...
دراسات تاريخية

دراسة تاريخية لأسباب انهيار الاتحاد السوفيتي

الإستراتيجية السوفيتية في مواجهة الإستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط .

       كان حلف جنوب شرق آسيا وحلف بغداد أقل نجاحاً في تحجيم القوى الشيوعية، بل أدى إلى توجيه اهتمام الاتحاد السوفيتي تجاه منطقة الشرق الأوسط، فوجهت سياستها تجاه دول المنطقة من خلال حملة دعائية إلى الوجود البريطاني بالمنطقة، واستغل الدين في محاولة لجمع الجاليات الأرثوذكسية والأرمنية في جانبه. غير أن هذه السياسة لم تنجح، فقد كانت من نتائجها دخول الولايات المتحدة الأمريكية إلى المنطقة بقوة، وإثارة عداء الحكومات العربية ومخاوف البورجوازية العربية ذات الاتجاه القومي، وتحويل أجهزة الأمن بكاملها ضد الأحزاب الشيوعية سواء في العراق أو إيران أو مصر.

       وكان واضحاً أن التفكير السوفيتي في المنطقة بحاجة إلى تقويم عام، لكن تأخر ذلك إلى أوائل الخمسينيات، فقد تلاشى التقسيم القديم الذي قسمت الحرب الباردة العالم بموجبه إلى معسكرين متناقضين اشتراكي ورأسمالي، فقد خططت الهند ودول أسيوية عديدة سياستها نحو طريق ثالث بين المعسكرين المتحاربين، وبدأ الاتحاد السوفيتي وحلفاؤه يخرجون من عزلتهم الدولية بجس نبض الدول التي لم تشترك في الحرب الباردة، من خلال تفحص دور البورجوازية الوطنية في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا، وقد أدى هذا النهج من التفكير دوراً متزايداً خلال المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي السوفيتي في يوليه 1952 حين أعلن جيورجي مالينكوف[4] حق الشعوب في اختيار أيديولوجيتها الخاصة، ووجه نداء للتعاطف مع الحكومات التي تتبع سياسة سلمية مستقلة.

       وعلى كل، توالت الحوادث لمصلحة الاتحاد السوفيتي، فالبلاد التي استقلت حديثاً في آسيا والشرق الأوسط كانت شديدة الثقة بنفسها، ولذلك اصطدمت بمستشاريها الغربيين السابقين، وكان من المهم لموسكو أن تتفق وتنسجم مع هذه العاطفة الجديدة الحيوية المعادية للاستعمار حتى لو كانت غير شيوعية.

       ففي الشرق الأوسط، أخفق الغرب في أن يجعل من نفسه حليفاً للعرب، بسبب عدم ثقتهم في قوى الاستعمار القديم، ومن ثم عدم قبوله حليفاً لهم ضد التهديد العسكري السوفيتي. بل واتهم العرب الدول الغربية ببناء دولة معادية لهم في المنطقة، تجمع شتات يهود العالم، هي إسرائيل. إضافة إلى استمرار وجودها العسكري والسياسي في أجزاء عديدة من العالم العربي، وهكذا بدا للعديد من الدول العربية أن الغرب هو العقبة الرئيسة ضد استقلالهم ووحدتهم، ورأوا أن حلفاً دفاعياً ضد الاتحاد السوفيتي ـ طبقاً للرؤية الغربية ـ سوف يبعدهم عن معركتهم الأساسية ضد إسرائيل، ويعيد إليهم الاستعمار بشكل جديد ومُقنَّع، وتحت ضغط من الغرب بالانضمام للحلف، تراجعوا إلى فكرة الحياد.

       ورأى قادة الاتحاد السوفيتي أن حياد العرب كان كافياً لإحباط الخطط الدفاعية الغربية، ولم يكن السوفيت بحاجة إلا إلى خطوة صغيرة من جانبهم كي يرفعوا قادة البورجوازية الوطنية العربية إلى مركز حلفاء مرموقين في معسكر النضال ضد الإمبريالية. وهكذا كان الطريق ممهداً لتقارب العرب مع الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية، فمهدت لعلاقاتها بحملات إعلامية واسعة وإمدادات دفاعية ودعم سياسي ومساعدات اقتصادية.

       وكانت مصر في طليعة الدول التي استفادت من السياسة الجديدة للاتحاد السوفيتي، من خلال صفقة الأسلحة التشيكية عام 1955، ثم تلتها سورية بعد ذلك، حيث استرعت اهتمام السوفيت منذ سقوط الحكومة السورية برئاسة أديب الشيشكلي في أوائل عام 1954[5]، فوقف بجانبها في أزمة حلف بغداد في فبراير عام 1955، ثم تعاقد معها على العديد من الصفقات، حيث وصلت قيمة مشتريات سورية من الأسلحة السوفيتية خلال الفترة من عام1954 حتى 1957 إلى مائة مليون جنيه إسترليني.

       وكان أكبر المكاسب التي حققها الاتحاد السوفيتي في الشرق الأوسط، هو الوقوف بجانب مصر في العدوان الثلاثي عام 1956، وإصدار الإنذار السوفيتي إلى إنجلترا وفرنسا، وقد كان لهذا الموقف السوفيتي أثره الكبير في تزايد التيار المؤيد له، وبدأت الأحزاب الشيوعية تنشط وتزدهر في البلدان العربية. وهكذا، بينما فشلت السياسة الأمريكية في ملء الفراغ بمنطقة الشرق الأوسط، حقق الاتحاد السوفيتي مكاسب كبرى بالمنطقة.

       واتجه الاتحاد السوفيتي ناحية سورية، خاصة بعد ظهور الحزب الشيوعي بقيادة خالد بكداش بوصفه إحدى القوى المؤثرة في الساحة السورية، ولكن كانت الوحدة التي تمت بين مصر وسورية عام 1958 ضربه للمخطط السوفيتي في المنطقة حيث منعت سورية من الوقوع في الفلك الشيوعي، ومن ثم بدأ النزاع بين الرئيس جمال عبدالناصر والاتحاد السوفيتي، حتى حدوث الانفصال في عام 1961.

       وفي أعقاب حرب يونيه 1967، حقق الاتحاد السوفيتي مكاسب كبيرة من خلال زيادة السيطرة على مصر وسورية وإدخالهما ضمن مناطق النفوذ السوفيتي، مستفيداً من روح العداء للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط بعد الحرب، كما تمكن الاتحاد السوفيتي من السيطرة على جنوب اليمن.

vote/تقييم
الصفحة السابقة 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10الصفحة التالية

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى