفضل يعود الى نجاح السياسات العامة الماليزية التي جرى تطبيقها وتنفيذها على مدى عمر الدولة الذي يمتد إلى أكثر من نصف قرن ، تلك السياسات التي تمكنت من التعامل مع المشكلات المجتمعية التي يعرفها المجتمع الماليزي خاصة تلك المرتبطة منها بقضية التعددية والتنوع الأثني والعرقي وما يرتبط بها من اختلالات وتباينات ، ويسعى البحث الى دراسة موضوع السياسات العامة في ماليزيا عبر توضيح أليات صنعها والأجهزة المعنية بإعداد تلك السياسات والنتائج المتحققة منها وذلك من خلال الأجابة عن التساؤلات الأتية:

– عملية صنع السياسات العامة في ماليزيا.
– الأجهزة المعنية بصنع السياسات العامة في ماليزيا.
– أبرز نماذج السياسات العامة في ماليزيا.
– خصائص السياسات العامة في ماليزيا.

المبحث الأول : السياسة العامة :- مفهومها وأليات صنعها

حاول المعنيون من علماء السياسة والادارة العامة والاجتماع ان يربطوا مفهوم السياسة العامة بقضايا الشؤون المجتمعية العامة ومجالاتها التي تتمثل بالحاجات والمطالب والقضايا والمشكلات على الرغم من وجود تفاوت وتباين في وجهات النظر حول الاسس التي ينطلقون منها عند تعريفهم للسياسة العامة ، فهناك من عرف السياسة العامة من منظور القوة بانها من يحوز على ماذا؟ ومتى؟ وكيف؟ من خلال نشاطات تتعلق بتوزيع الموارد والمكاسب والقيم والمزايا المادية والمعنوية وتقاسم الوظائف والمكانة الاجتماعية بفعل ممارسة القوة او النفوذ والتأثير بين افراد المجتمع من قبل المستحوذين على مصادر القوة ، وهناك من عرف السياسة العامة من منظور تحليل النظام بانها توزيع القيم (الحاجات المادية والمعنوية) في المجتمع بطريقة سلطوية أمرة من خلال القرارات والانشطة الالزامية الموزعة لتلك القيم في اطار عملية تفاعلية بين المدخلات والمخرجات والتغذية العكسية ، وقسم ثالث يعرف السياسة العامة من منظور الحكومة باعتبارها تلك الوسائل المعتمدة من خلال الحكومة في سبيل إحداث تغييرات معينة داخل النظام الأجتماعي للدولة (1).

وجرى تعريف السياسة العامة بانها تعني (مجموعة المبادئ المرشدة او التي ينبغي ان تكون مرشدة عند اتخاذ القرارات في شتى مجالات النشاط القومي مثل الشؤون الخارجية وعلاقات العمل ، الانتاج الزراعي وما شبه ذلك وهي خلاصة عدة سياسات فرعية للعديد من جماعات المصالح ، وفي اللحظة التي يتم عندها تراضي وتوافق هذه السياسات والمصالح الفرعية تنشأ سياسة عامة بصدد موضوع ما)(2).

وينبغي ان يأخذ مفهوم السياسة العامة بنظر الاعتبار العناصر الخمسة التالية :(3)

1- ان السياسة العامة تجسد عملية تنسيق وتعاون بين اجهزة الدولة المختلفة سواء كانت رسمية متمثلة في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية او غير رسمية متمثلة في التنظيمات غير الرسمية مثل النقابات ووالتنظيمات المهنية وتنظيمات المجتمع المدني.
2- ان عملية التنسيق والتعاون تشمل السلطات الثلاث بطبيعة الحال.
3- ان الجهاز التنفيذي يلعب دوراً هاماً في المراحل المختلفة لصنع السياسة العامة.
4- ان السياسة العامة تعكس بطبيعة الحال المصالح العامة وبالتالي فهي على صلة وثيقة ومباشرة بالمجتمع والحياة اليومية للمواطنين.
5- ان المصلحة العامة التي تسعى الحكومة الى تحقيقها تختلف عن المصلحة الخاصة لجماعة مصلحية او نخبة سياسية معينة.
ورغم وجود تعريفات متعددة اخرى لعدد من الاساتذة والمفكرين السياسيين من العرب والاجانب خاصة بموضوع السياسة العامة الا ان معظمها يندرج في اطار ما تم تقديمه من تعريفات حسب النماذج الثلاث المذكورة اعلاه الا انه يمكن الخروج بمفهوم سلس ومناسب لمصطلح السياسة العامة ويعكس الطابع العلمي والفني لمضمون السياسة العامة ومحتواها ونتائجها ويتمثل في كون السياسة العامة (مجموعة القواعد والبرامج الحكومية التي تشكل قرارات او مخرجات النظام السياسي بصدد مجال معين ، ويتم التعبير عن السياسة العامة في صور واشكال عدة منها : القوانين واللوائح ، القرارات الادارية والاحكام القضائية)(4).

– عملية صنع السياسة العامة :
يمكن القول ان طرق صنع السياسات العامة تتعدد وتتباين بحسب تباين الأعتبارات والجهات المشاركة في صنعها ، فضلاً عن انها قد تتضمن اختياراً واعياً ومدروساً لأهداف جماعية وتتخذ تبعاً لذلك قرارات سلطوية ملزمة للجميع بعد اتخاذها صفة السياسة العامة مع ما في ذلك من صعوبة التوفيق بين اهداف ومصالح الجماعات او الفئات المتباينة المؤثرة والمتأثرة بالسياسات العامة ولمعرفة عملية صنع السياسة العامة لا بد من معرفة الخطوات التي تمر بها هذه العملية وهي(5):

1- معرفة وتحديد القضايا والمشاكل العامة الناجمة عن رغبات ومطالب المواطنين غير المجابة.
2- تحديد بدائل السياسات العامة بعد جمع المعلومات والحقائق واستشارة الجهات المعنية او ذات المصلحة الحقيقية بالمشكلة قيد الدراسة ، وتشكيل لجان على مستوى الجهاز التشريعي (البرلمان) او الجهاز التنفيذي (الوزارات) لتقصي المعلومات وسماع اراء الخبراء والمختصين من فنيين واداريين وقضاة ، ويتم تحديد مجموعة من البدائل المحتملة لتحقيق الأهداف العامة الموضوعة لها وتلبية حاجات ورغبات المواطنين في حدود الموارد المتاحة والمخصصة لكل منها.
3- اختيار السياسة المناسبة ، وفي هذه المرحلة تجري عملية مناقشة كل بديل من بدائل السياسات العامة المقترحة التي تكون على شكل برامج او مشاريع للخدمات العامة او مسودات ولوائح للأنظمة والقوانين التي يراد اصدارها لمعالجة موضوع معين ، او استثمار فرصة ما ، او تجنب تهديد معين ، وغير ذلك إذ تخضع بدائل السياسات العامة المقترحة للنقاش داخل المؤسسة الحكومية وفق دساتير الدول والمبادئ او القواعد المتعارف عليها فضلاً عن المناقشة التي تجرى حولها في المؤتمرات العامة او الخاصة بالأحزاب والجماعات المصلحية والحملات الأنتخابية ووسائل الأعلام المتنوعة ، ويؤدي هذا التفاعل الى اختيار احد البدائل المطروحة بوصفه معبراً عن السياسة العامة الأكثر قبولاً من قبل الأطراف المستفيدة والمعنية بالسياسة العامة.

– الأجهزة المعنية بصنع السياسة العامة
ويتولى صنع السياسة العامة جهات رسمية وغير رسمية ، ونعني بالجهات الرسمية الأفراد الذين يتمتعون بالصلاحيات القانونية التي تسمح لهم بالمشاركة في صنع السياسة العامة (مع الاعتراف بان بعض هؤلاء يخضعون لقادة الاحزاب او قادة جماعات الضغط) ، ويدخل ضمن صانعي السياسة العامة اعضاء المجالس التشريعية واعضاء السلطة التنفيذية والاداريين والقضاة فجميعهم ينفذون السياسات العامة ويسهمون في صنعها ولكن بطرق ودرجات متباينة(6).
ويقوم اعضاء المجالس التشريعية بالتشاور والتباحث والنقاش حول السياسات العامة المعبرة عن القضايا المعروضة عليهم من قبل الجهات المعنية ومجتمع الدولة الذي انتخبهم للتعبير عن مواقفه وارائه ، فمعظم السياسات العامة والقواعد والقوانين المهمة التي تحتاج الى النظر فيها والموافقة عليها رسميا او شكليا انما تتم من قبل هؤلاء المشرعين قبل ان تصبح قوانين نافذة ، ويختلف دور المشرعين من حيث التأثير في صنع السياسة العامة بين القوة والمحدودية تبعاً للنظام السياسي القائم في الدولة(7).

اما بالنسبة للسلطة التنفيذية التي يعمل اعضاؤها في البيروقراطية الحكومية المتمثلة في المؤسسات والهيئات واللجان والاجهزة الادارية الحكومية المتنوعة ، فانها غالباً ما تضطلع بتنفيذ السياسة العامة غير ان دورها في رسم السياسات العامة لا يمكن اخفاءه باي حال من الاحوال نتيجة الاعتماد الكبير على القيادة التنفيذية في رسم السياسات العامة وتنفيذها ، ففي بعض الانظمة الحكومية الرئاسية يجمع رئيس الجمهورية بين قيادة العملية التنفيذية وقيادة العملية التشريعية كما في الكثير من دول العالم النامية ، ويتدخل الرئيس الامريكي في الولايات المتحدة للحيلولة دون تعطيل إقرار بعض السياسات والبرامج العامة من جانب اللجان والقوى الحزبية المتنافسة في الكونغرس كما ان هناك كثير من اللوائح التي تجيز للرئيس الامريكي التدخل في صنع السياسات العامة كلائحة التجارة الخارجية التي تخوله سلطات واسعة في رفع الرسوم الكمركية المفروضة على السلع المستوردة او تخفيضها (8).

وبسبب تعدد القضايا والموضوعات التي تتطلب سياسات عامة متخصصة ورقابة عامة دائمة ولنقص الخبرة والمعلومات عند المشرعين في هذه المسائل الفنية ، غالباً ما يتم تفويض المؤسسات الادارية صلاحيات واسعة تمكنها من رسم سياسات واتخاذ قرارات مهمة لها مفعول السياسات من حيث المدى والاهمية ، وهذا ما يؤكده الاستاذ (نورمان توماس) بالقول ((انه من المتعذر في اي مجتمع صناعي متطور تمشية الامور اليومية وتسيير الشؤون العامة دون تدخل التنظيمات الادارية والبيروقراطية في صلب السياسات والقرارات المتعلقة بها))(9).

وبجانب السلطتين التشريعية والتنفيذية تمارس السلطة القضائية دوراً في صنع السياسات العامة ، وعلى الرغم من ان القضاة ليسوا سياسيين إلا انهم يشاركون مع المشرعين والتنفيذيين ومع رؤساء الدوائر الادارية في ممارسة القوة السياسية التي يتمخض عنها مسؤولية تكوين او صنع السياسات العامة وتمارس السلطة القضائية دوراً مهماً في صنع السياسة العامة وذلك عبر استخدام سلطتها في تفسير ما هو مطلوب من السياسة العامة الجديدة ومعرفة ما هو المطلوب من الناس إزاء سلوكياتهم وتصرفاتهم نحو الاولويات القضائية ، وهي تمثل ميداناً لمناقشة الاراء المختلفة التي تمثل الناس والمطبقين لتلك السياسة كما تلعب دور الوسيط بين واضعي السياسة العامة وبين مطبقيها من خلال التوضيح والتفسير السليم والقانوني للمقصود من السياسات العامة واخيراً تقويم السياسات العامة والخطط والبرامج المنبثقة عنها والنظر في سلامة التصرفات المالية والخدمات العامة(10).

والى جانب ما تم ذكره بخصوص الاجهزة والسلطات الحكومية التي تلعب دوراً في صنع السياسة العامة ، توجد هناك جهات اخر غير رسمية تشارك في التأثير على صانعي السياسات العامة ومنفذيها ومن هذه الجهات على سبيل المثال لا الحصر جماعات الضغط والاحزاب السياسية والمواطنون(الرأي العام) ، وتعمل جماعات الضعط على التأثير في الجهات المعنية بصناعة القرار عبر دفعها الى اتخاذ مواقف او قرارات لها صفة السياسات العامة لخدمة اهدافها وتحقيق مصالحها ، وتعمل جماعات الضغط والمصالح على بلورة المطالب وتجميعها وايصالها وطرح البدائل للسياسات العامة المتعلقة بها ، كما تساهم في ترشيد السياسات العامة المرسومة عبر تزويد الجهات التنفيذية بالمعلومات الواقعية عن موضوعاتهم ، اما بالنسبة للأحزاب السياسية فأن تأثيرها في رسم السياسات العامة يمكن ان يتم خارج نطاق البناء السلطوي او داخله لأن الأحزاب السياسية تقوم بأداء مجموعة من الوظائف منها بلورة المطالب والقضايا العامة التي تناقش عند رسم السياسات العامة وأثارة الرأي العام حولها ومحاولة اقناع المواطنين بتبني المواقف التي تتخذها الأحزاب للضغط على الحكومة ، كما انها تعد من وسائل الرقابة السياسية على النشاط الحكومي ، وتتميز الأحزاب السياسية عن جماعات الضغط والمصالح في تبنيها ومناصرتها للمواقف والسياسات التي تتسم بالنفع العام بينما تهتم جماعات الضغط والمصالح بالقضايا الصغيرة المتعلقة بمصالح اعضاءها الخاصة(11).

اما بالنسبة للرأي العام ودوره في صنع السياسة العامة فيمكن القول ان لمطالب ورغبات الأفراد(المواطنين) مكانة وموقفاً مؤثراً في صنع السياسات العامة عبر طريقين اولهما ما يفرضه الرأي العام على النشاطات والتصرفات الحكومية من قيود او حدود في صنع وتنفيذ السياسة العامة وثانيهما الخوف الذي يسيطر على بعض صانعي السياسات العامة ومنفذيها من اتخاذ قرارات ومواقف يتوقع ان لا تحظى بتأييد او مساندة الرأي العام ، ويمكن القول هنا ان المواطنين لا يصنعون السياسات العامة من جهة وليسوا بعيدين عنها من جهة اخرى فاتجاهات الرأي العام وتوقعاته حول كيفية مواجهة بعض القضايا الأساسية لا يمكن اهمالها من قبل صانعي السياسات العامة بل انها تعد الأطار العام الذي يفترض ان يتحرك ضمنه هؤلاء فهو يحدد ما هو مقبول وما هو غير مقبول وما هو ناجح وما هو فاشل من قرارات او سياسات وخصوصاً بعد تنفيذ تلك السياسات(12).

المبحث الثاني :- السياسات العامة في ماليزيا
عرفت ماليزيا تنوعاً عرقياً واثنياً كبيراً بسبب ما تعرضت له تركيبتها السكانية من تبديل على يد الأستعمار الأنكليزي ، ورغم ان هذا التنوع والتعدد انطوى في بعض جوانبه على عوامل التفتت والأنقسام ومثل عقبة في مرحلة من مراحل بناء الأمة والدولة (التوترات العرقية عام 1969) إلا ان الحكومات الماليزية نجحت في تحقيق الوحدة الوطنية وبشكل جعل ماليزيا نموذجاً يحتذى به من باقي دول العالم ويعود الفضل الى إتباع سياسات عامة ناجحة ورشيدة تهدف الى خدمة المواطن الماليزي وسنعمد في هذا المبحث الى بحث عملية صنع السياسات العامة في ماليزيا.

اولاً: لمحة عن التاريخ السياسي لماليزيا
تقع ماليزيا في قلب منطقة جنوب شرق اسيا شمال خط الأستواء بين (1-7) شمالاً و(100-119) شرقاً ، وتتألف من اقليمين رئيسيين يفصل بينهما (750) كم من بحر الصين الجنوبي ، فمن جهة الغرب يوجد هناك اقليم شبه جزيرة الملايو(او ما يطلق عليه ماليزيا الغربية) وتبلغ مساحته (131.573( كم مربع ، ومن جهة الشرق يوجد هناك اقليم صباح وسرواك على الساحل الشمالي والشمالي الغربي لجزيرة بورنيو وتبلغ مساحة صباح وسرواك (73.711) كم مربع و(124.449) كم مربع على التوالي ، وتشترك شبه جزيرة ماليزيا في حدود برية مع تايلاند من جهة الشمال وحدود بحرية مع سنغافورة من جهة الجنوب ، في حين تحاذي صباح وسرواك اقليم كاليمنتان كما تشترك صباح بحدود بحرية مع الفليبين ، وتقع بروناي في الساحل الشمالي الغربي لاقليم سرواك(13).
ويؤشر التاريخ السياسي لماليزيا انها خضعت للهيمنة البريطانية منذ منتصف القرن التاسع عشر ، ففي عام 1867 اعلنت بريطانيا ضم المراكز الساحلية والجزر مثل سنغافورة وبينانج وملقا للتاج البريطاني ، وفي عام 1874 تم توقيع اولى سلاسل المعاهدات بين بريطانيا وحكام السلطات (مع سلاطين بيراك وسيلانجور ونيجري سيمبلان وبينانج) وبموجب تلك المعاهدات قبل السلاطين الحماية البريطانية والخبراء الأنكليز لقيادة وادارة السلطات ، وعملت بريطانيا على استغلال ثروات البلاد خصوصاً بعد اكتشاف رواسب القصدير الغنية وإدخال زراعة اشجار المطاط كمحصول همهم جديد الى اقتصاد البلاد ، وجلب الثراء مشكلات اجتماعية معينة فاهل الملايو كانوا فلاحين بالطبيعة والوراثة ويعشقون زراعة حقولهم الصغيرة ولذلك لم يظهروا ميلاً لأحتراف مهنة اخرى غير الزراعة وهو ما دفع الحكام الأنكليز لجلب عمالة اجنبية للعمل في مزارع المطاط ومناجم القصدير فوفدت افواج من الهنود لحقول المطاط وجماعات من الصينيين تلو الأخرى لأستخراج القصدير ، وبدا الفرق واضحاً بين اهالي الملايو البسطاء والقانعين وبين الوافدين وخاصة الصينيين الذين اصابهم الثراء ورغم استياء الملايو إلا انهم عاشوا مع الأجانب في وئام تحت سيطرة الأستعمار البريطاني(14).

وحصلت ماليزيا على استقلالها عن بريطانيا عام 1957 بعد فترة طويلة من خضوعها للأستعمار البريطاني المباشر الذي قرابة قرنين من الزمان ، وفي عام 1963 تشكل اتحاد ماليزيا (وهو اتحاد فيدرالي عاصمته كوالالامبور) وتألف من(15):-
– اتحاد الملايو الذي تألف بدوره من (11) امارة وسلطنة هي : جوهور ، ملقا ، نيجري سيملان ، سيلانغور ، بيراك ، بينانغ ، قداح ، ترينجانو ، باهانغ ، كيلانتان ، برليس.
– ولاية صباح التي كانت تعرف باسم بورنيو الشمالية.
– ولاية سيراك.
– سنغافورة.
وواجه الأتحاد الجديد ردود فعل قوية من الفليبين واندونيسيا بشكل خاص ، وجاءت معارضة الفليبين لأتحاد ماليزيا من واقع مطالبها بجزء من اقليم بورنيو ، اما معارضة اندونيسيا لقيام ماليزيا فتنبع من إدراك اندونيسيا بأن اقامة اتحاد ماليزيا كان يعني تهديداً لها من ناحيتين فهو من جهة يحرم اندونيسيا من اقليم بورنيو ومن جهة اخرى كان تهديداً لدور الزعامة الذي رسمته اندونيسيا لنفسها في اسيا(16).

وبتاريخ 9 آب عام 1965 انسحبت سنغافورة من اتحاد ماليزيا ، وجاءت هذه الخطوة بالأتفاق بين حكومة (لي كوان يو) في سنغافورة وحكومة اتحاد ماليزيا ، ورغم ترحيب اندونيسيا بهذا الأنفصال الا انها اعلنت ان تحسن علاقاتها بسنغافورة رهن بتخليصها من القواعد العسكرية لبريطانيا وماليزيا ، وجاءت بداية التحول الحاسم في موقف اندونيسيا من ماليزيا مع التغييرات السياسية التي شهدتها اندونيسيا في اعقاب المحاولة الأنقلابية الفاشلة التي قام بها الحزب الشيوعي الأندونيسي في 30 ايلول 1965 ومن ابرز تلك التغييرات حظر نشاط الحزب الذي كان من اهم القوى المعارضة لماليزيا اندونيسيا وتدهور العلاقات الاندونيسية – الصينية فضلاً عن تدهور الحالة الأقتصادية في اندونيسيا مما دفع الى تشديد الضغط باتجاه تصفية سياسة مواجهة ماليزيا ، وتم التوصل الى اتفاق بانكوك بين ماليزيا واندونيسيا عام 1966 لأنهاء سياسة المواجهة بين الطرفين بشكل رسمي وتدعيم العلاقات الماليزية-الأندونيسية ، وبعد ان تمكنت ماليزيا من تجاوز لالعوائق التي كانت تقف في طريق قيامها اصبحت ماليزيا اتحاداً رسمياً مؤلفاً من (13) ولاية(17).

ثانياً: محددات السياسات العامة في ماليزيا:
اسهم الأستعمار البريطاني بشكل فاعل في تشويه البنية السكانية والأجتماعية والأقتصادية في ماليزيا ، فعلى صعيد البنية السكانية ونتيجة لظهور القصدير والمطاط كموارد اقتصادية مهمة عملت بريطانيا على تشجيع الهجرة الى شبه جزيرة الملايو من البلدان المجاورة وخاصة الصينيين والهنود الأمر الذي ادى الى اختلال البنية الأجتماعية وعلى حساب السكان الأصليين وهم الملايويين ، ونظر سكان الملايو الى القوميات الأخرى وخاصة الصينيين والهنود باعتبارهم دخلاء مفروضين عليهم ، ورغم ان الملايويين يشكلون اكثر من نصف عدد السكان إلا ان الصينيين هيمنوا على الأقتصاد الماليزي من خلال سيطرتهم على كافة المؤسسات المالية والمشروعات الكبرى ابتداءاً من المصانع والمتاجر والفنادق الى المحلات الصغيرة والمطاعم ووكالات السفر(18).

واتهم الملايويون الصينيين بانهم سرقوا ثروات ماليزيا ووضعوها في خزائنهم وهو ما ادى الى بروز حساسيات شديدة بين الملايويين والصينيين ، وانعكست تلك الحساسيات على اتجاهات الأحزاب السياسية في ماليزيا ، ففي بادئ الامر لم تكن الأحزاب الماليزية تعبر عن افكار سياسية بقدر ما كانت تعبر عن مصالح الشعوب الثلاثة : الملايويين والصينيين والهنود ، واستطاع تنكو عبد الرحمن (رئيس وزراء ماليزيا للفترة 1957-1970) جمع تلك الشعوب الثلاثة في جبهة واحدة كصيغة واقعية لحفظ التوازن السياسي في ماليزيا وشكل جبهة التحالف التي ضمت (الحزب الملايوي والتجمع الصيني-الماليزي وحزب المؤتمر الهندي) وتمكنت الجبهة من تحقيق نجاح باهر في انتخابات عام 1964 نتيجة لسياسة التوازن التي اتبعتها ، ولكن الأمر اختلف في انتخابات عام 1969 فقد انسحب حزب التجمع الصيني الماليزي من حزب التحالف الأمر الذي ادى الى تصدع حزب الأتحاد قائد عملية التوازن على المسرح السياسي في ماليزيا ، وجاء هذا التصدع نتيجة لتحول الكثير من انصار جبهة التحالف عنها وانسحاب التجمع الصيني الماليزي(19).

وكانت جبهة التحالف الحاكم قد حصلت في انتخابات عام 1964 على (90) مقعداً من اصل (104) مقعداً في البرلمان وهو ما منحها انتصاراً جيداً اما المعارضة فقد حصلت على )10( مقاعد ، ولكن في انتخابات عام 1969 انخفض عدد المقاعد التي حصل عليها التحالف فقد حصل على (71) مقعداً من اصل (144) مقعداً اما المعارضة التي كانت مؤلفة بشكل رئيسي من الحزب الأسلامي (باس) وحزب العمل الديمقراطي الصيني فقد حصلت على (37) مقعداً بواقع (12) مقعداً للحزب الأسلامي و(13) مقعداً لحزب العمل الديمقراطي و(8) مقاعد لحزب الحركة الشعبية الماليزية (ذي الميول الصينية) في حين حصل حزب الشعب القومي على (4) مقاعد ، وهذا يعني ان موقع المعارضة في البرلمان قد تحسن اذ ارتفع عدد المقاعد التي تحوز عليها المعارضة من (10) مقاعد عام 1964 الى (25) مقعداً عام 1969 ، وبعد اعلان نتائج انتخابات عام 1969 تجمع انصار حزبي العمل والحركة الشعبية في مظاهرات ابتهاج بالنصر الذي تحقق لهما ، وانطلقت هتافات الصينيين تستفز الملايويين الذين خرجوا بدورهم في مظاهرات ترد وتقاوم ووقعت صدامات دموية بين الطرفين دامت اسبوعاً كاملاً راح ضحيتها العشرات من الأبرياء بسبب التوترات العرقية(20).

ومثلت تلك المواجهات تهديداً خطيراً لأستقرار ماليزيا من الناحيتين السياسية والأجتماعية وتحدياً كبيراً لحكومة تون عبد الرزاق (1970-1976) ، وادركت الحكومة الماليزية تلك التهديدات والتحديات وقررت البدء بأعداد سياسات عامة هدفت الى معالجة الأسباب التي وقفت وراء التوترات بين الملايويين والصينيين ، وجاءت السياسة العامة للحكومة في صورة سياسة اقتصادية جديدة مدتها عشرون عاماً من اجل تغيير الواقع القائم على اساس سيطرة اقلية على ثروة البلاد وحرمان الأطياف الأخرى من السكان وخصوصاً العنصر الأصلي وهم الملايو ومحاولة تحسين الأوضاع الأقتصادية والأجتماعية للملايويين وتحقيق نوع من التوازن الأقتصادي والأجتماعي بين طوائف المجتمع الماليزي والأستفادة من فائض الدخل لتطوير اوضاع اطياف المجتمع بشكل متوازن واعادة توزيع الثروة لصالح الملايويين لتحقيق التوازن المنشود والمطلوب وهو ما مثل منهجاً ثابتاً في اعداد السياسات العامة الماليزية (21).

ثالثاً- عملية صنع السياسة العامة في ماليزيا:
مثلما تم ذكره سابقاً يتولى صنع السياسة العامة جهات رسمية وغير رسمية ، ونعني بالجهات الرسمية الأفراد الذين يتمتعون بالصلاحيات القانونية التي تسمح لهم بالمشاركة في صنع السياسة العامة (مع الاعتراف بان بعض هؤلاء يخضعون لقادة الاحزاب او قادة جماعات الضغط) ، ويدخل ضمن صانعي السياسة العامة اعضاء المجالس التشريعية واعضاء السلطة التنفيذية والاداريين والقضاة فجميعهم ينفذون السياسات العامة ويسهمون في صنعها ولكن بطرق ودرجات متباينة ، كما توجد هناك جهات اخر غير رسمية تشارك في التأثير على صانعي السياسات العامة ومنفذيها ومن هذه الجهات على سبيل المثال لا الحصر جماعات الضغط والاحزاب السياسية والمواطنون(الرأي العام) ، ولا يختلف الحال كثيراً بالنسبة لأجهزة صنع السياسة العامة في ماليزيا وقبل ان نتناول عملية صنع السياسة العامة في ماليزيا لا بد ان نتناول السلطات والأجهزة المعنية بصنع السياسة العامة الماليزية كما يأتي :-

1- السلطة التشريعية:
تتجسد السلطة التشريعية في ماليزيا في البرلمان الاتحادي الذي يتكون من مجلس الشيوخ (Dewan Negara) ومجلس النواب (Dewan Rakayat) ويتكون مجلس الشيوخ من (70) عضوا يتم انتخاب (26) منهم من خلال المجالس التشريعية للولايات الثلاثة عشر بواقع عضوين لكل ولاية ، أما بقية الأعضاء فيتم تعيينهم بواسطة الملك بناءاً على اقتراح رئيس الوزراء ، ومدة ولاية هذا المجلس هي ثلاث سنوات قابلة للتجديد لمرة أخرى فقط ، أما مجلس النواب فيتكون من (219) عضوا يتم انتخابهم بشكل مباشر لمدة خمس سنوات يتوزعون ما بين (165) من شبه جزيرة الملايو، و(28) من سارواك ، و(26) من صباح ، ويتعين أن يكون النواب أعضاءاً في الأحزاب السياسية ، ويسيطر الحزب الحاكم على ما يزيد على ثلثي مقاعد البرلمان وهو ما يضمن سيطرة الحكومة على السلطة التشريعية(22).

2- السلطة التنفيذية:
بالنسبة للسلطة التنفيذية يمثل السلطان من الناحية النظرية السلطة التنفيذية العليا في البلاد ويتم انتخابه من خلال مجلس الحكام الذي يضم السلاطين التسعة للولايات الماليزية وتستمر مدة ولايته لخمس سنوات ، والسلطات التي يتمتع بها السلاطين في النظام السياسي الماليزي إنما هي سلطات رمزية ، أما من الناحية العملية فأن السلطة التنفيذية تتألف من مستويين ، المستوى الأول ويمثله رئيس الوزراء الذي يعتبر أعلى سلطة تنفيذية في البلاد والمسؤول الأول عن صنع القرارات اليومية للسياسة العامة فضلاً عن متابعة تنفيذها وهو زعيم حزب الأغلبية في البرلمان وله سلطة إعلان الطوارئ وحل البرلمان ، ويمثل مجلس الوزراء المستوى الثاني لممارسة السلطة التنفيذية في ماليزيا ، ويتألف من الوزراء الذين يعينهم رئيس الوزراء نفسه آخذاً في اعتباره طبيعة التحالفات المكونة للحزب الحاكم( حزب الجبهة الوطنية) , وبشكل عام يكون رئيس الوزراء في هذا السياق منحازاً لحزب الامنو ( ونعني به التنظيم القومي للملايويين المتحدين ) حيث يختار منه ما يقرب من ثلثي الحقائب الوزارية لا سيما الوزارات المهمة كالداخلية والخارجية والمالية والتعليم والدفاع(23).

3- السلطة القضائية:
تتألف السلطة القضائية في ماليزيا من المحكمة الأتحادية والمحاكم العليا في الولايات ويعد قاضي القضاة بمثابة رئيس السلطة القضائية ويتم تعيينه من قبل الملك بناءاً على اقتراح رئيس الوزراء بعد استشارة الحكام ، وللسلطة القضائية القدرة على تحديد صحة القوانين الصادرة من البرلمان او الهيئات التشريعية في الولايات ومراقبة شرعيتها(24).
4- وحدة التخطيط الاقتصادي :
تم إنشاء وحدة التخطيط الاقتصادي عام 1973 وهى هيئة مستقلة تعمل تحت الإشراف المباشر لرئيس الوزراء ، وتعد من أهم وحدات الحكومة المتصلة بصنع وتنفيذ السياسة العامة وكان لها دور محوري في تنفيذ ومتابعة السياسة الاقتصادية الجديدة الصادرة عام 1971 وقد زاد هذا الدور في صياغة سياسة التنمية القومية ، وتعمل وحدة التخطيط الاقتصادي على تحقيق الأهداف الآتية(25) :

– وضع الخطوط العريضة لسياسات الحكومة واستراتيجياتها وبرامجها التنموية.
– تنفيذ وتقييم المشروعات والبرامج التنموية للدولة.
– تقديم النصح والمشورة للحكومة في القضايا الاقتصادية.
– الأعتماد على الأبحاث الاقتصادية لخدمة التنمية.
– إدارة المساعدات والمنح من الدول الأجنبية والمؤسسات الدولية.
– إدارة البرنامج الماليزي للتعاون الفني.

5- المجلس الاقتصادي الاستشاري القومي :
أنشئ المجلس الاقتصادي الاستشاري القومي عام 1989 بناء على قرار رئيس الوزراء الماليزي في ذلك الوقت مهاتير محمد ، ويعتبر هذا المجلس بمثابة منتدى لحل المشكلات المتعلقة بالتنمية والسياسات الاقتصادية ، وأهمية المجلس الاقتصادي الاستشاري القومي في النظام السياسي الماليزي لا تعود إلى دوره في صنع السياسة العامة بقدر ما تعود إلى دوره البارز في بلورة العديد من الأفكار التي يستعان بها عند صياغة مقترحات السياسة العامة لاسيما عند الأخذ في الاعتبار قيامه بتعبئة عدد كبير من الخبراء وناشطي التيارات السياسية المختلفة وممثلي العرقيات الماليزية المختلفة ، الأمر الذي يجعل مقترحات السياسة العامة أكثر تعبيرا عن مطالب الجماهير(26).

وتمر عملية صنع السياسة العامة عموما بالمراحل التالية ( تحديد ودراسة المشكلة ،
اقتراح البدائل المناسبة لحل المشكلة ، إضفاء الشرعية على السياسات محل القبول ،
تنفيذ السياسة المقترحة ، التنسيق بين الجهات المختلفة ذات الصلة لتنفيذ السياسة على النحو المطلوب ، تقييم نتائج وآثار السياسة بعد التطبيق ، ولا تختلف عملية إعداد وصنع السياسات العامة في ماليزيا عما ذكرنا اعلاه إذ تمر عملية صنع السياسة العامة في ماليزيا بالمراحل التالية(27):-
– يأتي اقتراح خطط التنمية الماليزية بشكل عام من مصدرين أساسين أحدهما الحكومة والآخر هو ممثلي الشعب أو المنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص ، ويبدأ الإعداد لمقترحات السياسة العامة عبر مجموعة من اللجان في الوزارات المختلفة كل في مجاله .
– مرحلة الخطابة (الرأي العام) : وتقوم جماعات المصالح والأحزاب السياسية في هذه المرحلة بأصدار ونشر بيانات واعلانات علنية حول عوامل ضعف او قوة الخطة او السياسة السابقة والتأثيرات السلبية او الأيجابية لتلك السياسة ، وتعمل جماعات المصالح والأحزاب السياسية في إعداد الرأي العام بشأن ما هو مطلوب تحقيقه في السياسات العامة الحكومية.
– مرحلة المناقشات :
وتتم هذه المرحلة داخل أروقة كل من المجلس الاستشاري الاقتصادي القومي ووحدة التخطيط الاقتصادي التابعين لمجلس الوزراء ، ويجري فيها اختيار البدائل المناسبة المتعلقة بالسياسة العامة للبلاد.
– مرحلة المراجعة:
ففي مرحلة المراجعة يقوم المجلس الأستشاري الأقتصادي القومي بتقييم الخطة السابقة لمعرفة إلى حد استطاعت أن تحقق أهدافها من خلال مجموعات عمل من الخبراء ورجال الأعمال وناشطي الأحزاب السياسية وجماعات المصالح فضلا عن ممثلي الأقليات العرقية ، ومن ثم يقدم المجلس مشروع الخطة إلى وحدة التخطيط الاقتصادي التابعة لمجلس الوزراء.
– مرحلة اتخاذ القرار:
يقوم المجلس في هذه المرحلة بتقديم مشروع الخطة إلى وحدة التخطيط الاقتصادي ، وتعد هذه المرحلة هي أخر مراحل صنع الساسة العامة وأكثرها أهمية حيث تتضمن وضع الصورة النهائية لخطة السياسة العامة .
ويمكن القول بأن وحدة التخطيط الاقتصادي لا تعمل فقط مستقلة عن المجلس الاقتصادي الاستشاري القومي، بل وان لها اليد الطولى في وضع مقترحات السياسة العامة .
ولنأخذ مثالاً صياغة سياسة التنمية القومية 1991-2000 كنموذج لصنع السياسة العامة في ماليزيا ، فقد مرت عملية إعداد تلك السياسة بالمراحل التالية(28):
أولاً: الجهات المعنية بأعداد وصنع تلك السياسة هي : مجلس الوزراء – البرلمان – المجلس الاقتصادي الاستشاري القومي – وحدة التخطيط الاقتصادي .
ثانياً: وضع تصور عام لطبيعة السياسة العامة.
ثالثاً: مراجعة آثارها المحتملة وإمكانيات التنفيذ.
رابعاً: مجموعات عمل لوضع تفاصيل التصور العام للسياسة العامة.
خامساً: إعداد المسودة.
سادساً: مرحلة الدراسة والمراجعة.
سابعاً: مرحلة المراجعة من خلال مجموعات عمل تضع مسودات مشاريع القوانين.
ثامناً: التقرير النهائي للمجلس.
تاسعاً: مناقشة التقرير.
عاشراً: التعليق على التقرير.
احد عشر: الخطة النهائية.
إثنى عشر: مكتب رئيس الوزراء.
وتمتاز عملية صنع السياسة العامة في ماليزيا بخصائص(29):
1- رجحان كفة السلطة التنفيذية : على الرغم من أن عملية صنع السياسة العامة إلى حد ما تكون خلاصة مقترحات الرأى العام وجماعات المصالح، إلا أن المخرجات النهائية للسياسة العامة لا تأتى إلا في إطار توجهات السلطة التنفيذية ، فالسلطة التنفيذية تتمتع بصلاحيات واسعة في مجالي تنفيذ وتقييم السياسة العامة ، يقابل ذلك تدني واضح لدور السلطة التشريعية في هذا السياق حيث يسيطر حزب الأمنو وهو اكبر الأحزاب في الائتلاف الحاكم على أغلبية ثلثى المقاعد في البرلمان ، وهو ما يضمن هيمنة الحكومة على السلطة التشريعية.
2- تعدد مستويات صنع السياسة العامة :
تصاغ السياسة العامة في ماليزيا في صورة خططا طويلة الأجل وأخرى قصيرة الأجل، ومن ثم تأخذ السياسة العامة في ماليزيا من الناحية الرسمية صورا عديدة على مستويات مختلفة وذلك على النحو التالى:
– الخطة العامة المعروفة باسم .(OPP) (Outline Perspective Plan)
– الخطة الخمسية.
– الخطة السنوية.
– رؤية 2020 .(Vision 2020)
3- الاستمرارية:
على الرغم من تعدد مستويات صنع السياسة العامة ما بين الخطط طويلة المدى وتلك القصيرة ، إلا أن هناك تواصلا وتنسيقا بين الأهداف والسياسات المتضمنة في خطط السياسة العامة المتعاقبة فضلا عن التنسيق بين تلك السياسات والأهداف داخل الخطة الواحدة بما تشتمل علية من خطط خمسية وسنوية، وهناك حرص لدى القيادة الماليزية على مراجعة الخطط السابقة للوقوف على ما انتهت إليه من أهداف بحيث تستكمل الخطط التالية ما بدأته الخطط السابقة دون الحاجة إلى البدء من جديد.
4- المركزية:
فعلى الرغم من تأكيد الدستور الماليزي على مبدأ الفيدرالية وهو ما يعنى توزيع السلطات بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات، إلا أن عملية صنع السياسة العامة في ماليزيا تتصف بالمركزية الواضحة، حيث تحدد الحكومة وحدها جل مدخلات ومخرجات السياسة العامة ، ولا تمارس الولايات أو القوى غير الرسمية دورا مهما.
5- الرقابة والمتابعة:
من اللحظة التي يتم فيها البدء في تنفيذ الجوانب التنموية لخطط السياسة العامة تبدأ لجنة تخطيط التنمية القومية في وحدة التخطيط الاقتصادى التابعة لمكتب رئيس الوزراء في إجراء تقييم لعملية التطبيق وفى ذات الوقت تقوم هذه اللجنة بإعادة هيكلة )الخطط التنموية الجديدة متوسطة وقصيرة الأجل) بحيث تتناغم مع الخطة طويلة الأجل.
6- الواقعية:
وبالنظر إلى ماليزيا باعتبارها دولة متعددة الأعراق فضلا عن التباين الواضح بين العرقيات لاسيما من الناحية الاقتصادية، فقد أصبح تحقيق الاستقرار والتوزيع العادل للثروة بين الأعراق مصدرا مهما من مصادر شرعية النظام ، ومن ثم فقد دأبت الحكومات الماليزية المتعاقبة عند صنع السياسة العامة على أن تأخذ الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بعين الاعتبار.
ويذهب ألبرت هيرمان إلى أن الأزمات تعمل على تسليط الضوء على المشكلات التى تعانى منها البلاد كخطوة أولى لأخذها في الاعتبار كأحد مدخلات السياسة العامة فقد مثلت أحداث العنف العرقى في عام 1969 المحرك الرئيسى للسياسة الاقتصادية الجديدة ويذهب البعض إلى أن خروج هذه السياسة على هذا النحو الذى خرجت عليه ما كان ليحدث لولا تلك الأحداث العرقية الدموية.
رابعاً- السياسة الأقتصادية الجديدة كأنموذج للسياسات العامة الماليزية:
من بين ابرز السياسات العامة التي طبقتها الحكومات الماليزية واكثرها نجاحاً السياسة الأقتصادية الجديدة (1970-1990) ، وكان للأضطرابات العرقية التي وقعت في ماليزيا بين الملايويين والصينيين عام 1969 دور المحفز لأنتهاج السياسة الأقتصادية الجديدة فقد كشفت تلك الأضطرابات عن المستوى الأقتصادي المتدني للملايويين مقارنة ببقية طوائف المجتمع (63% من ملكية الأسهم تتركز في ايدي الأجانب مقابل 34% في ايدي عناصر من غير الملايويين) وقد نجحت السياسة الأقتصادية الجديدة في تخفيض نسبة امتلاك الأجانب للأسهم الى (30%) وزيادة نسبة امتلاك الملايويين الى (20%) وغير الملايويين الى (47%) ، كما نجحت السياسة الجديدة في خفض نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر من (30%) الى (17%) عام 1991 وارتفعت نسبة الأدخار من الناتج المحلي الأجمالي من (24%) عام 1965 الى (36%) عام 1988 ، اما نسبة الأستثمار فقد ارتفعت من (14%) عام 1960 الى (26%) عام 1988 ، وتلك النسب تعني ان الحكومة قد نجحت عبر تطبيق السياسة الأقتصادية الجديدة ليس في رفع المستوى الأقتصادي فحسب وانما نجحت كذلك في تحقيق قدر من التوازن الأقتصادي بين الأعراق المختلفة التي تشكل بمجموعها الشعب الماليزي(30).
الخاتمة:
تتوقف نجاح السياسات التنموية التي تتبناها أي دولة على الطريقة التي يتم بها تنفيذ تلك السياسات بواسطة الجهاز الإداري للدولة تماما مثلما تتوقف على أسلوب وضع وتخطيط هذه السياسات بواسطة أجهزة الدولة المعنية حيث يعتبر الجهاز الإداري هو المسئول الأول عن إنجاح السياسة العامة ويتكون الجهاز الإداري من أعضاء مجلس الوزراء وأعضاء البرلمان والمستويات العليا من الموظفين.
ولما كان القاسم المشترك في تقييم السياسة العامة في أي بلد يقوم على مقارنة النتائج المتحققة عن تنفيذ السياسة العامة بالأهداف التي وضعت سلفا في متن السياسة ، وباستعراض أهداف السياسة العامة في ماليزيا وآثارها على ارض الواقع يمكن القول أن السياسات العامة الماليزية قد قطعت شوطا كبير في طريق النجاح ويدل على ذلك ما استطاعت أن تحققه هذه السياسة من الأهداف المرجوة والمتمثلة في :
– تحقيق الوحدة الوطنية.
– استطاعت ماليزيا وبنجاح واضح احتواء المشكلات المرتبطة بالتعدد العرقي, وتحقيق قدر مهم وملحوظ من التقدم الاقتصادي.
– لقد أدى تطبيق ماليزيا لسياساتها الاقتصادية منذ أوائل سبعينات القرن العشرين وحتى الوقت الحاضر إلى إحداث تحول جوهرى في اقتصاد البلاد الذى كان يقوم على التصدير لسلعتين أوليتين هما القصدير والمطاط إلى اقتصاد قائم على التصنيع في المقام الأول ، وبلغت نسبة المواد المصنعة أكثر من 80% من الصادرات الماليزية.
– حققت ماليزيا نموا اقتصاديا بمعدل 8% سنويا ، كما تزايد نصيبها في التجارة الدولية حتى باتت تحتل المرتبة الثالثة عشر بين أكثر الدول تجارة في العالم.
– تقليل ومن ثم القضاء على الفقر وذلك من خلال الارتقاء بمستوى معيشة المواطنين وزيادة فرص العمل بغض النظر عن العرق ، علاج التفاوتات الاقتصادية غير المتوازنة بين العرقيات.
– نجحت ماليزيا في ظل سياساتها العامة من تحسين وتطوير المجتمع الماليزي على مختلف الأصعدة مثل التعليم والصحة والخدمات وهو ما خلق استقراراً سياسياً مشهوداً في الأعوام السابقة واللاحقة.
– نجاح ماليزيا في تقديم نموذج تنموي فريد يجمع بين أصالة التراث الإسلامي الماليزي ، وحداثة التكنولوجيا والمعاصرة وذلك عبر سياسات عامة ناجحة وايجابية ركزت في جانبها الأساس على الأنسان الماليزي.

الهوامش :
1- لمزيد من التفاصيل بهذا الخصوص ينظر: د.فهمي خليفة الكواري ، السياسة العامة-منظور كلي في البنية والتحليل ، عمّان-الاردن ، ط1 ، 2001 ، دار المسيرة للنشر والتوزيع ، ص ص(31-40).
2- ينظر: د.السيد عليوه ود.عبد الكريم درويش ، دراسات في السياسة العامة وصنع القرار ، القاهرة ، 2000 ، ص35.
3- ينظر: د.مصطفى عبدالله خشيم ، نظرية السياسة العامة ، بحث مقدم للمؤتمر الوطني الاول للسياسات العامة في ليبيا ، جامعة قار يونس-بنغازي ، 11-13 حزيران 2007 ،
http//www.hawariboumadian1520.maktoobblog.2008.com,p 4.
4- ينظر: د.فهمي خليفة الكواري ، مصدر سبق ذكره ، ص37.
5- للمزيد من التفاصيل بشأن مراحل صنع السياسة العامة ينظر:د.السيد عليوه ، مصدر سبق ذكره ، ص ص 96-99.
6- ينظر: د.جيمس اندرسون ، صنع السياسات العامة ، ترجمة د.عامر الكبيسي ، دار المسيرة للنشر والتوزيع ، عمّان-الاردن ، 1998 ، ص56.
7- ينظر: د.فهمي خليفة الفهداوي ، مصدر سبق ذكره ، ص216.
8- ينظر: د.جيمس اندرسون ، مصدر سبق ذكره ، ص58.
9- ينظر: د.جيمس اندرسون ، مصدر سبق ذكره ، ص60.
10- ينظر: د.فهمي خليفة الفهداوي ، مصدر سبق ذكره ، ص217.
11- لمزيد من التفاصيل بهذا الخصوص ينظر: د.جيمس اندرسون ، مصدر سبق ذكره ، ص ص63-66.
12- ينظر: د.فهمي خليفة الفهداوي ، مصدر سبق ذكره ، ص227-228.
13- ينظر: سعد علي حسين ، تجربة التنمية الماليزية دراسة في الأبعاد السياسية والأقتصادية والأجتماعية ، رسالة دكتوراه غير منشورة ، كلية العلوم السياسية –جامعة بغداد ، 2004 ، ص13.
14- ينظر: د.جودة حسنين جودة ، جغرافية اوراسيا الأقليمية ، منشأة المعارف للنشر ، مطبعة الأنتصار ، الأسكندرية ، 2000 ، ص535.
15- ينظر: محمد كاظم علي ، الوحدة الوطنية في ماليزيا : الواقع وابعاد المستقبل ، من كتاب لمجموعة باحثين(الوحدة الوطنية ومشكلة الأقليات في العالم الثالث) ، مطبعة التعليم العالي ، الموصل ، 1989 ، ص274.
واصبحت ماليزيا تتألف في الوقت الحاضر من (13) ولاية بجانب ثلاثة اقاليم فيدرالية- الباحث.
16- ينظر: د.إسماعيل صبري مقلد ، اندونيسيا ومشكلة ماليزيا ، مجلة السياسة الدولية ، مؤسسة الأهرام ، القاهرة ، العدد 6 ، 1966 ، ص134.
17- ينظر: سعد علي حسين ، مصدر سبق ذكره ، ص19.
18- ينظر: محمد كاظم علي ، مصدر سبق ذكره ، ص283.
19- ينظر: فهمي هويدي ، جذور الصراع في ماليزيا ، مجلة السياسة الدولية ، مؤسسة الأهرام ، القاهرة ، العدد 17 ، 1969 ، ص114.
20- ينظر: فهمي هويدي ، مصدر سبق ذكره ، ص110 ولمزيد من التفاصيل حول انتخابات عام 1969 في ماليزيا والتوترات العرقية التي تبعتها ينظر:
Martin Rudner, the Malaysian general election of 1969: a political analysis, modern Asian studies, volume January 1970, Cambridge university press.

21- ينظر: محمد كاظم علي ، مصدر سبق ذكره ، ص285.
22- ينظر:http//www.Malaysian government-parliament,2011
23-ينظر: http//www.Malaysian government, executive branch2011, p2.
24- ينظر: سعد علي حسين ، مصدر سبق ذكره ، ص40.
25-ينظر:Ho Khai Leong,Dynamics of policy making in Malaysia: formulation of new economic policy and national development policy, Asian journal of public administration, VOL.14 NO.2 (DEC 1992):p214.
26-ينظر: Ho Khai,opcit,p209 27- ينظر: Ho Khai,opcit,p210
28- ينظر: د.جابر عوض ، صنع السياسة العامة في ماليزيا:المحددات والخصائص ، من كتاب لمجموعة باحثين (السياسات العامة في ماليزيا) ، مركز الدراسات الأسيوية ، القاهرة 2006، http//www.asc,books-malaysia,2006,p10.
29- ينظر: د.جابر عوض ، مصدر سبق ذكره ، ص12.
30- ينظر: معد العبيدي ، العلاقة بين الديمقراطية والتنمية في اسيا:نموذج الدراسة ماليزيا واندونيسيا ، رسالة ماجستير غير منشورة ، كلية العلوم السياسية –جامعة بغداد ، 2002 ، ص162.
**********
السياسات العامة في ماليزيا: قراءة في أليات صنعها وخصائصها

د.سعد علي حسين التميمي

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى